→ وفد بني عبد القيس | البداية والنهاية – الجزء الخامس قصة ثمامة ووفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب ابن كثير |
وفد أهل نجران ← |
قال البخاري: باب وفد بني حنيفة: وقصة ثمامة بن أثال، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث بن سعد، حدثني سعيد ابن أبي سعيد، سمع أبا هريرة قال: بعث النبي ﷺ خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي ﷺ فقال: «ما عندك يا ثمامة»؟
قال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتركه حتى كان الغد.
ثم قال له: «ما عندك يا ثمامة؟»
فقال: عندي ما قلت لك.
فقال: أطلقوا ثمامة.
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟
فبشره رسول الله ﷺ وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟
قال: لا!ولكن أسلمت مع محمد ﷺ ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي ﷺ.
وقد رواه البخاري في موضع آخر، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، كلهم عن قتيبة، عن الليث به.
وفي ذكر البخاري هذه القصة في الوفود نظر، وذلك أن ثمامة لم يفد بنفسه، وإنما أسر وقدم به في الوثاق، فربط بسارية من سواري المسجد.
ثم في ذكره مع الوفود سنة تسع نظر آخر، وذلك أن الظاهر من سياق قصته أنها قبيل الفتح، لأن أهل مكة عيروه بالإسلام، وقالوا: أصبوت، فتوعدهم بأنه لا يفد إليهم من اليمامة حبة حنطة ميرة حتى يأذن فيها رسول الله ﷺ، فدل على أن مكة كانت إذ ذاك دار حرب، لم يسلم أهلها بعد، والله أعلم.
ولهذا ذكر الحافظ البيهقي قصة ثمامة بن أثال قبل فتح مكة، وهو أشبه، ولكن ذكرناه ها هنا إتباعا للبخاري رحمه الله.
وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، ثنا شعيب عن عبد الله ابن أبي الحسين، ثنا نافع بن جبير عن ابن عباس قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله ﷺ فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته، وقدم في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله ﷺ ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد رسول الله ﷺ قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال له: «لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما أريت، وهذا ثابت يجيبك عني» ثم انصرف عنه.
قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله ﷺ «إنك الذي رأيت فيه ما أريت» فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحي إلي في المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي، أحدهما: الأسود العنسي، والآخر: مسيلمة».
ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، ثنا عبد الرزاق، أخبرني معمر عن هشام بن أمية أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: «بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض فوضع في كفي سواران من ذهب فكبرا علي، فأوحي إلي أن أنفخهما، فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما، صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة».
ثم قال البخاري: ثنا سعيد بن محمد الجرمي، ثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي عن صالح، عن ابن عبيدة، عن نشيط - وكان في موضع آخر اسمه عبد الله - أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: بلغنا أن مسيلمة الكذاب قدم المدينة فنزل في دار بنت الحارث، وكان تحته الحارث بن كريز وهي: أم عبد الله بن الحارث بن كريز، فأتاه رسول الله ﷺ ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وهو الذي يقال له: خطيب رسول الله ﷺ وفي يد رسول الله ﷺ قضيب فوقف عليه فكلمه، فقال له مسيلمة: إن شئت خليت بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك.
فقال رسول الله ﷺ: «لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس وسيجيبك عني».
فانصرف رسول الله ﷺ.
قال عبيد الله بن عبد الله: سألت ابن عباس عن رؤيا رسول الله ﷺ الذي ذكر.
فقال ابن عباس: ذكر لي أن رسول الله ﷺ قال: «بينا أنا نائم رأيت أنه وضع في يدي سواران من ذهب فقطعتهما وكرهتهما، فأذن لي فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان».
فقال عبيد الله: أحدهما: العنسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر: مسيلمة الكذاب.
وقال محمد بن إسحاق: قدم على رسول الله ﷺ وفد بني حنيفة فيهم: مسيلمة بن ثمامة ابن كثير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هماز بن ذهل بن الزول بن حنيفة، ويكنى: أبا ثمامة، وقيل: أبا هارون، وكان قد تسمى بالرحمان فكان يقال له: رحمان اليمامة، وكان عمره يوم قتل مائة وخمسين سنة، وكان يعرف أبوابا من النيرجات فكان يدخل البيضة إلى القارورة وهو أول من فعل ذلك، وكان يقص جناح الطير ثم يصله ويدعي أن ظبية تأتيه من الجبل فيحلب منها.
قلت: وسنذكر أشياء من خبره عند ذكر مقتله لعنه الله.
قال ابن إسحاق: وكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الأنصار ثم من بني النجار فحدثني بعض علمائنا من أهل المدينة أن بني حنيفة أتت به رسول الله ﷺ تستره بالثياب ورسول الله ﷺ جالس في أصحابه معه عسيب من سعف النخل في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ وهم يسترونه بالثياب كلمه وسأله فقال له رسول الله ﷺ: «لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه».
قال ابن إسحاق: وحدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا، وزعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله ﷺ وخلفوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه فقالوا: يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا وفي ركابنا يحفظها لنا.
قال: فأمر له رسول الله ﷺ بمثل ما أمر به للقوم وقال: «أما أنه ليس بشركم مكانا» أي: لحفظه ضيعة أصحابه، ذلك الذي يريد رسول الله ﷺ قال: ثم انصرفوا عن رسول الله ﷺ وجاؤا مسيلمة بما أعطاه رسول الله ﷺ فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم.
وقال: إني قد أشركت في الأمر معه وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما إنه ليس بشركم مكانا ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه؛ ثم جعل يسجع لهم السجعات ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا، وأحل لهم الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة.
وهو مع هذا يشهد لرسول الله ﷺ بأنه نبي فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك.
قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان.
وذكر السهيلي وغيره: أن الرحال بن عنفوة - واسمه نهار بن عنفوة - وكان قد أسلم وتعلم شيئا من القرآن وصحب رسول الله ﷺ مدة وقد مر عليه رسول الله ﷺ وهو جالس مع أبي هريرة وفرات بن حيان فقال لهم: «أحدكم ضرسه في النار مثل أحد»
فلم يزالا خائفين حتى ارتد الرحال مع مسيلمة وشهد له زورا أن رسول الله ﷺ أشركه في الأمر معه وألقى إليه شيئا مما كان يحفظه يوم اليمامة من القرآن فادعاه مسيلمة لنفسه، فحصل بذلك فتنة عظيمة لبني حنيفة، وقد قتله زيد بن الخطاب يوم اليمامة كما سيأتي.
قال السهيلي: وكان مؤذن مسيلمة يقال له: حجير وكان مدبر الحرب بين يديه محكم بن الطفيل، وأضيف إليهم سجاح، وكانت تكنى: أم صادر تزوجها مسيلمة وله معها أخبار فاحشة، واسم مؤذنها: زهير بن عمرو، وقيل: جنبة بن طارق ويقال: إن شبث بن ربعي أذن لها أيضا ثم أسلم، وقد أسلمت هي أيضا أيام عمر بن الخطاب فحسن إسلامها.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى رسول الله ﷺ:
من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله؛ سلام عليك أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك فإن لنا نصف الأمر ولقريش نصف الأمر، ولكن قريشا قوم لا يعتدون.
فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب.
فكتب إليه رسول الله ﷺ: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين».
قال: وكان ذلك في آخر سنة عشر - يعني: ورود هذا الكتاب.
قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: فحدثني سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم بن مسعود عن أبيه قال: سمعت رسول الله ﷺ حين جاءه رسولا مسيلمة الكذاب بكتابه يقول لهما: «وأنتما تقولان مثل ما يقول».
قالا: نعم!.
فقال: «أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما».
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله ابن مسعود قال: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولين لمسيلمة الكذاب إلى رسول الله ﷺ فقال لهما: «أتشهدان أني رسول الله».
فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله.
فقال رسول الله ﷺ: «آمنت بالله ورسله ولو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما».
قال عبد الله بن مسعود: فمضت السنة بأن الرسل لا تقتل.
قال عبد الله: فأما ابن أثال فقد كفاه الله، وأما ابن النواحة فلم يزل في نفسي منه حتى أمكن الله منه.
قال الحافظ البيهقي: أما أسامة بن أثال فإنه أسلم، وقد مضى الحديث في إسلامه.
وأما ابن النواحة فإن ابن مسعود قتله بالكوفة حين أمكن الله منه.
فأخبرنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق المزكي، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الوهاب، ثنا جعفر بن عون، أنبأنا إسماعيل ابن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني مررت ببعض مساجد بني حنيفة وهم يقرؤن قراءة ما أنزلها الله على محمد ﷺ والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما.
قال: فأرسل إليهم عبد الله فأتي بهم وهم سبعون رجلا ورأسهم عبد الله بن النواحة.
قال: فأمر به عبد الله فقتل ثم قال: ما كنا بمحرزين الشيطان من هؤلاء، ولكن نحوزهم إلى الشام لعل الله أن يكفيناهم.
وقال الواقدي: كان وفد بني حنيفة بضعة عشر رجلا عليهم سلمى بن حنظلة وفيهم الرحال ابن عنفوة، وطلق بن علي، وعلي بن سنان، ومسيلمة بن حبيب الكذاب، فأنزلوا في دار مسلمة بنت الحارث وأجريت على الضيافة فكانوا يؤتون بغداء وعشاء مرة خبزا ولحما، ومرة خبزا ولبنا، ومرة خبزا، ومرة خبزا وسمنا، ومرة تمرا ينزلهم، فلما قدموا المسجد أسلموا، وقد خلفوا مسيلمة في رحالهم، لما أرادوا الانصراف أعطاهم جوائزهم خمس أواق من فضة، وأمر لمسيلمة بمثل ما أعطاهم لما ذكروا أنه في رحالهم.
فقال: «أما إنه ليس بشركم مكانا».
فلما رجعوا إليه أخبروه بما قال عنه، فقال: إنما قال ذلك لأنه عرف أن الأمر لي من بعده وبهذه الكلمة تشبث قبحه الله حتى ادعى النبوة.
قال الواقدي: وقد كان رسول الله بعث معهم بأدواة فيها فضل طهوره وأمرهم أن يهدموا بيعتهم، وينضحوا هذا الماء مكانه، ويتخذوه مسجدا، ففعلوا.
وسيأتي ذكر مقتل الأسود العنسي في آخر حياة رسول الله ﷺ، ومقتل مسيلمة الكذاب في أيام الصديق، وما كان من أمر بني حنيفة إن شاء الله تعالى.