38 - 436 - مسألة: في الإماء الكتابيات ما الدليل على وطئهن بملك اليمين من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار وعلى تحريم الإماء المجوسيات أفتونا مأجورين؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين وطء الإماء الكتابيات بملك اليمين أقوى من وطئهن بملك النكاح عند عوام أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم ولم يذكر عن أحد من السلف تحريم ذلك كما نقل عن بعضهم المنع من نكاح الكتابيات وإن كان ابن المنذر قد قال: لم يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم نكاحهن ولكن التحريم هو قول الشيعة ولكن في كراهة نكاحهن مع عدم الحاجة نزاع والكراهة معروفة في مذهب مالك والشافعي وأحمد وكذلك كراهة وطء الأماء فيه نزاع
روي عن الحسن أنه كرهه والكراهة في ذلك مبنية على كراهة التزوج وأما التحريم فلا يعرف عن أحد بل قد تنازع العلماء في جواز تزويج الأمة الكتابية جوزه أبو حنيفة وأصحابه وحرمه مالك والشافعي والليث والأوزاعي وعن أحمد روايتان أشهرهما كالثاني فإن الله سبحانه إنما أباح نكاح المحصنات من أهل الكتاب بقوله تعالى: { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } الآية فأباح المحصنات منهم وقال في آية الإماء: { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض } فإنما أباح النساء المؤمنات وليس هذا موضع بسط هذه المسألة
وأما الأمة المجوسية فالكلام فيها ينبني على أصلين:
أحدهما: أن نكاح المجوسيات لا يجوز كما لا يجوز نكاح الوثنيات وهذا مذهب الأئمة الأربعة وذكره الإمام أحمد عن خمسة من الصحابة في ذبائحهم ونسائهم وجعل الخلاف في ذلك من جنس خلاف أهل البدع
والأصل الثاني: أن من لا يجوز نكاحهن لا يجوز وطئهن بملك اليمين كالوثنيات وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وحكى عن أبي ثور أنه قال: يباح وطء الإماء بملك اليمين على أي دين كن وأظن هذا يذكر عن بعض المتقدمين فقد تبين أن في وطء الأمة الوثنية نزاعا وأما الأمة الكتابية فليس في وطئها مع إباحة التزوج بهن نزاع بل في التزوج بها خلاف مشهور وهذا كله مما يبين أن القول بجواز التزوج بهن مع المنع من التسري بهن لم يقله أحد ولا يقوله فقيه
وحينئذ فنقول الدليل على أنه لا يحرم التسري بهن وجوه:
أحدها: أن الأصل الحل ولم يقم على تحريمهن دليل من نص ولا إجماع ولا قياس فبقي حل وطئهن على الأصل وذلك أن ما يستدل به من ينازع في حل نكاحهن بقوله: { ولا تنكحوا المشركات } وقوله: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } إنما يتناول النكاح لا يتناول الوطء بملك اليمين ومعلوم أنه ليس في السنة ولا في القياس ما يوجب تحريمهن فيبقى الحل على الأصل
الثاني: إن قوله تعالى: { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } يقتضي عموم جواز الوطء بملك اليمين مطلقا إلا ما استثناه الدليل حتى أن عثمان وغيره من الصحابة جعلوا مثل هذا النص متناولا للجمع بين الأختين حين قالوا: أحلتهما آية وحرمتهما آية فإذا كانوا قد جعلوا عاما في صورة حرم فيها النكاح فلا يكون عاما في صورة لا يحرم فيها النكاح أولى وأحرى
الثالث: أن يقال قد أجمع العلماء على حل ذلك كما ذكرناه ولم يقل أحد من المسلمين أنه يجوز نكاحهن ويحرم التسري بهن بل قد قيل يحل الوطء في ملك اليمين حيث يحرم الوطء في النكاح وقيل: يجوز التزوج بهن فعلم أن الأمة مجمع على التسري بها ولم يكن أرجح من حل النكاح ولم يكن دونه فلو حرم التسري دون النكاح كان خلاف الإجماع
الرابع: أن يقال أن حل نكاحهن يقتضي حل التسري بهن من طريق الأولى والأحرى وذلك أن كل من جاز وطؤها بالنكاح جاز وطؤها بملك اليمين بلا نزاع وأما العكس فقد تنازع فيه وذلك لأن ملك اليمين أوسع لا يقتصر فيه على عدد والنكاح يقتصر فيه على عدد وما حرم فيه الجمع بالنكاح قد نوزع في تحريم الجمع فيه بملك اليمين وله أن يستمتع بملك اليمين مطلقا من غير اعتبار قسم ولا استئذان في عزل ونحو ذلك مما حجر عليه فيه لحق الزوجة وملك النكاح نوع رق وملك اليمين رق تام
وأباح للمسلمين أن يتزوجوا أهل الكتاب ولا يتزوج أهل الكتاب نساءهم لأن النكاح نوع رق كما قال عمر: النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله تعالى: { وألفيا سيدها لدى الباب }
وقد قال النبي ﷺ: [ اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ]
فجوز للمسلم أن يسترق هذه الكافرة ولم يجوز للكافر أن يسترق هذه المسلمة لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه كما جوز للمسلم أن يملك الكافر ولم يجوز للكافر أن يملك المسلم فإذا جواز وطئهن من ملك تام أولى وأحرى
يوضح ذلك أن المانع إما الكفر وإما الرق وهذا الكفر ليس بمانع والرق ليس مانعا من الوطء بالملك وإنما يصلح أن يكون مانعا من التزوج فإذا كان المقتضى للوطء قائما والمانع منتفيا جاز الوطء فهذا الوجه مشتمل على قياس التمثيل وعلى قياس الأولى ويخرج منه وجه رابع يجعل قياس التعليل فيقال: الرق مقتضى لجواز وطء المملوكة كما نبه النص على هذه العلة كقوله: { أو ما ملكت أيمانكم } وإنما يمتنع الوطء بسبب يوجب التحريم بأن تكون محرمة بالرضاع أو بالطهر أو بالشرك ونحو ذلك وهذا ليس فيها ما يصلح للمنع إلا كونها كتابية وهذا ليس بمانع فإذا كان المقتضى للحل قائما والمانع المذكور لا يصلح أن يكون معارضا وجب العمل بالمقتضى السالم عن المعارض المقاوم وهذه الوجوه بعد تمام تصورها توجب القطع بالحل
الوجه الخامس: أن من تدبر سير الصحابة والسلف على عهد النبي ﷺ والصحابة وجد آثارا كثيرة تبين أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مانعا بل هذه كانت سنة النبي ﷺ وسنة خلفائه مثل الذي كانت له أم ولد وكانت تسب النبي ﷺ فقام يقتلها وقد روى حديثها أبو داود وغيره وهذه لم تكن مسلمة لكن هذه القصة قد يقال أنه لا حجة فيها لأنها كانت في أوائل مقدم النبي ﷺ المدينة ولم يكن حينئذ يحرم نكاح المشركات وإنما ثبت التحريم بعد الحديبية لما أنزل الله تعالى: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } وطلق عمر امرأته كانت بمكة
وأما الآية التي في البقرة فلا يعلم تاريخ نزولها وفي البقرة ما نزل متأخرا كآيات الزنا وفيها ما نزل متقدما كآيات الصيام ومثل ما روي أن النبي ﷺ لما أراد غزوة تبوك قال للحر بن قيس: هل لك في نساء بني الأصفر فقال: إئذن لي ولا تفتني ومثل فتحه لخيبر وقسمه للرقيق ولم ينه المسلمين عن وطئهن حتى يسلمن كما أمرهم بالإستبراء
بل من يبيح وطء الوثنيات بملك اليمين قد يستدل بما جرى يوم أوطاس من قوله: [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة ] على جواز وطء الوثنيات بملك اليمين وفي هذا كلام ليس هذا موضعه والصحابة لما فتحوا البلاد لم يكونوا يمتنعون عن وطء النصرانيات
فصل
وأما المجوسية فقد ذكرنا أن الكلام فيها مبني على أصلين:
أحدهما: أن المجوس لا تحل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم والدليل على هذا وجوه:
أحدها: أن يقال: ليسوا من أهل الكتاب ومن لم يكن من أهل الكتاب لم يحل طعامه ولا نساؤه أما المقدمة الأولى ففيها نزاع شاذ فالدليل عليها أنه سبحانه قال: { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين }
فتبين أنه أنزل القرآن كراهة أن يقولوا ذلك ومنعا لأن يقولوا ذلك ودفعا لأن يقولوا ذلك فلو كان قد أنزل على أكثر من طائفتين لكان هذا القول كذبا فلا يحتاج إلى مانع من قوله
وأيضا فإنه قال: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } فذكر الملل الست وذكر أنه يفصل بينهم يوم القيامة
ولما ذكر الملل التي فيها سعيد قال: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا } في موضعين فلم يذكر المجوس ولا المشركين فلو كان في هاتين الملتين سعيد في الآخرة كما في الصابئين واليهود والنصارى لذكرهم فلو كان لهم كتاب لكانوا قبل النسخ والتبديل على هدى وكانوا يدخلون الجنة إذا عملوا بشريعتهم كما كان اليهود والنصارى قبل النسخ والتبديل فلما لم يذكر المجوس في هؤلاء علم أنه ليس لهم كتاب بل ذكر الصابئين دونهم مع أن الصابئين ليس لهم كتاب إلا إن يدخلوا في دين أحد من أهل الكتابين وهو دليل على أن المجوس أبعد عن الكتاب منهم
وأيضا: ففي المسند والترمذي وغيرهما من كتب الحديث والتفسير والمغازي الحديث المشهور: لما اقتتلت فارس والروم وانتصرت الفرس ففرح بذلك المشركون لأنهم من جنسهم ليس لهم كتاب واستبشر بذلك أصحاب النبي ﷺ لكون النصارى أقرب إليهم لأن لهم كتابا وأنزل الله تعالى: { الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين } الآية
وهذا يبين أن المجوس لم يكونوا عند النبي ﷺ وأصحابه لهم كتاب وأيضا ففي حديث الحسن بن محمد بن الحنفية وغيره من التابعين أن النبي ﷺ أخذ الجزية من المجوس وقال: [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ] وهذا مرسل وعن خمسة من الصحابة توافقه ولم يعرف عنهم خلاف
وأما حذيفة فذكر أحمد أنه تزوج بيهودية وقد عمل بهذا المرسل عوام أهل العلم والمرسل في أحد قولي العلماء حجة كمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وفي الآخر هو حجة إذا عضده قول جمهور أهل العلم وظاهر القرآن أو أرسل من وجه آخر وهذا قول الشافعي فمثل هذا المرسل حجة باتفاق العلماء وهذا المرسل نص في خصوص المسألة غير محتاج إلى أن يبنى على المقدمتين
فإن قيل: روي عن علي أنه كان لهم كتاب فرفع قيل: هذا الحديث قد ضعفه أحمد وغيره وإن صح فإنه إنما يدل على أنه كان لهم كتاب فرفع لا أنه الآن بأيديهم كتاب وحينئذ فلا يصح أن يدخلوا في لفظ أهل الكتاب إذ ليس بأيديهم كتاب لا مبدل ولا غير مبدل ولا منسوخ ولا غير منسوخ ولكن إذا كان لهم كتاب ثم رفع بقي لهم شبهة كتاب وهذا القدر يؤثر في حقن دمائهم بالجزية إذا قيدت بأهل الكتاب
وأما الفروج والذبائح فحلها مخصوص بأهل الكتاب وقول النبي ﷺ: [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب وإنما أمر أن يسن بهم سنتهم في أخذ الجزية خاصة كما فعل ذلك الصحابة فإنهم لم يفهموا من هذا اللفظ إلا هذا الحكم وقد روي مقيدا: [ غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ]
فمن جوز أخذ الجزية من أهل الأوثان قاس عليهم غيرهم في الجزية ومن خصهم بذلك قال ان لهم شبهة كتاب بخلاف غيرهم والدماء تعصم بالشبهات ولا تحل الفروج والذبائح بالشبهات ولهذا لما تنازع علي وابن عباس في ذبائح بني تغلب قال علي: إنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر وقرأ ابن عباس قوله تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } فعلي رضي الله عنه منع من ذبائحهم مع عصمة ذبائحهم وهو الذي روى حديث كتاب المجوس فعلم أن التشبه بأهل الكتاب في بعض الأمور يقتضي حقن الدماء دون الذبائح والنساء
437 - / 39 - مسألة: في رجل زنى بامرأة في حال شبوبيته وقد رأى معها في هذه الأيام بنتا وهو يطلب التزوج بها ولم يعلم هل منه أو من غيره وهو متوقف في تزويجها؟
الجواب: الحمد لله لا يحل له التزويج بها عند أكثر العلماء فإن بنت التي زنى بها من غيره لا يحل التزوج بها عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في أحد الروايتين وأما بنته من الزنا فأغلظ من ذلك وإذا اشتبهت عليه بغيرها حرمتا عليه
438 - / 40 - مسألة: في بنت بالغ وقد خطبت لقرابة لها فأبت وقال أهلها للعاقد: أعقد وأبوها حاضر فهل يجوز تزويجها؟
الجوإب: أما إن كان الزوج ليس كفؤا لها فلا تجبر على نكاحه بلا ريب وأما إن كان كفؤا فللعلماء فيها قولان مشهوران لكن الأظهر في الكتاب والسنة والاعتبار أنها لا تجبر كما قال النبي ﷺ: [ لا تنكح البكر حتى يستأذنها أبوها وأذنها صماتها ] والله أعلم
439 - / 41 - مسألة: في رجل قرشي تزوج بجارية مملوكه فأولدها ولدا هل يكون الولد حرا أم يكون عبدا مملوكا؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين إذا تزوج الرجل المرأة وعلم أنها مملوكة فإن ولده منها مملوك لسيدها باتفاق الأئمة فإن الولد يتبع أباه في النسب والولاء ويتبع أمه في الحرية والرق فإن كان الولد ممن يسترق جنسه بالاتفاق فهو رقيق بالاتفاق وإن كان ممن تنازع الفقهاء في رقه وقع النزاع في رقه كالعرب
والصحيح أنه يجوز استرقاق العرب والعجم لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله ﷺ يقولها فيهم سمعت رسول الله ﷺ يقول: [ هم أشد أمتي على الدجال وجاءت صدقاتهم ] فقال النبي ﷺ: [ هذه صدقات قومنا ] قال: وكانت سبية منهم عند عائشة فقال النبي ﷺ: [ إعتقيها فإنها من ولد إسماعيل ] وفي لفظ لمسلم: [ ثلاث خلال سمعتهن من رسول الله ﷺ في بني تميم لا أزال أحبهن بعدها كان على عائشة محرر فقال رسول الله ﷺ: أعتقي من هؤلاء وجاءت صدقاتهم فقال: هذه صدقات قومي وقال: هم أشد الناس قتلا في الملاحم ]
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي ﷺ قال: [ من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل ]
ففي هذا الحديث أن بني إسماعيل يعتقون فدل على ثبوت الرق عليهم كما أمر عائشة أن تعتق عن المحرر الذي كان عليها من بني إسماعيل وفيه من بني تميم لأنهم من ولد إسماعيل
وفي صحيح البخاري عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أن رسول الله ﷺ قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله ﷺ: [ معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين: إما المال وإما السبي وقد كنت استأنيت بكم ]
وكان انتظرهم رسول الله ﷺ بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف فلما تبين لهم أن رسول الله ﷺ غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا: فإنا نختار سبينا فقام رسول الله ﷺ في المسلمين وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: [ أما بعد فإن أخوانكم قد جاؤونا تائبين وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل ] فقال الناس طيبنا ذلك يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ: [ إنا لا ندري من أذن في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم ]
فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله ﷺ فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا
ففي هذا الحديث الصحيح أنه سبى نساء هوازن وهم عرب وقسمهم بين الغانمين فصاروا رقيقا لهم ثم بعد ذلك طلب أخذهم منهم إما تبرعا وإما معاوضة وقد جاء في الحديث أنه أعتقهم كما في حديث عمر لما اعتكف وبلغه أن النبي ﷺ أعتق السبي فأعتق جارية كانت عنده والمسلمون كانوا يطؤن ذلك السبي بملك اليمين كما في سبي أوطاس وهو من سبي هوازن فإن النبي ﷺ قال فيه: [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة ]
وفي المسند للإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قسم رسول الله ﷺ سبايا بني المصطلق ووقعت جويرية بنت الحارث لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له كاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة فأتت رسول الله ﷺ وقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك وجئتك استعينك على كتابتي فقال رسول الله ﷺ: [ هل لك في خير من ذلك؟ قالت وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك قالت: نعم يا رسول الله قال: قد فعلت ]
قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله ﷺ تزوج جويرية بنت الحارث فأرسلوا ما بأيديهم قالت: فقد عتق بتزوجه إياها مائة من أهل بيت من بني المصطلق وما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها
وهذه الأحاديث ونحوها مشهور بل متواتر أن النبي ﷺ كان يسبي العرب وكذلك خلفاؤه بعده كما قال الأئمة وغيرهم: سبى النبي ﷺ العرب وسبى أبو بكر بني ناحية كان يطارد العرب بذلك الإسترقاق وقد قال الله لهم: { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم }
وفي حديث أبي سعيد وغيره أنها نزلت في المسبيات أباح الله لهم وطأها بملك اليمين وإذا سبيت واسترقت بدون زوجها جاز وطؤها بلا ريب وإنما فيه خلاف شاذ في مذهب أحمد وحكي الخلاف في مذهب مالك
قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة إذا وقعت في ملك ولها زوج مقيم بدار الحرب أن نكاح زوجها قد انفسخ وحل لمالكها وطؤها بعد الاستبراء وأما إذا سبيت مع زوجها ففيه نزاع بين أهل العلم ومعلوم أن عامة السبي الذي كان يسبيه النبي ﷺ كان في الحرب
وقد قاتل أهل الكتاب فإنه خرج لقتال النصارى عام تبوك ولم يجر بينهم قتال وقد بعث إليهم السرية التي أمر عليها زيد ثم جعفرا ثم عبد الله بن رواحة ومع هذا فكان في النصارى العرب والروم
وكذلك قاتل اليهود بخيبر والنضير وقينقاع وكان في يهود العرب وبني إسرائيل وكذلك يهود اليمن كان فيهم العرب وبنو إسرائيل
وأيضا فسبب الاسترقاق هو الكفر بشرط الحرب فالحر المسلم لا يسترق بحال والمعاهد لا يسترق والكفر مع المحاربة موجود في كل كافر فجاز استرقاقه كما يجوز قتاله فكل ما أباح قتل المقاتلة أباح سبي الذرية وهذا حكم عام في العرب والعجم وهذا ما ذهب مالك والشافعي في الجديد من قوليه وأحمد وأما أبو حنيفة فلا يجوز استرقاق العرب كما لا يجوز ضرب الجزية عليهم لأن العرب اختصوا بشرف النسب لكون النبي ﷺ منهم واختص كفارهم بفرط عداوته فصار ذلك مانعا من قبول الجزية
كما أن المرتد لا تؤخذ منه الجزية للتغليظ ولما حصل له من الشرف بالإسلام السابق واحتج بما روي عن عمر أنه قال: ليس على عربي ملك والذين نازعوه لهم قولان في جواز استرقاق من لا تقبل منه الجزية هما روايتان عن أحمد:
إحداهما: أن الإسترقاق كأخذ الجزية فمن لم تؤخذ منه الجزية لا يسترق وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره وهو اختيار الخرقي والقاضي وغيرهما من أصحاب أحمد وهو قول الاصطخري من أصحاب الشافعي وعند أبي حنيفة تقبل الجزية من كافر إلا من مشركي العرب وهو رواية عن أحمد فعلى هذا لا يجوز استرقاق مشركي العرب لكون الجزية لا تؤخذ منهم ويجوز استرقاق مشركي العجم وهو قول الشافعي بناء على قوله: أن العرب لا يسترقون والرواية الأخرى عن أحمد: أن الجزية لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس كمذهب الشافعي فعلى هذا القول في مذهب أحمد لا يجوز استرقاق أحد من المشركين لا من العرب ولا من غيرهم كاختيار الخرقي والقاضي وغيرهم
وهذان القولان في مذهب أحمد لا يمنع فيه الرق لأجل النسب لكن لأجل الدين فإذا سبى عربية فأسلمت استرقها وإن لم تسلم أجبرها على الإسلام وعلى هذا يحملون ما كان النبي ﷺ والصحابة يفعلونه من استرقاق العرب
وأما الرقيق الوثني فلا يجوز إقراره عندهم برق كما يجوز بجزية وهذا كما أن الصحابة سبوا العربيات والوثنيات ووطؤهم وقد قال النبي ﷺ: [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة ] ثم الأئمة الأربعة متفقون على أن الوطء إنما كان بعد الإسلام وأن وطء الوثنية لا يجوز كما لا يجوز تزويجها
والقول الثاني: أنه يجوز استرقاق من لا يؤخذ منهم الجزية من أهل الأوثان وهو مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى بناء على أن الصحابة استرقوهم ولم تعلم أنهم أجبروهم على الإسلام ولأنه لا يجوز قتلهم فلا بد من استرقاقهم والرق فيه من الغل ما ليس في أخذ الجزية
وقد تبين مما ذكرناه أن الصحيح جواز استرقاق العرب وأما الأثر المذكور عن عمر إذا كان صحيحا صريحا في محل النزاع فقد خالفه أبو بكر وعلي فإنهم سبوا العرب ويحتمل أن يكون قول عمر محمولا على أن العرب أسلموا قبل أن يسترق رجالهم فلا يضرب عليهم رق كما أن قريشا أسلموا كلهم فلم يضرب عليهم رق لأجل إسلامهم لا لأجل النسب ولم يتمكن الصحابة من سبي نساء قريش كما تمكنوا من سبي نساء طوائف من العرب ولهذا لم يسترق منهم أحد ولم يحفظ عن النبي ﷺ في النهي عن سبيهم شيء
وأما إذا تزوج العربي مملوكة فنكاح الحر للمملوكة لا يجوز إلا بشرطين: خوف العنت وعدم الطول إلى نكاح حرة في مذهب مالك والشافعي وأحمد وعللوا ذلك بأن تزوجه يفضي إلى استرقاق ولده فلا يجوز للحر العربي ولا العجمي أن يتزوج مملوكة إلا لضرورة وإذا تزوجها للضرورة كان ولده مملوكا
وأما أبو حنيفة فالمانع عنده أن تكون تحته حرة وهو يفرق في الاسترقاق بين العربي وغيره وأما إذا وطئ الأمة بزنا فإن ولدها مملوك لسيدها بالاتفاق وإن كان أبوه عربيا لأن النسب غير لاحق وأما إذا وطئها بنكاح وهو يعتقدها حرة أو استبرأها فوطئها بظنها مملوكته فهنا ولده حر سواء كان عربيا أو أعجميا هذا يسمى المغرور فولد المغرور من النكاح أو البيع حر لاعتقاده أنه وطئ زوجة حرة أو مملوكته وعليه الفداء لسيد الأمة كما قضت بذلك الصحابة لأنه فوت سيد الأمة ملكهم فكان عليه الضمان وفي ذلك تفريع ونزاع ليس هذا موضعه والله أعلم
42 - 440 - مسألة: في قوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركات } وقد أباح العلماء التزويج بالنصرانية واليهودية فهل هما من المشركين أم لا؟
الجواب: الحمد لله نكاح الكتابية جائز بالآية التي في المائدة قال تعالى: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم }
وهذا مذهب جماهير السلف والخلف من الأئمة الأربعة وغيرهم وقد روي عن ابن عمر أنه كره نكاح النصرانية وقال: لا أعلم شركا أعظم ممن تقول أن ربها عيسى ابن مريم وهو اليوم مذهب طائفة من أهل البدع وقد احتجوا بالآية التي في سورة البقرة وبقوله: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر }
والجواب عن آية البقرة من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن أهل الكتاب لم يدخلوا في المشركين فجعل أهل الكتاب غير المشركين بدليل قوله: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا }
فإن قيل: فقد وصفهم بالشرك بقوله: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }
قيل: أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك فإن الله إنما بعث الرسل بالتوحيد فكل من آمن بالرسل والكتب لم يكن في أصل دينهم شرك ولكن النصارى ابتدعوا الشرك كما قال: { سبحانه وتعالى عما يشركون } بحيث وصفهم بأنهم أشركوا فلأجل ما ابتدعوه من الشرك الذي لم يأمر الله به وجب تميزهم عن المشركين لأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التي جاءت بالتوحيد لا بالشرك
فإذا قيل: أهل الكتاب لم يكونوا من هذه الجهة مشركين فإن الكتاب الذي أضيفوا إليه شرك فيه كما إذا قيل: المسلمون وأمة محمد لم يكن فيهم من هذه الجهة لا إتحاد ولا رفض ولا تكذيب بالقدر ولا غير ذلك من البدع وإن كان بعض الداخلين في الأمة قد ابتدع هذه البدع لكن أمة محمد ﷺ لا تجتمع على ضلالة فلا يزال فيها من هو متبع لشريعة التوحيد بخلاف أهل الكتاب ولم يخبر الله عز وجل عن أهل الكتاب أنهم مشركون بالإسم بل قال عما يشركون بالفعل وآية البقرة قال فيها المشركين والمشركات بالإسم والإسم أوكد من الفعل
الوجه الثاني: أن يقال إن شملهم لفظ المشركين في سورة البقرة كما وصفهم بالشرك فهذا متوجه بأن يفرق بين دلالة اللفظ مفردا ومقرونا فإذا أفردوا دخل فيهم أهل الكتاب وإذا قرنوا أهل الكتاب لم يدخلوا فيهم كما قيل مثل هذا في اسم الفقير والمسكين ونحو ذلك فعلى هذا يقال: آية البقرة عامة وتلك خاصة والخاص يقدم على العام
الوجه الثالث: أن يقال آية المائدة ناسخة لآية البقرة لأن المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء
وقد جاء في الحديث: [ المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ] والآية المتأخرة تنسخ الآية المتقدمة إذا تعارضتا
وأما قوله: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } فإنها نزلت بعد صلح الحديبية لما هاجر من مكة إلى المدينة وأنزل الله سورة الممتحنة وأمر بامتحان المهاجرين وهو خطاب لمن كان في عصمته كافرة واللام لتعريف العهد والكوافر المعهودات هن المشركات مع أن الكفار قد يميزوا من أهل الكتاب أيضا في بعض المواضع لقوله: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا }
فإن أصل دينهم هو الإيمان ولكن هم كفروا مبتدعين الكفر كما قال تعالى: { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا }