152 - / 68 - مسألة: فيما يشتبه على الطالب للعبادة من جهة الأفضلية مما اختلف فيه الأئمة من المسائل التي أذكرها: وهي أيما أفضل في صلاة الجهر ترك الجهر بالبسملة أو الجهر بها؟ وأيما أفضل المداومة على القنوت في صلاة الفجر أم تركه أم فعله أحيانا بحسب المصلحة؟ وكذلك في الوتر وأيما أفضل طول الصلاة ومناسبة أبعاضها في الكمية والكيفية أو تخفيفها بحسب ما اعتادوه في هذه الأزمنة؟ وأيما أفضل المداومة على الوضوء أم ترك المداومة؟ وأيما أفضل مع قصر الصلاة في السفر مداومة الجمع أم فعله أحيانا بحسب الحاجة؟ وهل قيام الليل كله بدعة أم سنة أم قيام بعضه أفضل من قيامه كله؟ وكذلك سرد الصوم أفضل أم صوم بعض الأيام وإفطار بعضها؟ وفي المواصلة أيضا؟ وهل لبس الخشن وأكله دائما أفضل أم لا؟ وأيما أفضل فعل السنن الرواتب في السفر أم تركها؟ أم فعل البعض دون البعض وكذلك التطوع بالنوافل في السفر وأيما أفضل الصوم في السفر أم الفطر؟ وأيما أفضل للجنب أن ينام على وضوء أم يكره له النوم على غير وضوء أم لا؟ وهل يجوز له النوم في المسجد إذا توضأ أم لا من غير عذر؟ وإذا لم يجد ماء أو تعذر عليه استعماله لمرض أو يخاف منه الضرر من شدة البرد وأمثال ذلك فهل يتيمم أم لا؟ وهل يقوم التيمم مقام الوضوء فيما ذكر أم لا؟ وأيما أفضل في إغماء هلال رمضان الصوم أم الفطر؟ أم يخير بينهما؟ أم يستحب فعل أحدهما؟ وهل ما واظب عليه النبي ﷺ في جميع أفعاله وأحواله وأقواله وحركاته وسكناته وفي شأنه كله من العبادات والعادات هل المواظبة على ذلك كله سنة في حق كل واحد من الأمة؟ أم يختلف بحسب اختلاف المراتب والراتبين؟ وأيما أفضل للسالك العزلة أم الخلطة وإذا قدر أحدهما فهل يكون ذلك على الاطلاق أم وقتا دون وقت وأيما أفضل ترك السبب مع الجمع على الله أم السبب مع التفرقة إذا لم يمكن إلا أحدهما وإذا قدر أحدهما فهل يكون ذلك مطلقا في سائر الأوقات أم لا؟ أفتونا مأجورين.
الجواب: الحمد لله هذه المسائل التي يقع فيها النزاع مما يتعلق بصفات العبادات أربعة أقسام:
منها: ما ثبت عن النبي ﷺ أنه سن كل واحد من الأمرين واتفقت الأمة على أن من فعل أحدهما لم يأثم بذلك لكن قد يتنازعون في الأفضل وهو بمنزلة القراءات الثابتة عن النبي ﷺ التي اتفق الناس على جواز القراءة بأى قراءة شاء منها كالقراءة المشهورة بين المسلمين فهذه يقرأ المسلم بما شاء منها وان اختار بعضها لسبب من الأسباب
ومن هذا الباب الاستفتاحات المنقولة عن النبي ﷺ أنه كان يقولها في قيام الليل وأنواع الأدعية التي كان يدعو بها في صلاته في آخر التشهد فهذه الأنواع الثابتة عن النبي ﷺ كلها سائغة باتفاق المسلمين لكن ما أمر به من ذلك أفضل لنا مم فعله ولم يأمر به
وقد ثبت في الصحيح أنه قال: [ إذا قعد أحدكم في التشهد فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال ] فالدعاء بهذا أفضل من الدعاء بقوله: [ اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ] وهذا أيضا قد صح عن النبي ﷺ في وجوبه أنه كان يقوله في آخر صلاته لكن الأول أمر به.
وما تنازع العلماء في وجوبه فهو أوكد مما لم يأمر به ولم يتنازع العلماء في وجوبه وكذلك الدعاء الذي كان يكرره كثيرا كقوله: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أوكد مما ليس كذلك.
القسم الثاني: ما اتفق العلماء على أنه إذا فعل كلا من الأمرين كانت عبادته صحيحة ولا إثم عليه: لكن يتنازعون في الأفضل وفيما كان النبي ﷺ يفعله ومسألة القنوت في الفجر والوتر من جهر بالبسملة وصفة الاستعاذة ونحوها من هذا الباب فإنهم متفقون على أن من جهر بالبسملة صحت صلاته ومن خافت صحت صلاته وعلى أن من قنت في الفجر صحت صلاته ومن لم يقنت فيها صحت صلاته وكذلك القنوت في الوتر وإنما تنازعوا في وجوب قراءة البسملة وجمهورهم على أن قراءتها لا تجب وتنازعوا أيضا في استحباب قراءتها وجمهورهم على أن قراءتها مستحبة.
وتنازعوا فيما إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه مثل أن يترك قراءة البسملة والمأموم يعتقد وجوبها أو يمس ذكره ولا يتوضأ والمأموم يرى وجوب الوضوء من ذل أو يصلي في جلود الميتة المدبوغة والمأموم يرى أن الدباغ لا يطهر أو يحتجم ولا يتوضأ والمأموم يرى الوضوء من الحجامة والصحيح المقطوع به أن صلاة المأموم صحيحة خلف إمامه وإن كان إمامه مخطئا في نفس الأمر: لما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم].
وكذلك إذا اقتدى المأموم بمن يقنت في الفجر أو الوتر قنت معه سواء قنت قبل الركوغ أو بعده وإن كان لا يقنت لم يقنت معه
ولو كان الإمام يرى استحباب شيء والمأمومون لا يستحبونه فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف: كان قد أحسن مثال ذلك الوتر فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: إنه لا يكون إلا بثلاث متصلة كالمغرب: كقول من قاله من أهل العراق.
والثاني: إنه لا يكون إلا ركعة مفصولة عما قبلها كقول من قال ذلك من أهل الحجاز.
والثالث: إن الأمرين جائزان كما هو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما وهو الصحيح وإن كان هؤلاء يختارون فصله عما قبله فلو كان الإمام يرى الفصل فاختار المأمومون أن يصلي الوتر كالمغرب فوافقهم على ذلك تأليفا لقلوبهم كان قد أحسن كما قال النبي ﷺ لعائشة: [ لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه ] فترك الأفضل عنده لئلا ينفر الناس.
وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فأم بقوم لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم كان قد أحسن وانما تنازعوا في الأفضل فهو بحسب ما اعتقدوه من السنة.
وطائفة من أهل العراق اعتقدت أن النبي ﷺ لم يقنت إلا شهرا ثم تركه على وجه النسخ له فاعتقدوا أن القنوت في المكتوبات منسوخ وطائفة من أهل الحجاز اعتمدوا أن النبي ﷺ ما زال يقنت حتى فارق الدنيا ثم منهم من اعتقد أنه كان يقنت قبل الركوع ومنهم من كان يعتقد أنه كان يقنت بعد الركوع.
والصواب هو القول الثالث الذي عليه جمهور أهل الحديث وكثير من أئمة أهل الحجاز وهو الذي ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه ﷺ قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم ترك هذا القنوت ثم إنه بعد ذلك بمدة بعد خيبر وبعد إسلام أبي هريرة قنت وكان يقول في قنوته: اللهم ! أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف فلو كان قد نسخ القنوت لم يقنت هذه المرة الثانية وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قنت في المغرب وفي العشاء الآخرة
وفي السنن أنه كان يقنت في الصلوات الخمس وأكثر قنوته كان في الفجر ولم يكن يداوم على القنوت لا في الفجر ولا غيرها: بل قد ثبت في الصحيحين عن أنس أنه قال: لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا فالحديث الذي رواه الحاكم وغيره من حديث الربيع بن أنس عن أنس أنه قال: ما زال يقنت حتى فارق الدنيا إنما قاله في سياقه القنوت قبل الركوع وهذا الحديث لو عارض الحديث الصحيح لم يلتفت إليه فإن الربيع بن أنس ليس من رجال الصحيح فكيف وهو لم يعارضه وإنما معناه أنه كان يطيل القيام في الفجر دائما قبل الركوع.
وأما أنه كان يدعو في الفجر دائما قبل الركوع أو بعده بدعاء يسمع منه أو لا يسمع فهذا باطل قطعا وكل من تأمل الأحاديث الصحيحة علم هذا بالضرورة وعلم أن هذا لو كان واقعا لنقله الصحابة والتابعون ولما أهملوا قنوته الراتب المشروع لنا مع أنهم نقلوا قنوته الذي لا يشرع بعينه وإنما يشرع نظيره فإن دعاءه لأولئك المعينين وعلى أولئك المعينين ليس بمشروع باتفاق المسلمين بل إنما يشرع نظيره فيشرع أن يقنت عند النوازل يدعو للمؤمنين ويدعو على الكفار في الفجر وفي غيرها من الصلوات وهكذا كان عمر يقنت لما حارب النصارى بدعائه الذي فيه: اللهم العن كفرة أهل الكتاب إلى آخره.
وكذلك علي - رضي الله عنه - لما حارب قوما قنت يدعو عليهم وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة وإذا سمى من يدعو لهم من المؤمنين ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسنا.
وأما قنوت الوتر فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل: لا يستحب بحال لأنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنه قنت في الوتر وقيل: بل يستحب في جميع السنة كما ينقل عن ابن مسعود وغيره ولأن في السنن أن النبي ﷺ علم الحسن بن علي - رضي الله عنهما - دعاء يدعو به في قنوت الوتر وقيل: بل يقنت في النصف الأخير من رمضان كما كان أبي بن كعب يفعل
وحقيقة الأمر أن قنوت الوتر من جنس الدعاء السائغ في الصلاة من شاء فعله ومن شاء تركه كما يخير الرجل أن يوتر بثلاث أو خمس أو سبع وكما يخير إذا أوتر بثلاث إن شاء فصل وإن شاء وصل
وكذلك يخير في دعاء القنوت إن شاء فعله وإن شاء تركه وإذا صلى بهم قيام رمضان فإن قنت في جميع الشهر فقد أحسن وإن قنت في النصف الأخير فقد أحسن وإن لم يقنت بحال فقد أحسن.
كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي ﷺ فيه عددا معينا بل كان هو - ﷺ - لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة لكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي ﷺ يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره
ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي ﷺ لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ فإذا كانت هذه السعة في نفس عدد القيام فكيف الظن بزيادة القيام لأجل دعاء القنوت أو تركه كل ذلك سائغ حسن وقد ينشط الرجل فيكون الأفضل في حقه تطويل العبادة وقد لا ينشط فيكون الأفضل في حقه تخفيفها.
وكانت صلاة رسول الله ﷺ معتدلة إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود هكذا كان يفعل في المكتوبات وقيام الليل وصلاة الكسوف وغير ذلك
وقد تنازع الناس هل الأفضل طول القيام؟ أم كثرة الركوع والسجود؟ أو كلاهما سواء؟ على ثلاثة أقوال:
أصحها أن كليهما سواء فإن القيام اختص بالقراءة وهي أفضل من الذكر والدعاء والسجود نفسه أفضل من القيام فينبغي أنه إذا طول القيام أن يطيل الركوع والسجود وهذا هو طول القنوت الذي أجاب به النبي ﷺ لما قيل له: أي الصلاة أفضل؟ فقال: طول القنوت فإن القنوت هو إدامة العبادة سواء كان في حال القيام أو الركوع أو السجود كما قال تعالى: { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما } فسماه قانتا في حال سجوده كما سماه قانتا في حال قيامه.
وأما البسملة: فلا ريب أنه كان في الصحابة من يجهر بها وفيهم من كان لا يجهر بها بل يقرأها سرا أو لا يقرأها والذين كانوا يجهرون بها أكثرهم كان يجهر بها تارة ويخافت بها أخرى وهذا لأن الذكر قد تكون السنة المخافتة به ويجهر به لمصلحة راجحة مثل تعليم المأمومين فإنه قد ثبت في الصحيح أن ابن عباس قد جهر بالفاتحة على الجنازة ليعلمهم أنها سنة.
وتنازع العلماء في القراءة على الجنازة على ثلاثة أقوال:
قيل: لا تستحب بحال كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك.
وقيل: بل يجب فيها القراءة بالفاتحة كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد.
وقيل: بل قراءة الفاتحة فيها سنة وإن لم يقرأ بل دعا بلا قراءة جاز وهذا هو الصواب.
وثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب كان يقول: الله أكبر سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك يجهر بذلك مرات كثيرة واتفق العلماء على أن الجهر بذلك ليس بسنة راتبة: لكن جهر به للتعليم ولذلك نقل عن بعض الصحابة أنه كان يجهر أحيانا بالتعوذ فإذا كان من الصحابة من جهر بالاستفتاح والاستعاذة مع إقرار الصحابة له على ذلك فالجهر بالبسملة أولى أن يكون كذلك وأن يشرع الجهر بها أحيانا لمصلحة راجحة
لكن لا نزاع بين أهل العلم بالحديث: أن النبي ﷺ لم يجهر بالاستفتاح ولا بالاستعاذة بل قد ثبت في الصحيح [ أن أبا هريرة قال له: يا رسول الله ! أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم بعد بيني وبين خطاياي كما بعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد ]
وفي السنن عنه أنه كان يستعيذ في الصلاة قبل القراءة والجهر بالبسملة أقوى من الجهر بالاستعاذة لأنها آية من كتاب الله تعالى وقد تنازع العلماء في وجوبها وإن كانوا قد تنازعوا في وجوب الاستفتاح والاستعاذة وفي ذلك قولان في مذهب أحمد وغيره لكن النزاع في ذلك أضعف من النزاع في وجوب البسملة.
والقائلون بوجوبها من العلماء أفضل وأكثر لكن لم يثبت عن النبي ﷺ أنه كان يجهر بها وليس في الصحاح ولا السنن حديث صحيح صريح بالجهر والأحاديث الصريحة بالجهر كلها ضعيفة بل موضوعة ولهذا لما صنف الدارقطني مصنفا في ذلك قيل له: هل في ذلك شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي ﷺ فلا وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف
ولو كان النبي ﷺ يجهر بها دائما لكان الصحابة ينقلون ذلك ولكان الخلفاء يعلمون ذلك ولما كان الناس يحتاجون أن يسألوا أنس بن مالك بعد انقضاء عصر الخلفاء ولما كان الخلفاء الراشدون ثم خلفاء بني أمية وبني العباس كلهم متفقين على ترك الجهر ولما كان أهل المدينة - وهم أعلم أهل المدائن بسنته - ينكرون قراءتها بالكلية سرا وجهرا والأحاديث الصحيحة تدل على أنها آية من كتاب الله وليست من الفاتحة ولا غيرها.
وقد تنازع العلماء: هل هي آية أو بعض آية من كل سورة؟ أو ليست من القرآن إلا في سورة النمل؟ أو هي آية من كتاب الله حيث كتبت في المصاحف وليست من السور؟ على ثلاثة أقوال والقول الثالث: هو أوسط الأقوال وبه تجتمع الأدلة فإن كتابة الصحابة لها في المصاحف دليل على أنها من كتاب الله وكونهم فصلوها عن السورة التي بعدها دليل على أنها ليست منها وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: نزلت علي آنفا سورة فقرأ: { إنا أعطيناك الكوثر } إلى آخرها
وثبت في الصحيح [ أنه أول ما جاء الملك بالوحي قال: { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} فهذا أول ما نزل ولم ينزل قبل ذلك {بسم الله الرحمن الرحيم}].
وثبت عنه في السنن أنه قال: [ سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي { تبارك الذي بيده الملك}] وهي ثلاثون آية بدون البسملة.
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: [ يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: { الحمد لله رب العالمين } قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: { الرحمن الرحيم } قال الله: أثنى علي عبدي فإذا قال: { مالك يوم الدين } قال الله: مجدني عبدي فإذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } قال: هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال الله: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ]
فهذا الحديث صحيح صريح في أنها ليست من الفاتحة ولم يعارضه حديث صحيح صريح وأجود ما يرى في هذا الباب من الحديث إنما يدل على أنه يقرأ بها في أول الفاتحة لا يدل على أنها منها ولهذا كان القراء منهم من يقرأ بها في أول السورة ومنهم من لا يقرأ بها فدل على أن كلا الأمرين سائغ لكن من قرأ بها كان قد أتى بالأفضل وكذلك من كرر قراءتها في أول كل سورة كان أحسن ممن ترك قراءتها لأنه قرأ ما كتبته الصحابة في المصاحف فلو قدر أنهم كتبوها على وجه التبرك لكان ينبغي أن تقرأ على وجه التبرك وإلا فكيف يكتبون في المصحف ما لا يشرع قراءته وهم قد جردوا المصحف عما ليس من القرآن حتى أنهم لم يكتبوا التأمين ولا أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا غير ذلك مع أن السنة للمصلي أن يقول عقب الفاتحة: آمين فكيف يكتبون ما لا يشرع أن يقوله وهم لم يكتبوا ما يشرع أن يقوله المصلي من غير القرآن فإذا جمع بين الأدلة الشرعية دلت على أنها من كتاب الله وليست من السورة.
والحديث الصحيح عن أنس ليس فيه نفي قراءة النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } أو فلم يكونوا يجهرون { بسم الله الرحمن الرحيم } ورواية من روى فلم يكونوا يذكرون { بسم الله الرحمن الرحيم } في أول قراءة ولا آخرها إنما تدل على نفي الجهر لأن أنسا لم ينف إلا ما علم وهو لا يعلم ما كان يقوله النبي ﷺ سرا ولا يمكن أن يقال: إن النبي ﷺ لم يكن يسكت بل يصل التكبير بالقراءة فإنه قد ثبت في الصحيحين أن أبا هريرة قال له: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول
ومن تأول حديث أنس على نفي قراءتها سرا فهو مقابل لقول من قال مراد أنس أنهم كانوا يفتتحون بفاتحة الكتاب قبل غيرها من السور وهذا أيضا ضعيف فإن هذا من العلم العام الذي ما زال الناس يفعلونه وقد كان الحجاج بن يوسف وغيره من الأمراء الذين صلى خلفهم أنس يقرأون الفاتحة قبل السورة ولم ينازع في ذلك أحمد ولا سئل عن ذلك أحد لا أنس ولا غيره ولا يحتاج أن يروي أنس هذا عن النبي ﷺ وصاحبيه ومن روى عن أنس أنه شك هل كان النبي ﷺ يقرأ البسملة أو لا يقرأها فروايته توافق الروايات الصحيحة لأن أنسا لم يكن يعلم هل قرأها سرا أم لا وإنما نفى الجهر.
ومن هذا الباب الذي اتفق العلماء على أنه يجوز فيه الأمران: فعل الرواتب في السفر فإنه من شاء فعلها ومن شاء تركها باتفاق الأئمة والصلاة التي يجوز فعلها وتركها قد يكون فعلها أحيانا أفضل لحاجة الإنسان إليها وقد يكون تركها أفضل إذا كان مشتغلا عن النافلة بما هو أفضل منها لكن النبي ﷺ في السفر لم يكن يصلي من الرواتب إلا ركعتي الفجر والوتر ولما نام عن الفجر صلى السنة والفريضة بعد ما طلعت الشمس وكان يصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت به ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة وهذا كله ثابت في الصحيح
فأما الصلاة قبل الظهر وبعدها وبعد المغرب فلم ينقل أحد عنه أنه فعل ذلك في السفر
وقد تنازع العلماء في السنن الرواتب مع الفريضة فمنهم من لم يوقت في ذلك شيئا ومنهم من وقت أشياء بأحاديث ضعيفة بل أحاديث يعلم أهل العلم بالحديث أنها موضوعة كما يوقت ستا قبل الظهر وأربعا بعدها وأربعا قبل العصر وأربعا قبل العشاء وأربعا بعدها ونحو ذلك
والصواب في هذا الباب القول بما ثبت في الأحاديث الصحيحة دون ما عارضها وقد ثبت في الصحيح ثلاثة أحاديث: حديث ابن عمر قال: [ حفظت عن رسول الله ﷺ ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر ] وحديث عائشة [ كان رسول الله ﷺ يصلي قبل الظهر أربعا ] وهو في الصحيح أيضا وسائره في صحيح مسلم كحديث ابن عمر وهكذا في الصحيح وفي رواية صححها الترمذي صلى قبل الظهر ركعتين.
وحديث أم حبيبة عن النبي ﷺ قال: [ من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعا غيرفريضة بنى الله له بيتا في الجنة ] وقد جاء في السنن تفسيرها: [ أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر ] فهذا الحديث الصحيح فيه أنه رغب بقوله في ثنتي عشرة ركعة.
وفي الحديثين الصحيحين: أنه كان يصلي مع المكتوبة إما عشر ركعات وإما اثنتي عشرة ركعة وكان يقوم من الليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة فكان مجموع صلاة الفريضة والنافلة في اليوم والليلة نحو أربعين ركعة كان يوتر صلاة النهار بالمغرب ويوتر صلاة الليل بوتر الليل وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: [ بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة وقال: في الثالثة لمن شاء ] كراهية أن يتخذها الناس سنة.
وثبت في الصحيح أن أصحابه كانوا يصلون بين أذان المغرب وإقامتها ركعتين وهو يراهم ولا ينهاهم فإذا كان التطوع بين أذاني المغرب مشروعا فلأن يكون مشروعا بين أذاني العصر والعشاء بطريق الأولى لأن السنة تعجيل المغرب باتفاق الأئمة فدل ذلك على أن الصلاة قبل العصر وقبل المغرب وقبل العشاء: من التطوع المشروع وليس هو من السنن الراتبة التي قدرها بقوله ولا داوم عليها بفعله
ومن ظن أنه كان له سنة يصليها قبل العصر قضاها بعد العصر فقد غلط وإنما كانت تلك ركعتي الظهر لما فاتته قضاها بعد العصر وما يفعل بعد الظهر فهو قبل العصر ولم يقض بعد العصر إلا الركعتين بعد الظهر.
والتطوع المشروع كالصلاة بين الأذانين وكالصلاة وقت الضحى ونحو ذلك هو كسائر التطوعات من الذكر القراءة والدعاء مما قد يكون مستحبا لمن لا يشتغل عنه بما هو أفضل منه ولا يكون مستحبا لمن اشتغل عنه بما هو أفضل منه والمداومة على القليل أفضل من كثير لا يداوم عليه ولهذا كان عمل رسول الله ﷺ ديمة
واستحب الأئمة أن يكون للرجل عدد من الركعات يقوم بها من الليل لا يتركها فإن نشط أطالها وإن كسل خففها وإذا نام عنها صلى بدلها من النهار كما كان النبي ﷺ إذا نام عن صلاة الليل صلى في النهار اثنتي عشرة ركعة وقال: [ من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل].
ومن هذا الباب صلاة الضحى فإن النبي ﷺ لم يكن يداوم عليها باتفاق أهل العلم بسنته ومن زعم من الفقهاء أن ركعتي الضحى كانتا واجبتين عليه فقد غلط والحديث الذي يذكرونه [ ثلاث هن علي فريضة ولكم تطوع: الوتر والفجر وركعتا الضحى ] حديث موضوع: بل ثبت في حديث صحيح لا معارض له أن النبي ﷺ كان يصلي وقت الضحى لسبب عارض لا لأجل الوقت: مثل أن ينام من الليل فيصلي من النهار اثنتي عشرة ركعة ومثل أن يقدم من سفر وقت الضحى فيدخل المسجد فيصلي فيه.
ومثل ما صلى لما فتح مكة ثماني ركعات وهذه الصلاة كانوا يسمونها صلاة الفتح وكان من الأمراء من يصليها إذا فتح مصرا فإن النبي ﷺ إنما صلاها لما فتح مكة ولو كان سببها مجرد الوقت كقيام الليل لم يختص بفتح مكة ولهذا كان من الصحابة من لا يصلي الضحى لكن قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: [ أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام ] وفي رواية لمسلم: [ وركعتي الضحى كل يوم].
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: [ يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ] وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: [ خرج النبي ﷺ على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال: صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى ] وهذه الأحاديث الصحيحة وأمثالها تبين أن الصلاة وقت الضحى حسنة محبوبة
بقي أن يقال: فهل الأفضل المداومة عليها؟ كما في حديث أبي هريرة أو الأفضل ترك المداومة اقتداء بالنبي ﷺ؟ هذا مما تنازعوا فيه والأشبه أن يقال: من كان مداوما على قيام الليل أغناه عن المداومة على صلاة الضحى كما كان النبي ﷺ يفعل ومن كان ينام عن قيام الليل فصلاة الضحى بدل عن قيام الليل.
وفي حديث أبي هريرة أنه أوصاه أن يوتر قبل أن ينام وهذا إنما يوصي به من لم يكن عادته قيام الليل وإلا فمن كانت عادته قيام الليل وهو يستيقظ غالبا من الليل فالوتر آخر الليل أفضل له كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ [ من خشي أن لا يستيقظ آخر الليل فليوتر أوله ومن طمع أن يستيقظ آخره فليوتر آخره فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل ] وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ [أنه سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ فقال: قيام الليل].
فصل
والقسم الثالث: ما قد ثبت عن النبي ﷺ فيه أنه سن الأمرين لكن بعض أهل العلم حرم أحد النوعين أو كرهه لكونه لم يبلغه أو تأول الحديث تأويلا ضعيفا والصواب في مثل هذا أن كل ما سنه رسول الله ﷺ لأمته فهو مسنون لا ينهي عن شيء منه وإن كان بعضه أفضل من ذلك
فمن ذلك أنواع التشهدات: فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ تشهد ابن مسعود وثبت عنه في صحيح مسلم تشهد أبي موسى وألفاظه قريبة من ألفاظه وثبت عنه في صحيح مسلم تشهد ابن عباس
وفي السنن تشهد ابن عمر وعائشة وجابر وثبت في الموطأ وغيره أن عمر بن الخطاب علم المسلمين تشهدا على منبر النبي ﷺ ولم يكن عمر ليعلمهم تشهدا يقرونه عليه إلا وهو مشروع فلهذا كان الصواب عند الأئمة المحققين أن التشهد بكل من هذه جائز لا كراهه فيه ومن قال: إن الاتيان بألفاظ تشهد ابن مسعود واجب كما قاله بعض أصحاب أحمد فقد أخطأ
ومن ذلك الأذان والإقامة: فإنه قد ثبت في الصحيح عن أنس أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الاقامة وثبت في الصحيح [ أنه علم أبا محذورة الأذان والاقامة فرجع في الأذان وثنى الإقامة] وفي بعض طرقه أنه كبر في أوله أربعا كما في السنن وفي بعضها أنه كبر مرتين كما في صحيح مسلم.
وفي السنن أن أذان بلال الذي رواه عبد الله بن زيد ليس فيه ترجيع للأذان ولا تثنية للإقامة فكل واحد من أذان بلال وأبي محذورة سنة فسواء رجع المؤذن في الأذان أو لم يرجع وسواء أفرد الإقامة أو ثناها فقد أحسن واتبع السنة
ومن قال: إن الترجيع واجب لا بد منه أو أنه مكروه منهي عنه فكلاهما مخطئ وكذلك من قال أن أفراد الإقامة مكروه أو تثنيتها مكروه فقد أخطأ وأما اختيار أحدهما فهذا من مسائل الاجتهاد كاختيار بعض القراءات على بعض واختيار بعض التشهدات على بعض
ومن هذا الباب أنواع صلاة الخوف التي صلاها رسول الله ﷺ وكذلك أنواع الاستسقاء فإنه استسقى مرة في مسجده بلا صلاة الاستسقاء ومرة خرج إلى الصحراء فصلى بهم ركعتين وكانوا يستسقون بالدعاء بلا صلاة كما فعل ذلك خلفاؤه فكل ذلك حسن جائز
ومن هذا الباب الصوم والفطر للمسافر في رمضان: فإن الأئمة الأربعة اتفقوا على جواز الأمرين وذهب طائفة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز إلا الفطر وأنه لو صام لم يجزئه وزعموا أن الأذن لهم في الصوم في السفر منسوخ بقوله: [ ليس من البر الصيام في السفر ] والصحيح ما عليه الأئمة وليس في هذا الحديث ما ينافي إذنه لهم في الصيام في السفر فإنه نفى أن يكون من البر ولم ينف أن يكون جائزا مباحا والفرض يسقط بفعل النوع الجائز المباح إذا أتى بالمأمور به.
والمراد به كونه في السفر ليس من البر كما لو صام وعطش نفسه بأكل المالح أو صام وأضحى للشمس فإنه يقال: ليس من البر الصيام في الشمس ولهذا قال سفيان بن عيينة: معناه ليس من صام بأبر ممن لم يصم.
ففي هذا ما دل على أن الفطر أفضل فإنه آخر الأمرين من النبي ﷺ فإنه صام أولا في السفر ثم أفطر فيه ومن كان يظن أن الصوم في السفر نقص في الدين فهذا مبتدع ضال وإذا صام على هذا الوجه معتقدا وجوب الصوم عليه وتحريم الفطر فقد أمر طائفة من السلف والخلف بالإعادة
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أن حمزة بن عمرو سأله فقال: إنني رجل أكثر الصوم أفأصوم في السفر؟ فقال: [ إن أفطرت فحسن وإن صمت فلا بأس ] فإذا فعل الرجل في السفر أيسر الأمرين عليه من تعجيل الصوم أو تأخيره فقد أحسن فإن الله يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر أما إذا كان الصوم في السفر أشق عليه من تأخيره فالتأخير أفضل فإن في المسند عن النبي ﷺ أنه قال: [ إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ] وأخرجه بعضهم إما ابن خزيمة وإما غيره في صحيحه وهذه الصحاح مرتبتها دون مرتبة صحيحي البخاري ومسلم
وأما صوم يوم الغيم: إذا حال دون منظر الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان فكان في الصحابة من يصومه احتياطا وكان منهم من يفطر ولم نعلم أحدا منهم أوجب صومه بل الذين صاموه إنما صاموه على طريق التحري والاحتياط والآثار المنقولة عنهم صريحة في ذلك كما نقل عن عمر وعلي ومعاوية وعبد الله ابن عمر وعائشة وغيرهم.
والعلماء متنازعون فيه على أقوال: منهم من نهى عن صومه نهي تحريم أو تنزيه كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ومنهم من يوجبه كما يقول ذلك طائفة من أصحاب أحمد ومنهم من يشرع فيه الأمرين بمنزلة الإمساك إذا غم مطلع الفجر وهذا مذهب أبي حنيفة وهو المنصوص عن أحمد فإنه كان يصومه على طريق الاحتياط اتباعا لابن عمر وغيره لا على طريق الإيجاب كسائر ما يشك في وجوبه فإنه يستحب فعله احتياطا من غير وجوب
وإذا صامه الرجل بنية معلقة بأن ينوي إن كان من رمضان اجزأه وإلا فلا فتبين أنه من رمضان أجزأه ذلك عند أكثر العلماء وهو مذهب أبي حنيفة وأصح الروايتين عن أحمد وغيره فإن النية تتبع العلم فمن علم ما يريد فعله نواه بغير اختياره وأما إذا لم يعلم الشيء فيمتنع أن يقصده فلا يتصور أن يقصد صوم رمضان جزما من لم يعلم أنه من رمضان.
وقد يدخل في هذا الباب القصر في السفر والجمع بين الصلاتين والذي مضت به سنة رسول الله ﷺ أنه كان يقصر في السفر فلا يصلي الرباعية في السفر إلا ركعتين وكذلك الشيخان بعده أبو بكر ثم عمر . وما كان يجمع في السفر بين الصلاتين إلا أحيانا عند الحاجة لم يكن جمعه كقصره بل القصر سنة راتبة والجمع رخصة عارضة فمن نقل عن النبي ﷺ أنه ربع في السفر الظهر أو العصر أو العشاء فهذا غلط فإن هذا لم ينقله عنه أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولكن روى بعض الناس حديثا عن عائشة أنها قالت: [ كان رسول الله ﷺ في السفر يقصر وتتم ويفطر وتصوم فسألته عن ذلك فقال: أحسنت يا عائشة] فتوهم بعض العلماء أنه هو كان الذي يقصر في السفر ويتم وهذا لم يروه أحد ونفس الحديث المروي في فعلها باطل ولم تكن عائشة ولا أحد غيرها ممن كان مع النبي ﷺ يصلي إلا كصلاته ولم يصل معه أحد أربعا قط لا بعرفة ولا بمزدلفة ولا غيرهما لا من أهل مكة ولا من غيرهم بل جميع المسلمين كانوا يصلون معه ركعتين وكان يقيم بمنى أيام الموسم يصلي بالناس ركعتين وكذلك بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان بن عفان في أول خلافته ثم صلى بعد ذلك أربعا لأمور رآها تقتضي ذلك فاختلف الناس عليه فمنهم من وافقه ومنهم من خالفه.
ولم يجمع النبي ﷺ في حجة الوداع إلا بعرفة وبمزدلفة خاصة لكنه كان إذا جد به السير في غير ذلك من أسفاره أخر المغرب إلى بعد العشاء ثم صلاهما جميعا ثم أخر الظهر إلى وقت العصر فصلاهما جميعا ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء أن القصر في السفر يجوز سواء نوى القصر أم لم ينوه وكذلك الجمع حيث يجوز له سواء نواه مع الصلاة الأولى أو لم ينوه فإن الصحابة لما صلوا خلف النبي ﷺ بعرفة الظهر ركعتين ثم العصر ركعتين لم يأمرهم عند افتتاح صلاة الظهر بأن ينووا الجمع ولا كانوا يعلمون أنه يجمع لأنه لم يفعل ذلك في غير سفرته تلك ولا أمر أحدا خلفه لا من أهل مكة ولا غيرهم أن ينفرد عنه لا بتربيع الصلاتين ولا بتأخير صلاة العصر بل صلوها معه
وقد اتفق العلماء على جواز القصر في السفر واتفقوا أنه الأفضل إلا قولا شاذا لبعضهم واتفقوا أن فعل كل صلاة في وقتها في السفر أفضل إذا لم يكن هناك سبب يوجب الجمع إلا قولا شاذا لبعضهم.
والقصر سببه السفر خاصة لا يجوز في غير السفر وأما الجمع فسببه الحاجة والعذر فإذا احتاج إليه جمع في السفر القصير والطويل وكذلك الجمع للمطر ونحوه وللمرض ونحوه ولغير ذلك من الأسباب فإن المقصود به رفع الحرج عن الأمة ولم يرد عن النبي ﷺ أنه جمع في السفر وهو نازل إلا في حديث واحد ولهذا تنازع المجوزون للجمع كمالك والشافعي وأحمد: هل يجوز الجمع للمسافر النازل؟ فمنع منه مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وجوزه الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى ومنع أبو حنيفة الجمع إلا بعرفة ومزدلفة.
ومن هذا الباب التمتع والإفراد والقران في الجج فإن مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الأمة جواز الأمور الثلاثة.
وذهب طائفة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز إلا التمتع وهو قول ابن عباس ومن وافقه من أهل الحديث والشيعة وكان طائفة من بني أمية ومن اتبعهم ينهون عن المتعة ويعاقبون من تمتع
وقد تنازع العلماء في حج النبي ﷺ: هل تمتع فيه أو أفرد أو قرن؟ وتنازعوا أي الثلاثة أفضل؟ فطائفة من أصحاب أحمد تظن أنه تمتع تمتعا حل فيه من إحرامه وطائفة أخرى تظن أنه أحرم بالعمرة ولم يحرم بالحج حتى طاف وسعى للعمرة
وطائفة من أصحاب مالك والشافعي تظن أنه أفرد الحج واعتمر عقيب ذلك وطائفة من أصحاب أبي حنيفة تظن أنه قرن قرانا طاف فيه طوافين وسعى فيه سعيين وطائفة تظن أنه أحرم مطلقا وكل ذلك خطأ لم تروه الصحابة رضوان الله عليهم بل عامة روايات الصحابة متفقة ومن نسبهم إلى الاختلاف في ذلك فلعدم فهمه أحكامهم فإن الصحابة نقلوا أن النبي ﷺ تمتع بالعمرة إلى الحج هكذا الذي نقله عامة الصحابة ونقل غير واحد من هؤلاء وغيرهم أنه قرن بين العمرة والحج وأنه أهل بهما جميعا كما نقلوا أنه اعتمر مع حجته مع اتفاقهم على أنه لم يعتمر بعد الحج بل لم يعتمر معه من أصحابه بعد الحج إلا عائشة لأجل حيضتها.
ولفظ المتمتع في الكتاب والسنة وكلام الصحابة اسم لمن جمع بين العمرة والحج في أشهر الحج سواء أحرم بهما جميعا أو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج أو أحرم بالحج بعد تحلله من العمرة وهذا هو التمتع الخاص في عرف المتأخرين وأحرم بالحج بعد قضاء العمرة قبل التحلل منها لكونه ساق الهدي أو مع كونه لم يسقه وهذا قد يسمونه متمتعا التمتع الخاص وقارنا وقد يقولون لا يدخل في التمتع الخاص بل هو قارن
وما ذكرته من أن القران يسمونه تمتعا جاء مصرحا به في أحاديث صحيحة وهؤلاء الذين نقلوا أنه تمتع نقل بعضهم أنه أفرد الحج فإنه أفرد أعمال الحج ولم يحل من إحرامه لأجل سوقه الهدي فهو لم يتمتع متعة حل فيها من إحرامه فلهذا صار كالمفرد من هذا الوجه.
وأما الأفضل لمن قدم في أشهر الحج ولم يسق الهدي: فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل له كما أمر النبي ﷺ أصحابه في حجة الوداع فإنه أمر كل من لم يسق الهدي بالتمتع ومن ساق الهدي فالقران له أفضل كما فعل النبي ﷺ ومن اعتمر
في سفرة وحج في سفرة أو اعتمر قبل أشهر الحج وأقام حتى يحج فهذا الإفراد له أفضل من التمتع والقران باتفاق الأئمة الأربعة
وأما القسم الرابع: فهو مما تنازع العلماء فيه: فأوجب أحدهم شيئا أو استحبه وحرمه الآخر والسنة لا تدل إلا على أحد القولين لم تسوغهما جميعا فهذا هو أشكل الأقسام الأربعة وأما الثلاثة المتقدمة فالسنة قد سوغت الأمرين.
وهذا مثل تنازعهم في قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال قيل: ليس له أن يقرأ حال جهر الإمام إذا كان يسمع لا بالفاتحة ولا في غيرها وهذا قول الجمهور من السلف والخلف وهذا مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم وأحد قولي الشافعي وقيل: بل يجوز الأمران والقراءة أفضل ويروى هذا عن الأوزاعي وأهل الشام والليث بن سعد وهو اختيار طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم وقيل: بل القراءة واجبة وهو القول الآخر للشافعي
وقول الجمهور هو الصحيح فإن الله سبحانه قال: { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } قال أحمد: أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال: [ إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم فتلك بتلك ] الحديث إلى آخره وروي هذا اللفظ من حديث أبي هريرة أيضا وذكر مسلم أنه ثابت: فقد أمر الله ورسوله بالإنصات للإمام إذا قرأ وجعل النبي ﷺ ذلك من جملة الإئتمام به فمن لم ينصت له لم يكن قد ائتم به ومعلوم أن الإمام يجهر لأجل المأموم ولهذا يؤمن المأموم على دعائه فإذا لم يستمع لقراءته ضاع جهره ومصلحة متابعة الإمام مقدمة على مصلحة ما يؤمر به المنفرد ألا ترى أنه لو أدرك الإمام في وتر من صلاته فعل كما يفعل فيتشهد عقيب الوتر ويسجد بعد التكبير إذا وجده ساجدا كل ذلك لأجل المتابعة فكيف لا يستمع لقراءته ! مع أنه بالاستماع يحصل له مصلحة القراءة فإن المستمع له مثل أجر القارئ.
ومما يبين هذا اتفاقهم كلهم على أنه لا يقرأ معه فيما زاد على الفاتحة إذا جهر فلولا أنه يحصل له أجر القراءة بإنصاته له لكانت قراءته لنفسه أفضل من استماعه للإمام وإذا كان يحصل له بالإنصات أجر القارئ لم يحتج إلى قراءته فلا يكون فيها منفعة بل فيها مضرة شغلته عن الاستماع المأمور به وقد تنازعوا إذا لم يسمع الإمام لكون الصلاة صلاة مخافتة أو لبعد المأموم أو طرشه أو نحو ذلك هل الأولى له أن يقرأ أو يسكت؟ والصحيح أن الأولى له أن يقرأ في هذه المواضع لأنه لا يستمع قراءة يحصل له بها مقصود القراءة فإذا قرأ لنفسه حصل له أجر القراءة وإلا بقي ساكتا لا قارئا ولا مستمعا ومن سكت غير مستمع ولا قارئ في الصلاة لم يكن مأمورا بذلك ولا محمودا بل جميع أفعال الصلاة لا بد فيها من ذكر الله تعالى: كالقراءة والتسبيح والدعاء أو الإستماع للذكر.
وإذا قيل: بأن الإمام يحمل عنه فرض القراءة فقراءته لنفسه أكمل له وأنفع له وأصلح لقلبه وأرفع له عند ربه والإنصات لا يؤمر به إلا حال الجهر فأما حال المخافتة فليس فيه صوت مسموع حتى ينصت له
ومن هذا الباب: فعل الصلاة التي لها سبب مثل تحية المسجد بعد الفجر والعصر فمن العلماء من يستحب ذلك ومنهم من يكرهه كراهة تحريم أو تنزيه والسنة إما أن تستحبه وإما أن تكرهه والصحيح قول من استحب ذلك وهو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين إختارها طائفة من أصحابه فإن أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات مثل قوله: [لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس] عموم مخصوص خص منها صلاة الجنائز باتفاق المسلمين وخص منها قضاء الفوائت بقوله: [من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح].
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قضى ركعتي الظهر بعد العصر وقال للرجلين اللذين رآهما لم يصليا بعد الفجر في مسجد الخيف: [إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة] وقد قال: [يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى فيه أية ساعة شاء من ليل أو نهار ] فهذا المنصوص يبين أن ذلك العموم خرجت منه صورة.
أما قوله: [إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين] فهو أمر عام لم يخص منه صورة فلا يجوز تخصيصه بعموم مخصوص بل العموم المحفوظ أولى من العموم المخصوص.
وأيضا فإن الصلاة والإمام على المنبر أشد من الصلاة بعد الفجر والعصر وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: [ إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ] فلما أمر بالركعتين في وقت هذا النهي فكذلك في وقت ذلك النهي وأولى ولأن أحاديث النهي في بعضها لا تتحروا بصلاتكم فنهى عن التحري للصلاة ذلك الوقت ولأن من العلماء من قال: إن النهي فيها نهي تنزيه لا تحريم
ومن السلف من جوز التطوع بعد العصر مطلقا واحتجوا بحديث عائشة لأن النهي عن الصلاة إنما كان سدا للذريعة إلى التشبه بالكفار وما كان منهيا عنه للذريعة فإنه يفعل لأجل المصلحة الراجحة كالصلاة التي لها سبب تفوت بفوات السبب فإن لم تفعل فيه وإلا فاتت المصلحة والتطوع المطلق لا يحتاج إلى فعله وقت النهي فإن الإنسان لا يستغرق الليل والنهار بالصلاة فلم يكن في النهي تفويت مصلحة وفي فعله فيه مفسدة بخلاف التطوع الذي له سبب يفوت: كسجدة التلاوة وصلاة الكسوف ثم إنه إذا جاز ركعتا الطواف مع إمكان تأخير الطواف فما يفوت أولى أن يجوز.
وطائفة من أصحابنا يجوزون قضاء السنن الرواتب دون غيرها لكون النبي ﷺ قضى ركعتي الظهر وروي عنه أنه رخص في قضاء ركعتي الفجر فيقال إذا جاز قضاء السنة الراتبة مع إمكان تأخيرها فما يفوت كالكسوف وسجود التلاوة وتحية المسجد أولى أن يجوز بل قد ثبت بالحديث الصحيح قضاء الفريضة في هذا الوقت مع أنه قد يستحب تأخير قضائها كما أخر النبي ﷺ قضاء الفجر لما نام عنها في غزوة خيبر وقال: إن هذا واد حضرنا فيه الشيطان فإذا جاز فعل ما يمكن تأخيره فما لا يمكن ولا يستحب تأخيره أولى وبسط هذه المسائل لا يمكن في هذا الجواب.