10 - 547 - مسألة: سئل رضي الله عنه عن السكران غائب العقل هل يحنث إذا حلف بالطلاق أم لا؟
أجاب رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين هذه المسألة فيها قولان للعلماء: أصحهما أنه لا يقع طلاقه فلا تنعقد يمين السكران ولا يقع أية طلاق إذا طلق هذا ثابت عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ولم يثبت عن الصحابة خلافه فيما أعلم وهو قول كثير من السلف والخلف كعمر بن عبد العزيز وغيره وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وهو القول القديم للشافعي واختاره طائفة من أصحابه وهو قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة كالطحاوي وهو مذهب غير هؤلاء
وهذا القول هو الصواب فإنه قد ثبت في الصحيح عن ماعز بن مالك لما جاء إلى النبي ﷺ وأقر أنه زنى أمر النبي ﷺ أن يستنكهوه ليعلموا هل هو سكران أم لا فإن كان سكرانا لم يصح إقراره وإذا لم يصح إقراره علم أن أقواله باطلة كأقوال المجنون ولأن السكران وإن كان عاصيا في الشرب فهو لا يعلم ما يقول وإذا لم يعلم ما يقول لم يكن له قصد صحيح: [ وإنما الأعمال بالنيات ] وصار هذا كما لو تناول شيئا محرما جعله مجنونا فإن جنونه وإن حصل بمعصية فلا يصح طلاقه ولا غير ذلك من أقواله ومن تأمل أصول الشريعة ومقاصدها تبين له أن هذا القول هو الصواب
وإن إيقاع الطلاق بالسكران قول ليس له حجة صحيحة يعتمد عليها ولهذا كان كثير من محققي مذهب مالك والشافعي كأبي الوليد الباجي وأبي المعالي الجويني يجعلون الشرائع في النشوان فأما الذي علم أنه لا يدري ما يقول فلا يقع به طلاق بلا ريب والصحيح أنه لا يقع الطلاق إلا ممن يعلم ما يقول كما أنه لا تصح صلاته في هذه الحالة فمن لا تصح صلاته لا يقع طلاقه وقد قال تعالى: { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } والله أعلم
11 - 548 - مسألة: في الحلف بالطلاق: هذا مختصر ما ذكره الشيخ تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه فيما يجري غالبا على ألسنة الناس على سبيل اللجاج واللغو واليمين والتغليظ طلبا لإبعاد ما يكرهون فعله ذلك الوقت المحلوف فيه في قول الرجل: والطلاق يلزمني لا أفعل الشيء ثم يقصد فعله فيفعله ويجري قوله ذلك مجرى القسم واليمين لدخول واو القسم في قوله: والطلاق والالتزام بما لا يلزم إلا بطريقه
أجاب رحمه الله: الحمد لله نستعينه ونستغفره: إذا حلف الرجل بالطلاق فقال: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا أفعله أو الطلاق لازم لي لأفعله أو إن لم أفعله فالطلاق يلزمني أو لازم ونحو هذه العبارات التي تتضمن إلتزام الطلاق في يمينه ثم حنث في يمينه: فهل يقع به الطلاق؟ فيه قولان لعلماء المسلمين في المذاهب الأربعة وغيرها من مذاهب علماء المسلمين:
أحدهما: أنه لا يقع الطلاق وهذا منصوص عن أبي حنيفة نفسه وهو قول طائفة من أصحاب الشافعي: كالقفال وأبي سعيد المتولي صاحب التتمة وبه يفتي ويقضي في هذه الأزمنة المتأخرة طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وغيرهم من أهل السنة والشيعة في بلاد الشرق والجزيرة والعراق وخرسان والحجاز واليمن وغيرها وهو قول داود وأصحابه كابن حزم وغيره كانوا يفتون ويقضون في بلاد فارس والعراق والشام ومصر وبلاد المغرب إلى اليوم فإنهم خلق عظيم وفيهم قضاة ومفتون عدد كثير وهو قول طائفة من السلف: كطاووس وغير طاووس وبه يفتي كثير من علماء المغرب في هذه الأزمنة المتأخرة من المالكية وغيرهم وكان بعض شيوخ مصر يفتي بذلك وقد دل على ذلك كلام الإمام أحمد بن حنبل المنصوص عنه وأصول مذهبه في غير موضع
ولو حلف بالثلاث فقال: الطلاق يلزمني ثلاثا لأفعلن كذا ثم لم يفعل فكان طائفة من السلف والخلف من أصحاب مالك وأحمد بن حنبل وداود وغيرهم يفتون بأنه لا يقع به الثلاث لكن منهم من يوقع به واحدة وهذا منقول عن طائفة من الصحابة والتابعين وغيرهم في التنجيز فضلا عن التعليق واليمين وهذا قول من اتبعهم على ذلك من أصحاب مالك وأحمد وداود في التنجيز والتعليق والحلف
ومن السلف طائفة من أعيانهم فرقوا في ذلك بين المدخول بها وغير المدخول بها
والذين لم يوقعوا طلاقا بمن قال الطلاق يلزمني لأفعلن كذا: منهم من لا يوقع به طلاقا ولا يأمره بكفارة ومنهم من يأمره بكفارة وبكل من القولين أفتى كثير من العلماء قد بسطت أقوال العلماء في هذه المسائل وألفاظهم ومن نقل ذلك عنهم والكتب الموجود ذلك فيها والأدلة على هذه الأقوال في مواضع أخر تبلغ عدة مجلدات
وهذا بخلاف الذي ذكرته في مذهب أبي حنيفة والشافعي وهو فيما إذا حلف بصيغة اللزوم مثل قول الطلاق يلزمني ونحو ذلك وهذا النزاع في المذهبين سواء كان منجزا أو معلقا بشرط أو محلوفا به: ففي المذهبين: هل ذلك صريح؟ أو كناية؟ أو لا صريح ولا كناية فلا يقع به الطلاق وإن نواه؟ ثلاثة أقوال وفي مذهب أحمد قولان هل ذلك صريح أو كناية وأما الحلف بالطلاق أو التعليق الذي يقصد به الحلف: فالنزاع فيه من غيرهم بغير هذه الصيغة
فمن قال: إن من أفتى بأن الطلاق لا يقع في مثل هذه الصورة خالف الاجماع وخالف كل قول في المذاهب الأربعة فقد أخطأ واقتفى ما لا علم به وقد قال الله تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم } بل أجمع الأئمة الأربعة وأتباعهم وسائر الأئمة مثلهم على أنه من قضى بأنه لا يقع الطلاق في مثل هذه الصورة لم يجز نقض حكمه ومن أفتى به ممن هو من أهل الفتيا ساغ له ذلك ولم يجز الانكار عليه باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين ولا على من قلده ولو قضى أو أفتى بقول سائغ يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة في مسائل الإيمان والطلاق وغيرهما مما ثبت فيه النزاع بين علماء المسلمين ولم يخالف كتابا ولا سنة ولا معنى ذلك بل كان القاضي به والمفتي به يستدل عليه بالأدلة الشريعة كالاستدلال بالكتاب والسنة فإن هذا يسوغ له أن يحكم به ويفتي به
ولا يجوز باتفاق الأئمة الأربعة نقض حكمه إذا حكم ولا منعه من الحكم به ولا من الفتيا به ولا منع أحد من تقليده ومن قال: إنه يسوغ المنع من ذلك فقد خالف إجماع الأئمة الأربعة بل خالف إجماع المسلمين مع مخالفته لله ورسوله فإن الله تعالى يقول في كتابه: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فأمر الله المؤمنين بالرد فيما تنازعوا فيه إلى الله والرسول وهو الرد إلى الكتاب والسنة
فمن قال: إنه ليس لأحد أن يرد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة: بل على المسلمين اتباع قولنا دون القول الآخر من غير أن يقيم دليلا شرعيا كالاستدلال بالكتاب والسنة على صحة قوله فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع المسلمين وتجب استتابة مثل هذا وعقوبته كما يعاقب أمثاله فإذا كانت المسألة مما تنازع فيه علماء المسلمين وتمسك بأحد القولين لم يحتج على قوله بالأدلة الشرعية كالكتاب والسنة وليس مع صاحب القول الآخر من الأدلة الشرعية ما يبطل به قوله: لم يكن لهذا الذي ليس معه حجة تدل على صحة قوله أن يمنع ذلك الذي يحتج بالأدلة الشرعية باجماع المسلمين بل جوز أن يمنع المسلمون من القول الموافق للكتاب والسنة وأوجب على الناس اتباع القول الذي يناقضه بلا حجة شرعية توجب عليهم اتباع هذا القول وتحرم عليهم اتباع ذلك القول فإنه قد انسلخ من الدين تجب استتابته وعقوبته كأمثاله وغايته أن يكون جاهلا فيعذر بالجهل أولا حتى يتبين له أقوال أهل العلم ودلائل الكتاب والسنة فإن أصر بعد ذلك على مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين: فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل
وكل يمين من إيمان المسلمين غير اليمين بالله عز وجل: مثل الحلف بالطلاق والعتاق والظهار والحرام والحلف بالحج والمشي والصدقة والصيام وغير ذلك: فللعلماء فيها نزاع معروف عند العلماء سواء حلف بصيغة القسم فقال الحرام يلزمني: أو العتق يلزمني: لأفعلن كذا أو حلف بصيغة العتق فقال: إن فعلت كذا فعلي الحرام ونسائي طوالق أو فعبيدي أحرار أو مالي صدقة وعلي المشي إلى بيت الله تعالى
واتفقت الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين على أنه يسوغ للقاضي أن يقضي في هذه المسائل جميعها بأنه إذا حنث لا يلزمه ما حلف به بل إما أن لا يجب عليه شيء وإما أن تجزيه الكفارة ويسوغ للمفتي أن يقضي بذلك وما زال في المسلمين من يفتي بذلك من حين حدث الحلف بها وإلى هذه الأزمنة منهم من يفتي بالكفارة فيها ومنهم يفتي بأنه لا كفارة فيها ولا لزوم المحلوف به كما أن منهم من يفتي بلزوم المحلوف به وهذه الأقوال الثلاثة في الأمة من يفتي بها بالحلف بالطلاق والعتاق والحرام والنذر وأما إذا حلف بالمخلوقات كالكعبة والملائكة فإنه لا كفارة في هذا باتفاق المسلمين
فالأيمان ثلاثة أقسام: أما الحلف بالله ففيه الكفارة بالاتفاق وأما الحلف بالمخلوقات فلا كفارة فيه بالاتفاق إلا الحلف بالنبي ﷺ قولان في مذهب أحمد والجمهور أنه لا كفارة فيه وقد عدى بعض أصحاب ذلك إلى جميع النبيين وجماهير العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم على خلاف ذلك وأما ما عقد من الإيمان بالله تعالى وهو هذه الايمان فللمسلمين فيها ثلاثة أقوال وإن كان من الناس من ادعى الاجماع في بعضها: فهذا كما أن كثيرا من مسائل النزاع يدعى فيها الاجماع من لم يعلم النزاع ومقصوده أني لا أعلم نزاعا فمن علم النزاع وأثبته كان مثبتا عالما وهو مقدم على النافي الذي لا يعلمه باتفاق المسلمين
وإذا كانت المسألة مسألة نزاع في السلف والخلف ولم يكن مع من ألزم الحالف بالطلاق أو غيره نص كتاب ولا سنة ولا إجماع كان القول بنفي لزومه سائغا باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين بل هم متفقون على أنه ليس لأحد أن يمنع قاضيا يصلح للقضاء أن يقضي بذلك ولا يمنع مفتيا يصلح للفتيا أن يفتي بذلك بل هم يسوغون الفتيا والقضاء في أقوال ضعيفة لوجود الخلاف فيها فكيف يمنعون مثل هذا القول الذي دل عليه الكتاب والسنة والقياس الصحيح الشرعي والقول به ثابت عن السلف والخلف بل الصحابة الذين هم خير هذه الأمة ثبت عنهم أنهم أفتوا في الحلف بالعتق الذي هو أحب إلى الله تعالى من الطلاق: أنه لا يلزم الحالف به بل يجزيه كفارة يمين فكيف يكون قولهم في الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله؟ ! وهل يظن بالصحابة رضوان الله عليهم أنهم يقولون فيمن حلف بما يحبه الله من الطاعات كالصلاة والصيام والصدقة والحج أنه لا يلزمه أن يفعل هذه الطاعات بل يجزيه كفارة يمين ويقولون فيما لا يحبه الله بل يبغضه: إنه يلزم من حلف به
وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالكفر والإسلام أنه لا يلزمه كفر ولا إسلام فلو قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي وفعله لم يصر يهوديا بالاتفاق وهل يلزمه كفارة يمين؟ على قولين:
أحدهما: يلزمه: وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه
والثاني: لا يلزمه وهو قول مالك والشافعي ورواية عن أحمد وذهب بعض أصحاب أبي حنيفة إلى أنه إذا اعتقد أنه يصير كافرا إذا حنث وحلف به فإنه يكفر قالوا: لأنه مختار للكفر والجمهور قالوا: لا يكفر لأن قصده أن لا يلزمه الكفر فلبغضه له حلف به وهكذا كل من حلف بطلاق أو غيره إنما يقصد بيمينه أنه لا يلزمه لفرط بغضه له
وبهذا فرق الجمهور بين نذر التبرر ونذر اللجاج والغضب قالوا: لأن الأول قصده وجود الشرط والجزاء بخلاف الثاني فإذا قال: إن شفى الله مريضي فعلي عتق رقبة أو فعبدي حر: لزمه ذلك بالاتفاق وأما إذا قال: إن فعلت كذا فعلي عتق رقبة أو فعبدي حر وقصده أن لا يفعله فهذا موضع النزاع هل يلزمه العتق في الصورتين؟ أو لا يلزمه في الصورتين؟ أو يجزيه كفارة يمين؟ أو يجزيه الكفارة في تعليق الوجوب دون تعليق الوقوع؟ وهذه الأقوال الثلاثة في الطلاق
ولو قال اليهودي: إن فعلت كذا فأنا مسلم وفعله لم يصر مسلما بالاتفاق لأن الحالف حلف بما يلزمه وقوعه وهكذا إذا قال المسلم: إن فعلت كذا فنسائي طوالق وعبيدي أحرار وأنا يهودي وهو يكره أن يطلق نساءه ويعتق عبيده ويفارق دينه مع أن المنصوص عن الأئمة الأربعة وقوع العتق
ومعلوم أن سبعة من الصحابة مثل: ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعائشة وأم سلمة وحفصة وزينب ربيبة النبي ﷺ أجل من أربعة علماء المسلمين فإذا قالوا هم وأئمة التابعين أنه لا يلزمه العتق المحلوف به بل يجزيه كفارة يمين كان هذا القول مع دلالة الكتاب والسنة إنما يدل على هذا القول
فكيف يسوغ لمن هو من أهل العلم والإيمان أن يلزم أمة محمد ﷺ بالقول المرجوح في الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة الشرعية مع ما لهم [ من ] مصلحة دينهم ودنياهم فإن في ذلك من صيانة أنفسهم وحريمهم وأموالهم وأعراضهم وصلاح ذات بينهم وصلة أرحامهم واجتماعهم على طاعة الله ورسوله واستغنائهم عن معصية الله ورسوله: ما يوجب ترجيحه لمن لا يكون عارفا بدلالة الكتاب والسنة فكيف بمن كان عارفا بدلالة الكتاب والسنة فإن القائل بوقوع الطلاق ليس معه من الحجة ما يقاوم قول من نفي وقوع الطلاق
ولو اجتهد من اجتهد في إقامة دليل شرعي سالم عن المعارض المقاوم على وقوع الطلاق على الحالف لعجز عن ذلك كما عجز عن تحديد ذلك فهل يسوغ لأحد أن يأمر بما يخالف إجماع المسلمين ويخرج عن سبيل المؤمنين فإن القول الذي ذهب إليه بعض العلماء وهو لم يعارض نصا ولا إجماعا ولا ما في معنى ذلك ويقدم عليه الدليل الشرعي من الكتاب والسنة والقياس الصحيح ليس لأحد المنع من الفتيا به والقضاء به وإن لم يظهر رجحانه فكيف إذا ظهر رجحانه بالكتاب والسنة وبين ما لله فيه من المنة
فإن الله تعالى يقول: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وقال في كتابه: { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير ] وهذا مروي عن النبي ﷺ من وجوه كثيرة وفي مسلم من حديث أبي هريرة وعدي بن حاتم وأبي موسى الأشعري وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال لعبد الرحمن بن سمرة: [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: [ لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له من يعطي الكفارة التي فرس ] وقال البخاري: من استلج في أهله فهو أعظم إثما فقوله ﷺ يلج من اللجام ولهذا سميت هذه الأيمان نذر اللجاج والغضب
والألفاظ التي يتكلم بها الناس في الطلاق ثلاثة أنواع:
صيغة التنجيز والارسال: كقوله: أنت طالق أو مطلقة فهذا يقع به الطلاق باتفاق المسلمين
الثاني صيغة قسم: كقوله: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا أفعل كذا فهذا يمين باتفاق أهل اللغة واتفاق طوائف الفقهاء واتفاق العامة واتفاق أهل الأرض
الثالث صيغة تعليق: كقوله: إن فعلت كذا فامرأتي طالق فهذه إن كان قصده به اليمين - وهو الذي يكره وقوع الطلاق مطلقا كما يكره الانتقال عن دينه - إذا قال إن فعلت كذا فأنا يهودي أو يقول اليهودي: إن فعلت كذا فأنا مسلم فهو يمين حكمه حكم الأول الذي هو بصيغة القسم باتفاق الفقهاء
فإن اليمين هي ما تضمنت حضا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا بالتزام ما يكره الحالف وقوعه عند المخالفة فالحالف لا يكون حالفا إلا إذا كره وقوع الجزاء عند الشرط فإن كان يريد وقوع الجزاء عند الشرط لم يكن حالفا سواء كان يريد الشرط وحده ولا يكره الجزاء عند وقوعه أو كان يريد الجزاء عند وقوعه غير مريد له أو كان مريدا لهما فأما إذا كان كارها للشرط وكارها للجزاء مطلقا - يكره وقوعه وإنما التزمه عند وقوع الشرط ليمنع نفسه أو غيره
ما التزمه من الشرط أو ليحض بذلك - فهذا يمين
وإن قصد إيقاع الطلاق عند وجود الجزاء كقوله: إن أعطيتني ألفا فأنت طالق وإذا طهرت فأنت طالق وإذا زنيت فأنت طالق وقصده إيقاع الطلاق عند الفاحشة لا مجرد الحلف عليها فهذا ليس بيمين ولا كفارة في هذا عند أحد من الفقهاء فيما علمناه بل يقع به الطلاق إذا وجد الشرط عند السلف وجمهور الفقهاء
فاليمين التي يقصد بها الحض أو المنع أو التصديق أو التكذيب بالتزامه عند المخالفة ما يكره وقوعه - سواء كانت بصيغة القسم أو بصيغة الجزاء: يمين عند جميع الخلق من العرب وغيرهم فإن كون الكلام يمينا مثل كونه أمرا أو نهيا وخبرا
وهذا المعنى ثابت عند جميع الناس: العرب وغيرهم وإنما تتنوع اللغات في الألفاظ لا في المعاني بل ما كان معناه يمينا أو أمرا أو نهيا عند العجم فكذلك معناه يمين أو أمر أو نهي عند العرب وهذا أيضا يمين الصحابة رضوان الله عليهم وهو يمين في العرف العام ويمين عند الفقهاء كلهم
وإذا كان يمينا فليس في الكتاب والسنة لليمين إلا حكمان: إما أن تكون اليمين منعقدة محترمة ففيها الكفارة وإما أن لا تكون منعقدة محترمة - كالحلف بالمخلوقات: مثل الكعبة والملائكة وغير ذلك - فهذا لا كفارة فيه بالاتفاق فأما يمين منعقدة محترمة غير مكفرة: فهذا حكم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ﷺ ولا يقوم دليل شرعي سالم عن المعارض المقام فإن كانت هذه اليمين من ايمان المسلمين فقد دخلت في قوله تعالى للمسلمين: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وإن لم تكم من إيمانهم بل كانت من الحلف بالمخلوقات فلا يجب بالحنث لا كفارة ولا غيرها فتكون مهدرة
فهذا ونحوه من دلالة الكتاب والسنة والاعتبار يبين أن الالزام بوقوع الطلاق للحالف في يمينه حكم يخالف الكتاب والسنة وحسب القول الآخران يكون مما يسوغ الاجتهاد فأما أن يقال إنه لم يجب على المسلمين كلهم العمل بهذا القول ويحرم عليهم العمل بذلك القول: فهذا لا يقوله أحد من علماء المسلمين بعد أن يعرف ما بين المسلمين من النزاع والأدلة ومن قال بالقول المرجوح وخفي عليه القول الراجح كان حسبه أن يكون قوله سائغا لا يمنع من الحكم به والفتيا به
أما إلزام المسلمين بهذا القول ومنعهم من القول الذي دل عليه الكتاب والسنة: فهذا خلاف أمر الله ورسوله وعباده المؤمنين من الأئمة الأربعة وغيرهم فمن منع الحكم والفتيا بعدم وقوع الطلاق وتقليد من نفى بذلك فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين ولا يفعل ذلك إلا من لم يكن عنده علم فهذا حسبه أن يعذر لا يجب اتباعه ومعاند متبع لهواه لا يقبل الحق إذا ظهر له ولا يصغي لمن يقوله ليعرف ما قال بل يتبع هواه بغير هدى من الله { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } فإنه: إما مقلد وإما مجتهد فالمقلد لا ينكر القول الذي يخالف متبوعه إنكار من يقول هو باطل فإنه لا يعلم أنه باطل فضلا عن أن يحرم القول به ويوجب القول بقول سلفه والمجتهد ينظر ويناظر وهو مع ظهور قوله لا يسوغ قول منازعيه الذي ساغ فيه الاجتهاد وهو ما لم يظهر أنه خالف نصا ولا إجماعا فمن خرج عن حد التقليد السائغ والاجتهاد كان فيه شبه من الذين { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } وكان ممن أتبع هواه بغير هدى من الله
ومن قال إنه اتبع هذه الفتيا فولد له ولد بعد ذلك فهو ولد زنا كان هذا القائل في غاية الجهل والضلال والمشاقة لله ولرسوله
وعلى الجملة إذا كان الملتزم به قربة لله تعالى يقصد به القرب إلى الله تعالى لزمه فعله أو الكفارة ولو التزم ما ليس بقربة كالتطليق والبيع والإجارة ومثل ذلك: لم يلزمه بل يجزيه كفارة يمين عند الصحابة وجمهور المسلمين وهو قول الشافعي وأحمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وقول المحققين من أصحاب مالك لأن الحلف بالطلاق على وجه اليمين يكره وقوعه إذا وجد الشرط كما يكره وقوع الكفر فلا يقع وعليه الكفارة والله أعلم
12 - 549 - مسألة: في رجل تزوج بامرأة وفي ظاهر الحال أنه حر فأقامت في صحبته إحدى عشر سنة ثم طلقها ولم يردها وطالبته بحقوقها فقال: أنا مملوك يجب الحجر علي فهل يلزمه القيام بحق الزوجة على حكم الشرع الشريف في المذاهب الأربعة؟
الجواب: حق الزوجة ثابت لها المطالبة به لوجهين:
أحدهما: أن مجرد دعواه الرق لا يسقط حقها والحال ما ذكر فإن الأصل في الناس الحرية وإذا ادعى أنه مملوك بلا بينة ولم يعرف خلاف ذلك ففي قبول قوله ثلاثة أقوال للعلماء في مذهب أحمد وغيره:
أحدها: يقبل فيما عليه دون ماله على غيره كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في قول لهما
الثاني: لا يقبل بحال كقول من قال ذلك من المالكية وهو إحدى الروايتين عن أحمد
والثالث: يقبل قوله مطلقا وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد فإذا كان مع دعوى المدعي لرقه لا يقبل إقراره بما يسقط حقها عند جمهور أئمة الإسلام فكيف بمجرد دعواه الرق؟ وكيف وله خير وإقطاع وهو منتسب؟ وقد ادعى الحرية حتى زوج بها
الوجه الثاني: أنه لو قدر أنه كذب وليس عليها وادعى الحرية حتى تزوج بها ودخل فهذا قد جنى بكذبه وتلبيسه والرقيق إذا جنى تعلقت جنايته برقبته فلها أن تطلب حقها من رقبته إلا أن يختار سيده أن يفديه بأداء حقها فله ذلك
13 - 550 - مسألة: في رجل مالكي المذهب حصل له نكد بينه وبين والد زوجته فحضر قدام القاضي فقال الزوج لوالد الزوجة: إن أبرأتني ابنتك أوقعت عليها الطلاق فقال والدها: أنا أبرأتك فحضر الزوج ووالد الزوجة قدام بعض الفقهاء فأبرأه والدها بغير حضورها وبغير إذنها فهل يقع الطلاق أم لا؟
فأجاب: الحمد لله أصل هذه المسألة فيه نزاع بين العلماء فمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المنصوص المعروف عنهم: أنه ليس للأب أن يخالع على شيء من مال ابنته سواء كانت محجورا عليها أو لم تكن لأن ذلك تبرع بمالها فلا يملكه كما لا يملك إسقاط سائر ديونها ومذهب مالك يجوز له أن يخالع عن ابنته الصغيرة بكرا كانت أو ثيبا لكونه يلي مالها وروي عنه: أن له أن يخالع عن ابنته البكر مطلقا لكونه يجبرها على النكاح وروي عنه: يخالع عن ابنته مطلقا كما يجوز له أن يزوجها بدون مهر المثل للمصلحة وقد صرح بعض أصحاب الشافعي وجها في مذهبه أنه يجوز في حق البكر الصغيرة أن يخالعها بالإبراء من نصف
مهرها إذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي وخطأه بعضهم لأنه إنما يملك الإبراء بعد الطلاق لأنه إذا ملك إسقاط حقها بعد الطلاق لغير فائدة فجواز ذلك لمنفعتها وهو يخلعها من الزوج أولى ولهذا يجوز عندهم كلهم أن يختلعها الزوج بشيء من ماله وكذلك لها أن تخالعه بمالها إذا ضمن ذلك الزوج فإذا جاز له أن يختلعها ولم يبق عليها ضرر إلا إسقاط نصف صداقها
ومذهب مالك يخرج على أصول أحمد من وجوه
منها: أن الأب له أن يطلق ويخلع امرأة ابنه الطفل في إحدى الروايتين كما ذهب إليه طوائف من السلف ومالك يجوز الخلع دون الطلاق لأن في الخلع معاوضة وأحمد يقول: له التطليق عليه لأنه قد يكون ذلك مصلحة له لتخليصه من حقوق المرأة وضررها وكذلك لا فرق في إسقاط حقوقه بين المال وغير المال
وأيضا: فإنه يجوز في إحدى الروايتين للحكم في الشقاق أن يخلع المرأة بشيء من مالها بدون إذنها ويطلق على الزوج بدون إذنه: كمذهب مالك وغيره وكذلك يجوز للأب أن يزوج المرأة بدون مهر المثل وعنده في إحدى الروايتين أن الأب بيده عقدة النكاح وله أن يسقط نصف الصداق ومذهبه أن للأب أن يتملك لنفسه من مال ولده ما لا يضر بالولد حتى لو زوجها واشترط لنفسه بعض الصداق: جاز له ذلك وإذا كان له من التصرف في المال والتملك هذا التصرف لم يبقى إلا طلبه لفرقتها وذلك يملكه بإجماع المسلمين ويجوز عنده للأب أن يعتق بعض رقبة المولى عليه للمصلحة
فقد يقال: الأظهر أن المرأة إن كانت تحت حجر الأب له أن يخالع معاوضة وافتداء لنفسها من الزوج فيملكه الأب كما يملك غيره من المعاوضات وكما يملك إفتداءها من الأسر وليس له أن يفعل ذلك إلا إذا كان مصلحة لها وقد يقال: قد لا يكون مصلحتها في الطلاق ولكن الزوج يملك أن يطلقها وهو لا يقدر على منعه فإذا بذل له العوض من غيرها لم يمكنها منعه من البذل فأما إسقاط مهرها وحقها الذي تستحقه بالنكاح فقد يكون عليها في ذلك ضرر والأب قد يكون غرضه باختلاعها حظه لا لمصلحتها وهو لا يملك إسقاط حقها بمجرد حظه بالاتفاق
فعلى قول من يصحح الإبراء يقع الإبراء والطلاق وعلى قول من لا يجوز إبراءه أن ضمنه وقع الطلاق بلا نزاع وكان على الأب للزوج مثل الصداق عند أبي حنيفة ومالك وأحمد والشافعي في القديم وعنده في الجديد إنما عليه مهر المثل - وأما إن لم يضمنه إن علق الطلاق بالإبراء فقال له: إن أبرأتني فهي طالق فالمنصوص عن أحمد أنه يقع الطلاق إذا اعتقد الزوج أنه تبرأ ويرجع على الأب بقدر الصداق لأنه غره وهو إحدى الروايتين في مذهب أبي حنيفة وفي الأخرى لا يقع شيء وهو قول الشافعي وهو قول في مذهب أحمد لأنه لم يبرأ في نفس الأمر والأولون قالوا: وجد الإبراء وأمكن أن يجعل الأب ضامنا بهذا الإبراء وأما إن طلقها لم يعلقه على الإبراء فإنه يقع لكن عند أحمد يضمن للزوج الصداق لأنه غره وعند الشافعي لا يضمن له شيئا لأنه لم يلزم شيئا والله أعلم
551 - 14 - مسألة: في ثيب بالغ لم يكن وليها إلا الحاكم فزوجها الحاكم لعدم الأولياء ثم خالعها الزوج وأبرأته من الصداق بغير إذن الحاكم فهل تصح المخالعة والابراء؟
الجواب: إذا كانت أهلا للتبرع جاز خلعها وإبراؤها بدون إذن الحاكم
15 - 552 - مسألة: في رجل اعتقد مسألة الدور المسندة لابن سريج ثم حلف بالطلاق على شيء لا يفعله ثم فعله ثم رجع عن المسألة وراجع زوجته ثم بعد ذلك حلف على شيء بالطلاق الثلاث أن لا يفعله ثم بعد ذلك قال لزوجته: أنت طالق: فهل يقع عليه الطلاق الثلاث؟ أم يستعمل المسألة الأولى: المشار إليها؟
الجواب: المسألة السريجية باطلة في الإسلام محدثة لم يفت بها أحد من الصحابة والتابعين ولا تابعيهم وإنما ذكرها طائفة من الفقهاء بعد المائة الثالثة وأنكر ذلك عليهم جمهور فقهاء المسلمين وهو الصواب فإن ما قاله أولئك يظهر فساده من وجوه
منها أنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله أباح الطلاق كما أباح النكاح وإن دين المسلمين مخالف لدين النصارى الذي لا يبيحون الطلاق فلو كان في دين المسلمين ما يمتنع معه الطلاق لصار دين المسلمين مثل دين النصارى
وشبهة هؤلاء أنهم قالوا: إذا قال لامرأته: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا ثم طلقها بعد ذلك طلاقا منجزا: لزم أن يقع المعلق ولو وقع المعلق يقع المنجز فكان وقوعه يستلزم عدم وقوعه: فلا يقع وهذا خطأ فإن قولهم: لو وقع المنجز لوقع المعلق إنما يصح لو كان التعليق صحيحا فأما إذا كان التعليق باطلا لا يلزم وقوع التعليق والتعليق باطل لأن مضمونه وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث باطل في دين المسلمين
ومضمونه أيضا إذا وقع عليك طلاقي لم يقع عليك طلاقي وهذا جمع بين النقيضين فإنه إذا لم يقع الشرط لم يقع الجزاء وإذا وقع الشرط لزم الوقوع فلو قيل: لا يقع مع ذلك لزم أن يقع ولا يقع وهذا جمع بين النقيضين
وأيضا فالطلاق إذا وقع لم يرتفع بعد وقوعه فلما كان كلام المطلق يتضمن محالا في الشريعة - وهو وقوع طلقة مسبوقة بثلاث - ومحالا في العقل وهو الجمع بين وقوع الطلاق وعدم وقوعه: كان القائل بالتسريج مخالفا للعقل والدين لكن إذا اعتقد الحالف صحة هذا اليمين باجتهاد أو تقليد وطلق بعد ذلك معتقدا أنه لا يقع به الطلاق: لم يقع به الطلاق لأنه لم يقصد التكلم بما يعتقده طلاقا فصار كما لو تكلم العجمي بلفظ الطلاق وهو لا يفهمه بل وكذلك لو خاطب من يظنها أجنبية بالطلاق فتبين أنها امرأته فإنه لا يقع به على الصحيح ولو تبين له فساد التسريج بعد ذلك وأنه يقع المنجز لم يكن ظهور الحق له فيما بعد موجبا لوقوع الطلاق عليه وكذلك إن احتاط فراجع امرأته خوفا أن يكون الطلاق وقع به أو معتقدا وقوع الطلاق به لم يقع ولو أقر بعد ما تبين له فساد التسريج أن الطلاق وقع لم يقع بهذا الإقرار شيء ولو اعتقد وقوع الطلاق فراجع امرأته ثم فعل المحلوف عليه معتقدا أنه قد حنث فيه مرة فلا يحنث فيه مرة ثانية: لم يقع به: فهذا الفعل شيء واليمين التي حلف بها أنه لا يفعل ذلك الشيء باقية فإن كان سبب اليمين باقيا فهي باقية وأن زال سبب اليمين فله فعل المحلوف عليه بناء على ذلك ولم يحنث وكذلك لو تزوجها ثم فعل المحلوف عليه معتقدا أن البينونة حصلت وانقطع حكم اليميين الأولى لم يحنث لاعتقاده زوال اليمين كما لا يحنث الجاهل بأن ما فعله هو المحلوف عليه في أصح قولي العلماء
وأما قوله لزوجته بعد ذلك: أنت طالق فإنه تقع هذه الطلقة وإذا اعتقد أنه بهذه الطلقة قد كملت ثلاثا وأقر أنه طلقها ثلاثا لم يقع بهذا الاعتقاد شيء ولا بهذا الإقرار
16 - 553 - مسألة: في رجل جرى منه كلام في زوجته وهي حامل فقال: إن جاءت زوجتي ببنت فهي طالق ثم أنه قبل الولادة جرى بينهم كلام فنزل عن طلقة ثم أنها بعد ذلك وضعت بنتا فهل يقع على الزوج الطلاق أم لا؟
الجواب: إن كان قد أبانها بالطلقة بأن تكون الطلقة بعوض أو ودعها حتى تنقضي عدتها فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء وفيها قولان للشافعي أحدهما يقع وهو رواية مخرجة في مذهب أحمد وإن كان لم يبنها بل راجع في العدة فإن النكاح باق فإن وجدت الصفة المعلق بها وقع الطلاق
17 - 554 - مسألة: في رجل حلف من زوجته بالطلاق أنه ما يطأها لست شهور ولم يكن بقي لها غير طلقة ونيته أن لا يطأها حتى تنقضي المدة فإذا انقضت المدة ماذا يفعل؟
الجواب: إذا انقضت العدة فله وطؤها ولا شيء عليه إذا لم تطالبه بالوطء عند انقضاء أربعة أشهر هذا مذهب مالك وأحمد والشافعي والجمهور وهو يسمى موليا
18 - 555 - مسألة: في رجل طلق زوجته طلقة رجعية فلما حضر عند الشهود قال له بعضهم: قل طلقتها على درهم فقال ذلك فلما فعل قالوا له: قد ملكت نفسها فلا ترجع إليك إلا برضاها فإذا وقع المنع هل يسقط حقها مع غرره بذلك أم لا؟
الجواب: الحمد لله إذا كان قد طلقها طلقة رجعية ثم أن الشاهد قد لقنه أن يقول طلقها على درهم فقال ذلك معتقدا أنه يقرر بذلك الطلاق الأول لا لشيء طلاقا آخر لم يقع به غير الطلاق الأول ويكون رجعيا لا بائنا وإذا ادعى عليه أنه قال ذلك القول الثاني: إنشاء لطلاق آخر ثان وقال إنما قلته إقرارا بالطلاق الأول وليس ممن يعلم أن الطلاق بالعوض يبينها فالقول قوله مع يمينه لا سيما وقرينة الحال تصدقه فإن العادة جارية بأنه إذا طلقها ثم حضر عند الشهود فإنما حضر ليشهد عليه بما وقع من الطلاق
556 - / 19 - مسألة: في رجل تزوج بامرأة وليها فاسق يأكل الحرام ويشرب الخمر والشهود أيضا كذلك وقد وقع به الطلاق الثلاث فهل له بذلك الرخصة في رجعتها؟
الجواب: إذا طلقها ثلاثا وقع به الطلاق ومن أخذ ينظر بعد الطلاق في صفة العقد ولم ينظر في صفته قبل ذلك فهو من المتعدين لحدود الله فإنه يريد أن يستحل محارم الله قبل الطلاق وبعده والطلاق في النكاح الفاسد المختلف فيه عند مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة والنكاح بولاية الفاسق يصح عند جماهير الأئمة والله أعلم
557 - 20 - مسألة: في رجل طلق زوجته الطلاق الثلاث قبل أن يدخل بها وهي بكر فهل له سبيل في مراجعتها؟
الجواب: الحمد لله الطلاق ثلاث قبل الدخول وبعد الدخول سواء في ثبوت التحريم بذلك عند الأئمة الأربعة
558 - / 21 - مسألة: في رجل نوى أن يطلق زوجته إذا حاضت ولم يتلفظ بطلاق فلما أن حاضت علم أنها طلقت بمجرد النية فقال للشهود: آن طلقة زوجتي قالوا: متى طلقتها؟ قال: أول أمس؟ بناء على ظنه فلما مضى حيضتان غير الحيضة التي ظن أنها طلقت فيها زوجها الشهود برجل آخر ثم مكثت عنده وطلقها ثم وفت عدتها ثم أراد الزوج الأول ردها: فهل هي حلال له بالنكاح الأول أم يجب عقد جديد؟
الجواب: الحمد لله أما إذا نوى أنه سيطلقها إذا حاضت فهذا لا يقع به طلاق باتفاق العلماء بل لا بد أن يطلقها بعد ذلك فإذا لم يطلقها بعد ذلك لم يقع طلاق وإذا اعتقد أن تلك النية طلاق فأقر أنه طلقها بتلك النية لم يقع بهذا الإقرار في الباطن ولكن يؤخذ به في الحكم وإذا لم يقع به شيء فهي باقية على زوجيته في الباطن والله أعلم
22 - 559 - مسألة: في رجل له زوجة طلبت منه الطلاق وطلقها وقال: ما بقيت أعود إليها أبدا فوجده صاحبه فقال: ما أصدق على هذا إلا إن قلت كلما تزوجت هذه كانت طالقا على مذهب مالك ولم يرى الأحكام الشرعية فهل أن يردها؟
الجواب: الحمد لله أما إن قصد كلما تزوجتها برجعة أو عقد جديد وهو ظاهر كلامه فمتى ارتجعها قبل انقضاء العدة طلقت ثانية ثم أن ارتجعها طلقت ثالثة وإن تركها حتى تنقضي عدتها بانت منه فإذا تزوجها بعد ذلك فمن قال إن تعليق الطلاق بالنكاح يقع في مثل هذا كأبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية قال: إن هذه إذا تزوجها يقع بها الطلاق وأما من لم يقل بذلك كالشافعي وأحمد في المشهور عنه فهذه لما علق طلاقها كانت رجعية والرجعية كالزوجة في مثل هذا لكن تخلل البينونة هل يقع حكم؟ الصفة ظاهر مذهب أحمد أنه لا ينقطع وقد نص على الفرق في تعليق الطلاق على النكاح بين أن يكون في عدة أو لا يكون فعلى مذهبه يقع الطلاق بها إذا تزوجها وهو أحد قولي الشافعي وعلى قوله الآخر الذي يقول فيه أن البينونة تقطع حكم الصفة وهو رواية عن أحمد فأن قوله: إذا تزوجها كقوله: إذا دخلت الدار وإذا بانت أحلت هذه اليمين فيجوز له أن يتزوجها ولا يقع به طلاق وهو الذي يرجحه كثير من أصحاب الشافعي
وأما قوله على مذهب مالك فإنه التزام مند لمذهب بعينه وذلك لا يلزم بل له أن يقلد مذهب الشافعي وإن كان بائنا بعوض والتعليق بعد هذا في العدة وغيره تعليق بأجنبية فلا يقع به شيء إذا تزوجها في مذهب الشافعي
23 - 560 - مسألة: في رجل طلق زوجته طلقة واحدة قبل الدخول بها في مرضه الذي مات فيه فهل يكون ذلك طلاق الفار ويعامل بنقيض قصده وترثه الزوجة وتستكمل جميع صداقها عليه أم لا ترث وتأخذ نصف الصداق والحالة هذه؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين هذه المسألة مبنية على مسألة المطلق بعد الدخول في مرض الموت والذي عليه جمهور السلف والخلف توريثها كما قضى بذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه لامرأة عبد الرحمن بن عوف ماضر بنت الأصبغ وقد كان طلقها في مرضه وهذا مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي في القديم ثم على هذا هل ترث بعد انقضاء العدة
والمطلقة قبل الدخول على قولين العلماء أصحها أنها ترث أيضا وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وقول الشافعي لأنه قد روى أن عثمان ورثها بعد انقضاء العدة ولأن هذه إنما ورثت لتعلق حقها بالتركة لما مرض مرض الموت وصار محجورا عليه في حقها وحق سائر الورثة بحيث لا يملك التبرع لوارث ولا يملكه لغير وارث بزيادة على الثلث كما لا يملك ذلك بعد الموت فلما كان تصرفه في مرض موته بالنسبة إلى الورثة كتصرفه بعد الموت لايملك قطع أرثها فكذلك لا يملك بعد مرضه وهذا هو طلاق الفار المشهور بهذا الإسم عند العلماء وهو القول الصحيح الذي أفتى به
24 - 561 - مسألة: في رجل له زوجة فحلف أبوها أنه ما يخليها معه وضربها وقال لها أبوها: إبريه فأبرأته وطلقها طلقة ثم ادعت أنها لم تبره إلا خوفا من أبيها فهل تقع على الزوجة الطلقة أم لا؟
الجواب: الحمد لله إن كانت أبرأته مكرهة بغير حق لم يصح الإبراء ولم يقع الطلاق المعلق به وإن كانت تحت حجر الأب وقد رأى الأب أن ذلك جائز في مصلحة لها فإن ذلك أحد قولي العلماء كما في مذهب مالك وقول في مذهب أحمد
25 - 562 - مسألة: في رجل تزوج بامرأة وجاءه منها ولد وأوصاه الشهود أو غيرهم أنه إذا دخل على زوجته أن يقول لها: إذا طلقتك فأنت طالق قبل طلاقك ثلاثا فهل يجوز ذلك العقد أم لا؟
الجواب: الحمد لله النكاح صحيح لا يحتاج إلى استئناف والتسريج الذي لا يتكلم به لا يفسد النكاح باتفاق العلماء لكنه إن طلقها بعد ذلك وقع به الطلاق عند جماهير أهل العلم من أصحاب مالك وأحمد وأبي حنيفة وكثير من أصحاب الشافعي أو أكثرهم
26 - 563 - مسألة: في رجل حنق من زوجته فقال: أنت طالق ثلاثا قالت له زوجته: قل الساعة قال الساعة ونوى الاستثناء
الجواب: إذا كان اعتقاده أنه إذا قال الطلاق يلزمني إن شاء الله أنه لا يقع به الطلاق ومقصوده تخويفا بهذا الكلام لا إيقاع الطلاق لم يقع الطلاق فإن كان قد قال في هذه الساعة إن شاء الله فإن ذهب أبي حنيفة والشافعي أن الطلاق المعلق بالمشيئة لا يقع ومذهب مالك وأحمد يقع كما روى عن ابن عباس
لكن هذا إن كان مقصوده واعتقاده أنه لا يقع صار الكلام عنده كلاما لا يقع به طلاق فلم يقصد التكلم بالطلاق وإذا قصد المتكلم بكلام لا يعتقد أنه يقع به الطلاق مثل ما لو تكلم العجمي بلفظ وهو لا يفهم معناه وطلاق الهازل وقع لأن قصد المتكلم الطلاق وإن لم يقصد إيقاعه وهذا لم يقصد لا هذا ولا هذا وهو يشبه ما لو رأى امرأة فقال أنت طالق يظنها أجنبية فبانت امرأته فإنه لا يقع به طلاق على الصحيح والله أعلم
27 - 564 - مسألة: في رجل أكره على الطلاق؟
الجواب: إذا أكره بغير حق على الطلاق لم يقع به عند جماهير العلماء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو المأثور عن أصحاب رسول الله ﷺ: كعمر بن الخطاب وغيره وإذا كان حين الطلاق قد أحاط به أقوام يعرفون بأنهم يعادونه أو يضربونه ولا يمكنه إذ ذاك أن يدفعهم عن نفسه وادعى أنهم أكرهوه على الطلاق: قبل قوله فإن كان الشهود بالطلاق يشهدون بذلك وادعى الاكراه: قبل قوله وفي تحليفه نزاع
565 - / 28 - مسألة: في رجل زوج بامرأتين إحداهما مسلمة والأخرى كتابية ثم قال: إحداكن طالق ومات قبل البيان فلمن تكون التركة من بعده؟ وأيهما تعتد عدة الطلاق؟
الجواب: هذه المسألة فيها تفصيل ونزاع بين العلماء فمنهم من فرق بين أن يطلق معينة وينساها أو يجهل عينها وبين أن يطلق مبهمة ويموت قبل تمييزها بتعيينه أو يعرفه: ثم منهم من يقول: يقع الطلاق بالجميع كقول مالك ومنهم من يقول: لا يقع إلا بواحدة كقول الثلاثة
وإذا قدر تعينها ولم تعين فهل تقسم التركة بين المطلقة وغيرها كما يقوله أبو حنيفة أو يوقف الأمر حتى يصطلحا كما يقول الشافعي أو يقرع بين المطلقة وغيرها كما يقوله أحمد وغيره من فقهاء الحديث على ثلاثة أقوال والقرعة بعد الموت هي قرعة على المال فلهذا قال بها من لم يرد القرعة في المطلقات
والصحيح في هذه المسألة سواء كانت المطلقة مبهمة أو مجهولة أن يقرع بين الزوجتين فإذا خرجت القرعة على المسلمة لم ترث هي ولا الذمية شيئا أما هي فلأنها مطلقة وأما الذمية فإن الكافر لا يرث المسلم وإن خرجت القرعة على الذمية ورثت المسلمة ميراث زوجة كاملة هذا إذا كان الطلاق طلاقا محرما للميراث مثل أن يبينها في صحته فأما إن كان الطلاق رجعيا في الصحة والمرض ومات قبل انقضاء العدة فهذه زوجته ترث وعليها عدة الوفاة باتفاق الأئمة وتنقضي بذلك عدتها عند جمهورهم كمالك والشافعي وأبي حنيفة وهو قول أحمد في إحدى الروايتين والمشهور عنه: أنها تعتد أطول الأجلين من مدة الوفاة والطلاق وإن كان الطلاق بائنا في مرض الموت فإن جمهور العلماء على أن البائنة في مرض الموت ترث إذا كان طلقها طلاقا فيه يقصد حرمانها الميرات هذا قول مالك وهو يرثها وإن انقضت عدتها وتزوجت وهو مذهب أبي حنيفة وهو يرثها ما دامت في العدة وهو المشهور عنه ما لم تتزوج وللشافعي ثلاثة أقوال كذلك لكن قوله الجديد أنها لا ترث وأما إذا لم يتهم يقصد حرمانها فالأكثرون على أنها لا ترث
فعلى هذا لا ترث هذه المرأة لأن مثل هذا الطلاق الذي لم يعين فيه لا يظهر فيه قصد الحرمان ومن ورثها مطلقا كأحمد في إحدى الروايتن فالحكم عنده كذلك وإذا ورثت المبتوتة فقيل تعتد أبعد الجلين وهو ظاهر مذهب أحمد وقول أبي حنيفة ومحمد وقيل: تعتد عدة الطلاق فقط وهو قول مالك والشافعي المشهور عنه ورواية عن أحمد وقول للشافعي وأما صورة أنها لم تتبين المطلقة فإحداهما وجبت عليها عدة الوفاة والأخرى عدة الطلاق وكل منهما وجبت عليه إحدى العدتين فاشتبه الواجب بغيره فلهذا كان الأظهر هنا وجوب العدتين على كل منهما لأن الذمة لا تبرأ من أداء الواجب إلا بذلك
29 - 566 - مسألة: في رجل قال كل شيء أملكه علي حرام فهل تحرم امرأته وأمته عليه أم لا؟
الجواب: أما غير الزوجة فعليه كفارة يمين وأما الزوجة فللعلماء فيها نزاع: هل تطلق؟ أو تجب عليه كفارة ظهار؟ فمذهب مالك هو طلاق ومذهب أبي حنيفة والشافعي في أظهر قوليه عليه كفارة يمين ومذهب أحمد عليه كفارة ظهار إلا أن ينوي غير ذلك ففيه نزاع والصحيح أنه لا يقع به طلاق
567 - 30 - مسألة: في رجل تخاصم مع زوجته فأراد أن يقول هي طالق طلقة واحدة فسبق لسانه فقال ثلاثة ولم يكن ذلك نيته فما الحكم؟
الجواب: الحمد لله إذا سبق لسانه بالثلاث من غير قصد وإنما قصد واحدة لم يقع به إلا واحدة بل لو أراد أن يقول طاهر فسبق لسانه بطالق لم يقع به الطلاق فيما بينه وبين الله والله أعلم