68 - 52 - مسألة: قال شيخ الإسلام رحمه الله:
أما بعد فقد كنا في مجلس التفقه في الدين والنظر في مدارك الأحكام المشروعة تصويرا وتقريرا وتأصيلا وتفصيلا فوقع الكلام في شرح القول في حكم مني الإنسان وغيره من الدواب الطاهرة وفي أرواث البهائم المباحة أهي طاهرة أم نجسة؟ على وجه أحب أصحابنا تقيده وما يقاربه من زيادة ونقصان فكتبت لهم في ذلك فأقول ولا حول ولا قوة إلا بالله:
هذا مبني على أصل وفصلين:
أما الأصل فاعالم أن الأصل في جميع الأعيان الموجودة على اختلاف أصنافها وتباين أوصافها أن تكون حلالا مطلقا للآدميين وأن تكون طاهرة لا يحرم عليهم ملابستها ومباشرتها ومماستها وهذه كلها جامعة ومقالة عامة وقضية فاضلة عظيمة المنفعة واسعة البركة يفزع إليها حملة الشريعة فيما لا يحصى من الأعمال وحوادث الناس
وقد دل عليها أدلة عشرة مما حضرني ذكره من الشريعة وهي كتاب الله وسنة رسوله واتباع سبيل المؤمنين المنظومة في قوله تعالى:
{ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }
وقوله: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا }
ثم مسالك القياس والاعتبار ومناهج الرأي والاستصبار
الصنف الأول: الكتاب وهو عدة آيات:
الآية الأولى: قوله تعالى: { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } والخطاب لجميع الناس لافتتاح الكلام بقوله:
{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم }
ووجه الدلالة أنه أخبر أنه خلق جميع ما في الأرض للناس مضافا إليهم باللام واللام حرف الإضافة وهي توجب اختصاص المضاف بالمضاف إليه واستحقاقه إياه من الوجه الذي يصلح له وهذا المعنى يعم موارد استعمالها كقولهم: المال لزيد والسرج للدابة وما أشبه ذلك فيجب إذا أن يكون الناس مملكين ممكنين لجميع ما في الأرض فضلا من الله ونعمة وخص من ذلك بعض الأشياء وهي الخبائث لما فيها من الإفساد لهم في معاشهم أو معادهم فيبقى الباقي مباحا بموجب الآية
الآية الثانية: قوله تعالى: { وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه }
أحدهما: إنه وبخهم وعنفهم على ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه قبل أن يحله باسمه الخاص فلو لم تكن الأشياء مطلقة مباحة لم يلحقهم ذم ولا توبيخ إذ لو كان حكمها مجهولا أو كانت محظورة لم يكن ذلك
الوجه الثاني: إنه قال: { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } والتفصيل التبيين فبين أنه بين المحرمات فما لم يبين تحريمه ليس بحرم وما ليس بمحرم فهو حلال إذ ليس إلا حلال أو حرام
الآية الثالثة: قوله تعالى: { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه }
وإذا كان ما في الأرض مسخرا لنا جاز استمتاعنا به كما تقدم
الآية الرابعة: قوله تعالى: { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا } الآية
فما لم يجد تحريمه ليس بمحرم وما لم يحرم فهو حل ومثل هذه الآية قوله:
{ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } الآية
لأن حرف إنما يوجب حصر الأول في الثاني فيجب انحصار المحرمات فيما ذكر وقد دل الكتاب على هذا الأصل المحيط في مواضع أخر
الصنف الثاني: السنة والذي حضرني معها حديثان:
الحديث الأول: في الصحيحين: عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله ﷺ:
[ إن أعظم المسلمين جرما: من يسأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ]
دل ذلك على أن الأشياء لا تحرم إلا بتحريم خاص لقوله لم يحرم - ودل أن التحريم قد يكون لأجل المسألة فبين بذلك أنها بدون ذلك ليست محرمة وهو المقصود
الثاني: روى أبو داود في سننه: عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله ﷺ عن شيء من السمن والجبن والفراء؟ فقال:
[ الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ]
فمنه دليلان أحدهما: أنه أفتى بالاطلاق فيه الثاني: قوله [ وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ] نص في أن ما سكت عنه فلا إثم عليه فيه
وتسميته هذا عفوا كأنه والله أعلم لأن التحليل هو الاذن في التناول بخطاب خاص والتحريم المنع من التناول كذلك والسكوت عنه لم يؤذن بخطاب يخصه ولم يمنع منه فيرجع إلى الأصل وهو: أن لا عقاب إلا الإرسال وإذا لم يكن فيه عقاب لم يكن محرما
وفي السنة دلائل كثيرة على هذا الأصل
الصنف الثاني: اتباع سبيل المؤمنين وشهادة شهداء الله في أرضه الذين هم عدول الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر المعصومين من اجتماعهم على ضلالة المفروض اتباعهم وذلك أني لست أعلم خلاف أحد من العلماء السالفين في أن ما لم يجىء دليل بتحريمه فهو غير محجور
وقد نص على ذلك كثير ممن تكلم في أصول الفقه وفروعه وأحسن بعضهم ذكر في ذلك الاجماع يقينا أو ظنا كاليقين
فإن قيل: كيف يكون في ذلك إجماع وقد علمت اختلاف الناس في الأعيان قبل مجيء الرسل وإنزال الكتب؟ هل الأصل فيها الحظر أو الإباحة أو لا يدري ما الحكم فيها أو أنه لا حكم لها أصلا واستصحاب الحال دليل متبع وأنه قد ذهب بعض من صنف في أصول الفقه من أصحابنا وغيرهم على: أن حكم الأعيان الثابت لها قبل الشرع مستصحب بعد الشرع وأن من قال بأن الأصل في الأعيان الحظر استصحب هذا الحكم حتى يقوم دليل الحل
فأقول: هذا قول متأخر لم يأثر أصله عن أحد من السابقين ممن له قدم وذلك أنه قد ثبت أنها بعد مجيء الرسل على الإطلاق وقد زال حكم ذلك الأصل بالأدلة السمعية التي ذكرتها ولست أنكر أن بعض من لم يحط علما بمدارك الأحكام ولم يؤت تمييزا في مظان الاشتباه ربما سحب ذيل ما قبل الشرع على ما بعده إلا أن هذا غلط قبيح لو نبه له لتنبه مثل الغلط في الحساب لا يهتك حريم الاجماع ولا يثلم سنن الاتباع
ولقد اختلف الناس في المسألة هل هي جائزة أم ممتنعة؟ لأن الأرض لم تخل من نبي مرسل إذا كان آدم نبيا مكلما حسب اختلافهم في جواز خلو الأقطار عن حكم مشروع وإن كان الصواب عندنا جوازه
ومنهم من فرضها فيمن ولد بجزيرة إلى غير ذلك من الكلام الذي يبين لك أن لا عمل بها وأنها نظر محض ليس فيه عمل كالكلام في مبدإ اللغات وشبه ذلك على أن الحق الذي لا راد له: أن قبل الشرع لا تحليل ولا تحريم فإذا لا تحريم يستصحب ويستدام فيبقى الآن كذلك والمقصود خلوها عن المآثم والعقوبات
وأما مسلك الاعتبار: بالأشباه والنظائر واجتهاد الرأي في الأصول الجوامع فمن وجوه كثيرة ننبه على بعضها:
أحدها: أن الله سبحانه خلق هذه الأشياء وجعل فيها للإنسان متاعا ومنفعة ومنها ما قد يضطر إليه وهو سبحانه جواد ماجد كريم رحيم غني صمد والعلم بذلك يدل على العلم بأنه لا يعاقبه ولا يعذبه على مجرد استمتاعه بهذه الأشياء وهو المطلوب
وثانيها: أنها منفعة خالية عن مضرة فكانت مباحة كسائر ما نص على تحليله وهذا الوصف قد دل على تعلق الحكم به النص وهو قوله:
{ يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث }
فكل ما نفع فهو طيب وكل ما ضر فهو خبيث
والمناسبة الواضحة لكل ذي لب أن النفع يناسب التحليل والضرر يناسب التحريم والدوران فإن التحريم يدور مع المضار وجودا في الميتة والدم ولحم الخنزير وذوات الأنياب والمخالب والخمر وغيرها مما يضر بأنفس الناس وعد ما في الأنعام والألبان وغيرها
وثالثها: أن هذه الأشياء إما أن يكون لها حكم أو لا يكون والأول صواب والثاني باطل بالاتفاق
وإذا كان لها حكم بالوجوب والكراهة والاستحباب معلومة البطلان بالكلية لم يبق إلا الحل والحرمة باطلة لانتفاء دليلها نصا واستنباطا لم يبق إلا الحل وهو المطلوب
إذا ثبت هذا الأصل فنقول: الأصل في الأعيان الطهارة لثلاثة أوجه:
أحدها: أن الطاهر: ما حل ملا بسته ومبا شرته وحمله في الصلاة والنجس بخلافه وأكثر الأدلة السالفة تجمع جميع وجوه الانتفاع بالأشياء أكلا وشربا ولبسا ومسا وغير ذلك فثبت دخول الطهارة في الحل وهو المطلوب والوجهان الآخران نافلة
الثاني: أنه إذا ثبت أن الأصل جواز أكلها وشربها فلأن يكون الأصل ملابستها ومخالطتها الخلق أولى وأحرى وذلك لأن الطعام يخالط البدن ويمازجه وينبت منه فيصير مادة وعنصرا له فإذا كان خبيثا صار البدن خبيثا فيستوجب النار ولهذا قال النبي ﷺ:
[ كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به ] والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب
وأما ما يماس البدن ويباشره فيؤثر أيضا في البدن من ظاهر كتأثير الأخباث في أبداننا وفي ثيابنا المتصلة بأبدانا لكن تأثيرها دون تأثير المخالط الممازج فإذا ثبت حل مخالطة الشيء وممازجته فحل ملابسته ومباشرته أولى وهذا قاطع لا شبهة فيه
وطرد ذلك أن كل ما حرم مباشرته وملابسته حرم مخالطته وممازجته ولا ينعكس فكل نجس محرم الأكل وليس كل محرم الأكل نجسا وهذا في غاية التحقيق
الوجه الثالث: أن الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة وأن النجاسات محصاة مستقصاة وما خرج عن الضبط والحصر فهو طاهر كما يقولونه فيما ينقض الوضوء ويوجب الغسل وما لا يحل نكاحه وشبه ذلك فإنه غاية المتقابلات تجد أحد الجانبين فيها محصورا مضبوطا والجانب الآخر مطلق مرسل والله تعالى الهادي للصواب
الفصل الأول
القول في طهارة الأرواث والأبوال من الدواب والطير التي لم تحرم وعلى ذلك عدة أدلة:
الدليل الأول: إن الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر وهذه الأعيان لم يبين لنا نجاستها فهي طاهرة
أما الركن الأول من الدليل فقد ثبت بالبراهين الباهرة والحجج القاهرة
وأما الثاني: فنقول أن المنفي على ضربين: نفي نحصره ونحيط به كعلمنا بأن السماء ليس فيها شمسان ولا قمران طالعان وأنه ليس لنا إلا قبلة واحدة وأن محمدا لا نبي بعده بل علمنا أنه لا إله إلا الله وأن ما ليس بين اللوحين ليس بقرآن وأنه لم يفرض إلا صوم شهر رمضان وعلم الإنسان أنه ليس في دراهم قيل ولا تغير وأنه لم يطعم وأنه البارحة لم ينم وغير ذلك مما يطول عده فهذا كله نفي مستيقن بين خطأ من يطلق قوله: لا تقبل الشهادة على النفي
الثاني: ما لا يستيقن نفيه وعدمه ثم منه ما يغلب على القلب ويقوي في الرأي ومنه ما لا يكون كذلك فإذا رأينا حكما منوطا بنفي من الصنف الثاني فالمطلوب أن نرى النفي ويغلب على قلوبنا والاستدلال بالاستصحاب وبعدم المخصص وعدم الموجب لحمل الكلام على مجازه هو من هذا القسم
فإذا بحثنا وسيرنا عما يدل على نجاسة هذه الأعيان والناس يتكلمون فيها منذ مائتين من السنين فلم نجد فيها إلا أدلة معروفة شهدنا شهادة جازمة في هذا المقام بحسب علمنا: أن لا دليل إلا ذلك فنقول: الاستدلال بهذا الدليل إنما يتم بفسخ ما استدل به على النجاسة ونقض ذلك وقد احتج لذلك بمسلكين: أثري ونظري
أما الأثري: فحديث ابن عباس المخرج في الصحيحين: أن رسول الله ﷺ مر بقبرين فقال: [ إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وروي: لا يستنزه ]
والبول اسم جنس محلى باللام فيوجب العموم كالإنسان في قوله: { إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا }
فإن المرتضى أن أسماء الأجناس تقتضي من العموم ما تقتضيه أسماءالجموع لست أقول الجنس الذي يفصل بين واحدة وكثيرة الهاء: كالنمر والبر والشجر فإن حكم تلك حكم الجموع بلا ريب وإنما أقول: اسم الجنس المفرد الدال على الشيء وعلى ما أشبهه: كإنسان ورجل وفرس وثوب وشبه ذلك وإذا كان النبي ﷺ قد أخبر بالعذاب من جنس البول وجب الاحتراز والتنزه من جنس البول فيجمع ذلك جميع أبوال جميع الدواب والحيوان الناطق والبهيم ما يؤكل وما لا يؤكل فيدخل بول الأنعام في هذا العموم وهو المقصود
وهذا قد اعتمد عليه بعض من يدعي الاستدلال بالسمع وبعض الرأي وارتضاه بعض من يتكايس وجعله مفزعا وموئلا
المسلك الثاني: النظري: وهو من ثلاثة أوجه:
أحدها: القياس على البول المحرم:
فنقول: بول وروث فكان نجسا كسائر الأبوال فيحتاج هذا القياس أن يبين أن مناط الحكم في الأصل هو أنه بول وروث
وقد دل على ذلك تنبيهات النصوص مثل قوله: [ اتقوا البول ]
وقوله: [ كان بنو إسرائيل إذا أصاب ثوب أحدهم البول قرضه بالمقراض ]
والمناسبة أيضا فإن البول والروث مستخبث مستقذر تعافه النفوس على أحد يوجب المباينة وهذا يناسب التحريم حملا للناس على مكارم الأخلاق ومحاسن الأحوال وقد شهد له بالاعتبار تنجس أرواث الخبائث
الثاني: أن نقول إذا فحصنا وبحثنا عن الحد الفاصل بين النجاسات والطهارات وجدنا ما استحال في أبدان الحيوان عن أغذيتها فما صار جزءا فهو طيب الغذاء وما فضل فهو خبيثه ولهذا يسمى رجيعا كأنه أخذ ثم رجع أي رد
فما كان من الخبائث يخرج من الجانب الأسفل: كالغائط والبول والمني والوذي والودي فهو نجس
وما خرج من الجانب الأعلى: كالدمع والريق والبصاق والمخاط ونخامة الرأس فهو طاهر
وما تردد: كبلغم المعدة ففيه تردد
وهذا الفصل بين ما خرج من أعلى البدن وأسفله قد جاء عن سعيد بن المسيب ونحوه وهو كلام حسن في هذا المقام الضيق الذي لم يفقه كل الفقه حتى زعم زاعمون أنه تعبد محض وابتلاء وتمييز بين من يطيع وبين من يعصي
وعندنا أن هذا الكلام لا حقيقة له بمفرده حتى يضم إليه أشياء أخر فرق من فرق بين ما استحال من معدة الحيوان: كالروث والقيء وما استحال في معدته: كاللبن
وإذا ثبت ذلك: فهذه الأبوال والأرواث مما يستحيل في بدن الحيوان ويصنع طيبه ويخرج خبيثه من جهة دبره وأسفله ويكون نجسا فإن فرق بطيب لحم المأكول وخبث لحم المحرم فيقال: طيب الحيوان وشرفه وكرمه لا يوجب طهارة روثه فإن الإنسان إنما حرم لحمه كرامة له وشرفا ومع ذلك فبوله أخبث الأبوال - ألا ترى أنكم تقولون أن مفارقة الحياة لا تنجسه وأن ما أبين منه وهو حي فهو طاهر أيضا كما جاء في الأثر وإن لم يؤكل لحمه فلو كان إكرام الحيوان موجبا لطهارة روثه لكان الإنسان في ذلك القدح المعلى وهذا سر المسألة ولبابها
الوجه الثالث: أنه في الدرجة السفلى من الاستخباث والطبقة النازلة من الاستقذار كما شهد به أنفس الناس وتجده طبائعهم وأخلاقهم حتى لا يكاد نجد أحدا ينزله منزلة در الحيوان ونسله وليس لنا إلا طاهر أو نجس وإذا فارق الطهارات دخل في النجاسات والغالب عليه أحكام النجاسات من مباعدته ومجانبته فلا يكون طاهرا لأن العين إذا تجاذبتها الأصول لحقت بأكثرها شبها وهو متردد بين اللبن وبين غيره من البول وهو بهذا أشبه ويقوي هذا أنه قال تعالى: { من بين فرث ودم لبنا خالصا }
قد ثبت أن الدم نجس فكذلك الفرث لتظهر القدرة والرحمة في إخراج طيب من بين خبيثين ويبين هذا جميعه أنه يوافق غيره من البول في خلقه ولونه وريحه وطعمه فكيف يفرق بينهما مع هذه الجوامع التي تكاد تجعل حقيقة أحدهما حقيقة الآخر
فالوجه الأول: قياس التمثيل وتعليق الحكم بالمشترك المدلول عليه
والثاني: قياس التعلل بتنقيح مناط الحكم وضبط أصلي كلي
والثالث: التفريق بينه وبين جنس الطاهرات فلا يجوز إدخاله فيها فهذه أنواع القياس أصل ووصل وفصل
فالوجه الأول: هو الأصل والجمع بينه وبين غيره من الأخباث
والثاني: هو الأصل والقاعدة والضابط الذي يدخل فيه
والثالث الفصل بينه وبين غيره من الطاهرات وهو قياس العكس
فالجواب عن هذه الحجج والله المستعان
أما المسلك الأول فضعيف جدا لوجهين: أحدهما: أن اللام في البول للتعريف فتفيد ما كان معروفا عند المخاطبين فإن كان المعروف واحدا معهودا فهو المراد وما لم يكن ثم عهد بواحد أفادت الجنس إما جميعه على المرتضى أو مطلقه على رأي بعض الناس وربما كانت كذلك وقد نص أهل المعرفة باللسان والنظر في دلالات الخطاب أنه لا يصار إلى تعريف الجنس إلا إذا لم يكن ثم شيء معهود فأما إذا كان ثم شيء معهود مثل قوله تعالى: { كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول }
صار معهودا بتقدم ذكره
وقوله: { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم }
هو معين لأنه معهود بتقدم معرفته وعلمه فإنه لا يكون لتعريف جنس ذلك الإسم حتى ينظر فيه هل يفيد تعريف عموم الجنس أو مطلق الجنس
فافهم هذا فإنه من محاسن المسالك
فإن الحقائق ثلاثة: عامة وخاصة ومطلقة
فإذا قلت: الإنسان قد تريد جميع الجنس وقد تريد مطلق الجنس وقد تريد شيئا بعينه من الجنس فأما الجنس العام فوجوده في القلوب والنفوس علما ومعرفة وتصورا وأما الخاص من الجنس مثل زيد وعمرو فوجوده هو حيث حل وهو الذي يقال له وجود في الأعيان وفي خارج الأذهان وقد يتصور هكذا في القلب خاصا متميزا وأما الجنس المطلق مثل: الإنسان المجرد عن عموم وخصوص الذي يقال له نفس الحقيقة ومطلق الجنس فهذا كما لا يتقيد في نفسه لا يتقيد بمحله إلا أنه لا يدرك إلا بالقلوب فتجعل محلا له بهذا الاعتبار وربما جعل موجودا في الأعيان باعتبار أن في كل إنسان حظا من مطلق الإنسانية فالموجود في العين المعينة من النوع حظها وقسطها
فإذا تبين هذا فقوله: فإنه كان لا يستنزه من البول بيان للبول المعهود وهو الذي كان يصيبه وهو بول نفسه يدل على هذا أيضا سبعة أوجه:
أحدها: ما روي فإنه كان لا يستبرئ من البول والاستبراء لا يكون إلا من بول نفسه لأنه طلب براءة الذكر كاستبراء الرحم من الولد
الثاني: أن اللام تعاقب الإضافة فقوله: من بول كقوله: من بوله وهذا مثل قوله: ( مفتحة لهم الأبواب ) أي أبوابها
الثالث: أنه قد روي هذا الحديث من وجوه صحيحة: فكان لا يستتر من بوله وهذا يفسر تلك الرواية
ثم هذا الاختلاف في اللفظ متأخر عن منصور روى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس ومعلوم إن المحدث لا يجمع بين هذين اللفظين والأصل والظاهر عدم تكرر قول النبي ﷺ فعلم أنهم رووه بالمعنى ولم يبن أي اللفظين هو الأصل
ثم إن كان النبي ﷺ قد قال اللفظين مع أن معنى أحدهما يجوز أن يكون موافقا لمعنى الآخر ويجوز أن يكون مخالفا فالظاهر الموافقة
يبين هذا: أن الحديث في حكاية حال لما مر النبي ﷺ بقبرين ومعلوم أنها قضية واحدة
الرابع: أنه إخبار عن شخص بعينه أن البول كان يصيبه ولا يستتر منه ومعلوم أن الذي جرت العادة به بول نفسه
الخامس: أن الحسن قال: البول كله نجس وقال: أيضا: لا بأس بأبوال الغنم فعلم أن البول المطلق عنده هو بول الإنسان
السادس: أن هذا هو المفهوم للسامع تجرد قلبه عن الوسواس والتمريح فإنه لا يفهم من قوله: فإنه كان لا يستتر من البول إلا بول نفسه ولو قيل انه لم يخطر لأكثر الناس على بالهم جميع الأبوال من بول بعير وشاة وثور لكان صدقا
السابع: أن يكفي بأن يقال: إذا احتمل أن يريد بول نفسه لأنه المعهود وأن يريد جميع جنس البول لم يجز حمله على أحدهما إلا بدليل فيقف الاستدلال وهذا لعمري تنزل وإلا فالذي قدمنا أصل مستقر من أنه يجب حمله على البول المعهود وهو نوع من أنواع البول وهو بول نفسه الذي يصيبه غالبا ويترشرش على أفخاذه وسوقه وربما استهان بإنقائه ولم يحكم الاستنجاء منه
فأما بول غيره من الآدميين فإن حكمه وإن ساوى حكم بول نفسه فليس ذلك من نفس هذه الكلمة بل لاستوائهما في الحقيقة والاستواء في الحقيقة يوجب الاستواء في الحكم
ألا ترى أن أحدا لا يكاد يصيبه بول غيره ولو أصابه لساءه ذلك والنبي ﷺ إنما أخبر عن أمر موجود غالب في هذا الحديث وهو قوله:
[ اتقوا البول فإن عامة عذاب القبر منه ]
فكيف يكون عامة عذاب القبر من شيء لا يكاد يصيب أحدا من الناس؟ وهذا بين لا خفاء به
الوجه الثاني: أنه لو كان عاما في جميع الأبوال فسوف نذكر من الأدلة الخاصة على طهارة هذا النوع ما يوجب اختصاصه من هذا الاسم العام ومعلوم من الأصول المستقرة إذا تعارض الخاص والعام فالعمل بالخاص أولى لأن ترك العمل به إبطال له وإهدار والعمل به ترك لبعض معاني العام وليس استعمال العام وإرادة الخاص ببدع في الكلام بل هو غالب كثير
ولو سلمنا التعارض على التساوي من هذا الوجه فإن في أدلتنا من الوجوه الموجبة للتقديم والترجيح وجوها أخرى من الكثرة والعمل وغير ذلك مما سنبينه إن شاء الله تعالى
ومن عجيب ما اعتمد عليه بعضهم قوله ﷺ:[ أكثر عذاب القبر من البول ]
والقول فيه كالقول فيما تقدم مع أنا نعلم إصابة الإنسان بول غيره قليل نادر وإنما الكثير إصابته بول نفسه ولو كان أراد أن يدرج بوله في الجنس الذي يكثر وقوع العذاب بنوع منه لكان بمنزلة قوله: أكثر عذاب القبر من النجاسات
واعتمد أيضا على قوله ﷺ: [ لا يصلي أحدكم بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان ]
يعني البول والنجو
وزعم أن هذا يفيد تسمية كل بول ونجو أخبث والأخبث حرام نجس وهذا في غاية السقوط فإن اللفظ ليس فيه شمول لغير ما يدافع أصلا
وقوله: ان الاسم يشمل الجنس كله فيقال له وما الجنس العام أكل بول ونجو؟ أم بول الإنسان ونجوه؟ وقد علم أن الذي يدافع كل شخص من جنس الذي يدافع غيره فأما ما لا يدافع أصلا فلا مدخل له في الحديث فهذه عمدة المخالف
وأما المسلك النظري: فالجواب عنه من طريقين مجمل ومفصل:
أما المفصل فالجواب عنه الوجه الأول من وجهين
أحدهما: لا نسلم أن العلة في الأصل أنه بول وروث وما ذكروه من تنبيه النصوص فقد سلف الجواب: بأن المراد بها بول الإنسان وما ذكروه من المناسبة فنقول: التعليل إما أن يكون بجنس استخباث النفس واستقدارها أو بقدر محدود من الاستخباث والاستقذار
فإن كان الأول وجب تنجيس كل مستخبث مستقذر فيجب نجاسة المخاط والبصاق والنخامة بل نجاسة المني الذي جاء الأثر بإماطته من الثياب بل ربما نفرت النفوس عن بعض هذه الأشياء أشد من نفورها عن أرواث المأكول من البهائم مثل مخطة المجذوم إذا اختلط بالطعام ونخامة الشيخ الكبير إذا وضعت في الشراب وربما كان ذلك مدعاة لبعض الأنفس إلى أن يذرعه القيء
وإن كان التعليل بقدر موقت من الاستقذار فهذا قد يكون حقا لكن لا بد من بيان الحد الفاصل بين القدر من الاستخباث الموجب للتنجيس وبين ما لا يوجب ولم يبين ذلك ولعل هذه الأعيان مما ينقض بيان استقذارها الحد المعتبر
ثم أن التقديرات في الأسباب والأحكام إنما تعلم من جهة إستقذارها عن الشرع في الأمر الغالب فنقول: متى حكم بنجاسة نوع علمنا أنه مما غلط استخباثه ومتى لم يحكم بنجاسة نوع علمنا أنه لم يغلظ استخباثه فنعود مستدلين بالحكم على المعتبر من العلة فمتى استربنا في الحكم فنحن في العلة أشد استرابة كبطل هذا
وأما الشاهد بالاعتبار فكما أنه شهد لجنس الاستخباث شهد للاستخباث الشديد والاستقذار الغليظ
وثانيهما: أن نقول: لم لا يجوز أن تكون العلة في الأصل أنه بول ما يؤكل لحمه وهذه علة مطردة بالاجماع منا ومن المخالفين هذه المسألة والانعكاس إن لم يكن واجبا فقد حصل الغرض وإن كان شرطا في العلل فنقول فيه ما قالوا في إطراد العلة الأولى حيث خولفوا فيه وعدم الانعكاس أيسر من عدم الإطراد
وإذا افترق الصنفان في اللحم والعظم واللبن والشعر فلم لا يجوز افتراقهما في الورث والبول وهذه المناسبة أبين فإن كل واحد من هذه الأجزاء هو بعض من أبعاض البهيمة أو متولد منها فيلحق سائرها قياسا لبعض الشيء على جملته
فإن قيل هذا منقوض بالإنسان فإنه طاهر ولبنه طاهر وكذلك سائر أمواهه وفضلاته ومع هذا فروثه وبوله من أخبث الأخباث فحصل الفرق فيه بين البول وغيره
فنقول: إعلم أن الإنسان فارق غيره من الحيوان في هذا الباب طردا وعكسا فقياس البهائم بعضها ببعض وجعلها في حيز يباين حيز الإنسان وجعل الإنسان في حيز هو الواجب
ألا ترى أنه لا ينجس بالموت على المختار وهي تنجيس بالموت ثم بوله أشد من بولها؟
ألا ترى أن تحريمه مفارق لتحريم غيره من الحيوان لكرم نوعه وحرمته حتى يحرم الكافر وغيره وحتى لا يحل أن يدبغ جلده مع أن بوله أشد وأغلظ
فهذا وغيره يدل على أن بول الإنسان فارق سائر فضلاته أشد من مفارقة بول البهائم فضلاتها إما لعموم ملابسته حتى لا يستخف أو لغير ذلك مما الله أعلم به على أنه يقال في عذرة الإنسان وبوله من الخبث والنتن والقذر ما ليس في عامة الأبوال والأرواث
وفي الجملة: فإلحاق الأبوال باللحوم الأبوال باللحوم في الطهارة والنجاسة أحسن طردا من غيره والله أعلم
وأما الوجه الثاني: فنقول ذلك الأصل في الآدميين مسلم والذي جاء عن السلف إنما جاء فيهم من الاستحالة في أبدانهم وخروجه من الشق الأعلى أو الأسفل فمن أين يقال: كذلك سائر الحيوان وقد مضت الإشارة إلى الفرق؟
ثم مخالفوهم يمنعوهم أكثر الأحكام في البهائم فيقولون: قد ثبت أن ما خبث لحمه خبث لبنه ومنيه بخلاف الآدمي فبطلت هذه القاعدة في الاستحالة بل قد يقولون أن جميع الفضلات الرطبة من البهائم حكمها سواء فما طاب لحمه طاب لبنه وبوله وروثه ومنيه وعرقه وريقه ودمعه وما خيث لحمه خبث لبنه وريقه وبوله وروثه ومنيه وعرقه ودمعه وهذا قول يقوله أحمد في المشهور عنه وقد قاله غيره
وبالجملة: فاللبن والمني يشهد لهم بالفرق بين الإنسان والحيوان شهادة قاطعة وباستواء الفضلات من الحيوان ضربا من الشهادة
فعلى هذا يقال للإنسان: يفرق بين ما يخرج من أعلاه وأسفله لما الله أعلم به فإنه منتصب القامة نجاسته كلها في أعاليه ومعدته التي هي محل استحالة الطعام والشراب في الشق الأسفل وأما الثدي ونحوه فهو في الشق الأعلى وليس كذلك البهيمة فإن ضرعها في الجانب المؤخر منها وفيه اللبن الطيب ولا مطمع في إثبات الأحكام بمثل هذه الحزورات
وأما الوجه الثالث: فمداره على الفصل بينه وبين غيره من الطاهرات فإن فصل بنوع الاستقذار بطل بجميع المستقذرات التي ربما كانت أشد استقذارا منه وإن فصل بقدر خاص فلا بد من توقيته وقد مضى تقرير هذا
وأما الجواب العام فمن أوجه ثلاثة:
أحدها: أن هذا قياس في مقابلة الآثار المنصوصة وهو قياس فاسد الوضع من جمع بين ما فرقت السنة بينه فقد ضاهى قول الذين قالوا:
{ إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا }
ولذلك طهرت السنة هذا ونجست هذا
الثاني: أن هذا قياس في باب لم تظهر أسبابه وأنواطه ولم يتبين مأخذه وما بل الناس فيه على قسمين:
إما قائل يقول: هذا استعباد محض وابتلاء صرف فلا قياس ولا إلحاق ولا اجتماع ولا افتراق
وإما قائل يقول: دقت علينا علله وأسبابه وخفيت علينا مسالكه ومذاهبه وقد بعث الله إلينا رسولا يزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة بعثه إلينا ونحن لا نعلم شيئا فإنما نصنع ما رأيناه يصنع والسنة لا تضرب لها الأمثال ولا تعارض بآراء الرجال والدين ليس بالرأي ويجب أن يتهم الرأي على الدين والقياس في مثل هذا الباب ممتنع باتفاق أولي الألباب
الثالث: أن يقال: هذا كله مداره على التسوية بين بول ما يؤكل لحمه وبول ما لا يؤكل لحمه وهو جمع بين شيئين متفرقين فإن ريح المحرم خبيثه وأما ريح المباح فمنه ما قد يستطاب مثل: أرواث الظباء وغيرها وما لم يستطاب منه فليس ريحه كريح غيره وكذلك خلقه غالبا فإنه يشتمل على أشياء من المباح وهذا لأن الكلام في حقيقة المسألة وسنعود إليه إن شاء الله في آخرها
الدليل الثاني: الحديث المستفيض أخرجه أصحاب الصحيح وغيرهم: حديث أنس بن مالك: [ أن ناسا من عكل أو عرينة قدموا المدينة فاجتووها فأمر لهم النبي ﷺ بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا قتلوا راعي النبي ﷺ واستاقوا الذود ] - وذكر الحديث
فوجه الحجة أنه أذن لهم في شرب الأبوال ولا بد أن يصيب أفواههم وأيديهم وثيابهم وآنيتهم فإذا كانت نجسة وجب تطهير أفواههم وأيديهم وثيابهم للصلاة وتطهير آنيتهم فيجب بيان ذلك لهم لأن تأخير البيان عن وقت الاحتياج إليه لا يجوز ولم يبين لهم النبي ﷺ أنه يجب عليهم إماطة ما أصابهم منه فدل على أنه غير نجس ومن البين أن لو كانت أبوال الإبل كأبوال الناس لأوشك أن يشتد تغليظه في ذلك ومن قال أنهم كانوا يعلمون أنها نجسة وأنهم كانوا يعلمون وجوب التطهير من النجاسات فقد أبعد غاية الإبعاد وأتى بشيء قد يستيقن بطلانه لوجوه:
أحدها: أن الشريعة أولى ما شرعت كانت أخفى وبعد انتشار الإسلام وتناقل العلم وإفشائه صارت أبدى وأظهر وإذا كنا إلى اليوم لم يستبن لنا نجاستها بل أكثر الناس على طهارتها وعامة التابعين عليه
بل قد قال أبو طالب وغيره: إن السلف ما كانوا ينجسونها ولا يتقونها
وقال أبو بكر بن المنذر: وعليه اعتماد أكثر المتأخرين في نقل الإجماع والخلاف وقد ذكر طهارة الأبوال عن عامة السلف ثم قال: قال الشافعي: الأبوال كلها نجس قال: ولا نعلم أحدا قال قبل الشافعي أن أبوال الأنعام وأبعارها نجس
قلت: وقد نقل عن ابن عمر أنه سئل عن بول الناقة فقال: أغسل ما أصابك منه
وعن الزهري فيما يصيب الراعي من أبوال الإبل قال: ينضح
وعن حماد بن أبي سليمان في بول الشاة والبعير: يغسل
ومذهب أبي حنيفة نجاسة ذلك على تفصيل لهم فيه فلعل الذي أراده ابن المنذر القول بوجوب اجتناب قليل البول والروث وكثيره فإن هذا لم يبلغنا عن أحد من السلف ولعل ابن عمر أمر بغسله كما يغسل الثوب من المخاط والبصاق والمني ونحو ذلك
وقد ثبت عن أبي موسى الأشعري: أنه صلى على مكان فيه روث الدواب والصحراء أمامه وقال: ههنا وههنا سواء
وعن أنس بن مالك: لا بأس ببول كل ذي كرش
ولست أعرف عن أحد من الصحابة القول بنجاستها بل القول بطهارتها إلا ما ذكر عن ابن عمر إن كان أراد النجاسة
فمن أين يكون ذلك معلوما لأولئك؟
وثانيها: أنه لو كان نجسا فوجوب التطهر من النجاسة ليس من الأمورالبينة قد أنكره في الثياب طائفة من التابعين وغيرهم
فمن أين يعلمه أولئك؟
وثالثها: أن هذا لو كان مستفيضا بين ظهراني الصحابة لم يجب أن يعلمه أولئك لأنهم حديثوا العهد بالجاهلية والكفر فقد كانوا يجهلون أصناف الصلوات وأعدادها وأوقاتها وكذلك غيرها من الشرائع الظاهرة فجهلهم بشرط خفي في أمر خفي أولى وأحرى لا سيما والقوم لم يتفقهوا في الدين أدنى تفقه ولذلك ارتدوا ولم يخالطوا أهل العلم والحكمة بل حين أسلموا وأصابهم الاستيخام أمرهم بالبداوة
فيا ليت شعري من أين لهم العلم بهذا الأمر الخفي؟
ورابعها: أن النبي ﷺ لم يكن في تعليمه وإرشاده واكلا للتعليم إلى غيره بل يبين لكل واحد ما يحتاج إليه وذلك معلوم لمن أحسن المعرفة بالسنن الماضية
وخامسها: أنه ليس العلم بنجاسة هذه الأرواث أبين من العلم بنجاسة بول الإنسان الذي قد علمه العذارى في حجالهن وخدورهن ثم قد حذر منه للمهاجرين والأنصار الذين أتوا العلم والإيمان فصار الأعراب الجفاة أعلم بالأمور الخفية من المهاجرين والأنصار بالأمور الظاهرة فهذا كما ترى
وسادسها: أنه فرق بين الأبوال والألبان وأخرجهما مخرجا واحدا والقرآن بين الشيئين إن لم يوجب استواءهما فلا بد أن يورث شبهة فلو لم يكن البيان واجبا لكانت المفارقة بينه وبين الطاهر موجبة للتمييز بينهما إن كان التمييز حقا ومن الحديث دلالة أخرى فيها تنازع وهو: أنه أباح لهم شربها ولو كانت محرمة نجسة لم يبح لهم شربها ولست أعلم مخالفا في جواز التداوي بأبوال الإبل كما جاءت السنة لكن اختلفوا في تخريج مناطه
فقيل: هو أنها مباحة على الإطلاق للتداوي وغير التداوي
وقيل: بل هي محرمة وإنما أباحها للتداوي
وقيل: هي مع ذلك نجسة
والاستدلال بهذا الوجه يحتاج إلى ركن آخر وهو أن التداوي بالمحرمات النجسة محرم والدليل عليه من وجوه:
أحدها: أن الأدلة الدالة على التحريم مثل قوله: { حرمت عليكم الميتة }
وكل ذي ناب من السباع حرام
و{ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس }
عامة في حال التداوي وغير التداوي فمن فرق بينهما فقد فرق بين ما جمع الله بينه وخص العموم وذلك غير جائز
فإن قيل: فقد أباحها للضرورة والمتداوي مضطر فتباح له أو أنا نقيس إباحتها للمريض على إباحتها للجائع بجامع الحاجة إليها
يؤيد ذلك أن المرض يسقط الفرائض من القيام في الصلاة والصيام في شهر رمضان والانتقال من الطهارة بالماء إلى الطهارة بالصعيد فكذلك يبيح المحارم لأن الفرائض والمحارم من واد واحد
يؤيد ذلك أن المحرمات من الحلية واللباس مثل: الذهب والحرير قد جاءت السنة بإباحة إتخاذ الأنف من الذهب وربط الأسنان به ورخص للزبير وعبد الرحمن في لباس الحرير من حكة كانت بهما فدلت هذه الأصول الكثيرة على إباحة المحظورات حين الاحتياج والافتقار إليها
قلت: أما إباحتها للضرورة فحق وليس التداوي بضرورة لوجوه:
أحدها: أن كثيرا من المرضى أو أكثر المرضى يشفون بلا تداو لا سيما في أهل الوبر والقرى والساكنين في نواحي الأرض يشفيهم الله بما خلق فيهم من القوى المطبوعة في أبدانهم الرافعة للمرض وفيما ييسره لهم من نوع حركة وعمل أو دعوة مستجابة أو رقية نافعة أو قوة للقلب وحسن التوكل إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة غير الدواء وأما الأكل فهو ضروري ولم يجعل الله أبدان الحيوان تقوم إلا بالغذاء فلو لم يكن لمات فثبت بهذا أن التداوى ليس من الضرورة في شيء
وثانيها: أن الأكل عند الضرورة واجب
قال مسروق: من اضطر إلى الميتة فلم يأكل فمات دخل النار
والتداوي غير واجب ومن نازع فيه: [ خصمته السنة في المرأة السوداء التي خيرها النبي ﷺ بين الصبر على البلاء ودخول الجنة وبين الدعاء بالعافية فاختارت البلاء والجنة ] ولو كان رفع المرض واجبا لم يكن للتخيير موضع كدفع الجوع وفي دعائه لأبي بالحمى وفي اختياره الحمى لأهل قباء وفي دعائه بفناء أمته بالطعن والطاعون وفي نهيه عن الفرار من الطاعون وخصمه حال أنبياء الله المبتلين الصابرين على البلاء حين لم يتعاطوا الأسباب الدافعة له مثل أيوب عليه السلام وغيره وخصمه حال السلف الصالح
فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حين قالوا له: ألا ندعو لك الطبيب قال: قد رآني قالوا: فما قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد
ومثل هذا ونحوه يروى عن الربيع بن خيثم المخبت المنيب الذي هو أفضل الكوفيين أو كأفضلهم وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الهادي المهدي وخلق كثير لا يحصون عددا
ولست أعلم سالفا أوجب التداوي وإنما كان كثير من أهل الفضل والمعرفة يفضل تركه تفضلا واختيارا لما اختار الله ورضي به وتسليما له وهذا المنصوص عن أحمد وإن كان من أصحابه من يوجبه ومنهم من يستحبه ويرجحه كطريقة كثير من السلف استمساكا لما خلقه الله من الأسباب وجعله من سننه في عباده
وثالثها: أن الدواء لا يستيقن بل وفي كثير من الأمراض لا يظن دفعه للمرض إذ لو اطرد ذلك لم يمت أحد بخلاف دفع الطعام للمسغبة والمجاعة فإنه مستيقن بحكم سنة الله في عباده وخلقه
ورابعها: أن المرض يكون له أدوية شتى فإذا لم يندفع به المحرم انتقل إلى المحلل ومحال أن لا يكون له في الحلال شفاء أو دواء والذي أنزل الداء أنزل لكل داء دواء إلا الموت ولا يجوز أن يكون أدوية الأدواء في القسم المحرم وهو سبحانه الرؤوف الرحيم
وإلى هذا الإشارة بالحديث المروي: [ إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ]
بخلاف المسغبة فإنها وإن اندفعت بأي طعام اتفق إلا أن الخبيث إنما يباح عند فقد غيره فإن صورت مثل هذا في الدواء فتلك صورة نادرة لأن المرض أندر من الجوع بكثير وتعين الدواء المعين وعدم غيره نادر فلا ينتقض هذا على أن في الأوجه السالفة غنى
وخامسها: وفيه فقه الباب: أن الله تعالى جعل خلقه مفتقرين إلى الطعام والغذاء لا تندفع مجاعتهم ومسغبتهم إلا بنوع الطعام وصنفه فقد هدانا وعلمنا النوع الكاشف للمسغبة المزيل للمخمصة وأما المرض فإنه يزيله بأنواع كثيرة من الأسباب: ظاهرة وباطنة روحانية وجسمانية فلم يتعين الدواء مزيلا ثم الدواء بنوعه لم يتعين لنوع من أنواع الأجسام في إزالة الداء المعين ثم ذلك النوع المعين يخفى على أكثر الناس بل على عامتهم دركه ومعرفته الخاصة المزاولون منهم هذا الفن أولوا الأفهام والعقول يكون الرجل منهم قد أفنى كثيرا من عمره في معرفته ذلك ثم يخفى عليه نوع المرض وحقيقته ويخفى عليه دواؤه وشفاؤه ففارقت الأسباب المزيلة للمرض الأسباب المزيلة للمخمصة في هذه الحقائق البينة وغيرها فكذلك افترقت أحكامها كما ذكرنا وبهذا ظهر الجواب عن الأقيسة المذكورة
والقول الجامع فيما يسقط ويباح للحاجة والضروره ما حضرني الآن أما سقوط ما يسقط من القيام والصيام والاغتسال فلأن منفعة ذلك مستيقنة بخلاف التداوي
وأيضأ فإن ترك المأمور به أيسر من فعل المنهي عنه قال النبي ﷺ: [ إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ]
فانظر كيف أوجب الاجتناب عن كل منهي عنه وفرق في المأمور به بين المستطاع وغيره وهذا يكاد يكون دليلا مستقلا في المسألة
وأيضا فإن الواجبات من القيام والجمعة والحج تسقط بأنواع من المشقة التي لا تصلح لاستباحة شيء من المحظورات وهذا بين بالتأمل
وأما الحلية: فإنما أبيح الذهب للأنف وربط الأسنان لأنه اضرار وهو يسد الحاجة يقينا كالأكل في المخمصة
وأما لبس الحرير: للحكة والجرب إن سلم ذلك فإن الحرير والذهب ليسا محرمين على الإطلاق فإنهما قد أبيح لأحد صنفي المكلفين وأبيح للصنف الآخر بعضهما وأبيح التجارة فيهما وإهداؤهما للمشركين فعلم أنهما أبيحا لمطلق الحاجة والحاجة إلى التداوي أقوى من الحاجة إلى تزين النساء بخلاف المحرمات من النجاسات وأبيح أيضا لحصول المصلحة بذلك في غالب الأمر
ثم الفرق بين الحرير والطعام: أن باب الطعام يخالف باب اللباس لأن تأثير الطعام في الأبدان أشد من تأثير اللباس على ما قد مضى فالمحرم من الطعام لا يباح إلا للضرورة التي هي المسغبة والمخمصة والمرحم من اللباس يباح للضرورة وللحاجة أيضا هكذا جاءت السنة ولا جمع بين ما فرق الله بينه والفرق بين الضرورات والحاجات معلوم في كثير من الشرعيات وقد حصل الجواب عن كل ما يعارض به في هذه المسألة