فصل
وأما قيام الليل وصيام النهار فالأفضل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه فعله وقال: [ أفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وأفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى ] وقد ثبت في الصحاح أن عبد الله بن عمرو قال: لأصومن النهار ولأقومن الليل ولأقرأن القرآن كل يوم فقال له النبي ﷺ: [ لا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين أي غارت ونفهت له النفس - أي سئمت - ولكن صم من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيامك الدهر يعني الحسنة بعشر أمثالها فقال: إني أطيق أفضل من ذلك فما زال يزايده حتى قال: صم يوما وأفطر يوما قال: إني أطيق أفضل من ذلك قال: لا أفضل من ذلك وقال له في القراءة: اقرأ القرآن في كل شهر فما زال يزايده حتى قال اقرأ في سبع وذكر له أن أفضل القيام قيام داود وقال له: إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ولزوجك عليك حقا فآت كل ذي حق حقه ] فبين له ﷺ أن المداومة على هذا العمل تغير البدن والنفس وتمنع من فعل ما هو أجر من ذلك من القيام لحق النفس والأهل والزوج
وأفضل الجهاد والعمل الصالح ما كان أطوع للرب وأنفع للعبد فإذا كان يضره ويمنعه مما هو أنفع منه لم يكن ذلك صالحا وقد ثبت في الصحيح أن رجالا قال أحدهم: أما أنا فأصوم لا أفطر وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء فقال ﷺ [ ما بال رجال يقول أحدهم كيت وكيت لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس مني ] فبين ﷺ أن مثل هذا الزهد الفاسد والعبادة الفاسدة ليست من سنته فمن رغب فيها عن سنته فرآها خيرا من سنته فليس منه
وقد قال أبي بن كعب: عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا فاقشعر جلده من خشية الله إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجر وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا ففاضت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدا وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة فاحرصوا أن تكون أعمالكم إن كانت اجتهادا أو اقتصادا على منهاج الأنبياء وسنتهم وكذلك قال عبد الله بن مسعود: إقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة
وقد تنازع العلماء في سرد الصوم: إذا أفطر يومي العيدين وأيام منى فاستحب ذلك طائفة من الفقهاء والعباد فرأوه أفضل من صوم يوم وفطر يوم وطائفة أخرى لم يروه أفضل بل جعلوه سائغا بلا كراهة وجعلوا صوم شطر الدهر أفضل منه وحملوا ما ورد في ترك صوم الدهر على من صام أيام النهي والقول الثالث: وهو الصواب قول من جعل ذلك تركا للأولى أو كره ذلك فإن الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ كنهيه لعبد الله بن عمرو عن ذلك وقوله: [ من صام الدهر فلا صام ولا أفطر ] وغيرها صريحة في أن هذا ليس بمشروع
ومن حمل ذلك على أن المراد صوم الأيام الخمسة فقد غلط فإن صوم الدهر لا يراد به صوم خمسة أيام فقط وتلك الخمسة صومها محرم ولو أفطر غيرها فلم ينه عنها لكون ذلك صوما للدهر ولا يجوز أن ينهى عن صوم أكثر من ثلاثمائة يوم والمراد خمسة بل مثال هذا مثال من قال: ائتني بكل من في الجامع وأراد به خمسة منهم وأيضا فإنه علل ذلك بإنك إذا فعلت ذلك: هجمت له العين ونفهت له النفس وهذا إنما يكون في سرد الصوم لا في صوم الخمسة
وأيضا فإن في الصحيح [ أن سائلا سأله عن صوم الدهر فقال من صام الدهر فلا صام ولا أفطر قال: فمن يصوم يومين ويفطر يوما فقال: ومن يطيق ذلك؟ ! قال: فمن يصوم يوما ويفطر يومين فقال: وددت أني طوقت ذلك فقال: فمن يصوم يوما ويفطر يوما فقال: ذلك أفضل الصوم ] فسألوه عن صوم الدهر ثم عن صوم ثلثيه ثم عن صوم ثلثه ثم عن صوم شطره
وأما قوله: [ صيام ثلاثة أيام من كل شهر يعدل صيام الدهر ] وقوله: [ من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر الحسنة بعشر أمثالها ] ونحو ذلك فمراده أن من فعل هذا يحصل له أجر صيام الدهر بتضعيف الأجر من غير حصول المفسدة فإذا صام ثلاثة أيام من كل شهر حصل له أجر صوم الدهر بدون شهر رمضان وإذا صام رمضان وستا من شوال حصل بالمجموع أجر صوم الدهر وكان القياس أن يكون استغراق الزمان بالصوم عبادة لولا ما في ذلك من المعارض الراجح وقد بين النبي ﷺ الراجح وهو إضاعة ما هو أولى من الصوم وحصول المفسدة راجحة فيكون قد فوت مصلحة راجحة واجبة أو مستحبة مع حصول مفسدة راجحة على مصلحة الصوم
وقد بين ﷺ حكمة النهي فقال: [ من صام الدهر فلا صام ولا أفطر ] فإنه يصير الصيام له عادة كصيام الليل فلا ينتفع بهذا الصوم ولا يكون صام ولا هو أيضا أفطر
ومن نقل عن الصحابة أنه سرد الصوم فقد ذهب إلى أحد هذه الأقوال وكذلك من نقل عنه أنه كان يقوم جميع الليل دائما أو أنه يصلي الصبح بوضوء العشاء الآخرة كذا كذا سنة مع أن كثيرا من المنقول من ذلك ضعيف وقال عبد الله بن مسعود لأصحابه: أنتم أكثر صوما وصلاة من أصحاب محمد وهم كانوا خيرا منكم قالوا: لم يا عبد الرحمن قال: لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة
فأما سرد الصوم بعض العام فهذا قد كان النبي ﷺ يفعله قد كان يصوم حتى يقول القائل: لا يفطر ويفطر حتى يقول القائل: لا يصوم وكذلك قيام بعض الليالي جميعها كالعشر الأخير من رمضان أو قيام غيرها أحيانا فهذا مما جاءت به السنن وقد كان الصحابة يفعلونه فثبت في الصحيح [ أن النبي ﷺ كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد المئزر وأيقظ أهله وأحيا ليله كله ]
وفي السنن [ أنه قام بآية ليلة حتى أصبح: { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ]
ولكن غالب قيامه كان في جوف الليل وكان يصلي بمن حضر عنده كما صلى ليلة بابن عباس وليلة بابن مسعود وليلة بحذيفة بن اليمان
وقد كان أحيانا يقرأ في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران ثم يركع نحوا من قيامه يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم ويرفع نحوا من ركوعه يقول: لربي الحمد لربي الحمد ويسجد نحوا من قيامه يقول: سبحان ربي الأعلى سبحان ربي الأعلى ويجلس نحوا من سجوده يقول: ربي اغفر لي رب اغفر لي ويسجد
وأما الوصال في الصيام فقد ثبت أنه نهى عنه أصحابه ولم يرخص لهم إلا في الوصال إلى السحر وأخبر أنه ليس كأحدهم وقد كان طائفة من المجتهدين في العبادة يواصلون منهم من يبقى شهرا لا يأكل ولا يشرب ومنهم من يبقى شهرين وأكثر وأقل ولكن كثير من هؤلاء ندم على ما فعل وظهر ذلك في بعضهم فإن رسول الله ﷺ أعلم الخلق بطريق الله وأنصح الخلق لعباد الله وأفضل الخلق وأطوعهم له وأتبعهم لسنته
والأحوال التي تحصل عن أعمال فيها مخالفة السنة أحوال غير محمودة وإن كان فيها مكاشفات وفيها تأثيرات فمن كان خبيرا بهذا الباب علم أن الأحوال الحاصلة عن عبادات غير مشروعة كالأموال المكسوبة بطريق غير شرعي والملك الحاصل بطريق غير شرعي: فإن لم يتدارك الله عبده بتوبة يتبع بها الطريق الشرعية وإلا كانت تلك الأمور سببا لضرر يحصل له ثم قد يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له خطأه وقد يكون مذنبا ذنبا مغفورا لحسنات ماحية وقد يكون مبتلى بمصائب تكفر عنه وقد يعاقب بسلب تلك الأحوال وإذا أصر على ترك ما أمر به من السنة وفعل ما نهى عنه فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات حتى قد يصير فاسقا أو داعيا إلى بدعة وإن أصر على الكبائر فقد يخاف عليه أن يسلب الإيمان فإن البدع لا تزال تخرج الإنسان من صغير إلى كبير حتى تخرجه إلى الإلحاد والزندقة كما وقع هذا لغير واحد ممن كان لهم أحوال من المكاشفات والتأثيرات وقد عرفنا من هذا ما ليس هذا موضع ذكره
فالسنة مثال سفينة نوح: من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق قال الزهري: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة وعامة من تجد له حالا من مكاشفة أو تأثير أعان به الكفار أو الفجار أو استعمله في غير ذلك من معصية فإنما ذاك نتيجة عبادات غير شرعية كمن اكتسب أموالا محرمة فلا يكاد ينفقها إلا في معصية الله
والبدع نوعان: نوع في الأقوال والاعتقادات ونوع في الأفعال والعبادات وهذا الثاني يتضمن الأول كما أن الأول يدعو إلى الثاني
فالمنتسبون إلى العلم والنظر وما يتبع ذلك يخاف عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب والسنة من القسم الأول والمنتسبون إلى العبادة والنظر والإرادة وما يتبع ذلك يخاف عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب والسنة من القسم الثاني وقد أمرنا الله أن نقول في كل صلاة: { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } آمين وصح عن النبي ﷺ أنه قال: [ اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ] قال سفيان بن عيينة: كانوا يقولون من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى وكان السلف يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فطالب العلم إن لم يقترن بطلبه فعل ما يجب عليه وترك ما يحرم عليه من الاعتصام بالكتاب والسنة وإلا وقع في الضلال
وأهل الإرادة إن لم يقترن بإرادتهم طلب العلم الواجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة وإلا وقعوا في الضلال والبغي ولو اعتصم رجل بالعلم الشرعي من غير عمل بالواجب كان غاويا وإذا اعتصم بالعبادة الشرعية من غير علم بالواجب كان ضالا والضلال سمة النصارى والبغي سمة اليهود مع أن كلا من الأمتين فيها الضلال والبغي ولهذا تجد من انحرف عن الشريعة في الأمر والنهي من أهل الإرادة والعبادة والسلوك والطريق ينتهون إلى الفناء الذي لا يميزون فيه بين المأمور والمحظور فيكونون فيه متبعين أهواءهم
وإنما الفناء الشرعي أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه وبسؤاله عن سؤال ما سواه وبخوفه عن خوف ما سواه وهذا هو إخلاص الذين لله وعبادته وحده لا شريك له وهو دين الإسلام الذي أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب
وتجد أيضا من انحرف عن الشريعة من الجبر والنفي والإثبات من أهل العلم والنظر والكلام والبحث ينتهي أمرهم إلى الشك والحيرة كما ينتهي الأولون إلى الشطح والطامات فهؤلاء لا يصدقون بالحق وأولئك يصدقون بالباطل وإنما بتحقق الدين بتصديق الرسول في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر باطنا وظاهرا من المعارف والأحوال القلبية وفي الأقوال والأعمال الظاهرة
ومن عظم مطلق السهر والجوع وأمر بهما مطلقا فهو مخطئ بل المحمود السهر الشرعي والجوع الشرعي فالسهر الشرعي كما تقدم من صلاة أو ذكر أو قراءة أو كتابة علم أو نظر فيه أو درسه أو غير ذلك من العبادات والأفضل يتنوع بتنوع الناس فبعض العلماء يقول: كتابة الحديث أفضل من صلاة النافلة وبعض الشيوخ يقول: ركعتان أصليهما بالليل حيث لا يراني أحد أفضل من كتابة مائة حديث وآخر من الأئمة يقول: بل الأفضل فعل هذا وهذا والأفضل يتنوع بتنوع أحوال الناس فمن الأعمال ما يكون جنسه أفضل ثم يكون تارة مرجوحا أو منهيا عنه كالصلاة فإنها أفضل من قراءة القرآن وقراءة القرآن أفضل من الذكر والذكر أفضل من الدعاء ثم الصلاة في أوقات النهي - كما بعد الفجر والعصر ووقت الخطبة - منهي عنها والاشتغال حينئذ إما بقراءة أو ذكر أو دعاء أو استماع أفضل من ذلك
وكذلك قراءة القرآن أفضل من الذكر ثم الذكر في الركوع والسجود هو المشروع دون قراءة القرآن وكذلك الدعاء في آخر الصلاة هو المشروع دون القراءة والذكر وقد يكون الشخص يصلح دينه على العمل المفضول دون الأفضل فيكون أفضل في حقه كما أن الحج في حق النساء أفضل من الجهاد
ومن الناس من تكون القراءة أنفع له من الصلاة ومنهم من يكون الذكر أنفع له من القراءة ومنهم من يكون اجتهاده في الدعاء لكمال ضرورته أفضل له من ذكر هو فيه غافل والشخص الواحد يكون تارة هذا أفضل له وتارة هذا أفضل له ومعرفة حال كل شخص شخص وبيان الأفضل له لا يمكن ذكره في كتاب بل لا بد من هداية يهدي الله بها عبده إلى ما هو أصلح وما صدق الله عبد إلا صنع له
وفي الصحيح [ أن النبي ﷺ كان إذا قام من الليل يقول: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ]
فصل
وأما الأكل واللباس: فخير الهدى هدى محمد ﷺ وكان خلقه في الأكل أنه يأكل ما تيسر إذا اشتهاه ولا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا فكان أن حضر خبز ولحم أكله وإن حضر فاكهة وخبز ولحم أكله وإن حضر تمر وحده أو خبز وحده أكله وإن حضر حلو أو عسل طعمه أيضا وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد وكان يأكل القثاء بالرطب فلم يكن إذا حضر لونان من الطعام يقول: لا آكل لونين ولا يمتنع من طعام لما فيه من اللذة والحلاوة
وكان أحيانا يمضي الشهران والثلاثة لا يوقد في بيته نار ولا يأكلون إلا التمر والماء وأحيانا يربط على بطنه الحجر من الجوع وكان لا يعيب طعاما فإن اشتهاه أكله وإلا تركه وأكل على مائدته لحم ضب فامتنع من أكله وقال: [ إنه ليس بحرام ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ]
وكذلك اللباس كان يلبس القميص والعمامة ويلبس الإزار والرداء ويلبس الجبة والفروج وكان يلبس من القطن والصوف وغير ذلك لبس في السفر جبة صوف وكان يلبس مما يجلب من اليمن وغيرها وغالب ذلك مصنوع من القطن وكانوا يلبسون من قباطي مصر وهي منسوجة من الكتان فسنته في ذلك تقتضي أن يلبس الرجل ويطعم مما يسره الله ببلده من الطعام واللباس وهذا يتنوع بتنوع الأمصار
وقد كان اجتمع طائفة من أصحابه على الامتناع من أكل اللحم ونحوه وعلى الامتناع من تزوج النساء فأنزل الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } وفي الصحيحين عنه [ أنه بلغه أن رجالا قال أحدهم: أما أنا فأصوم لا أفطر وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم فقال: لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني ]
وقد قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون } فأمر بأكل الطيبات والشكر لله فمن حرم الطيبات كان معتديا ومن لم يشكر كان مفرطا مضيعا لحق الله وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: [ إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها ] وفي الترمذي وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: [ الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ]
فهذه الطريق التي كان عليها رسول الله ﷺ هي أعدل الطرق وأقومها والانحراف عنها إلى وجهين:
قوم يسرفون في تناول الشهوات مع إعراضهم عن القيام بالواجبات وقد قال تعالى: { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } وقال تعالى: { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا }
وقوم يحرمون الطيبات ويبتدعون رهبانية لم يشرعها الله تعالى ولا رهبانية في الإسلام وقد قال تعالى: { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } وقال تعالى: { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ! يا رب ! ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ] وكل حلال طيب وكل طيب حلال فإن الله أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث لكن جهة طيبه كونه نافعا لذيذا
والله حرم علينا كل ما يضرنا وأباح لنا كل ما ينفعنا بخلاف أهل الكتاب فإنه بظلم منهم: حرم عليهم طيبات أحلت لهم فحرم عليهم طيبات عقوبة لهم ومحمد ﷺ لم يحرم علينا شيئا من الطيبات والناس تتنوع أحوالهم في الطعام واللباس والجوع والشبع والشخص الواحد يتنوع حاله ولكن خير الأعمال ما كان لله أطوع ولصاحبه أنفع وقد يكون ذلك أيسر العملين وقد يكون أشدهما فليس كل شديد فاضلا ولا كل يسير مفضولا بل الشرع إذا أمرنا بأمر شديد فإنما يأمر به لما فيه من المنفعة لا لمجرد تعذيب النفس كالجهاد الذي قال فيه تعالى: { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم }
والحج هو الجهاد الصغير ولهذا قال النبي ﷺ لعائشة رضي الله عنها في العمرة: [ أجرك على قدر نصبك ] وقال تعالى في الجهاد: { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين }
وأما مجرد تعذيب النفس والبدن من غير منفعة راجحة فليس هذا مشروعا لنا بل أمرنا الله بما ينفعنا ونهانا عما يضرنا وقد قال ﷺ في الحديث الصحيح: [ إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ] وقال لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وقال [ هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فاستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا ] وروي عنه أنه قال: [ أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ]
فالإنسان إذا أصابه في الجهاد والحج أو غير ذلك حر أو برد أو جوع ونحو ذلك فهو مما يحمد عليه قال الله تعالى: { وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون }
وكذلك قال ﷺ: [ الكفارات: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط ]
وأما مجرد بروز الإنسان للحر والبرد بلا منفعة شرعية واحتفاؤه وكشف رأسه ونحو ذلك مما يظن بعض الناس أنه من مجاهدة النفس فهذا إذا لم يكن فيه منفعة للإنسان وطاعة لله فلا خير فيه بل قد ثبت في الصحيح [ أن النبي ﷺ رأى رجلا قائما في الشمس فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال: مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه ]
ولهذا نهى عن الصمت الدائم بل المشروع ما قاله النبي ﷺ قال: [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ] فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه والسكوت عن الشر خير من التكلم به
فصل
والجنب يستحب له الوضوء إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يعاود الوطء لكن يكره له النوم إذا لم يتوضأ فإنه قد ثبت في الصحيح [ أن النبي ﷺ سئل: هل يرقد أحدنا وهو جنب؟ فقال: نعم إذا توضأ للصلاة ]
ويستحب الوضوء عند النوم لكل أحد فإن النبي ﷺ قال لرجل: [ إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت ]
وليس للجنب أن يلبث في المسجد لكن إذا توضأ جاز له اللبث فيه عند أحمد وغيره واستدل بما ذكره بإسناده عن هشام بن سعد أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يتوضأون وهم جنب ثم يجلسون في المسجد ويتحدثون وهذا لأن النبي ﷺ
أمر الجنب بالوضوء عند النوم وقد جاء في بعض الأحاديث كراهة أن تقبض روحه وهو نائم فلا تشهد الملائكة جنازته فإن في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: [ لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب ] وهذا مناسب لنهيه عن اللبث في المسجد فإن المساجد بيوت الملائكة كما نهى النبي ﷺ عن أكل الثوم والبصل عند دخول المسجد وقال: [ إن الملائكة تتأذى بما يتأذى منه بنو آدم ]
فلما أمر النبي ﷺ الجنب بالوضوء عند النوم دل ذلك على أن الوضوء يرفع الجنابة الغليظة وتبقى مرتبة بين المحدث وبين الجنب لم يرخص له فيما يرخص فيه للحدث من القراءة ولم يمنع مما يمنع منه الجنب من اللبث في المسجد فإنه إذا كان وضوءه عند النوم يقتضي شهود الملائكة له دل على أن الملائكة تدخل المكان الذي هو فيه إذا توضأ ولهذا يجوز الشافعي وأحمد للجنب المرور في المسجد بخلاف قراءة القرآن فإن الأئمة الأربعة متفقون على منعه من ذلك فعلم أن منعه من القرآن أعظم من منعه من المسجد
وقد تنازع العلماء في منع الكفار من دخول المسجد والمسلمون خير من الكفار ولو كانوا جنبا فإنه قد ثبت في الصحيح [ عن النبي ﷺ أنه قال لأبي هريرة لما لقيه وهو جنب فانخنس منه فاغتسل ثم أتاه فقال: أين كنت؟ قال: إني كنت جنبا فكرهت أن أجالسك إلا على طهارة فقال: سبحان الله إن المؤمن لا ينجس ] وقد قال الله تعالى { إنما المشركون نجس } فلبث المؤمن الجنب إذا توضأ في المسجد أولى من لبث الكافر فيه عند من يجوز ذلك ومن منع الكافر لم يحب أن يمنع المؤمن المتوضئ كما نقل عن الصحابة وإذا كان الجنب يتوضأ عند النوم والملائكة تشهد جنازته حينئذ علم أن النوم لا يبطل الطهارة الحاصلة بذلك وهو تخفيف الجنابة وحينئذ فيجوز أن ينام في المسجد حيث ينام غيره
وإذا كان النوم الكثير ينقض الوضوء فذاك هو الوضوء الذي يرفع الحدث الأصغر ووضوء الجنب هو تخفيف الجنابة وإلا فهذا الوضوء لا يبيح له ما يمنعه الحدث الأصغر من الصلاة والطواف ومس المصحف والتيمم يقوم مقام الطهارة بالماء فما يبيحه الإغتسال والوضوء من الممنوعات يبيحه التيمم وهو جائز إذا عدم الماء وخاف الوضوء باستعماله
كما نبه الله تعالى على ذلك بذكر المريض وذكر من لم يجد الماء فمن كان الماء يضره بزيادة في مرضه لأجل جرح به أو مرض أو لخشية البرد ونحو ذلك فإنه يتيمم سواء كان جنبا أو محدثا ويصلي
وإذا جاز له الصلاة جاز له الطواف وقراءة القرآن ومس المصحف واللبث في المسجد ولا إعادة عليه إذا صلى سواء كان في الحضر أو في السفر في أصح قولي العلماء فإن الصحيح أن كل من فعل ما أمر به بحسب قدرته من غير تفريط منه ولا عدوان فلا إعادة عليه لا في الصلاة ولا في الصيام ولا الحج ولم يوجب الله على العبد أن يصلي الصلاة الواحدة مرتين ولا يصوم شهرين في عام ولا يحج حجين إلا أن يكون منه تفريط أو عدوان فإن نسي الصلاة كان عليه أن يصليها إذا ذكرها وكذلك إذا نسي بعض فرائضها كالطهارة والركوع والسجود
وأما إذا كان عاجزا عن المفروض كمن صلى عريانا لعدم السترة أو صلى بلا قراءة لانعقاد لسانه أو لم يتم الركوع والسجود لمرضه ونحو ذلك فلا إعادة عليه ولا فرق بين العذر النادر والمعتاد وما يدوم وما لا يدوم وقد اتفق المسلمون على أن المسافر إذا عدم الماء صلى بالتيمم ولا إعادة عليه وعلى أن العريان إذا لم يجد سترة صلى ولا إعادة عليه وعلى أن المريض يصلي بحسب حاله كما قال النبي ﷺ لعمران بن الحصين: [ صل قائما فإن لم تستطيم فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ولا إعادة عليه ]
فصل
والأفضل للإمام أن يتحرى صلاة رسول الله ﷺ التي كان يصليها بأصحابه بل هذا هو المشروع الذي يأمر به الأئمة كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال لمالك بن الحويرث وصاحبه: [ إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أحدكما وصلوا كما رأيتموني أصلي ]
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقرأ في الفجر بما بين الستين آية إلى مائة آية وهذا بالتقريب نحو ثلث جزء إلى نصف جزء من تجزئة ثلاثين فكان يقرأ بطوال المفصل يقرأ بقاف ويقرأ ألم تنزيل وتبارك ويقرأ سورة المؤمنين ويقرأ الصافات ونحو ذلك
وكان يقرأ في الظهر بأقل من ذلك بنحو ثلاثين آية ويقرأ في العصر بأقل من ذلك ويقرأ في المغرب بأقل من ذلك مثل قصار المفصل وفي العشاء الآخرة بنحو: { والشمس وضحاها } و{ الليل إذا يغشى } ونحوهما
وكان أحيانا يطيل الصلاة ويقرأ بأكثر من ذلك حتى يقرأ في المغرب ( بالأعراف ) ويقرأ فيها ( بالطور ) ويقرأ فيها ( بالمرسلات )
وأبو بكر الصديق قرأ مرة في الفجر بسورة البقرة وعمر كان يقرأ في الفجر: ( بسورة هود ) و( سورة يوسف ) ونحوهما وأحيانا يخفف إما لكونه في السفر أو لغير ذلك كما قال ﷺ: [ إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأخفف لما أعلم من وجد أمه به ] حتى روي عنه أنه قرأ في الفجر ( سورة التكوير ) و( سورة الزلزلة ) فينبغي للإمام أن يتحرى الاقتداء برسول الله ﷺ
وإذا كان المأمومون لم يعتادوا لصلاته وربما نفروا عنها درجهم إليها شيئا بعد شيء فلا يبدأوهم بما ينفرهم عنها بل يتبع السنة بحسب الإمكان وليس للإمام أن يطيل على القدر المشروع إلا أن يختاروا ذلك كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال ﷺ: [ من أم الناس فليخفف بهم فإن منهم السقيم والكبير وذا الحاجة ] أخرجاه في الصحيحين وقال: [ إذا أم أحدكم الناس فليخفف وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ] وكان يطيل الركوع والسجود والاعتدالين كما ثبت عنه في الصحيح [ أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يقوم حتى يقول القائل قد نسي وإذا رفع رأسه من السجود يقعد حتى يقول القائل قد نسي ]
وفي السنن أن أنس بن مالك شبه صلاة عمر بن عبد العزيز بصلاته وكان عمر يسبح في الركوع نحو عشر تسبيحات وفي السجود نحو عشر تسبيحات فينبغي للإمام أن يفعل في الغالب ما كان النبي ﷺ يفعله في الغالب وإذا اقتضت المصلحة أن يطيل أكثر من ذلك أو يقصر عن ذلك فعل ذلك كما كان النبي ﷺ أحيانا يزيد على ذلك وأحيانا ينقص عن ذلك
فصل
وأما الوضوء عند كل حدث ففيه حديث بلال المعروف عن بريدة بن حصيب قال: [ أصبح رسول الله ﷺ فدعا بلالا فقال: يا بلال ! بم سبقتني إلى الجنة؟ ! فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي فأتيت على قصر مربع مشرف من ذهب فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لرجل عربي فقلت: أنا عربي لمن هذا القصر؟
فقالوا: لرجل من قريش قلت: أنا رجل من قريش لمن هذا القصر؟ فقالوا: لرجل من أمة محمد فقلت أنا محمد لمن هذا القصر؟ فقالوا لعمر بن الخطاب فقال: بلال يا رسول الله ! ما أذنت قط إلا صليت ركعتين وما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها فرأيت أن لله علي ركعتين فقال رسول الله ﷺ عليك بهما ] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وهذا يقتضي استحباب الوضوء عند كل حدث ولا يعارض ذلك الحديث الذي في الصحيح عن ابن عباس قال: [ كنا عند النبي ﷺ فجاء من الغائط فأتى بطعام فقيل له: ألا تتوضأ؟ قال: لم أصل فأتوضأ ] فإن هذا ينفي وجوب الوضوء وينفي أن يكون مأمورا بالوضوء لأجل مجرد الأكل ولم نعلم أحدا استحب الوضوء للأكل إلا إذا كان جنبا وتنازع العلماء في غسل اليدين قبل الأكل هل يكره أو يستحب على قولين هما روايتان عن أحمد
فمن استحب ذلك احتج بحديث سلمان أنه قال للنبي ﷺ: قرأت في التوراة أن من بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده ومن كرهه قال: لأن هذا خلاف سنة المسلمين فإنهم لم يكونوا يتوضأون قبل الأكل وإنما كان هذا من فعل اليهود فيكره التشبه بهم
وأما حديث سلمان فقد ضعفه بعضهم وقد يقال: كان هذا في أول الإسلام لما كان النبي ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ! ولهذا كان يسدل شعره موافقة ثم فرق بعد ذلك ولهذا صام عاشوراء لما قدم المدينة ثم إنه قال قبل موته: [ لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ] يعني مع العاشر لأجل مخالفة اليهود
فصل
وأما سؤال السائل عن المواظبة على ما واظب عليه النبي ﷺ في عبادته وعادته هل هي سنة؟ أم تختلف باختلاف أحوال الراتبين؟ فيقال: الذي نحن مأمورون به هو طاعة الله ورسوله فعلينا أن نطيع رسول الله ﷺ فيما أمرنا به فإن الله قد ذكر طاعته في أكثر من ثلاثين موضعا من كتابه فقال تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال: { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله }
وقد أوجب السعادة لمن أطاعه بقوله: { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } وعلق السعادة والشقاوة بطاعته ومعصيته في قوله: { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين }
وكان ﷺ يقول في خطبته: [ من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا ] وجميع الرسل دعوا إلى عبادة الله وتقواه وخشيته وإلى طاعتهم كما قال نوح عليه السلام: { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } وقال تعالى: { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } وقال كل من نوح والنبيين: { فاتقوا الله وأطيعون }
وطاعة الرسول فيما أمرنا به هو الأصل الذي على كل مسلم أن يعتمده وهو سبب السعادة كما أن ترك ذلك سبب الشقاوة وطاعته في أمره أولى بنا من موافقته في فعل لم يأمرنا بموافقته فيه باتفاق المسلمين ولم يتنازع العلماء أن أمره أوكد من فعله فإن فعله قد يكون مختصا به وقد يكون مستحبا وأما أمره لنا فهو من دين الله الذي أمرنا به ومن أفعاله ما قد علم أنه أمرنا أن نفعل مثله كقوله: [ صلوا كما رأيتموني أصلي ] وقوله: لما صلى بهم على المنبر: [ إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ] وقوله لما حج: [ خذوا عني مناسككم ]
وأيضا فقد ثبت بالكتاب والسنة أن ما فعله على وجه العادة فهو مباح لنا إلا أن يقوم دليل على اختصاصه به كما قال سبحانه وتعالى { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } فأباح له أن يتزوج امرأة دعيه ليرفع الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم فعلم أن ما فعله كان لنا مباحا أن نفعله
ولما خصه ببعض الأحكام قال: { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما } فلما أحل له أن ينكح الموهوبة بين أن ذلك خالص له من دون المؤمنين فليس لأحد أن ينكح امرأة بلا مهر غيره ﷺ
وفي صحيح مسلم: [ أن رجلا سأل رسول الله ﷺ أيقبل الصائم؟ فقال له: سل هذه - لأم سلمة - فأخبرتهم أن رسول الله ﷺ يفعل ذلك فقال: يا رسول الله ! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال له: أما والله إنني لأتقاكم لله وأخشاكم له ]
فلما أجابه ﷺ بفعله دل ذلك على أنه يباح للأمة ما أبيح له ولهذا كان جمهور علماء الأمة على أن الله إذا أمره بأمر أو نهاه عن شيء كانت أمته أسوة له في ذلك ما لم يقم دليل على اختصاصه بذلك
فمن خصائصه: ما كان من خصائص نبوته ورسالته فهذا ليس لأحد أن يقتدي به فيه فإنه لا نبي بعده وهذا مثل كونه يطاع في كل ما يأمر به وينهى عنه وإن لم يعلم جهة أمره حتى يقتل كل من أمر بقتله وليس هذا لأحد بعده فولاة الأمور من العلماء والأمراء يطاعون إذا لم يأمروا بخلاف أمره ولهذا جعل الله طاعتهم في ضمن طاعته قال الله تعالى: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } فقال: ( وأطيعوا الرسول وأولي الأمر ) لأن أولي الأمر يطاعون طاعة تابعة لطاعته فلا يطاعون استقلالا ولا طاعة مطلقة وأما الرسول فيطاع طاعة مطلقة مستقلة فإنه: { من يطع الرسول فقد أطاع الله } فقال تعالى: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } فإذا أمرنا الرسول كان علينا أن نطيعه وإن لم نعلم جهة أمره وطاعته طاعة الله لا تكون طاعته بمعصية الله قط بخلاف غيره
وقد ذكر الناس من خصائصه فيما يجب عليه ويحرم عليه ويكرم به ما ليس هذا موضع تفصيله وبعد ذلك متفق عليه وبعضه متنازع فيه وقد كان ﷺ إمام الأمة وهو الذي يقضي بينهم وهو الذي يقسم وهو الذي يغزو بهم وهو الذي يقيم الحدود وهو الذي يستوفي الحقوق وهو الذي يصلي بهم فالاقتداء به في كل مرتبة بحسب تلك المرتبة فإمام الصلاة والحج يقتدي به في ذلك وأمير الغزو يقتدي به في ذلك والذي يقيم الحدود يقتدي به في ذلك والذي يقضي أو يفتي يقتدي به في ذلك
وقد تنازع الناس في أمور فعلها: هل هي من خصائصه أم للأمة فعلها؟ كدخوله في الصلاة إماما بعد أن صلى بالناس غيره وكتركه الصلاة على الغال والقاتل وأيضا فإذا فعل فعلا لسبب وقد علمنا ذلك السبب أمكننا أن نقتدي به فيه فأما إذا لم نعلم السبب أو كان السبب أمرا اتفاقيا فهذا مما يتنازع فيه الناس: مثل نزوله في مكان في سفره فمن العلماء من يستحب أن ينزل حيث نزل كما كان ابن عمر يفعل وهؤلاء يقولون نفس موافقته في الفعل هو حسن وإن كان فعله هو اتفاقا ونحن فعلناه لقصد التشبه به ومن العلماء من يقول إنما تستحب المتابعة إذا فعلناه على الوجه الذي فعله فأما إذا فعله اتفاقا لم يشرع لنا أن نقصد ما لم يقصده ولهذا كان أكثر المهاجرين والأنصار لا يفعلون كما كان ابن عمر يفعل
وأيضا فالاقتداء به يكون تارة في نوع الفعل وتارة في جنسه فإنه قد يفعل الفعل لمعنى يعم ذلك النوع وغيره لا لمعنى يخصه فيكون المشروع هو الأمر العام
مثال ذلك احتجامه ﷺ فإن ذلك كان لحاجته إلى إخراج الدم الفاسد ثم التأسي هل هو مخصوص بالحجامة؟ أو المقصود إخراج الدم على الوجه النافع؟
ومعلوم أن التأسي هو المشروع فإذا كان البلد حارا يخرج فيه الدم إلى الجلد كانت الحجامة هي المصلحة وإن كان البلد باردا يغور فيه الدم إلى العروق كان إخراجه بالقصد هو المصلحة
وكذلك ادهانه ﷺ: هل المقصود خصوص الدهن أو المقصود ترجيل الشعر؟ فإن كان البلد رطبا وأهله يغتسلون بالماء الحار الذي يغنيهم عن الدهن والدهن يؤذي شعورهم وجلودهم يكون المشروع في حقهم ترجيل الشعر بما هو أصلح لهم ومعلوم أن الثاني هو الأشبه
وكذلك لما كان يأكل الرطب والتمر وخبز الشعير ونحو ذلك من قوت بلده فهل التأسي به أن يقصد خصوص الرطب والتمر والشعير حتى يفعل ذلك من يكون في بلاد لا ينبت فيها التمر ولا يقتاتون الشعير بل يقتاتون البر أو الرز أو غير ذلك ومعلوم أن الثاني هو المشروع والدليل على ذلك أن الصحابة لما فتحوا الأمصار كان كل منهم يأكل من قوت بلده ويلبس من لباس بلده من غير أن يقصد أقوات المدينة ولباسها ولو كان هذا الثاني هو الأفضل في حقهم لكانوا أولى باختيار الأفضل
وعلى هذا يبنى نزاع العلماء في صدقة الفطر: إذا لم يكن أهل البلد يقتاتون التمر والشعير فهل يخرجون من قوتهم كالبر والرز أو يخرجون من التمر والشعير لأن النبي ﷺ فرض ذلك فإن في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: [ فرض رسول الله ﷺ صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل صغير أو كبير ذكر أو أنثى حر أو عبد من المسلمين ] وهذه المسألة فيها قولان للعلماء وهما روايتان عن أحمد وأكثر العلماء على أنه يخرج من قوت بلده وهذا هو الصحيح كما ذكر الله ذلك في الكفارة بقوله: { من أوسط ما تطعمون أهليكم }
ومن هذا الباب: إن الغالب عليه وعلى أصحابه أنهم كانوا يأتزرون ويرتدون فهل الأفضل لكل أحد أن يرتدي ويأتزر ولو مع القميص؟ أو الأفضل أن يلبس مع القميص السراويل من غير حاجة إلى الإزار والرداء هذا أيضا مما تنازع فيه العلماء والثاني أظهر وهذا باب واسع
وهذا النوع ليس مخصوصا بفعله وفعل أصحابه بل وبكثير مما أمرهم به ونهاهم عنه وهذا سمته طائفة من الناس: تنقيح المناط وهو أن يكون الحكم قد ثبت في عين معينة وليس مخصوصا بها بل الحكم ثابت فيها وفي غيرها فيحتاج أن يعرف مناط الحكم
مثال ذلك أنه قد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: [ ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم ] فإنه متفق على أن الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة وذلك السمن بل الحكم ثابت فيما هو أعم منهما فبقي المناط الذي علق به الحكم ما هو؟ فطائفة من أهل العلم يزعمون أن الحكم مختص بفأرة وقعت في سمن فينجسون ما كان كذلك مطلقا ولا ينجسون السمن إذا وقع فيه الكلب والبول والعذرة ولا ينجسون الزيت ونحوه إذا وقعت فيه الفأرة وهذا القول خطأ قطعا
وليس هذا مبينا على كون القياس حجة فإن القياس الذي يكون النزاع فيه هو تخريج المناط وهو أن يجوز اختصاص مورد النص بالحكم فإذا جاز اختصاصه وجاز أن يكون الحكم مشتركا بين مورد النص وغيره احتاج معتبر القياس إلى أن يعلم أن المشترك بين الأصل والفرع هو مناط الحكم كما في قوله: [ لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الشعير بالشعير إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الملح بالملح إلا مثلا بمثل ] فلما نهى عن التفاضل في مثل هذه الأصناف أمكن أن يكون النهي لمعنى مشترك ولمعنى مختص
ولما سئل عن فأرة وقعت في سمن فأجاب: عن تلك القضية المعينة ولا خفاء أن الحكم ليس مختصا بها وكذلك سائر قضايا الأعيان كالأعرابي الذي قال له: إني وقعت على أهلي في رمضان فأمره أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا فإن الحكم ليس مخصوصا بذلك الأعرابي باتفاق المسلمين لكن هل أمره بذلك لكونه أفطر أو جامع في رمضان أو أفطر فيه بالجماع أو أفطر بالجنس الأعلى هذا مما تنازع فيه العلماء
وكذلك لما سأله سائل عمن أحرم بالعمرة وعليه جبة وهو متضمخ بالخلوق فقال: [ انزع عنك الجبة واغسل عنك أثر الخلوق واصنع في عمرتك ما كنت صانعا في حجتك ] فهي أمره بغسل الخلوق لكونه طيبا حتى يؤمر المحرم بغسل كل طيب كان عليه أو لكونه خلوقا لرجل؟ وقد نهى أن يتزعفر الرجل فينهى عن الخلوق للرجل سواء كان محرما أو غير محرم
وكذلك لما عتقت بريرة فخيرها فاختارت نفسها عند من يقول: إن زوجها كان عبدا فإن المسلمين اتفقوا على أن الحكم لا يختص بها لكن هل التخيير لكونها عتقت تحت عبد فكملت تحت ناقص؟ ولا تخير إذا عتقت تحت الحر أو الحكم لكونها ملكت نفسها فتخير سواء كان الزوج حرا أو عبدا؟ هذا مما تنازعوا فيه وهذا باب واسع وهو متناول لكل حكم تعلق بعين معينة مع العلم بأنه لا يختص بها فيحتاج أن يعرف المناط الذي يتعلق به الحكم وهذا النوع يسميه بعض الناس قياسا وبعضهم لا يسميه قياسا ولهذا كان أبو حنيفة وأصحابه يستعملونه في المواضع التي لا يستعملون فيها القياس
والصواب أن هذا ليس من القياس الذي يمكن فيه النزاع كما أن تحقيق المناط ليس مما يقبل النزاع باتفاق العلماء
وهذه الأنواع الثلاثة تحقيق المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط هي جماع الاجتهاد
فالأول: أن يعمل بالنص والاجماع فإن الحكم معلق بوصف يحتاج في الحكم على المعين إلى أن يعلم ثبوت ذلك الوصف فيه كما يعلم أن الله أمرنا بإشهاد ذوي عدل منا وممن نرضى من الشهداء ولكن لا يمكن تعيين كل شاهد فيحتاج أن يعلم في الشهود المعينين: هل هم من ذوي العدل المرضيين أم لا؟ وكما أمر الله بعشرة الزوجين بالمعروف وقال النبي ﷺ: [ للنساء رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] ولم يكن تعيين كل زوج فيحتاج أن ينظر في الأعيان ثم من الفقهاء من يقول إن نفقة الزوجة مقدرة بالشرع والصواب مع عليه الجمهور أن ذلك مردود إلى العرف كما قال النبي ﷺ لهند: [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ]
وكما قال تعالى: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ويبقى النظرفي تسليمه إلى هذا التاجر بجزء من الربح هل هو من التي هي أحسن أم لا؟ وكذلك قوله: { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } يبقى هذا الشخص المعين هل هو من الفقراء المساكين المذكورين في القرآن أم لا؟ وكما حرم الله الخمر والربا عموما يبقى الكلام في الشراب المعين هل هو خمر أم لا؟ وهذا النوع مما اتفق عليه المسلمون بل العقلاء: بأنه لا يمكن أن ينص الشارع على حكم كل شخص إنما يتكلم بكلام عام وكان نبينا ﷺ قد أوتي جوامع الكلم
وأما النوع الثاني: الذي يسمونه تنقيح المناط بأن ينص على حكم أعيان معينة؟ لكن قد علمنا أن الحكم لا يختص بها فالصواب في مثل هذا أنه ليس من باب القياس لاتفاقهم على النص بل المعين هنا نص على نوعه ولكنه يحتاج إلى أن يعرف نوعه ومسألة الفأرة في السمن من هذا الباب فإن الحكم ليس مخصوصا بتلك الفأرة وذلك السمن ولا بفأر المدينة وسمنها ولكن السائل سأل النبي ﷺ عن فأرة وقعت في سمن فأجابه: لا أن الجواب يختص به ولا بسؤاله كما أجاب غيره ولفظ الفأرة والسمن ليست من كلام النبي ﷺ حتى يكون هو الذي علق الحكم بها بل من كلام السائل الذي أخبر بما وقع له كما قال له الأعرابي: إنه وقع على امرأته ولو وقع على سريته لكان الأمر كذلك وكما قال له الآخر: رأيت بياض خلخالها في القمر فوثبت عليها ولو وطئها بدون ذلك كان الحكم كذلك
فالصواب في هذا ما عليه الأئمة المشهورون: أن الحكم في ذلك معلق بالخبيث الذي حرمه الله إذا وقع في السمن ونحوه من المائعات لأن الله أباح لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث فإذا علقنا الحكم بهذا المعنى كنا قد اتبعنا كتاب الله فإذا وقع الخبيث في الطيب ألقي الخبيث وما حوله وأكل الطيب كما أكل النبي ﷺ
وليس هذا الجواب موضع بسط مثل هذه المسائل ولكن نبهنا على هذا لأن الاقتداء بالنبي ﷺ في أفعاله يتعلق بهذا وحينئذ هذا مما يتعلق باجتهاد الناس واستدلالهم وما يؤتيهم الله من الفقه والحكمة والعلم وأحق الناس بالحق من علق الأحكام بالمعاني التي علقها بها الشارع
وهذا موضع تفاوت فيه الناس وتنازعوا: هل يستفاد ذلك من خطاب الشارع؟ أو من المعاني القياسية؟ فقوم زعموا أن أكثر أحكام أفعال العباد لا يتناولها خطاب الشارع بل تحتاج إلى القياس وقوم زعموا أن جميع أحكامها ثابتة بالنص وأسرفوا في تعلقهم بالظاهر حتى أنكروا فحوى الخطاب وتنبيهه كقوله تعالى: { فلا تقل لهما أف } وقالوا: إن هذا لا يدل إلا على النهي عن التأفيف لا يفهم منه النهي عن الضرب والشتم وانكروا تنقيح المناط وادعوا في الألفاظ من الظهور ما لا تدل عليه وقوم يقدمون القياس تارة لكون دلالة النص غير تامة أو لكونه خبر الواحد وأقوام يعارضون بين النص والقياس ويقدمون النص ويتناقضون ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة الصحيحة لا تتناقض فلا تتناقض الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة
فإن القياس الصحيح حقيقة التسوية بين المتماثلين وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل والرسول لا يأمر بخلاف العدل ولا يحكم في شيئين متماثلين بحكمين مختلفين ولا يحرم الشيء ويحل نظيره
وقد تأملنا عامة المواضع التي قيل: إن القياس فيها عارض النص وإن حكم النص فيها على خلاف القياس فوجدنا ما خصه الشارع بحكم عن نظائره فإنما خصه به لاختصاصه بوصف أوجب اختصاصه بالحكم كما خص العرايا بجواز بيعها بمثلها خرصا لتعذر الكيل مع الحاجة إلى البيع والحاجة توجب الانتقال إلى البدل عند تعذر الأصل
فالخرص عند الحاجة قام مقام الكيل كما يقوم التراب مقام الماء والميتة مقام المذكى عند الحاجة وكذلك قول من قال: القرض أو الإجارة أو القراض أو المساقاة أو المزارعة ونحو ذلك على خلاف القياس إن أراد به أن هذه الأفعال اختصت بصفات أوجبت أن يكون حكمها مخالفا لحكم ما ليس مثلها فقد صدق وهذا هو مقتضى القياس وإن أراد أن الفعلين المتماثلين حكم فيهما بحكمين مختلفين فهذا خطأ ينزه عنه من هو دون الأنبياء صلوات الله عليهم
ولكن هذه الأقيسة المعارضة هي الفاسدة كقياس الذين قالوا: { إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } وقياس الذين قالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ يعنون الميتة وقال تعالى: { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون }
ولعل من رزقه الله فهما وآتاه من لدنه علما يجد عامة الأحكام التي تعلم بقياس شرعي صحيح يدل عليها الخطاب الشرعي كما أن غاية ما يدل عليه الخطاب الشرعي هو موافق للعدل الذي هو مطلوب القياس الصحيح
وإذا كان الأمر كذلك: فالكلام في أعيان أحوال الرجل السالك يحتاج إلى نظر خاص واستهداء من الله والله قد أمر العبد أن يقول في كل صلاة: { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فعلى العبد أن يجتهد في تحقيق هذا الدعاء ليصير من الذين أنعم الله عليهم: من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
فصل
وأما قوله: هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها إما نزاعا كليا وإما حاليا فحقيقة الأمر: أن الخلطة تارة تكون واجبة أو مستحبة والشخص الواحد قد يكون مأمورا بالمخالطة تارة وبالإنفراد تارة
وجماع ذلك: أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله وكذلك الاختلاط بهم في الحج وفي غزو الكفار والخوارج المارقين وإن كان أئمة ذلك فجارا وإن كان في تلك الجماعات فجار
وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به أيمانا إما لانتفاعه به وإما لنفعه له ونحو ذلك ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره فهذه يحتاج فيها
إلى انفراده لنفسه إما في بيته كما قال طاوس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه وإما في غير بيته فاختيار المخالطة مطلقا خطأ واختيار الانفراد مطلقا خطأ
وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا وما هو الأصلح له في كل حال فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم
وكذلك السبب وترك السبب فمن كان قادرا على السبب ولا يشغله عما هو أنفع له في دينه فهو مأمور به مع التوكل على الله وهذا خير له من أن يأخذ من الناس ولو جاءه بغير سؤال وسبب مثل هذا عبادة لله وهو مأمور أن يعبد الله ويتوكل عليه فإن تسبب بغير نية صالحة أو لم يتوكل على الله فهو مطيع في هذا وهذا
وهذه طريق الأنبياء والصحابة وأما من كان من الفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف فهذا إما أن يكون عاجزا عن الكسب أو قادرا عليه بتفويت ما هو فيه أطوع لله من الكسب ففعل ما هو فيه أطوع هو المشروع في حقه وهذا يتنوع بتنوع أحوال الناس وقد تقدم أن الأفضل يتنوع تارة بحسب أجناس العبادات كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء وتارة يختلف باختلاف الأوقات كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة وكذلك الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالاتفاق
وأما القراءة في الطواف ففيها نزاع معروف وتارة باختلاف الأمكنة كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة ونحوها والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلاة والصلاة للمقيمين بمكة أفضل
وتارة باختلاف مرتبة جنس العبادة فالجهاد للرجال أفضل من الحج وأما النساء فجهادهن الحج والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لأبويها بخلاف الأيمة فإنها مأمورة بطاعة أبويها وتارة يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس ويتبعون أهواءهم فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس ويأمرهم بمثل ذلك والله بعث محمدا بالكتاب والحكمة وجعله رحمة للعباد وهداية لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له
فعلى المسلم أن يكون ناصحا للمسلمين يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعبادات أفضل له ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية كالصلاة والصيام أفضل له والأفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي ﷺ باطنا وظاهرا فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد ﷺ والله سبحانه وتعالى أعلم