كتاب النفقات
1 - 620 - مسألة: في رجل تزوج عند قوم مدة سنة ثم جرى بينهم كلام فادعوا عليه بكسوة سنة فأخذوها منه ثم ادعوا عليه بالنفقة وقالوا: هي تحت الحجر وما أذنا لك أن تنفق عليها: فهل يجوز ذلك؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين إذا كان الزوج تسلمها التسليم الشرعي وهو أو أبوه أو نحوهما يطعمها كما جرت به العادة: لم يكن للأب ولا لها أن تدعي بالنفقة فإن هذا هو الانفاق بالمعروف الذي كان على عهد رسول الله ﷺ وأصحابه وسائر المسلمين في كل عصر ومصر وكذلك نص على ذلك أئمة العلماء بل من كلف الزوج أن يسلم إلى أبيها دراهم ليشتري لها بها ما يطعمها في كل يوم فقد خرج عن سنة رسول الله ﷺ والمسلمين وإن [ كان ] هذا قد قاله بعض الناس فكيف إذا كان قد أنفق عليها بإقرار الأب لها بذلك وتسليمها إليهم مع أنه لا بد لها من الأكل ثم أراد أن يطلب النفقة ولا يعتد بما أنفقوا عليها فإن هذا باطل في الشريعة لا تحتمله أصلا ومن توهم ذلك معتقدا أن النفقة حق لها كالدين فلا بد أن يقبضه الولي وهو لم يأذن فيه: كان مخطئا من وجوه
منها: أن المقصود بالنفقة إطعامها لا حفظ المال لها الثاني: إن قبض الولي لها ليس فيه فائدة الثالث: إن ذلك لا يحتاج إلى إذنه فإنه واجب لها بالشرع والشارع أوجب الإنفاق عليها فلو نهى الولي عن ذلك لم يلتفت إليه الرابع: إقراره لها مع حاجته إلى النفقة أذن عرفي ولا يقال إنه لم يأمن الزوج على النفقة لوجهين: إحداهما: إن الائتمان بها حصل بالشرع كما أوتمن الزوج على بدنها والقسم لها وغير ذلك من حقوقها فإن الرجال قوامون على النساء والنساء عوان عند الرجال كما دل على ذلك الكتاب والسنة الثاني: أن الإئتمان العرفي كاللفظي والله أعلم
621 - / 2 - مسألة: في رجل تزوج بامرأة ودخل بها وهو مستمر النفقة وهي ناشز ثم إن والدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج: فما يجب عليهما؟
الجواب: الحمد لله إذا سافر بغير إذن الزوج فإنه يعزر على ذلك وتعزر الزوجة إذا كان التخلف يمكنها ولا نفقة لها من حين سافرت والله أعلم
622 - / 3 - مسألة: في رجل تزوج بامرأة ودخل بها وهو مستمر [ في ] النفقة وهي ناشز ثم إن والدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج فماذا يجب عليهما؟
الجواب: الحمد لله إذا سافر بها بغير إذن الزوج فإنه يعزر على ذلك وتعزر الزوجة إذا كان التخلف يمكنها ولا نفقة لها من حين سافرت والله أعلم
623 - / 4 - مسألة: في رجل ماتت زوجته وخلفت له ثلاث بنات: فأعطاهم لحميه وحماته وقال: روحوا بهم إلى بلدكم حتى أجيء إليهم فغاب عنهم ثلاث سنين فهل على والدهم نفقتهم وكسوتهم في هذه المدة أم لا؟
الجواب: ما أنفقوه عليهم بالمعروف بنية الرجوع به على والدهم فلهم الرجوع به عليه إذا كان ممن تلزمه نفقتهم والله أعلم
5 - 624 - مسألة: في رجل حلف على زوجته وقال: لأهجرنك إن كنت ما تصلين فامتنعت من الصلاة ولم تصل وهجر الرجل فراشها فهل لها على الزوج نفقة أم لا؟ وماذا يجب عليها إذا تركت الصلاة؟
الجواب: الحمد لله إذا امتنعت من الصلاة فإنها تستتاب فإن تابت وإلا قتلت وهجر الرجل على ترك الصلاة من أعمال البر التي يحبها الله ورسوله ولا نفقة لها إذا امتنعت من تمكينه إلا مع ترك الصلاة والله أعلم
625 - / 6 - مسألة: في رجل طلق زوجته طلقة واحدة وكانت حاملا فأسقطت: فهل تسقط عنه النفقة أم لا؟
الجواب: نعم إذا ألقت سقطا انقضت به العدة وسقطت به النفقة وسواء كان فد نفخ فيه الروح أم لا إذا كان قد تبين فيه خلق الإنسان فإن لم يتبين ففيه نزاع
7 - 626 - مسألة: في رجل عجز عن الكسب ولا له شيء وله زوجة وأولاد: فهل يجوز لولده الموسر أن ينفق عليه وعلى زوجته وأخوته الصغار؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين نعم على الولد الموسر أن ينفق على أبيه وزوجة أبيه وعلى أخوته الصغار وإن لم يفعل ذلك كان عاقا لأبيه قاطعا لرحمه مستحقا لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة والله أعلم
627 - / 8 - مسألة: في رجل له بنت لها سبع سنين ولها والدة متزوجة وقد أخذها بحكم الشرع الشريف بحيث أنه ليس لها كافل غيره وقد اختارت أم المذكورة أن تأخذها من الرجل بكفالتها إلى مدة معلومة وهو يخاف أن ترجع عليه فيما بعد بالكسوة والنفقة عند بعض المذاهب وكيف نسخة ما يكتب بينهما
الجواب: الحمد لله رب العالمين ما دام الولد عندها وهي تنفق عليه وقد أخذته على أن تنفق عليه من عندها ولا ترجع على الأب: لا نفقة لها باتفاق الأئمة أي لا ترجع عليه بما أنفقت هذه المدة لكن لو أرادت أن تطالب بالنفقة في المستقبل فللأب أن يأخذ الولد منها أيضا فإنه لا يجمع لها بين الحضانة في هذه الحال ومطالبة الأب بالنفقة مع ما ذكرنا بلا نزاع لكن لو اتفقا على ذلك: فهل يكون العقد بينهما لازما؟ هذا فيه خلاف والمشهور من مذهب مالك هو لازم وإذا كان كذلك فلا ضرر للأب في هذا الالتزام والله أعلم
628 - / 9 - مسألة: في امرأة طلقها زوجها ثلاثا وأبرأت الزوج من حقوق الزوجة قبل علمها بالحمل فلما بان الحمل طالبت الزوج بفرض الحمل فهل يجوز لها ذلك أم لا؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر لم تدخل نفقة الحمل في الإبراء وكان لهما أن تطلب نفقة الحمل ولو علمت بالحمل وأبرأته من حقوق الزوجية فقط لم يدخل في ذلك نفقة الحمل لأنها تجب بعد زوال النكاح وهي واجبة للحمل في أظهر قولي العلماء كأجرة الرضاع وفي الآخر هي للزوجة من أجل الحمل فتكون من جنس نفقة الزوجات والصحيح أنها من جنس نفقة الأقارب كأجرة الرضاع اللهم إلا أن يكون الإبراء بمقتضى أنه لا تبقى بينهما مطالبة بعد النكاح أبدا فإذا كان الأمر كذلك ومقصودهما المباراة بحيث لا يبقى للآخر مطالبة بوجه فهذا يدخل فيه الإبراء من نفقة الحمل
629 - 10 - مسألة: في رجل له ولد وطلب منه ما يمونه؟
الجواب: إذا كان موسرا وأبوه محتاجا فعليه أن يعطيه تمام كفايته وكذلك إخوته إذا كانوا عاجزين عن الكسب: فعليه أن ينفق عليهم إذا كان قادرا على ذلك ولأبيه أن يأخذ من ماله ما يحتاجه بغير إذن الابن وليس للابن منعه
630 - 11 - مسألة: في رجل عليه وقف من جده ثم على ولده وهو يتناول أجرته وله ملك زاد أجرة كثيرة وغيرها والكل معطل وله ولد معسر وله أهل وأولاد فطلب ابنه بعض الأماكن ليدولبه فلم يجبه: فهل يجوز له ذلك؟ وهل يجب على الأب أن يؤجرهم وينفق على ولده؟ أو تجب عليه النفقة مع غنى الوالد وإعسار الولد؟
الجواب: نعم عليه نفقة ولده بالمعروف إذا كان الولد فقيرا عاجزا عن الكسب والوالد موسرا وإذا لم يمكن الانفاق على الولد إلا بإجارة ما هو متعطل في عقاره وبعمارة ما يمكن عمارته منه أو يمكن الولد من أن يؤجر ويعمر ما ينفق منه على نفسه فعلى الوالد ذلك بل من كان له عقار لا يعمره ولا يؤجره فهو سفيه مبذر لماله فينبغي أن يحجر عليه الحاكم لمصلحة نفسه لئلا يضيع ماله فأما إذا كان له ولد يتعين ذلك لأجل مصلحته ومصلحة ولده والله أعلم
12 - 631 - مسألة: في رجل له ولد كبير فسافر مع كرائم أمواله في البحر المالح وله آخر مراهق من أم أخرى مطلقة منه ولها أب وأم والولد عندهم مقيم فأراد والده أخذه وتسفيره صحبة أخيه بغير رضا الوالدة وغير رضا الولد: فهل له ذلك؟
الجواب: يخير الولد بين أبويه: فإن اختار المقام عند أمه وهي غير مزوجة كان عندها ولم يكن للأب تسفيره لكن يكون عند أبيه نهارا ليعلمه ويؤدبه وعند أمه ليلا وإن اختار أن يكون عند الأب كان عنده وإذا كان عند الأب ورأى من المصلحة له تسفيره ولم يكن في ذلك ضرر على الولد فله ذلك والله أعلم
13 - 632 - مسألة: في رجل له زوجة وله مدة سبع سنين لم ينتفع بها لأجل مرضها: فهل تستحق عليه نفقة أم لا؟ فإن لم تكن تستحق وحكم عليه حاكم: فهل يجب عليه أعطاؤه أم لا؟
الجوانب: نعم تستحق النفقة في مذهب الأئمة الأربعة
14 - 633 - مسألة: في رجل وطئ أجنبية حملت منه ثم بعد ذلك تزوج بها: فهل يجب عليه فرض الولد في تربيته أم لا؟
الجواب: الولد ولد زنا لا يلحقه نسبه عند الأئمة الأربعة؟ ولكن لا بد أن ينفق عليه المسلمون فإنه يتيم من اليتامى ونفقة اليتامى على المسلمين مؤكدة والله أعلم
15 - 634 - مسألة: في مريض طلب من رجل أن يطببه وينفق عليه ففعل فهل للمنفق أن يطالب المريض بالنفقة؟
الجواب: إن كان ينفق طالبا للعوض لفظا أو عرفا فله المطالبة بالعوض والله أعلم
16 - 635 - مسألة: في امرأة مزوجة محتاجة فهل تكون نفقتها واجبة على زوجها؟ أو من صداقها؟
الجواب: المزوجة المحتاجة نفقتها على زوجها واجبة من غير صداقها وأما صداقها المؤخر فيجوز أن تطالبه وإن أعطاها فحسن وإن امتنع لم يجبر حتى يقع بينهما فرقة: بموت أو طلاق أو نحوه والله أعلم
17 - 636 - مسألة: في رجل له مطلقة وله منها ولد وقد بلغ من العمر سبع سنين وهم يريدون فرضه وقد تزوجت أمه وكفلته جدته ووجهت كفيله وسافروا به إلى الاسكندرية وغيبوه مدة سبع سنين وطلب منه فرض السنين الماضية؟
الجواب: إذا حكم له حاكم لم يكن لأمه أن تغيبه عنه وإذا غيبته عنه والحالة هذه لم يكن لها أن تطالبه بالنفقة المفروضة ولا بما أنفقه عليه في هذه الحالة والله أعلم
637 - / 18 - مسألة: في رجل له ولد وله مال والوالد فقير وله عائلة وزوجه غير والدة لولد الكبير: فهل يجب على ولده نفقة والده ونفقة إخوته وزوجته أم لا؟
الجواب: إذا كان الأب عاجزا عن النفقة والابن قادرا على الانفاق عليهم فعليه الانفاق عليهم
638 - / 19 - مسألة: في رجل عاجز عن نفقة بنته وكان غائبا وهي عند أمها وجدتها تنفق عليها مع أنها موسرة وليس عليه فرض: فهل لها أن ترجع بالنفقة المدة التي كان عاجزا عن النفقة فيها؟ وهل القول قوله في إعساره إذا لم يعرف له مال؟ أو قول المدعي؟ وإذا كان مقيما في بلد فيها خيره ويريد أخذ بنته معه وهو يسافر سفر نقلة: فيستحق السفر بها وتكون الحضانة لأمها؟
الجواب: أما المدة التي كان عاجزا عن النفقة فيها فلا نفقة عليه ولا رجوع لمن أنفق فيها بغير إذنه بغير نزاع بين العلماء وإنما النزاع فيما إذا أنفق منفق بدون إذنه مع وجوب النفقة على الأب فقيل: يرجع بما أنفق غير متبرع كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في قول ولا يجوز حبسه على هذه النفقة ولا على الرجوع بها حتى يثبت الوجوب بيساره فإذا اختلفا في اليسار ولم يعرف له مال: فالقول قوله مع يمينه
وإذا كان مقيما في غير بلد الأم فالحضانة له لا للأم وأن كانت الأم أحق بالحضانة في البلد الواحد وهذا أيضا مذهب الأئمة الأربعة والله أعلم
639 - 20 - مسألة: في رجل متزوج بامرأة ولها ولد من غيره وله فرض على أبيه تتناوله أمه والزوج يقوم بالصبي بكلفته ومؤنته مدة سنين وحين تزوج الرجل كان من الصداق خمسة دنانير حالة فشارطته على أنها لا تطالبه بها إذا كان ينفق على
الولد ما دام الصبي عنده ولم تعين له كلفة ولا نفقة: فهل له مطالبة أم الصبي بكلفة مدة مقامه عنده؟
الجواب: إذا كان الأمر على ما ذكر ولم يوف امرأته بما شرطت له فليس له أن يطالب بما أنفقه على الصبي إذا كان الانفاق بمعروف فإنه ليس متبرعا بذلك سواء أنفق بأذن أمه أم لا
640 - 21 - مسألة: في امرأة توفيت وخلفت من الورثة ولدا ذكرا وقد ادعى على أبيه بالصداق والكسوة: فهل يلزم الزوج الكسوة الماضية قبل موتها والابن محتاج؟
الجواب: إذا كان الأمر على ما ذكر فعلى الأب أن يوفيه ما يستحقه بل لو لم يكن للابن ميراث وكان محتاجا عاجزا عن الكسوة: فعلى الأب إذا كان موسرا أن ينفق عليه وعلى زوجته وأولاده الصغار المحتاجين والعاجزين عن الكسب
641 - / 22 - مسألة: في رجل له ولد وتوفي ولده وخلف ولدا عمره ثمان سنين والزوجة تطالب الجد بالفرض وبعد ذلك تزوجت وطلقت ولم يعرف الجد بها وقد أخذت الولد وسافرت ولا يعلم الجد بها: فهل يلزم الجد فرض أم لا؟
الجواب: إذا تزوجت الأم فلا حضانة لها وإذا سافرت سفر نقلة فالحضانة للجد دونها ومن حضنته ولم تكن الحضانة لها وطالبت بالنفقة لم يكن لها ذلك فإنها ظالمة بالحضانة فلا تستحق المطالبة بالنفقة: وإن كان الجد عاجزا عن نفقة ابن ابنه لم تجب عليه نفقته
23 - 642 - مسألة: في رجل تزوج بامرأة ما ينتفع بها ولا تطاوعه في أمر وتطلب منه نفقة وكسوة وقد ضيقت عليه أموره: فهل تستحق عليه نفقة وكسوة؟
الجواب: إذا لم تمكنه من نفسها أو خرجت من داره بغير إذنه: فلا نفقة لها ولا كسوة وكذلك إذا طلب منها أن تسافر معه فلم تفعل فلا نفقة لها ولا كسوة فحيث كانت ناشزا عاصية له فيما يجب له عليها طاعته لم يجب لها نفقة ولا كسوة
24 - 643 - مسألة: هل يجوز للعامل في القراض أن ينفق على نفسه من مال القارض حضرا وسفرا؟ وإذا جاز هل يجوز أن يبسط لذيذ الأكل والتنعمات منه أم يقتصر على كفايته المعتادة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين إن كان بينهما شرط في النفقة جاز ذلك وكذلك إن كان هناك عرف وعادة معروفة بينهم وأطلق العقد فإنه يحمل على تلك العادة وأما بدون ذلك فإنه لا يجوز
ومن العلماء من يقول له النفقة مطلقا وإن لم يشترط كما يقوله أبو حنيفة ومالك والشافعي في قول والمشهور أن لا نفقة بحال ولو شرطها وحيث كانت له النفقة فليس له النفقة إلا بالمعروف وأما البسط الخارج عن المعروف فيكون محسوبا عليه
25 - 644 - مسألة: في رجل خطب امرأة فسأل عن نفقته فقيل له من الجهات السلطانية شيء؟ فأبى الولي تزوجيها فذكر الخاطب أن فقهاء الحنفية جوزوا تناول ذلك فهل ذكر ذلك أحد في جواز تناوله من الجهات؟ وهل للولي المذكور دفع الخاطب بهذا السبب مع رضاء المخطوبة؟
الجواب: أما الفقهاء الأئمة الذين يفتى بقولهم فلم يذكر أحد منهم جواز ذلك ولكن في أوائل الدولة السلجوقية أفتى طائفة من الحنفية والشافعية بجواز ذلك وحكى أبو محمد بن حزم في كتابه إجماع العلماء على تحريم ذلك وقد كان نور الدين محمود الشهيد التركي قد أبطل جميع الوظائف المحدثة بالشام والجزيرة ومصر والحجاز وكان أعرف الناس بالجهاد وهو الذي أقام الإسلام بعد استيلاء الإفرنج والقرامطة على أكثر من ذلك ومن فعل ما يعتقد حكمه متأولا تأويلا سائغا لا سيما مع حاجته لم يجعل فاسقا بمجرد ذلك
لكن بكل حال فالولي له أن يمنع موليته ممن يتناول مثل هذا الرزق الذي يعتقده حراما سيما وأن رزقها منه فإذا كان الزوج يطعمها من غيره أو تأكل هي من غيره فله أن يزوجها إذا كان الزوج متأولا فيما يأكله
645 - / 26 - مسألة: في قوله تعالى: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها } إلى قوله: { واعلموا أن الله بما تعملون بصير } مع قوله: { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } إلى قوله: { سيجعل الله بعد عسر يسرا }
في ذلك أنواع من الأحكام بعضها مجمع عليه وبعضها متنازع فيه وإذا تدبرت كتاب الله تبين أنه يفصل النزاع بين من يحسن الرد إليه وأن من لم يهتد إلى ذلك فهو إما لعدم استطاعته فيعذر أو لتفريطه فيلام
وقوله تعالى: { حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } يدل على أن هذا تمام الرضاعة وما بعد ذلك فهو غذاء من الأغذية وبهذا يستدل من يقول: الرضاع بعد الحولين بمنزلة رضاع الكبير وقوله: { حولين كاملين } يدل على أن لفظ الحولين يقع على حول وبعض آخر وهذا معروف في كلامهم يقال: لفلان عشرون عاما إذا أكمل ذلك قال الفراء والزجاج وغيرهما: لما جاز أن يقول: { حولين } ويريد أقل منهما كما قال تعالى: { فمن تعجل في يومين } ومعلوم أنه يتعجل في يوم وبعض آخر وتقول: لم أر فلانا يومين وإنما تريد يوما وبعض آخر قال: { كاملين } ليبين أنه لا يجوز أن ينقص منهما
وهذا بمنزلة قوله تعالى: { تلك عشرة كاملة } فإن لفظ العشرة يقع على تسعة وبعض العاشر فيقال: أقمت عشرة أيام وإن لم يكملها فقوله هناك { كاملة } بمنزلة قوله هنا { كاملين } وفي الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: [ الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفورا طيبة به نفسه أحد المتصدقين ] فالكامل الذي لم ينقص منه شيء إذ الكمال ضد النقصان وأما الموفر فقد قال: أجرهم موفرا يقال: الموفر للزائد ويقال: لم يكلم أي يجرح كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد عن وهب بن منبه: أن الله تعالى قال لموسى: وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ولم تكلمه نطعة الهوى وكان هذا تغيير الصفة وذاك نقصان القدر
وذكر أبو الفرج هل هو عام في جميع الوالدات؟ أو يختص بالمطلقات؟ على قولين والخصوص قول سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والسدي ومقاتل في آخرين والعموم قول أبي سليمان الدمشقي والقاضي أبي يعلى في آخرين
قال القاضي: ولهذا نقول: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها سواء كانت مع الزوج أو مطلقة
قلت: الآية حجة عليهم فإنها أوجبت للمرضعات رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا زيادة على ذلك وهو يقول: تؤجر نفسها بأجرة غير النفقة والآية لا تدل على هذا بل إذا كانت الآية عامة دلت على أنها ترضع ولدها مع انفاق الزوج عليها كما لو كانت حاملا فإنه ينفق عليها وتدخل نفقة الولد في نفقة الزوجية لأن الولد يتغذى بغذاء أمه وكذلك في حال الرضاع فإن نفقة الحمل هي نفقة المرتضع وعلى هذا فلا منافاة بين القولين فالذين خصوه بالمطلقات أوجبوا نفقة جديدة بسبب الرضاع كما ذكر في سورة الطلاق وهذا مختص بالمطلقة
وقوله تعالى: { حولين كاملين } قد علم أن مبدأ الحول من حين الولادة والكمال إلى نظير ذلك فإذا كان من عاشر المحرم كان الكمال في عاشر المحرم في مثل تلك الساعة فإن الحول المطلق هو إثنا عشر شهرا من الشهر الهلالي كما قال تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله } وهكذا ما ذكره من العدة أربعة أشهر وعشرا أولها من حين الموت وآخرها إذا مضت عشر بعد نظيره فإذا كان في منتصف المحرم فآخرها خامس عشر المحرم وكذلك الأجل المسمى في البيوع وسائر ما يؤجل بالشرع وبالشرط
وللفقهاء هنا قولان آخران ضعيفان:
أحدهما: قول من يقول: إذا كان في أثناء الشهر كان جميع الشهور بالعدد فيكون الحولان ثلثمائة وستين وعلى هذا القول تزيد المدة اثني عشر يوما وهو غلط بين
والقول الثاني: قول من يقول: منها واحد بالعدد وسائرها بالأهلة وهذا أقرب لكن فيه غلط فإنه على هذا إذا كان المبدأ عاشر المحرم وقد نقص المحرم كان تمامه تاسعه فيكون التكميل أحد عشر فيكون المنتهي حادي عشر المحرم وهو غلط أيضا
وظاهر القرآن يدل على أن على الأم إرضاعه لأن قوله: { يرضعن } خبر في معنى الأمر وهي مسألة نزاع ولهذا تأولها من ذهب إلى القول الآخر قال القاضي أبو يعلى: وهذا الأمر انصرف إلى الآباء لأن عليهم الاسترضاع لا على الوالدات بدليل قوله: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } وقوله: { فآتوهن أجورهن } فلو كان متحتما على الوالدة لم يكن عليه الأجرة
فيقال: بل القرآن دل على أن للأبن على الأم الفعل وعلى الأب النفقة ولو لم يوجد غيرها تعين عليها وهي تستحق الأجرة والأجنبية تستحق الأجرة ولو لم يوجد غيرها
وقوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة } دليل على أنه لا يجوز أن يريد إتمام الرضاع ويجوز الفطام قبل ذلك إذا كان مصلحة وقد بين ذلك بقوله تعالى: { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما } وذلك يدل على أنه لا يفصل إلا برضى الأبوين فلو أراد أحدهما الاتمام والآخر الفصال قبل ذلك كان الأمر لمن أراد الاتمام لأنه قال تعالى: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن }
وقوله تعالى: { يرضعن } صيغة خبر ومعناه الأمر والتقدير والوالدة مأمورة بإرضاعه حولين كاملين إذا أريد إتمام الرضاعة فإذا أرادت الاتمام كانت مأمورة بذلك وكان على الأب رزقها وكسوتها وإن أراد الأب الإتمام كان له ذلك فإنه لم يبح الفصال إلا بتراضيهما جميعا يدل على ذلك قوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة } ولفظة { من } إما أن يقال: هوعام يتناول هذا وهذا ويدخل فيه الذكر والأنثى فمن أراد الاتمام أرضعن له وإما أن يقال: قوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة } إنما هو المولود له وهو المرضع له فالأم تلد له وترضع له كما قال تعالى: { فإن أرضعن لكم } والأم كالأجير مع المستأجر فإن أراد الأب الاتمام أرضعن له وإن أراد أن لا يتم [ فله ذلك ] وعلى هذا التقدير فمنطوق الآية أمرهن بإرضاعه عند إرادة الأب ومفهومها أيضا جواز الفصل بتراضيعها يبقى إذا أرادت الأم دون الأب مسكوتا عنه لكن مفهوم قوله تعالى: { عن تراض } أنه لا يجوز كما ذكر ذلك مجاهد وغيره ولكن تناوله قوله تعالى: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } فإنها إذا أرضعت تمام الحول فله أرضعت وكفته بذلك مؤنة الطفل فلولا رضاعها لاحتاج إلى أن يطعمه شيئا آخر
ففي هذه الآية بين أن على الأم الاتمام إذا أراد الأب وفي تلك بين أن على الأب الأجر إذا أبت المرأة قال مجاهد: التشاور فيما دون الحولين: إن أرادت أن تفطم وأبى فليس لها وإن أراد هو ولم ترد فليس له ذلك حتى يقع ذلك على تراض منهما وتشاور يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما ولا رضيعهما
وقوله تعالى: { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } قال إذا أسلمتم أيها الآباء إلى أمهات الأولاد أجر ما أرضعن قبل امتناعهن روي عن مجاهد والسدي وقيل: إذا أسلمتم إلى الظئر أجرها: بالمعروف روي عن سعيد بن جبير ومقاتل وقرأ ابن كثير: { آتيتم } بالقصر
وقوله تعالى: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ولم يقل: وعلى الوالد كما قال { والوالدات } لأن المرأة هي التي تلده وأما الأب فلم يلده بل هو مولود له لكن إذا قرن بينهما قيل: { وبالوالدين إحسانا } فأما مع الإفراد فليس في القرآن تسميته والدا بل أبا وفيه بيان أن الولد ولد للأب لا للأم ولهذا كان عليه نفقته حملا وأجرة رضاعه وهذا يوافق قوله تعالى: { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور } فجعله موهوبا للأب وجعل بيته بيته في قوله: { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } وإذا كان الأب هو المنفق عليه جنينا ورضيعا والمرأة وعاء: فالولد زرع للأب قال تعالى: { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم } فالمرأة هي الأرض المزروعة والزرع فيها للأب وقد [ نهى النبي ﷺ أن يسقي الرجل ماء زرع غيره ] يريد به النهي عن وطء الحبالى فإن ماء الواطئ يزيد في الحمل كما يزيد الماء في الزرع وفي الحديث الآخر الصحيح: [ لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره كيف يورثه وهو لا يحل له وكيف يستعبده وهو لا يحل له؟ ]
وإذا كان الولد للأب وهو زرعه كان هذا مطابقا لقوله ﷺ: [ أنت ومالك لأبيك ] وقوله ﷺ: [ ان أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ]
فقد حصل الولد من كسبه كما دلت عليه هذه الآية فإن الزرع الذي في الأرض كسب المزدرع له الذي بذره وسقاه وأعطى أجرة الأرض فإن الرجل أعطى المرأة مهرها وهو أجر الوطء كما قال تعالى: { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } وهو مطابق لقوله تعالى: { ما أغنى عنه ماله وما كسب } وقد فسر { ما كسب } بالولد فالأم هي الحرث وهي الأرض التي فيها زرع والأب استأجرها بالمهر كما يستأجر الأرض وأنفق على الزرع بإنفاقه لما كانت حاملا ثم أنفق على الرضيع كما ينفق المستأجر على الزرع والثمر إذا كان مستورا وإذا برز فالزرع هو الولد وهو من كسبه
وهذا يدل على أن للأب أن يأخذ من ماله ما لا يضر به كما جاءت به السنة وإن ماله للأب مباح وإن كان ملكا للابن فهو مباح للأب أن يملكه وإلا بقي للابن فإذا مات ولم يتملكه ورث عن الابن وللأب أيضا أن يستخدم الولد ما لم يضر به وفي هذا وجوب طاعة الأب على الابن إذا كان العمل مباحا لا يضر بالابن فإنه لو استخدم عبده في معصية أو اعتدى عليه لم يجز فالابن أولى ونفع الابن له إذا لم يأخذه الأب بخلاف نفع المملوك فإنه لمالكه كما أن ماله لو مات لمالكه لا لوارثه
ودل ما ذكره على أنه لا يجوز للرجل أن يطأ حاملا من غيره وأنه إذا وطئها كان كسقي الزرع يزيد فيه وينميه ويبقى له شركة في الولد فيحرم عليه استعباد هذا الولد فلو ملك أمة حاملا من غيره ووطئها حرم استعباد هذا الولد لأنه سقاه ولقوله ﷺ: [ كيف يستعبده وهو لا يحل له وكيف يورثه أي يجعله موروثا منه وهو لا يحل له ] ومن ظن أن المراد: كيف يجعله وارثا فقد غلط لأن تلك المرأة كانت أمة للواطئ والعبد لا يجعل وارثا إنما يجعل موروثا فأما إذا استبرئت المرأة علم أنه لا زرع هناك ولو كانت بكرا أو عند من لا يطؤها ففيه نزاع والأظهر جواز الوطء لأنه لا زرع هناك وظهور براءة الرحم هنا أقوى من براءتها من الاستبراء بحيضة فإن الحامل قد يخرج منها من الدم مثل دم الحيض وإن كان نادرا وقد تنازع العلماء هل هو حيض أو لا؟ فالاستبراء ليس دليلا قاطعا على براءة الرحم بل دليل ظاهر والبكارة وكونها كانت مملوكة لصبي أو امرأة أدل على البراءة وإن كان البائع صادقا وأخبره أنه استبرأها حصل المقصود واستبراء الصغيرة التي لم تحض والعجوز والآيسة في غاية البعد
ولهذا اضطرب القائلون هل تستبرأ بشهر؟ أو شهر ونصف؟ أو شهرين؟ أو ثلاثة أشهر؟ وكلها أقوال ضعيفة وابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يستبرئ البكر ولا يعرف له مخالف من الصحابة والنبي ﷺ لم يأمر بالاستبراء إلا في المسبيات كما قال في سبايا أوطاس: [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة ] لم يأمر كل من ورث أمة أو اشتراها أن يستبرئها مع وجود ذلك في زمته
فعلم أنه أمر بالاستبراء عند الجهل بالحال لأمكان أن تكون حاملا وكذلك من ملكت وكان سيدها يطؤها ولم يستبرئها لكن النبي ﷺ لم يذكر مثل هذا إذ لم يكن المسلمون يفعلون مثل هذا لا يرضى لنفسه أحد أن يبيع أمته الحامل منه بل لا يبيعها إذا وطئها حتى يستبرئها فلا يحتاج المشتري إلى استبراء ثان
ولهذا لم ينه عن وطء الحبالى من [ السادات ] إذا ملكت ببيع أو هبة لأن هذا لم يكن يقع بل هذه دخلت في نهيه ﷺ: [ أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره ]
وقوله تعالى: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وقال تعالى في تلك الآية: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } يدل على أن هذا الأجر هو رزقهن وكسوتهن بالمعروف إذا لم يكن بينهما مسمى ترجعان إليه وأجرة المثل إنما تقدر بالمسمى إذا كان هناك مسمى يرجعان إليه كما في البيع والإجارة لما كان السلعة هي أو مثلها بثمن مسمى وجب ثمن المثل إذا أخذت بغير اختياره وكما قال النبي ﷺ: [ من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق العبد ] فهناك أقيم العبد لأنه ومثله يباع في السوق فتعرف القيمة التي هي السعر في ذلك الوقت وكذلك الأجير والصانع كما نهى النبي ﷺ في الحديث الصحيح لعلي: [ أن يعطي الجازر من البدن شيئا وقال: نحن نعطيه من عندنا ] فإن الذبح وقسمة اللحم على المهدي فعليه أجرة الجازر الذي فعل ذلك وهو يستحق نظير ما يستحقه مثله إذا عمل ذلك لأن الجزارة معروفة ولها عادة معروفة وكذلك سائر الصناعات: كالحياكة والخياطة والبناء وقد كان من الناس من يخيط بالأجرة على عهده فيستحق هذا الخياط ما يستحقه نظراؤه وكذلك أجير الخدمة يستحق ما يستحقه نظيره لأن ذلك عادة معروفة عند الناس
وأما الأم المرضعة فهي نظير سائر الأمهات المرضعات بعد الطلاق وليس لهن عادة مقدرة إلا اعتبار حال الرضاع بما ذكر وهي إذا كانت حاملا منه وهي مطلقة استحقت نفقتها وكسوتها بالمعروف وهي في الحقيقة نفقة على الحمل وهذا أظهر قولي العلماء كما قال تعالى: { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن }
وللعلماء هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أن هذه النفقة نفقة زوجة معتدة ولا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا وهذا قول من يوجب النفقة للبائن كما يوجبها للرجعية كقول طائفة من السلف والخلف وهو مذهب أبي حنيفة وغيره ويروى عن عمر وابن مسعود ولكن على هذا القول ليس لكونها حاملا تأثير فإنهم ينفقون عليها حتى تنقضي العدة سواء كانت حاملا أو حائلا
القول الثاني: أنه ينفق عليها نفقة زوجة لأجل الحمل كأحد قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وهذا قول متناقض فإنه إن كان نفقة زوجة فقد وجب لكونها زوجة لا لأجل الولد وإن كان لأجل الولد فنفقة الولد تجب مع غير الزوجة كما يجب عليه أن ينفق على سريته الحامل إذا أعتقها وهؤلاء يقولون: هل وجبت النفقة للحمل؟ أو لها من أجل الحمل؟ على قولين فإن أرادوا لها من أجل الحمل أي لهذه الحامل من أجل حملها فلا فرق وإن أرادوا - وهو مرادهم - أنه يجب لها نفقة زوجة من أجل الحمل: فهذا تناقض فإن نفقة الزوجة تجب وإن لم يكن حمل ونفقة الحمل تجب وإن لم تكن زوجة
والقول الثالث: وهو الصحيح: أن النفقة تجب للحمل ولها من أجل الحمل لكونها حاملا بولده فهي نفقة عليه لكونه أباه لا عليها لكونها زوجة وهذا قول مالك وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد والقرآن يدل على هذا فإنه قال تعالى: { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ثم قال تعالى: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وقال هنا: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } فجعل أجر الارضاع على من وجبت عليه نفقة الحامل ومعلوم أن أجر الارضاع يجب على الأب لكونه أبا فكذلك نفقة الحامل ولأن نفقة الحامل ورزقها وكسوتها بالمعروف وقد جعل أجر المرضعة كذلك ولأنه قال: { وعلى الوارث مثل ذلك } أي وارث الطفل فأوجب عليه ما يجب على الأب وهذا كله يبين أن نفقة الحمل والرضاع من باب نفقة الأب على ابنه لا من باب نفقة الزوج على زوجته
وعلى هذا فلو لم تكن زوجة بل كانت حاملا بوطء شبهة يلحقه نسبه أو كانت حاملا منه وقد أعتقها وجب عليه نفقة الحمل كما يجب عليه نفقة الارضاع ولو كان الحمل لغيره كمن وطئ أمة غيره بنكاح أو شبهة أو إرث فالولد هنا لسيد الأمة فليس على الواطئ شيء وإن كان زوجا ولو تزوج عبد حرة فحملت منه فالنسب ههنا لاحق لكن الولد حر والولد الحر لا تجب نفقته على أبيه العبد ولا أجرة رضاعه فإن العبد ليس له مال ينفق منه على ولده وسيده لا حق له في ولده فإن ولده: إما حر وإما مملوك لسيد الأمة نعم لو كانت الحامل أمة والولد حر مثل المغرور الذي اشترى أمة فظهر أنها مستحقة لغير البائع أو تزوج حرة فظهر أنها أمة فهنا الولد حر وإن كانت أمة مملوكة لغير الواطئ لأنه إنما وطئ من يعتقدها مملوكة له أو زوجة حرة وبهذا قضت الصحابة لسيد الأمة بشراء الولد وهو [ نظيره ] فهنا الآن ينفق على الحامل كما ينفق على المرضعة له والله سبحانه وتعالى أعلم
27 - 646 - مسألة: في المرأة والرجل إذا تحاكما في النفقة والكسوة هل القول قولها؟ أم قول الرجل؟ وهل للحاكم تقدير النفقة والكسوة بشيء معين؟ والمسؤول بيان حكم هاتين المسألتين بدلائلهما
فأجاب: الحمد لله إذا كانت المرأة مقيمة في بيت زوجها مدة تأكل وتشرب وتكتسي كما جرت به العادة ثم تنازع الزوجان في ذلك فقالت هي: أنت ما أنفقت علي ولا كسوتني بل حصل ذلك من غيرك وقال هو: بل النفقة والكسوة كانت مني ففيها قولان للعلماء
أحدهما: القول قوله وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون ونظير هذا أن يصدقها تعلم صناعة وتتعلمها ثم يتنازعا فيمن علمها فيقول هو: أنا علمتها وتقول هي: أنا تعلمتها من غيره ففيها وجهان في مذهب الشافعي وأحمد والصحيح من هذا كله أن القول قول من يشهد له العرف والعادة وهو مذهب مالك وأبو حنيفة يوافق على أنها لا تستحق عليه شيئا لأن النفقة تسقط بمضي الزمان عنده كنفقة الأقارب وهو قول في مذهب أحمد وأصحاب هذا القول يقولون: وجبت على طريقة الصلة فتسقط بمضي الزمان والجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه يقولون وجبت بطريق المعاوضة فلا تسقط بمضي الزمان
ولكن إذا تنازعا في قبضها فقال بعض أصحاب الشافعي وأحمد: القول قول المرأة لأن الأصل عدم المقبوض كما لو تنازعا في قبض الصداق والصواب أنه يرجع في ذلك إلى العرف والعادة فإذا كانت العادة أن الرجل ينفق على المرأة في بيته ويكسوها وادعت أنه لم يفعل ذلك فالقول قوله مع يمينه وهذا القول هو الصواب الذي لا يسوغ غيره لأوجه
أحدها أن الصحابة والتابعين على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين لم يعلم منهم امرأة قبل قولها في ذلك ولو كان قول المرأة مقبولا في ذلك لكانت الهمم متوفرة على دعوى النساء وذلك كما هو الواقع فعلم أنه كان مستقرا بينهم أنه لا يقبل قولها
الثاني أنه لو كان القول قولها لم يقبل قول الرجل إلا ببينة فكان يحتاج إلى الاشهاد عليها كلما أطعمها وكساها وكان تركه ذلك تفريطا منه إذا ترك الاشهاد على الدين المؤجل ومعلوم أن هذا لم يفعله مسلم على عهد السلف
الثالث أن الاشهاد في هذا متعذر أو متعسر فلا يحتاج إليه كالاشهاد على الوطء فإنهما لو تنازعا في الوطء وهي ثيب لم يقبل مجرد قولها في عدم الوطء عند الجمهور مع أن الأصل عدمه بل إما أن يكون القول [ قول ] الرجل أو يؤمر بإخراج المني أو يجامعها في مكان وقريب منهما من يعلم ذلك بعد انقضاء الوطء على ما للعلماء في ذلك من النزاع فهنا دعواها وافقت الأصل ولم تقبل لتعذر إقامة البينة على ذلك والانفاق في البيوت بهذه المثابة ولا يكلف الناس الاشهاد على إعطاء النفقة فإن هذا بدعة في الدين وحرج على المسلمين واتباع لغير سبيل المؤمنين
الرابع أن العلماء متنازعون: هل يجب تمليك النفقة؟ على قولين: والأظهر أنه لا يجب ولا يجب أن يفرض لها شيئا بل يطعمها ويكسوهما بالمعروف وهذا القول هو الذي دلت عليه سنة رسول الله ﷺ حيث قال في النساء: [ لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] كما في المملوك [ وكسوته بالمعروف ] وقال: [ حقها أن تطعمها إذ طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ] كما قال في المماليك: [ إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ] هذه عادة المسلمين على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه لا يعلم قط أن رجلا فرض لزوجته نفقة بل يطعمها ويكسوها
وإذا كان كذلك كان له ولاية الانفاق عليها كما له ولاية الانفاق على رقيقه وبهائمه وقد قال الله تعالى: { الرجال قوامون على النساء } وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله: { وألفيا سيدها لدى الباب } وقال عمر بن الخطاب: النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته ويدل على ذلك قول النبي ﷺ: [ اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم وإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ] فقد أخبر أن المرأة عانية عند الرجل والعاني الأسير وأن الرجل أخذها بأمانة الله فهو مؤتمن عليها ولهذا أباح الله للرجل بنص القرآن أن يضربها وإنما يؤدب غيره من له عليه ولاية فإذا كان الزوج مؤتمنا عليها وله عليها ولاية: كان القول قوله فيما اؤتمن عليه وولي عليه كما يقبل قول الولي في الانفاق على اليتيم وكما يقبل قول الوكيل والشريك والمضارب والمساقي والمزارع فيما أنفقه على مال الشركة وإن كان في ذلك معنى المعاوضة وعقد النكاح من جنس المشاركة والمعاوضة والرجل مؤتمن فيه فقبول قوله في ذلك أولى من قبول قول أحد الشريكين
وكذلك لو أخذت المرأة نفقتها من ماله بالمعروف وادعت أنه لم يعطها نفقة: قبل قولها مع يمينها في هذه الصورة لأن الشارع سلطها على ذلك كما قال النبي ﷺ لهند: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف لما قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال: [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ]
وكذلك لو كان الزوج مسافرا عنها مدة وهي مقيمة في بيت أبيها وادعت أنه لم يترك لها نفقة ولا أرسل إليها بنفقة: فالقول قولها مع يمينها وأمثال ذلك فلا بد من التفصيل في الماضي مطلقا في هذا الباب
وهذه المعاني من تدبرها تبين له سر هذه المسألة فإن قبول قول النساء في عدم النفقة في الماضي فيه من الضرر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد وهو يؤول إلى أن المرأة تقيم مع الزوج خمسين سنة ثم تدعي نفقة خمسين سنة وكسوتها وتدعي أن زوجها مع يساره وفقرها لم يطعمها في هذه المدة شيئا وهذا مما يتبين الناس كذبها فيه قطعا وشريعة الإسلام منزهة عن أن يحكم فيها بالكذب والبهتان والظلم والعدوان
الوجه الخامس أن الأصل المستقر في الشريعة أن اليمين مشروعة في جنبة أقوى المتداعيين سواء ترجح ذلك بالبراءة الأصلية أو اليد الحسية أو العادة العملية ولهذا إذا ترجح جانب المدعي كانت اليمين مشروعة في حقه عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد كالأيمان في القسامة وكما لو أقام شاهدا عدلا في الأموال فإنه يحكم له بشاهد ويمين والنبي ﷺ جعل البينة على المدعى عليه إذا لم يكن مع المدعي حجة ترجح جانبه ولهذا قال جمهور العلماء في الزوجين إذا تنازعا في متاع البيت فإنه يحكم لكل منهما بما جرت العادة باستعماله إياه فيحكم للمرأة بمتاع النساء وللرجل بمتاع الرجال وإن كانت اليد الحسية منهما ثابتة على هذا وهذا لأنه يعلم بالعادة أن كلا منهما يتصرف في متاع جنسه وهنا العادة جارية بأن الرجل ينفق على امرأته ويكسوها فإن لم يعلم لها جهة تنفق منها على نفسها أجري الأمر على العادة
الوجه السادس أن هذه المرأة لا بد أن تكون أكلت واكتست في الزمان الماضي وذلك إما أن يكون من الزوج وإما أن يكون من غيره والأصل عدم غيره فيكون منه كما قلنا في أصح الوجهين: إن القول قوله في أنه علمها الصناعة والقراءة التي أصدقها تعليمها لأن الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم كما لو سقط في الماء نجاسة فرئي متغيرا بعد ذلك وشك هل تغير بالنجاسة أو غيرها؟ فأصح الوجهين أنه يضاف التغير إلى النجاسة ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ أفتى عدي بن حاتم فيما إذا رمى الصيد وغاب عنه ولم يجد فيه أثرا غير سهمه أنه يأكله لأن الأصل عدم سبب آخر زهقت به نفسه بخلاف ما إذا تردى في ماء أو خالط كلبه كلاب أخرى فإن تلك لأسباب شاركت في الزهوق وبسط هذه المسائل له موضع آخر غير هذا
فصل
وأما تقدير الحاكم النفقة والكسوة فهذا يكون عند التنازع فيها كما يقدر مهر المثل إذا تنازعا فيه وكما يقدر مقدار الوطء إذا ادعت المرأة أنه يضربها فإن الحقوق التي لا يعلم مقدارها إلا بالمعروف متى تنازع فيها الخصمان قدرها ولي الأمر وأما الرجل إذا كان ينفق على امرأته بالمعروف كما جرت عادة مثله لمثلها: فهذا يكفي ولا يحتاج إلى تقدير الحاكم ولو طلبت المرأة أن يفرض لها نفقة يسلمها إليها مع العلم بأنه ينفق عليها بالمعروف فالصحيح من قولي العلماء في هذه الصورة أنه لا يفرض لها نفقة ولا يجب تمليكها ذلك كما تقدم فإن هذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار المبني على العدل والصواب المقطوع به عند جمهور العلماء أن نفقة الزوجة مرجعها إلى العرف وليست مقدرة بالشرع بل تختلف باختلاف أحوال البلاد والأزمنة وحال الزوجين وعادتهما فإن الله تعالى قال: { وعاشروهن بالمعروف } وقال النبي ﷺ: [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] وقال: [ لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ]