فصل
والأمور المتعلقة بالإمام متعلقة بنوابه فما كان إلى الحكام فأمر الحاكم الذي هو نائب الإمام فيه كأمر الإمام مثل: تزويج الأيامى والنظر في الوقوف وإجرائها على شروط واقفيها وعمارة المساجد ووقوفها حيث يجوز للإمام فعل ذلك فما جاز للإمام التصرف فيه جاز لنائبه التصرف فيه وإذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي شاع فيها النزاع لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام ولا على نائبه من حاكم وغيره ولا ينقض ما فعله الإمام ونوابه من ذلك وهذا إذا كان البناء في الطريق وإن كان متصلا بالطريق عند أكثر العلماء: مالك والشافعي وأحمد وكذلك فناء الدار
ولكن هل الفناء ملك لصاحب الدار أو حق من حقوقها فيه؟ وجهان في مذهب أحمد
أحدهما: إنه مملوك لصاحبها وهو مذهب مالك والشافعي حتى قال مالك في الأفنية التي في الطريق يكريها أهلها فقال: إن كانت ضيقة تضر بالمسلمين وصنع شيء فيها: منعوا ولم يمكنوا وأما كل فناء إذا انتفع به أهله لم يضيق على المسلمين في ممرهم فلا أرى به بأسا
قال الطحاوي: وهذا يدل على أنه كان يرى الأفنية مملوكة لأهلها إذ أجاز إجارتها فينبغي أن لا يفسد بشرطها - قال: والذي يدل عليه قول الشافعي أنه إن كان فيه صلاح للدار فهو ملك لصاحبها إلا أنه لا يجوز بيعه عنده
وذكر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة أن الأفنية لجماعة المسلمين غير مملوكة كسائر الطريق
والذي ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحاب أحمد هو الوجه الثاني وهو: أن الأرض تملك دون الطريق إلا أن صاحب الأرض أحق بالمرافق من غيره ولذلك هو أحق بفناء الدار من غيره وهذا مذهب أحمد في الكلأ النابت في ملكه أنه أحق به من غيره وإن كان لا يملكه على قول الجمهور: مالك والشافعي وأحمد فإذا كان البناء في فناء المسجد والدار فإنه أحق بالجواز منه في جادة الطريق وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أن ابا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه اتخذ مسجدا بفناء داره
وهذا كالبطحاء التي كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعلها خارج مسجد رسول الله ﷺ لمن يتحدث ويفعل ما يصان عنه المسجد فلم يكن مسجدا ولم يكن كالطريق بل إختصاص بالمسجد فمثل هذه يجوز البناء فيها بطريق الأولى والبناء كالدخلات التي تكون منحرفة عن جادة الطريق متصلة بالدار والمسجد ومتصلة بالطريق وأهل الطريق لا يحتاجون إليها إلا إذا قدر رحبة خارجة عن العادة وهي تشبه الطريق الذي ينفذ المتصل بالطريق النافذ فإن هذا كله أحق من غيرهم ولو أرادوا أن يبنوا فيه ويجعلوا عليه بابا جاز عند الأكثرين لما تقدم وعند أبي حنيفة ليس لهم ذلك لما فيه من إبطال حق غيرهم من الدخول إليه عند الحاجة والأكثرون يقولون حقهم فيه إنما هو جواز الانتفاع إذا لم يحجر عليه أصحابه
كما يجوز الانتفاع بالصحراء المملوكة على وجه لا يضر بأصحابها: كالصلاة فيها والمقيل فيها ونزول المسافر فيها فإن هذا جائز فيها وفي أفنية الدور بدون إذن المالك عند جماهير العلماء
وذكر أصحاب الشافعي في الانتفاع بالفناء بدون إذن المالك قولين وذكر بعض أصحاب أحمد في الصحراء وجها بالمنع من الصلاة فيها وهو بعيد على نصوص أحمد وأصوله فإنه يجوز أكل الثمرة في مثل ذلك فكيف بالمنافع التي لا تضره ويجوز على المنصوص عنه رعي الكلأ في الأرض المغصوبة فيدخلها بغير إذن صاحبها لأجل الكلأ وإن كان من أصحابه من منع ذلك
وأما الانتفاع الذي لا يضر بوجه فهو كالاستظلال بظله والاستضاءة بناره ومثل هذا لا يحتاج إلى إذن فإذا حجر عليها صاحبها صارت ممنوعة ولهذا يفرق بين الثمار التي ليس عليها حائط ولا ناطور فيجوز فيها من الأكل بلا عوض ما لا يجوز في الممنوعة على مذهب أحمد: إما مطلقا وإما للمحتاج وإن لم يجز الحمل وإذا جاز البناء في فناء الملك لصاحبه ففي فناء المسجد للمسجد بطريق الأولى وفناء الدار والمسجد لا يختص بناحية الباب بل قد يكون من جميع الجوانب
قال القاضي وابن عقيل وغيرهما: إذا كان المحيا أرضا كان أحق بفنائها فلو أرد غيره أن يحفر في أصل حائطه بئرا لم يكن له ذلك وكذلك ذكر أبو حامد والماوردي وغيرهما من أصحاب الشافعي والله أعلم
1046 - / 22 - وقال شيخ الإسلام قدس روحه:
اعلم أن الله تعالى بعث محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأكمل لأمته الدين وأتم عليهم النعمة وجعله على شريعة من الأمر وأمره أن يتبعها ولا سبيل الذين لا يعلمون وجعل كتابه مهيمنا على ما بين يديه من الكتب ومصدقا لها وجعل له شرعة ومنهاجا وشرع لأمته سنن الهدى ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد كتاب يهدي به وحديد ينصره كما قال تعالى: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس } فالكتاب به يقوم العلم والدين والميزان به تقوم الحقوق في العقود المالكية والقبوض والحديد به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين
ولهذا كان في الأزمان المتأخرة الكتاب للعلماء والعباد والميزان للوزراء والكتاب وأهل الديوان والحديد للأمراء والأجناد والكتاب له الصلاة والحديد له الجهاد ولهذا كان أكثر الآيات والأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد وكان النبي ﷺ يقول في عيادة المريض: [ اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة وينكأ لك عدوا ]
وقال عليه السلام [ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ]
ولهذا جمع بينهما في مواضع من القرآن كقوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } والصلاة أول أعمال الإسلام وأصل أعمال الإيمان ولهذا سماها إيمانا في قوله: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي صلاتكم إلى بيت المقدس هكذا نقل عن السلف وقال تعالى: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله } وقال: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } فوصفهم بالمحبة التي هي حقيقة الصلاة كما قال: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا } فوصفهم بالشدة على الكفار والضلال
وفي الصحيح: [ أن النبي ﷺ سئل: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وجهاد في سبيله فقيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور ]
مع قوله في الحديث الصحيح: لما سأله ابن مسعود: [ أي العمل أفضل؟ قال الصلاة في وقتها قال ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله ]
فإن قوله إيمان بالله دخل فيه الصلاة ولم يذكر في الأول بر الوالدين إذ ليس لكل أحد والدان فالأول مطلق والثاني مقيد بمن له والدان
ولهذا كانت سنة رسول الله ﷺ وسائر خلفائه الراشدين ومن سلك سبيلهم من ولاة الأمور - في الدولة الأموية والعباسية - أن الإمام يكون إماما في هذين الأصلين جميعا: الصلاة والجهاد فالذي يؤمهم في الصلاة يؤمهم في الجهاد وأمر الجهاد والصلاة واحد في المقام والسفر وكان النبي ﷺ إذا استعمل رجلا على بلد: مثل عتاب بن أسيد على مكة وعثمان بن أبي العاص على الطائف وغيرهما: كان هو الذي يصلي بهم ويقيم الحدود وكذلك إذا استعمل رجلا على مثل غزوة كاستعماله زيد بن حارثة وابنه أسامة وعمرو بن العاص وغيرهم: كان أمير الحرب هو الذي يصلي بالناس ولهذا استدل المسلمون بتقديمه أبا بكر في الصلاة على أنه قدمه في الإمامة العامة
وكذلك كان أمراء الصديق - كيزيد بن أبي سفيان وخالد بن الوليد وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص وغيرهم - أمير الحرب هو إمام الصلاة
وكان نواب عمر بن الخطاب كاستعماله على الكوفة عمار بن ياسر على الحرب والصلاة وابن مسعود على القضاء وبيت المال وعثمان بن حنيف على الخراج
ومن هنا أخذ الناس ولاية الحرب وولاية الخراج وولاية القضاء فإن عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين فلما انتشر المؤمنون وغلبوا الكافرين على البلاد وفتحوها واحتاجوا إلى زيادة في الترتيب: وضع لهم الديوان ديوان الخراج للمال المستخرج وديوان العطاء والنفقات للمال المصروف ومصر لهم الأمصار: فمصر الكوفة والبصرة ومصر الفسطاط فإنه لم يؤثر أن يكون بينه وبين الأمصار: فمصر الكوفة والبصرة ومصر الفسطاط فإنه لم يؤثر أن يكون بينه وبين جند المسلمين نهر عظيم كدجلة والفرات والنيل فجعل هذه الأمصار مما يليه
فصل
وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد فإن النبي ﷺ اسس مسجده المبارك على التقوى: ففيه الصلاة والقراءة والذكر وتعليم العلم والخطب وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم
وكذلك عماله في: مثل مكة والطائف وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى وكذلك عماله على البوادي فإن لهم مجمعا فيه يصلون وفيه يساسون كما قال النبي ﷺ: [ إن بني إسرائيل كان تسوسهم الأنبياء كلما ذهب نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء تعرفون وتنكرون قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول فالأول واسألوا الله لكم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ]
وكان الخلفاء والأمراء يسكنون في بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم لكن مجلس الإمام الجامع هو المسجد الجامع وكان سعد بن أبي وقاص قد بنى له بالكوفة قصرا وقال: أقطع عني الناس فأرسل إليه عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة وأمره أن يحرقه فاشترى من نبطي حزمة حطب وشرط عليه حملها إلى قصره فحرقه فإن عمر كره للوالي الاحتجاب عن رعيته ولكن بنيت قصور الأمراء
فلما كانت إمارة معاوية احتجب لما خاف أن يغتال كما اغتيل علي واتخذ المقاصير في المساجد ليصلي فيها ذو السلطان وحاشيته واتخذ المراكب فاستن به الخلفاء الملوك بذلك فصاروا مع كونهم يتولون الحرب والصلاة بالناس ويباشرون الجمعة والجماعة والجهاد وإقامة الحدود: لهم قصور يسكنون فيها ويغشاهم رؤوس الناس فيها كما كانت الخضراء لبني أمية قبلي المسجد الجامع والمساجد يجتمع فيها للعبادات والعلم ونحو ذلك
فصل
طال الأمد وتفرقت الأمة وتمسك كل قوم بشعبة من الدين بزيادات زادوها فأعرضوا عن شعبة منه أخرى أحدثت الملوك والأمراء القلاع والحصون وإنما كانت تبني الحصون والمعاقل قديما في الثغور خشية أن يدهمها العدو وليس عندهم من يدفعه عنها وكانوا يسمون الثغور الشامية العواصم وهي قنسرين وحلب
وأحدثت المدارس لأهل العلم وأحدثت الربط والخوانق لأهل التعبد وأظن مبدأ انتشار ذلك في دولة السلاجقة فأول ما بنيت المدارس والرباطات للمساكين ووقفت عليها وقوف تجري على أهلها في وزارة نظام الملك وأما قبل ذلك فقد وجد ذكر المدارس وذكر الربط لكن ما أظن كان موقوفا عليها لأهلها وإنما كانت مساكن مختصة وقد ذكر الإمام معمر بن زياد من أصحاب الواحدي في أخبار الصوفية أن أول دويرة بنيت لهم في البصرة وأما المدارس فقد رأيت لها ذكرا قبل دولة السلاجقة في أثناء المائة الرابعة ودولتهم إنما كانت في المائة الخامسة وكذلك هذه القلاع والحصون التي بالشام عامتها محدث كما بنى الملك العادل قلعة دمشق وبصرى وحران وذلك أن النصارى كانوا كثيري الغزو إليهم وكان الناس بعد المائة الثالثة قد ضعفوا عن دفاع النصارى عن السواحل حتى استعلوا على كثير من ثغور الشام الساحلية
فصل
في الخلافة والسلطان وكيفية كونه ظل الله في الأرض قال الله تعالى: { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } وقال الله تعالى: { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله }
وقوله: { إني جاعل في الأرض خليفة } يعم آدم وبنيه لكن الاسم متناول لآدم عينا كقوله: { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } وقوله: { خلق الإنسان من صلصال كالفخار * وخلق الجان من مارج من نار } وقوله: { وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } { ثم جعلناه نطفة في قرار مكين } إلى أمثاله ذلك
ولهذا كان بين داود وآدم من المناسبة ما أحب به داود حين أره ذريته وسأله عن عمرو؟ فقيل: أربعون سنة فوهبه من عمره الذي هو ألف سنة ستين سنة والحديث صحيح رواه الترمذي وغيره وصححه ولهذا كلاهما ابتلي بما ابتلاه به من الخطيئة كما أن كلا منهما مناسبة الأخرى إذ جنس الشهوتين واحد ورفع درجته بالتوبة العظيمة التي نال بها من محبة الله له وفرحه به ما نال ويذكر عن كل منهما من البكاء والندم والحزن ما يناسب بعضه بعضا
والخليفة هو من كان خلفا عن غيره فعيلة بمعنى فاعلة كان النبي ﷺ إذا سافر يقول: [ اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ] وقال ﷺ: [ من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا ] وقال: [ أو كلما خرجنا في الغزو خلف أحدهم وله نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن اللبنة من اللبن لئن أظفرني الله بأحد منهم لأجعلنه نكالا ]
وفي القرآن: { سيقول لك المخلفون من الأعراب } وقوله: { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله }
والمراد بالخليفة أنه خلف من كان قبله من الخلق والخلف فيه مناسبة كما كان أبو بكر الصديق خليفة رسول الله ﷺ لأنه خلفه على أمته بعد موته وكما كان النبي ﷺ إذا سافر لحج أو عمرة أو غزوة يستخلف على المدينة من يكون خليفة له مدة معينة فيستخلف تارة ابن أم مكتوم وتارة غيره واستخلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك وتسمى الأمكنة التي يستخلف فيها الإمام مخاليف مثل: مخاليف اليمن ومخاليف أرض الحجاز ومنه الحديث: حيث خرج من مخلاف إلى مخلاف
ومنه قوله تعالى: { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم } وقوله تعالى: { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا } إلى قوله تعالى: { ثم جعلناكم خلائف في الأرض } قوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } الآية
وقد ظن بعض القائلين الغالطين - كابن عربي - أن الخليفة هو الخليفة عن الله مثل نائب الله وزعموا أن هذا بمعنى أن يكون الإنسان مستخلفا وربما فسروا تعليم آدم الأسماء كلها التي جمع معانيها الإنسان ويفسرون: خلق آدم على صورته بهذا المعنى أيضا وقد أخذوا من الفلاسفة قولهم: الإنسان هو العالم الصغير وهذا قريب وضموا إليه أن الله هو العالم الكبير بناء على أصلهم الكفري في وحدة الوجود وأن الله هو عين وجود المخلوقات فالإنسان من بين المظاهر هو الخليفة الجامع للأسماء والصفات ويتفرع على هذا ما يصيرون إليه من دعوى الربوبية والألوهية المخرجة لهم إلى الفرعونية والقرمطية والباطنية
وربما جعلوا الرسالة مرتبة من المراتب وأنهم أعظم منها فيقرون بالربوبية والوحدانية والألوهية وبالرسالة ويصيرون في الفرعونية هذا إيمانهم أو يخرجون في أعمالهم أن يصيروا ( سدى ) لا أمر عليهم ولا نهي ولا إيجاب ولا تحريم
والله لا يجوز له خليفة ولهذا لما قالوا لأبي بكر: يا خليفة الله ! قال: لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله ﷺ حسبي ذلك بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره
قال النبي ﷺ: [ اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم أصحبنا في سفرنا وأخلفنا في أهلنا ] وذلك لأن الله حي شهيد مهيمن قيوم رقيب حفيظ غني عن العالمين ليس له شريك ولا ظهير ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه والخليفة نما يكون عند عدم المستخلف بموت أو غيبة ويكون لحاجة المستخلف إلى الاستخلاف وسمي خليفة لأنه خلف عن الغزو وهو قائم خلفه وكل هذه المعاني منتفية في حق الله تعالى وهو منزه عنها فإنه حي قيوم شهيد لا يموت ولا يغيب وهو غني يرزق ولا يرزق يرزق عباده وينصرهم ويهديهم ويعافيهم: بما خلقه من الأسباب التي هي من خلقه والتي هي مفتقرة إليه كافتقار المسببات إلى أسبابها فالله هو الغني الحميد له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما { يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن } { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض: إله } ولا يجوز أن يكون أحد خلفا منه ولا يقوم مقامه لأنه لا سمي له ولا كفء له فمن جعل له خليفة فهو مشرك به
وأما الحديث النبوي [ السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل ضعيف وملهوف ] وهذا صحيح فإن الظل مفتقر إلى آو وهو رفيق له مطابق له نوعا من المطابقة والآوي إلى الظل المكتنف بالمظل صاحب الظل فالسلطان عبد الله مخلوق مفتقر إليه لا يستغني عنه طرفة عين وفيه من القدرة والسلطان والحفظ والنصرة وغير ذلك من معاني السؤدد والصمدية التي بها قوام الخلق ما يشبه أن يكون ظل الله في الأرض وهو أقوى الأسباب التي بها يصلح أمور خلقه وعباده فإذا صلح ذو السلطان صلحت أمور الناس وإذا فسد فسدت بحسب فساده ولا تفسد من كل وجه بل لا بد من مصالح إذ هو ظل الله لكن الظل تارة يكون كاملا مانعا من جميع الأذى وتارة لا يمنع إلا بعض الأذى وأما إذا عدم الظل فسد الأمر كعدم سر الربوبية التي بها قيام الأمة الإنسانية والله تعالى أعلم
1047 - / 23 - مسألة: في رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث فرأى أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخا ولا خصما ولا معارضا وذلك المذهب مخالف لها هل يجوز له العمل بذلك المذهب أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالأحاديث ومخالفة مذهبه؟
الجواب: الحمد لله قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمربه وينهى عنه إلا رسول الله ﷺ حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول: أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم
واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله ﷺ ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ
وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه وذلك هو الواجب عليهم فقال أبو حنيفة: هذا رأيي فمن جاء برأي خير منه قبلناه ولهذا لما احتج أفضل اصحابه أبو يوسف أتى مالكا فسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضروات ومسألة الأجناس فأخبره مالك بما يدل على السنة في ذلك فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ومالك كان يقول إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فارضوا قولي على الكتاب والسنة أو كلاما هذا معناه والشافعي كان يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي
وفي مختصر المزني لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال: مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء: والإمام أحمد كان يقول: لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الثوري وتعلم كما تعلمنا فكان يقول لمن قلده: حرام على الرجل أن يقلد دينه الرجال وقال: لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا
وقد ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: [ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ] ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا فيكون التفقه في الدين فرضا والفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها في الدين لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصيلية في جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزم ما يقدر عليه وأما القادر على الاستدلال فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقا وقيل: يجوز مطلقا وقيل: يجوز عند الحاجة كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل
والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزيء والانقسام بل قد يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه
فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين: إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره اشتغاله على مذهب إمام آخر وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه وحينئذ فتكون موافقة لإمام يقاوم ذلك الإمام وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعرض بالعمل فهذا هو الذي يصلح
وإنما تنزلنا هذا التنازل لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاد قائما في هذه المسألة لضعف آلة الاجتهاد في حقه أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النص فهذا يجب عله اتباع النصوص وإن لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الأنفس وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من قد يقول: قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها فهذا يقال له قد قال الله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبي ﷺ: [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه وترك القول الذي توضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم
وإذا كان الإمام المقلد قد سمع الحديث وتركه لا سيما إذا كان قد رواه أيضا فمثل هذا وحده لا يكون عذرا في ترك النص فقد بينا فيما كتبناه في رفع الملام عن الأئمة الأعلام نحو عشرين عذرا الأئمة في ترك العمل لبعض الحديث وبينا أنهم يعذرون في الترك لتلك الأعذار وأما نحن فمعذورون في تركنا لهذا القول
فمن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر ومقدم على القياس والعمل لم يكن عذر ذلك الرجل عذرا في حقه فإن ظهور المدارك الشرعية الأذهان وخفاءها عنها أمر لا ينضبط طرفاه لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقدا أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار من أهل المدينة النبوية وغيرها الذين يقال أنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ أو معارض براجح وقد بلغ من بعده أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه بل عمل به طائفة منهم أو من سمعه منهم ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض للنص
وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني كانت هذه معارضة فاسدة لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة إلى نسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم من الأئمة وغيرهم فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر فكذلك موارد النزاع بين الأئمة وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجنب وأخذوا بقول من هو دونهما: كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة وتركوا قول عمر في دية الأصابع وأخذوا بقول معاوية لما كان معه السنة أن النبي ﷺ قال: [ هذه وهذه سواء ]
وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة فقال له قال: أبو بكر وعمر فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله ﷺ: وتقولون قال أبو بكر وعمر !؟ وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوا بقول عمر فتبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه فقال لهم: أمر رسول الله ﷺ أحق أن تتبعوا أم أمر عمر؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلمهم من فوق ابن عمر وابن عباس ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي ﷺ في أمته وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }
1048 - / 24 - مسألة: في قوله ﷺ: [ إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ] الحديث فإذا كان ألهم سرا بين العبد وبين ربه فكيف تطلع الملائكة عليه؟
الجواب: الحمد لله قد روي عن سفيان بن عيينة في جواب هذه المسألة قال: إنه إذا هم بحسنة شم الملك رائحة طيبة وإذا هم بسيئة شم رائحة خبيثة والتحقيق أن الله قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان فإذا كان بعض البشر قد يجعل الله له من الكشف ما يعلم به أحيانا ما في قلب الإنسان فالملك الموكل بالعبد أولى بأن يعرفه الله ذلك
وقد قيل في قوله تعالى: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } أن المراد به الملائكة والله قد جعل الملائكة تلقي في نفس العبد الخواطر كما قال عبد الله ابن مسعود: إن للملك لمة فلمة الملك تصديق بالحق ووعد بالخير ولمة الشيطان تكذيب بالحق وإبعاد بالشر
وقد ثبت عنه في الصحيح: أنه قال: [ ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وأنا إلا أن الله قد أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير ]
فالسيئة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الشيطان علم بها الشيطان والحسنة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الملك علم بها الملك أيضا بطريق الأولى وإذا علم بها هذا الملك أمكن علم الملائكة الحفظة لأعمال بني آدم
1049 - / 25 - مسألة: في رجلين تنازعا في سب أبي بكر أحدهما يقول: يتوب الله عليه وقال الآخر لا يتوب الله عليه؟
الجواب: الصواب الذي عليه أئمة المسلمين أن كل من تاب تاب الله عليه كما قال الله تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } فقد ذكر في هذه الآية أنه يغفر للتائب الذنوب جميعا ولهذا أطلق وعمم وقال في الآية الأخرى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فهذا في غير التائب ولهذا قيد وخصص وليس سب بعض الصحابة بأعظم من سب الأنبياء أو سب الله تعالى واليهود والنصارى الذين يسبون نبينا سرا بينهم إذا تابوا وأسلموا قبل ذلك منهم باتفاق المسلمين والحديث الذي يروى: سب صحابتي ذنب لا يغفر كذب على رسول الله ﷺ والشرك الذي لا يغفره الله يغفره لمن تاب باتفاق المسلمين وما يقال أن في ذلك حق لآدمي يجاب عنه من وجهين:
أحدهما: أن الله قد أمر بتوبة السارق والملقب ونحوهما من الذنوب متى تعلق بها حقوق العباد كقوله: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم * فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } وقال: { ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } ومن توبة مثل هذا أن يعوض المظلوم من الإحسان إليه بقدر إساءته إليه
الوجه الثاني: إن هؤلاء متأولون فإذا تاب الرافضي من ذلك واعتقد فضل الصحابة وأحبهم ودعا لهم فقد بدل الله السيئة بالحسنة كغيره من المذنبين
1050 - / 26 - مسألة ما معنى قول من يقول حب الدنيا رأس كل خطيئة فهل هي من جهة المعاصي أو من جهة جمع المال؟
الجواب: ليس هذا محفوظا عن النبي ﷺ ولكن هو معروف عن جندب بن عبد الله البجلي من الصحابة ويذكر عن المسيح بن مريم عليه السلام وأكثر ما يغلوا في اللفظ المتفلسفة ومن حذا حذوهم من الصوفية على أصلهن في تعلق النفس إلى أمور ليس هذا موضع بسطها
وأما حكم الإسلام في ذلك فالذي يعاقب الرجل عليه الحب الذي يستلزم المعاصي فإنه يستلزم الظلم والكذب والفواحش ولا ريب أن الحرص على المال والرياسة يوجب هذا كما في الصحيحين: أنه قال: [ إياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ]
وعن كعب عن النبي ﷺ أنه قال: [ ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف ] قال الترمذي: حديث حسن فحرص الرجل على المال والشرف يوجب فساد الدين فأما مجر الحب الذي في القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمره الله به ويترك ما نهى الله عنه ويخاف مقام ربه وينهى النفس عن الهوى فإن الله لا يعاقبه على مثل هذا إذا لم يكن معه وجمع المال إذا قام بالواجبات فيه ولم يكتسبه من الحرام لا يعاقب عليه لكن إخراج فضول المال والإقتصار على الكفاية أفضل وأسلم وأفرغ للقلب وأجمع للهم وأنفع في الدنيا والآخرة
وقال النبي ﷺ: [ من أصبح والدنيا أكبر همه: شتت الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن أصبح والآخرة أكبر همه: جعل الله غناه في قلبه وجمع عليه ضيعته وأتته الدنيا وهي راغمة ]
1051 - / 27 - مسألة: في الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن والحديث هل لها حد تعرف به؟ وهل قول من قال أنها سبع أو سبعة عشر صحيح؟ أو قول من قال أنها ما اتفقت فيها الشرائع - أعني على تحريمها - أو أنها ما تسد باب المعرفة بالله أو أنها تذهب الأموال والأبدان أو أنها إنما سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها أو أنها لا تعلم أصلا وأبهمت كليلة القدر أن ما يحكي بعضهم أنها إلى التسعين أقرب أو كل ما نهى الله عنه فهو كبير أو أنها مارتب عليها حدا وما توعد عليها بالنار
الجواب: الحمد لله رب العالمين مثل الأقوال في هذه المسألة القول المأثور عن ابن عباس وذكره أبو عبيدة وأحمد بن حنبل وغيرهما وهو أن الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا وحد الآخرة وهو معنى قول من قال ما ليس فيها حد في الدنيا وهو معنى قول القائل كل ذنب ختم بلعنة أو غضب أو نار فهو من الكبائر
ومعنى قول القائل: وليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة أي وعيد خاص كالوعيد بالنار والغضب واللعنة وذلك لأن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا فكما أنه يفرق في العقوبات المشروعة للناس بين العقوبات المقدرة بالقطع والقتل وجلد مائة أو ثمانين وبين العقوبات التي ليست بمقدرة وهي التعزير فكذلك يفرق في العقوبات التي يعز الله بها العباد في غير أمر العباد بها بين العقوبات المقدرة كالغضب واللعنة والنار وبين العقوبات المطلقة
وهذا الضابط يسلم من القوادح الوارة على غيره فإنه يدخل كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة: كالشرك والقتل والزنا والسحر وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وغير ذلك من الكبائر التي فيها عقوبات مقدرة مشروعة وكالفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين واليمين الغموس وشهادة الزور فإن هذه الذنوب وأمثالها فيها وعيد خاص كما قال في الفرار من الزحف: { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } وقال: { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } وقال: { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } وقال: { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } وقال تعالى: { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم }
وكذلك كل ذنوب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة ولا يشم رائحة الجنة وقيل فيه: من فعله فليس منا وأن صاحبه آثم فهذه كلها من الكبائر كقوله ﷺ: [ لا يدخل الجنة قاطع ] وقوله: [ لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ] وقوله: [ من غشنا فليس منا ] وقوله: [ من حمل علينا السلاح فليس منا ] وقوله: [ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو حين ينهبها مؤمن ]
وذلك لأن نفي الإيمان وكونه من المؤمنين ليس المراد به ما يقوله المرجئة أنه ليس من خيارنا فإنه لو ترك ذلك لم يلزم أن يكون من خيارهم وليس المراد به ما يقوله الخوارج أنه صار كافرا ولا ما يقوله المعتزلة من أنه لم يبق معه من الإيمان شيء بل هو مستحق للخلود في النار لا يخرج منها
فهذه كلها أقوال باطلة قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع ولكن المؤمن المطلق في باب الوعد والوعيد وهو المستحق لدخول الجنة بلا عقاب هو المؤدي للفرائض المجتنب المحارم وهؤلاء هم المؤمنون عند الإطلاق فمن فعل هذه الكبائر لم يكن من هؤلاء المؤمنين إذ هو متعرض للعقوبة على تلك الكبيرة
وهذا معنى قول من قال: أراد به نفي حقيقة الإيمان أو نفي كمال الإيمان فإنهم لم يريدوا نفي الكمال المستحب فإن ترك الكمال المستحب لا يوجب الذم والوعيد والفقهاء يقولون: الغسل ينقسم إلى: كامل ومجزأ ثم من عدل عن الغسل الكامل إلى المجزأ لم يكن مذموما فمن أراد بقوله نفي كمال الإيمان أنه نفي الكمال المستحب فقد غلط وهو يشبه قول المرجئة ولكن يقتضي نفي الكمال الواجب وهذا مطرد في سائر ما نفاه الله ورسوله مثل قوله: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } إلى قوله: { أولئك هم المؤمنون حقا }
ومثل الحديث المأثور: [ لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ] ومثل قوله ﷺ: [ لا صلاة إلا بأم القرآن ] وأمثال ذلك فإنه لا ينفي مسمى الاسم إلا لانتفاء بعض ما يجب في ذلك لا لانتفاء بعض مستحباته فيفيد هذا الكلام أن من فعل ذلك فقد ترك الواجب الذي لا يتم الإيمان الواجب إلا به وإن كان معه بعض الإيمان فإن الإيمان يتبعض ويتفاضل كما قال ﷺ: [ يخرج من النار من في قلبه ذرة من الإيمان ] والمقصود هنا أن نفي الإيمان أو الجنة أو كونه من المؤمنين لا يكون إلا عن كبيرة فأما الصغائر فلا تنفي هذا الاسم والحكم عن صاحبها بمجردها فيعرف أن هذا النفي لا يكون لترك مستحب ولا لفعل صغيرة بل لفعل كبيرة وإنما قلنا أن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه:
أحدها: إنه المأثور عن السلف بخلاف تلك الضوابط فإنها لا تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين والأئمة وإنما قالها بعض من تكلم في شيء من الكلام أو التصوف بغير دليل شرعي وأما من قال من السلف أنها إلى التسعين أقرب منها إلى السبع فهذا لا يخالف ما ذكرناه وسنتكلم عليها إن شاء الله واحدا واحدا
الثاني: إن الله قال: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما } فقد وعد بتجنب الكبائر بتكفير السيئات واستحقاق الوعد الكريم وكل من وعد بغضب الله أو لعنه أو نارا أو حرمان جنة أو ما يقتضي ذلك فإنه خارج عن هذا الوعد فلا يكون من مجتنبي الكبائر وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه والمستحق أن يقام عليه والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب يستحق العقوبة عليه
والثالث: إن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله في الذنوب فهو حد يتلقى من خطاب الشارع وما سوى ذلك ليس متلقى من كلام الله ورسوله بل هو قول رأي القائل ودونه من غير دليل شرعي والرأي الذوقي بدون دليل شرعي لا يجوز
الرابع: إن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر وأما تلك الأمور فلا يمكن الفرق بها بين الكبائر والصغائر لأن تلك الصفات لا دليل عليها لأن الفرق بين ما اتفقت فيه الشرائع واختلفت لا يعلم إن لم يكن وجود عالم بتلك الشرائع على وجهها وهذا غير معلوم لنا وكذلك ما فسر بأن المعرفة هي من الأمور النسبية والإضافية فقد يسد باب المعرفة عن زيد ما لا يسد عن عمرو وليس لذلك حد محدود
الخامس: إن تلك الأقوال فاسدة فتقول من قال إنها ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه فوجب أن تكون الحسنة من مال اليتيم ومن السرقة والخيانة والكذبة الواحدة وبعض الإحسانات الخفية ونحو ذلك كبيرة وأن يكون الفرار من الزحف ليس من الكبائر إذ الجهاد لم يجب في كل شريعة وكذلك يقتضي أن يكون التزوج بالمحرمات بالرضاعة والصهر وغيرهما ليس من الكبائر لأنه مما لم تتفق عليه الشرائع
وكذلك إمساك المرأة بعد الطلاق الثلاث ووطؤها بعد ذلك مع اعتقاد التحريم وكذلك من قال: إنها ما تسد باب المعرفة أو ذهاب النفوس أو الأموال يوجب أن يكون القليل من الغضب والخيانة كبيرة وأن يكون عقوق الوالدين وقطيعة الرحم وشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ونحو ذلك ليس من الكبائر ومن قال إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها وإن ما عصى به فهو كبيرة فإنه يوجب أن لا تكون الذنب في نفسها تنقسم إلى كبائر وصغائر وهذا خلاف القرآن فإن الله قال: { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } وقال: { والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون } وقال: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } وقال: { مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } وقال: { وكل صغير وكبير مستطر }
والأحاديث كثيرة في الذنوب الكبائر ومن قال هي سبعة عشر فهو قول بلا دليل ومن قال إنها مبهمة أو غير معلومة فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها ومن قال إنه ما توعد عليه بالنار قد يقال إن فيه تقصيرا إذ الوعيد قد يكون بالنار وقد يكون بغيرها وقد يقال إن كل وعيد فلا بد أن يستلزم الوعيد بالنار وأما من قال إنها كل ذنب فيه وعيد فهذا يندرج فيما ذكره السلف فإن كل ذنب فيه حد في الدنيا ففيه وعيد من غير عكس فإن الزنا والسرقة وشرب الخمر وقذف المحصنات ونحو ذلك فيها وعيد كمن قال إن الكبيرة ما فيها وعيد والله أعلم