الفرقة بين الأزواج بالطلاق والفسخ |
أخبرنا الربيع: قال أخبرنا الشافعي قال الفرقة بين الزوجين وجوه يجمعها اسم الفرقة ويفترق بها أسماء دون اسم الفرقة فمنها الطلاق، والطلاق ما ابتدأه الزوج فأوقعه على امرأته بطلاق صريح أو كلام يشبه الطلاق يريد به الطلاق، وكذلك ما جعل إلى امرأته من أمرها فطلقت نفسها أو إلى غيرها فطلقها فهو كطلاقه لأنه بأمره وقع وهذا كله إذا كان الطلاق فيه من الزوج أو ممن جعله إليه الزوج واحدة أو اثنتين فالزوج يملك فيه رجعة المطلقة ما كانت في عدة منه.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وكذلك إن آلى من امرأته فطلق أو قال لامرأته أنت طالق ألبتة فحلف ما أراد إلا واحدة أو أنت خلية أو بائن أو برية فحلف ما أراد إلا واحدة فهي واحدة يملك الرجعة لا يكون من هذا شيء بائن أبدا إن كانت الزوجة مدخولا بها.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فقال لي بعض الناس ما الحجة فيما قلت؟ قلت الكتاب والسنة والآثار والقياس قال: فأوجدني ما ذكرته قلت قال الله تبارك وتعالى {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف} الآية وقال تعالى ذكره {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} إلى قوله {إصلاحا} وقلت أما يتبين لك في هاتين الآيتين أن الله تبارك وتعالى جعل لكل مطلق لم يأت على جميع الطلاق الرجعة في العدة ولم يخصص مطلقا دون مطلق ولا مطلقة دون مطلقة. وأن الله تبارك وتعالى إذا قال {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} فإنما أمر بالإمساك من له أن يمسك وبالتسريح من له أن يسرح قال: فما التسريح ها هنا قلت ترك الحبس بالرجعة في العدة تسريح بمتقدم الطلاق وقلت له: إن هذا في غير هاتين الآيتين أيضا كهو في هاتين الآيتين قال فاذكره؟ قلت قال الله عز وجل: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف} إلى قوله {لتعتدوا} قال فما معنى قوله {فبلغن أجلهن} قلت يعني والله أعلم قاربن بلوغ أجلهن، قال وما الدليل على ذلك؟ قلت: الآية دليل عليه لقول الله عز وجل: {فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا} فلا يؤمر بالإمساك والسراح إلا من هذا إليه ثم شرط عليهم في الإمساك أن يكون بمعروف وهذه كالآية قبلها في قوله {فبلغن أجلهن} قال وتقول هذا العرب؟ قلت نعم تقول للرجل إذا قارب البلد يريده أو الأمر يريده قد بلغته وتقوله إذا بلغه. وقلت له قال الله تبارك وتعالى {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم} قال فلم قلت: إنها تكون للأزواج الرجعة في العدة قبل التطليقة الثالثة؟ فقلت له لما بين الله عز وجل في كتابه {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} إلى {أن يتراجعا} قال فلم قلت في قول الله تعالى في المطلقات {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} إذا قاربن بلوغ أجلهن؟ وقلت في قول الله عز وجل في المتوفى عنها زوجها {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} هذا إذا قضين أجلهن والكلام فيهما واحد.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فقلت له {بلغن أجلهن} يحتمل قاربن البلوغ وبلغن فرغن مما عليهن فكان سباق الكلام في الآيتين دليلا على فرق بينهما لقول الله تبارك وتعالى في الطلاق {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} وقال {ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا} فلا يؤمر بالإمساك إلا من يجوز له الإمساك في العدة فيمن ليس لهن أن يفعلن في أنفسهن ما شئن في العدة حتى تنقضي العدة وهو كلام عربي هذا من أبينه وأقله خفاء لأن الآيتين تدلان على افتراقهما بسياق الكلام فيهما. ومثل قول الله تعالى ذكره في المتوفى في قوله تعالى {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} حتى تنقضي عدتها فيحل نكاحها.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فقال وما السنة فيه؟ قلت أخبرني عمي محمد بن علي عن عبد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد (أن ركامة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية ألبتة ثم أتى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله إني طلقت امرأتي سهيمة ألبتة والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله ﷺ لركانة والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله ﷺ) فطلقها الثانية في زمان عمر والثالثة في زمان عثمان قال: فما الأثر فيه؟ قلت: أو يحتاج مع حكم الله تبارك وتعالى وسنة رسوله ﷺ إلى غيرهما؟ فقال إن كان عندك أثر فلا عليك أن تذكره قلت أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو أنه سمع محمد بن عباد بن جعفر يقول أخبرني المطلب بن حنطب أنه طلق امرأته ألبتة ثم أتى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فذكر ذلك له فقال ما حملك على ذلك؟ قال قد فعلته قال فقرأ {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا} ما حملك على ذلك؟ قلت قد فعلته قال أمسك عليك امرأتك فإن الواحدة لا تبت.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن أبي سلمة عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للتومة مثل قوله للمطلب. أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا الثقة عن الليث بن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار أن رجلا من بني زريق طلق امرأته ألبتة فقال له عمر: احلف فقال أتراني يا أمير المؤمنين أقع في الحرام والنساء كثير؟ فقال له احلف فحلف.
[قال الشافعي]: أخبرنا سعيد القداح عن ابن جريج أنه قال لعطاء ألبتة فقال يدين فإن كان أراد ثلاثا فهي ثلاث وإن أراد واحدة فهي واحدة.
[قال الشافعي]: أخبرنا سعيد عن ابن جريج عن عطاء أن شريحا دعاه بعض أمرائهم فسأله عن رجل قال لامرأته أنت طالق ألبتة فاستعفاه شريح فأبى أن يعفيه فقال أما الطلاق فسنة، وأما البتة فبدعة، فأما السنة فالطلاق فأمضوها وأما البدعة فالبتة فقلدوه إياها ودينوه فيها.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: أخبرنا سعيد عن ابن جريج أنه قال لعطاء الرجل يقول لامرأته أنت خلية أو خلوت مني وقوله: أنت بريئة أو برئت مني أو يقول أنت بائنة أو بنت مني قال سواء قال عطاء أما قوله أنت طالق فسنة لا يدين في ذلك وهو الطلاق قال ابن جريج قال عطاء أما قوله أنت بريئة أو بائنة؟ فذلك ما أحدثوا فيدين فإن كان أراد الطلاق فهو الطلاق وإلا فلا.
[قال الشافعي]: أخبرنا سعيد عن ابن جريج عن عمرو بن دينار أنه قال في قوله أنت بريئة أو أنت بائنة أو خلية أو برئت مني أو بنت مني قال يدين، أخبرنا سعيد عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه قال إن أراد الطلاق فهو الطلاق كقوله أنت علي حرام.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: قال فما الوجوه التي ذكرت التي تكون بها الفرقة بين الزوجين؟ فقلت له كل ما حكم فيه بالفرقة وإن لم ينطق بها الزوج ولم يردها وما لو أراد الزوج أن لا توقع عليه الفرقة أوقعت فهذه فرقة لا تسمى طلاقا لأن الطلاق ليس من الزوج وهو لم يقله ولم يرضه بل يريد رده ولا يرد قال: ومثل ماذا؟ قلت مثل الأمة تعتق عند العبد فتختار فراقه ومثل المرأة تكون عند العنين فيؤجل سنة فلا يمس فتختار فراقه فهاتان الفرقتان وإن كانتا صيرتا للمرأتين بعلة العبودية في الزوج والعجز فيه وليس أن الزوج طلق، ومثل ذلك أن تزوج المرأة الرجل فينتسب حرا فيوجد عبدا فتخير فتفارقه ويتزوجها الرجل فتجده أجذم أو مجنونا أو أبرص فتختار فراقه قال: أفتعد شيئا من هذا طلاقا؟ قلت لا هذا فسخ عقد النكاح لا إحداث طلاق فيها. ومثل الزوجين يسلم أحدهما ولا يسلم الآخر حتى تنقضي العدة.
[قال الشافعي]: رحمه الله: قال وما يشبه هذا؟ قلت العبد يبتاعه فيظهر منه على عيب فيكون له رده بالعيب ورده فسخ العقد الأول وليس استئناف بيع فيه ولا يجوز أن يستأنف بيعا بغير رضا المردود عليه وهذا كله فرقة من المرأة وفرقة المرأة بغير تمليك الزوج إياها لا تكون إلا فسخ عقدة النكاح لأن الطلاق الذي جعله الله تعالى ثلاثا لا تحل النساء بعده إلا بزوج وهو إلى الرجال لا إلى النساء قال فهل من شيء فرقه غير هذا؟ قلت نعم كل ما عقد فاسدا من نكاح، مثل نكاح بغير ولي ونكاح العبد بغير إذن سيده ونكاح الأمة بغير إذن سيدها فكل ما وقع من النكاح كله ليس بتام يحل فيه الجماع بالعقد ويقع الميراث بين الزوجين ولا يكون لأحد فسخه زوج ولا زوجة ولا ولي فكل ما كان هكذا فالنكاح فيه فاسد يفرق العقدة ولم تعد الفرقة طلاقا ولكنه فسخ العقد، قال فهل من تفرقة غير هذا؟ قلت نعم ردة أحد الزوجين أو إسلام أحدهما والآخر مقيم على الكفر وقد حرم الله على الكافرين أن يغشوا المؤمنات وعلى المؤمنين غشيان الكوافر سوى أهل الكتاب وليس واحد منهما فراقا من الزوج هذا فسخ كله قال فهل من وجه من الفرقة غير هذا؟ قلت نعم الخلع قال فما الخلع عندك؟ فذكرت له الاختلاف فيه، قال فإن أعطته ألفا على أن يطلقها واحدة أو اثنتين أفيملك الرجعة؟ قلت: لا قال ولم والطلاق منه لو أراد لم يوقعه؟
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فقلت له يقول الله عز وجل: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} والفدية ممن ملك عليه أمره لا تكون إلا بإزالة الملك عنه وغير جائز أن يأذن الله تعالى لها بالفدية وله أن يأخذها ثم يملك عليها أمرها بغير رضا منها ألا ترى أن كل من أخذ شيئا على شيء يخرجه من يديه لم يكن له سبيل على ما أخرج من يديه لما أخذ عليه من العوض وقد أذن رسول الله ﷺ لثابت بن قيس أن يأخذ من امرأته حين جاءته ولم يقل له لا تأخذ منها إلا في قبل عدتها كما أمر المطلق غيره ولم يسم له طلاقا يطلقها إياه ورأى رضاه بالأخذ منها فرقة، والخلع اسم مفارق للطلاق وليس المختلع بمبتدئ طلاقا إلا بجعل والمطلقون غيره لم يستعجلوا، وقلت له الذي ذهب إليه من قول الله تبارك وتعالى {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف} الآية إنما هو على من عليه العدة لقول الله عز وجل: {طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} إلى قوله {جميلا} أفرأيت إن عارضك معارض في المطلقة واحدة قبل أن يدخل بها؟ فقال إن الله قال {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وهذه مطلقة واحدة فيمسكها ما الحجة عليه؟ قال قول الله تعالى {فبلغن أجلهن فأمسكوهن} وقوله في العدة {أحق بردهن في ذلك} فلما لم تكن هذه معتدة بحكم الله علمت أن الله تبارك وتعالى إنما قصد بالرجعة في العدة قصد المعتدات وكان المفسر من القرآن يدل على معنى المجمل ويفترق بافتراق حال المطلقات.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فقلت له فما منعك من هذه الحجة في المختلعة وقد فرق الله تبارك وتعالى بينهما بأن جعلها مفتدية وبأن هذا طلاق بمال يؤخذ وبأن المسلمين لم يختلفوا في أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق واحدة ملك الرجعة وإن قال لها أنت طالق واحدة على شيء يأخذه لم يملك الرجعة؟ قال هذا هكذا لأنه إذا تكلم بكلمة واحدة فلا يجوز أن أجعل ما أخذ عليه مالا كمن لم يأخذ المال. والحجة فيه ما ذكرت من أن من ملك شيئا بشيء يخرج منه لم يكن له على ما خرج منه سبيل كما لا يكون على ما في يديه مما أخرجه إليه مالكه لمالكه الذي أخرجه إليه سبيل.
[قال الشافعي]: رحمه الله: قال فأوجدني اللفظ الذي يكون فراقا في الحكم لا تدينه فيه، قلت له: هو قول الرجل أنت طالق أو قد طلقتك أو أنت سراح أو قد سرحتك أو قد فارقتك، قال فمن أين قد فرقت بين هؤلاء الكلمات في الحكم وبين ما سواهن وأنت تدينه فيما بينه وبين الله فيهن كما تدينه في غيرهن؟ قلت: هؤلاء الكلمات التي سمى الله تبارك وتعالى بهن الطلاق فقال {إذا طلقتم النساء} وقال {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} وقال عز وجل: {فمتعوهن وسرحوهن} الآية فهؤلاء الأصول وما أشبههن مما لم يسم طلاقا في كتاب ولا سنة ولا أثر إلا بنيته فإن نوى صاحبه طلاقا مع قول يشبه الطلاق كان طلاقا وإن لم ينوه لم يكن طلاقا.