كتاب الطلاق
528 - 1 مسألة: في امرأة مسنة لم تبلغ سن الإياس وكانت عادتها أن تحيض فشربت دواء فانقطع دمها واستمر انقطاعه نحو خمس سنين ثم طلقها زوجها وهي على هذه الحالة فهل تكون عدتها من حين الطلاق بالشهور أو تتربص حتى تبلغ سن الآيسات؟
الجواب: إن كانت تعلم أن الدم لا يأتي فيما بعد بحال فعدتها ثلاثة أشهر وإن يمكن أن يعود الدم ويمكن أن لا يعود فإنها تتربص سنة ثم تتزوج كما قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المرأة يرتفع حيضها لا تدري ما رفعه تتربص سنة وهذا مذهب الجمهور كمالك وأحمد والشافعي في قول
ومن قال إنها تنتظر حتى تدخل في سن الآيسات فهذا قول ضعيف جدا مع ما فيه من الضرر الذي لا تأتي الشريعة بمثله وتمنع من النكاح وقت حاجتها إليه ويؤذن لها فيه حين لا تحتاج إليه والله أعلم
539 - 2 مسألة: في رجل حلف بالطلاق الثلاث على امرأته إن ما في الدنيا أحد يحبك فهل يقع به طلاق أم لا؟
الجواب: الحمد لله إن كان مقصوده أنه ليس في الدنيا من يحب طول لسانك أو من يحبك مع طول لسانك ولا لا يعرف أحدا يحبها فلا طلاق عليه وكذلك إن كان مقصوده أنه ليس أحد يحبها مطلقا بل كان واحد يبغضها من وجه لأجل شرها فلا طلاق عليه والله أعلم
540 - 3 مسألة: في رجل حلف على أخيه بالطلاق لو أعطيتني ملء ثوبك ذهبا ما أعطيتك هذه الحاجة ثم أنه أعطاه تلك الحاجة بعينها فهل يقع عليه الطلاق أم لا؟
الجواب: الحمد لله هذه المسألة فيها أقسام كثيرة قد يفعل المحلوف عليه ناسيا أو متأولا أو يكون قد امتنع لسبب أو حلف يعتقده بصفة فتبين بخلافها فهذه الأقسام لا يقع بها الطلاق على الأقوى والله أعلم
541 - 4 مسألة: قال شيخ الإسلام: إذا حلف الرجل يمينا من الأيمان فالأيمان ثلاثة أقسام:
أحدها: ما ليس من أيمان المسلمين: وهو الحلف بالمخلوقات كالكعبه والملائكة والمشايخ والملوك والآباء وتربتهم ونحو ذلك فهذه يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء بل هي منهي عنها باتفاق أهل العلم والنهي نهي تحريم في أصح قوليهم ففي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ] وقال: [ إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ] وفي السنن عنه أنه قال: [ من حلف بغير الله فقد أشرك ]
والثاني: اليمين بالله تعالى كقوله: والله لأفعلن فهذه اليمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين وأيمان المسلمين التي هي في معنى الحلف بالله مقصود الحالف بها تعظيم الخالق لا الحلف بالمخلوقات كالحلف بالنذر والطلاق والعتاق كقوله: إن فعلت كذا فعلي صيام شهر أو الحج إلى بيت الله أو الحل علي حرام لا أفعل كذا أو إن فعلت كذا فكل ما أملكه حرام أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا أفعله أو أن فعلته فنسائي طوالق وعبيدي أحرار وكل ما أملكه صدقة ونحو ذلك فهذه الأيمان للعلماء فيها ثلاثة أقوال قيل إذا حنث لزمه ما علفه وحلف به وقيل لا يلزمه شيء وقيل: يلزمه كفار يمين ومنهم من قال: الحلف بالنذر يجزيه فيه الكفارة والحلف بالطلاق والعتاق يلزمه ما حلف به
وأظهر الأقوال وهو القول الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار: أنه يجزئه عن كفارة يمين في جميع أيمان المسلمين كما قال الله تعالى: { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وقال تعالى: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ]
فإذا قال: الحل علي حرام لا أفعل كذا أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا أو أن فعلت كذا فعلي الحج أو مالي صدقة: أجزأه في ذلك كفارة يمين فإن كفر كفارة الظهار فهو أحسن وكفارة اليمين يخير فيها بين العتق أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم وإذا أطعمهم أطعم كل واحد جراية من الجرايات المعروفة في بلده مثل: أن يطعم ثمان أواق أو تسع أواق بالشامي ويطعم مع ذلك أدامها كما جرت عادة أهل الشام في
إعطاء الجرايات خبزا وإداما وإذا كفر يمينه لم يقع به الطلاق
وأما إذا قصد إيقاع الطلاق على الوجه الشرعي مثل أن ينجز الطلاق فيطلقها واحدة في طهر لم يصبها فيه فهذا يقع به الطلاق باتفاق العلماء وكذلك إذا علق الطلاق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها مثل أن يكون مريدا للطلاق إذا فعلت أمرا من الأمور فيقول لها: إن فعلته فأنت طالق قصده أن يطلقها إذا فعلته فهذا مطلق يقع به الطلاق عند السلف وجماهير الخلف بخلاف من قصده أن ينهاها ويزجرها باليمين ولو فعلت ذلك الذي يكرهه لم يجز أن يطلقها بل هو مريد لها وإن فعلته لكنه قصد اليمين لمنعها عن الفعل لا مريدا أن يقع الطلاق وإن فعلته فهذا حالف لا يقع به الطلاق في أظهر قولي العلماء من السلف والخلف بل يجزئه كفارة يمين كما تقدم
فصل
والطلاق الذي يقع بلا ريب هو الطلاق الذي أذن الله فيه وأباحه وهو أن يطلقها في الطهر قبل أن يطأها أو بعد ما يبين حملها طلقة واحدة
فأما الطلاق المحرم: مثل أن يطلقها في الحيض أو يطلقها بعد أن يطأها وقبل أن يبين حملها فهذا طلاق محرم باتفاق العلماء وكذلك إذا طلقها ثلاثا بكلمة أو كلمات في طهر واحد فهو محرم عند جمهور العلماء
وتنازعوا فيما يقع بها الثلاث وقيل: لا يقع بها إلا طلقة واحدة وهذا هو الأظهر الذي يدل عليه الكتاب والسنة كما قد بسط في موضعه وكذلك الطلاق المحرم في الحيض وبعد الوطء هل يلزم؟ فيه قولان للعلماء والأظهر أنه لا يلزم كما لا يلزم النكاح المحرم والبيع المحرم
وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر طلاق الثلاثة واحدة وثبت أيضا في مسند أحمد: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد فقال النبي ﷺ: [ هي واحدة ] ولم يثبت عن النبي ﷺ خلاف هذه السنة بل ما يخالفها إما أنه ضعيف بل مرجوح وإما أنه صحيح لا يدل على خلاف ذلك كما قد بسط ذلك في موضعه والله أعلم
فصل
الطلاق منه طلاق سنة أباحه الله تعالى وطلاق بدعة حرمه الله فطلاق السنة أن يطلقها طلقة واحدة إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها أو يطلقها حاملا قد تبين حملها
فإن طلقها وهي حائض أو وطئها وطلقها بعد الوطء قبل أن يتبين حملها فهذا طلاق محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين وتنازع العلماء: هل يلزم؟ أو لا يلزم؟ على قولين والأظهر أنه لا يلزم
وإن طلقها ثلاثا بكلمة أو بكلمات في طهر واحد قبل أن يراجعها مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا أو أنت طالق ألف طلقة أو أنت طالق أنت طالق أنت طالق ونحو ذلك من الكلام فهذا حرام عند جمهور العلماء من السلف والخلف وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وظاهر مذهبه وكذلك لو طلقها ثلاثا قبل أن تنقضي عدتها فهو أيضا حرام عند الأكثرين وهو مذهب مالك وأحمد في ظاهر مذهبه
وأما السنة: إذا طلقها طلقة واحدة لم يطلقها الثانية حتى يراجعها في العدة أو يتزوجها بعقد جديد بعد العدة فحينئذ له أن يطلقها الثانية وكذلك الثالثة فإذا طلقها الثالثة كما أمر الله ورسوله حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره
وأما لو طلقها الثلاث طلاقا محرما مثل أن يقول لها أنت طالق ثلاثة جملة واحدة فهذا فيه قولان للعلماء أحدهما يلزمه الثلاث والثاني لا يلزمه إلا طلقة واحدة وله أن يرتجعها في العدة وينكحها بعقد جديد بعد العدة وهذا قول كثير من السلف والخلف وهو قول طائفة من أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وهذا أظهر القولين لدلائل كثيرة: منها ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر واحدة ومنها ما رواه الإمام أحمد وغيره بإسناد جيد عن ابن عباس: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد وجاء إلى النبي ﷺ فقال: [ إنما هي واحدة وردها عليه ] وهذا الحديث قد ثبته أحمد بن حنبل وغيره
وضعف أحمد وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم ما روي أنه طلقها البتة وقد استحلفه ما أردت إلا واحدة؟ فإن رواة هذا مجاهيل لا يعرف حفظهم وعدلهم ورواة الأول معروفون بذلك ولم ينقل أحد عن النبي ﷺ بإسناد مقبول أن أحدا طلق امرأته ثلاثا بكلمة واحدة فألزمه الثلاث بل روي في ذلك أحاديث كلها كذب باتفاق أهل العلم لكن جاء في أحاديث صحيحة: أن فلانا طلق امرأته ثلاثا أي ثلاثا متفرقة وجاء: [ إن الملاعن طلق ثلاثا ] وتلك امرأة لا سبيل له إلى رجعتها بل هي محرمة عليه سواء طلقها أو لم يطلقها كما لو طلق المسلم امرأته إذا ارتدت ثلاثا وكما لو أسلمت امرأة اليهودي فطلقها ثلاثا أو أسلم زوج المشركة فطلقها ثلاثا وإنما الطلاق الشرعي أن يطلق من يملك أن يرتجعها أو يتزوجها بعقد جديد والله أعلم
فصل
إذا حلف الرجل بالحرام فقال: الحرام يلزمني لا أفعل كذا أو الحل علي حرام لا أفعل كذا أو ما أحل الله علي حرام إن فعلت كذا أو ما يحل للمسلمين يحرم علي إن فعلت كذا أو نحو ذلك وله زوجة: ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف ولكن القول الراجح أن هذه يمين من الأيمان لا يلزمه بها طلاق ولو قصد بذلك الحلف بالطلاق وهذا مذهب الإمام أحمد المشهور عنه حتى لو قال: أنت علي حرام ونوى به الطلاق لم يقع به الطلاق عنده ولو قال: أنت علي كظهر أمي وقصد به الطلاق فإن هذا لا يقع به الطلاق عند عامة العلماء وفي ذلك أنزل الله القرآن فإنهم كانوا يعدون الظهار طلاقا والإيلاء طلاقا فرفع الله ذلك كله وجعل في الظهار الكفارة الكبرى وجعل الإيلاء يتربص فيها الرجل أربعة أشهر فإما أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان كذلك قال كثير من السلف والخلف: إنه إذا كان مزوجا فحرم امرأته أو حرم الحلال مطلقا كان مظاهرا وهذا مذهب أحمد وإذا حلف بالظهار والحرام لا يفعل شيئا وحنث في يمينه أجزأته الكفارة في مذهبه لكن قيل: إن الواجب كفارة ظهارة وسواء حلف أو أوقع وهو المنقول عن أحمد وقيل: بل إن حلف به أجزأه كفارة يمين وإن أوقعه لزمه كفارة ظهار وهذا أقوى وأقيس على أصول أحمد وغيره
فالحالف بالحرام يجزيه كفارة يمين كما يجزئ الحالف بالنذر إذا قال: إن فعلت كذا فعلي الحج أو مالي صدقة كذلك إذا حلف بالعتق يجزئه كفارة عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين وكذلك الحلف بالطلاق يجزئ فيه أيضا كفارة يمين كما أفتى به [ جماعة ] من السلف والخلف والثابت عن الصحابة لا يخالف ذلك بل معناه يوافقه فكل يمين يحلف بها المسلمون في أيمانهم ففيها كفارة يمين كما دل عليه الكتاب والسنة وأما إذا كان مقصود الرجل أن يطلق أو أن يعتق أو يظاهر فهذا يلزمه ما أوقعه سواء كان منجزا أو معلقا ولا يجزئه كفارة يمين والله سبحانه أعلم
542 - 5 مسألة: قاعدة نكاحية:
في قول الله تعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } إلى قوله: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة } إلى قوله تعالى: { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان }
فجعل المباح أحد أمرين: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وأخبر أن الرجال ليسوا أحق بالرد إلا إذا أرادوا إصلاحا وجعل لهن مثل الذي عليهن بالمعروف وقال تعالى: { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } وقال تعالى في الآية الأخرى: { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } وقال تعالى: { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف }
وقوله هنا: { بالمعروف } يدل على أن المرأة لو رضيت بغير المعروف لكان للأولياء العضل والمعروف تزويج الكفء وقد يستدل به من يقول: مهر مثلها من المعروف فإن المعروف هو الذي يعرفه أولئك
وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } إلى قوله: { وعاشروهن بالمعروف } فقد ذكر أن التراضي بالمعروف والإمساك بالمعروف: التسريح بالمعروف والمعاشرة بالمعروف وأن لهن وعليهن بالمعروف كما قال: [ لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ]
فهذا المذكور في القرآن هو الواجب العدل في جميع ما يتعلق بالنكاح من أمور النكاح وحقوق الزوجين فكما أن ما يجب للمرأة عليه من الرزق والكسوة هو بالمعروف وهو العرف الذي يعرفه الناس في حالهما نوعا وقدرا وصفة وإن كان ذلك يتنوع بتنوع حالهما من اليسار والإعسار والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار والمكان فيطعمها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد وهو العرف بينهم وكذلك ما يجب لها عليه من المتعة والعشرة فعليه أن يبيت عندها ويطأها بالمعروف ويختلف ذلك باختلاف حالها وحاله وهذا أصح القولين في الوطء الواجب أنه مقدر بالمعروف لا بتقدير من الشرع قررته في غير هذا الموضع
والمثال المشهور هو النفقة فإنها مقدرة بالمعروف تتنوع بتنوع حال الزوجين عند جمهور المسلمين ومنهم من قال: هي مقدرة بالشرع نوعا وقدرا: مدا من حنطة أو مدا ونصفا أو مدين قياسا على الإطعام الواجب في الكفارة على أصل القياس
والصواب المقطوع به عليه الأمة علما وعملا قديما وحديثا فإن القرآن قد دل على ذلك وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لهند امرأة أبي سفيان لما قالت له: يا رسول الله ! إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي فقال النبي ﷺ: [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فأمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف ولم يقدر لها نوعا ولا قدرا ولو تقدر ذلك بشرع أو غير لبين لها القدر والنوع كما بين فرائض الزكاة والديات وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال في خطبته العظيمة بعرفات: [ لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ]
وإذا كان الواجب هو الكفاية بالمعروف فمعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحالة الزوجة في حاجتها ويتنوع الزمان والمكان ويتنوع حال الزوج في يساره وإعساره وليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف ولا كفاية طعامه كطعامه ولا طعام البلاد الحارة كالباردة ولا المعروف في بلاد التمر والشعير كالمعروف في بلاد الفاكهة والخمير وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجة عن حكيم بن معاوية النميري عن أبيه أنه قال: قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: [ تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت ]
فهذه ثلاثة أحاديث عن النبي ﷺ أن للزوجة مرة أن تأخذ كفاية ولدها بالمعروف وقال في الخطبة التي خطبها يوم أكمل الله الدين في أكبر مجمع كان له في الإسلام: [ لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] وقال للسائل المستفتي له عن حق الزوجة: [ تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت ] لم يأمر في شيء من ذلك بقدر معين لكن قيد ذلك بالمعروف تارة وبالمواساة بالزوج أخرى
وهكذا قال في نفقة المماليك ففي الصحيحين عن أبي ذر عن النبي ﷺ قال: [ هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم ] وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: [ للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ]
ففي الزوجة والمملوك أمره واحد: تارة يذكر أنه يجب الرزق والكسوة بالمعروف وتارة يأمر بمواساتهم بالنفس فمن العلماء من جعل المعروف هو الواجب والمواساة مستحبة وقد يقال أحدهما تفسير للآخر وعلى هذا فالواجب هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع والقدر وصفو الإنفاق وإن كان العلماء قد تنازعوا في ذلك
أما النوع فلا يتعين أن يعطيها مكيلا كالبر ولا موزنا كالخبز ولا ثمن ذلك كالدراهم بل يرجع في ذلك إلى العرف فإذا أعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن يكون عادتهم أكل التمر والشعير فيعطيها ذلك
أو يكون أكل الخبز والأدام فيعطيها ذلك وإن كان عادتهم أن يعطيها حبا فتطحنه في البيت فعل ذلك وإن كان يطحن في الطاحون ويخبز في البيت فعل ذلك وإن كان يخبز في البيت فعل ذلك وإن كان يشتري خبزا من السوق فعل ذلك وكذلك الطبيخ ونحوه فعلى ما هو المعروف فلا يتعين عليه دراهم ولا حبات أصلا لا بشرع ولا بفرض فإن تعين ذلك دائما من المنكر ليس من المعروف وهو مضر به تارة وبها أخرى
وكذلك القدر لا يتعين مقدار مطرد بل تتنوع المقادير بتنوع الأوقات
وأما الإنفاق فقد قيل: إن الواجب تمليكها النفقة والكسوة وقيل: لا يجب التمليك وهو الصواب فإن ذلك ليس هو المعروف بل عرف النبي ﷺ والمسلمين إلى يومنا هذا أن الرجل يأتي بالطعام إلى منزله فيأكل هو وامرأته ومملوكه: تارة جميعا وتارة أفرادا ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم دراهم تتصرف فيها تصرف المالك بل من عاشر امرأة بمثل هذا الفرض كانا عند المسلمين قد تعاشرا بغير المعروف وتضارا في العشرة وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرر لا عند العشرة بالمعروف
وأيضا فإن النبي ﷺ أوجب في الزوجة مثل ما أوجب في المملوك تارة قال: [ لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] كما قال في المملوك وتارة قال: [ تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت ] كما قال في المملوك
وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته فعلم أن هذا الكلام لا يقضي إيجاب التمليك وإذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة أنه يطعمها إذا أكل ويكسوها إذا اكتسى وذلك هو المعروف لمثلها في بلدها فلا حق لها سوى ذلك وإن أنكرت ذلك أمره الحاكم أن ينفق بالمعروف بل ولا له أن يأمر بدراهم مقدرة مطلقا أو حب مقدار مطلق لكن يذكر المعروف الذي يليق بهما
فصل
وكذلك قسم الابتداء والوطء والعشرة والمتعة واجبان كما قد قررناه بأكثر من عشرة أدلة ومن شك في وجوب ذلك فقد أبعد تأمل الأدلة الشرعية والسياسة الإنسانية ثم الواجب قيل: مبيت ليلة من أربع ليال والوطء في كل أربعة أشهر مرة كما ثبت ذلك في المولي والمتزوج أربعا وقيل: إن الواجب وطؤها بالمعروف فيقل: ويكثر بحسب حاجتها وقدرته كالقوت سواء
فصل
وكذلك ما عليها من موافقته في المسكن وعشرته ومطاوعته في المتعة فإن ذلك واجب عليها بالاتفاق عليها أن تسكن معه في أي بلد أو دار إذا كان ذلك بالمعروف ولم تشترط خلافه وعليها أن لا تفارق ذلك بغير أمره إلا لموجب شرعي فلا تنتقل ولا تسافر ولا تخرج من منزله لغير حاجة إلا بإذنه كما قال النبي ﷺ: [ فإنهن عنوان عندكم ] بمنزلة العبد والأسير وعليها تمكينه من الاستمتاع بها إذا طلب ذلك وذلك كله بالمعروف غير المنكر فليس له أن يستمتع استمتاعا يضر بها ولا يسكنها مسكنا يضر بها ولا يحبسها حبسا يضر بها
فصل
وتنازع العلماء: هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل ومناولة الطعام والشراب والخبز والطحن والطعام لمماليكه وبهائمه: مثل علف دابته ونحو ذلك؟ فمنهم من قال: لا تجب الخدمة وهذا القول ضعيف كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإنسان وصاحبه في المسكن إن لم يعاونه على مصلحة لم يكن قد عاشره بالمعروف وقيل وهو الصواب وجوب الخدمة فإن الزوج سيدها في كتاب الله وهي عانية عنده بسنة رسول الله ﷺ: وعلى العاني والعبد الخدمة لأن ذلك هو المعروف
ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف وهذا هو الصواب فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال: فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة
فصل
والمعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق فإن العقد المطلق يرجع في موجبه إلى العرف كما يوجب العقد المطلق في البيع النقد المعروف فإن شرط أحدهما على صاحبه شرطا لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما فالمسلمون عند شروطهم فإن موجبات العقود تتلقى من اللفظ تارة ومن العرف تارة أخرى لكن كلاهما مقيد بما لم يحرمه الله ورسوله فإن لكل من العاقدين أن يوجب للآخر على نفسه ما لم يمنعه الله من إيجابه ولا يمنعه أن يوجب في المعاوضة ما يباح بذله بلا عوض: كعارية البضع والولاء لغير المعتق فلا سبيل إلى ان يجب بالشرط فإنه إذا حرم بذله كيف يجب بالشرط؟ ! فهذه أصول جامعة مع اختصار والله أعلم
543 - 6 مسألة: سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن الفرق بين الطلاق والحلف وإيضاح الحكم في ذلك؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم الصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام ثلاثة أنواع:
النوع الأول: صيغة التنجيز مثل أن يقول: امرأتي طالق أو: أنت طالق أو: فلانة طالق أو هي مطلقة ونحو ذلك: فهذا يقع به الطلاق ولا تنفع فيه الكفارة بإجماع المسلمين ومن قال: إن هذا فيه كفارة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل وكذلك إذا قال: عبدي حر أو علي صيام شهر أو: عتق رقبة أو: الحل علي حرام أو: أنت علي كظهر أمي فهذه كلها إيقاعات لهذه العقود بصيغ التنجيز والإطلاق
والنوع الثاني: أن يحلف بذلك فيقول: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا أفعل كذا أو يحلف على غيره كعبده أو صديقه الذي يرى أنه يبر بقسمه ليفعلن كذا أو لا يفعل كذا أو يقول: الحل علي حرام لأفعلن كذا أو لا أفعله أو يقول: علي الحج لأفعلن كذا أو لا أفعله ونحو ذلك: فهذه صيغ قسم وهو حالف بهذه الأمور لا موقع لها وللعلماء في هذه الأيمان ثلاثة أقوال:
أحدها: إنه إذا حنث لزمه ما حلف به والثاني: لا يلزمه شيء والثالث: يلزمه كفارة يمين
ومن العلماء من فرق بين الحلف والطلاق والعتاق وغيرها والقول الثالث أظهر الأقوال لأن الله تعالى قال: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وقال: { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وثبت عن النبي ﷺ في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وعدي بن حاتم وأبي موسى أنه قال: [ ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ] وجاء هذا المعنى في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي موسى وعبد الرحمن بن سمرة وهذا يعم جميع أيمان المسلمين فمن حلف بيمين من أيمان المسلمين وحنث أجزأته كفارة يمين ومن حلف بأيمان الشرك: مثل أن يحلف بتربة أبيه أو الكعبة أو نعمكة السلطان أو حياة الشيخ أو غير ذلك من المخلوقات: فهذه اليمين غير منعقدة ولا كفارة فيها إذا حنث باتفاق أهل العلم
والنوع الثالث: من الصيغ: أن يعلق الطلاق أو العتاق أو النذر بشرط فيقول: إن كان كذا فعلي الطلاق أو الحج أو فعبيدي أحرار ونحو ذلك: فهذا ينظر إلى مقصوده فإن كان مقصوده أن يحلف بذلك ليس غرضه وقوع هذه الأمور كمن ليس غرضه وقوع الطلاق إذا وقع الشرط فحكمه حكم الحالف وهو من باب اليمين
وأما إن كان مقصوده وقوع هذه الأمور: كمن غرضه وقوع الطلاق عند وقوع الشرط: مثل أن يقول لامرأته: إن أبرأتيني من طلاقك فأنت طالق فتبرئه أو يكون عرضه أنها إذا فعلت فاحشة أن يطلقها فيقول: إذا فعلت كذا فأنت طالق بخلاف من كان غرضه أن يحلف عليها ليمنعها ولو فعلته لم يكن له غرض في طلاقها فإنها تارة يكون طلاقها أكره إليه من الشرط فيكون حالفا وتارة يكون الشرط المكروه أكره إليه من طلاقها فيكون موقعا للطلاق إذا وجد ذلك الشرط فهذا يقع به الطلاق وكذلك إن قال: إن شفى الله مريضي فعلي صوم شهر فشفي فإنه يلزمه الصوم
فالأصل في هذا: أن ينظر إلى مراد المتكلم ومقصوده فإن كان غرضه أن تقع هذه الأمور وقعت منجزة أو معلقة إذا قصد وقوعها عند وقوع الشرط وإن كان مقصوده أن يحلف بها وهو يكره وقوعها إذا حنث وإن وقع الشرط فهذا حالف بها لا موقع لها فيكون قوله من باب اليمين لا من باب التطليق والنذر فالحلف هو الذي يلتزم ما يكره وقوعه عند المخالفة كقوله: إن فعل كذا فأنا يهودي أو نصراني ونسائي طوالق وعبيدي أحرار وعلي المشي إلى بيت الله فهذا ونحوه يمين بخلاف من يقصد وقوع الجزاء من ناذر ومطلق ومعلق فإن ذلك يقصد ويختار لزوم ما التزمه وكلاهما ملتزم لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم وإن وجد الشرط الملزوم كما إذا قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني فإن هذا يكره الكفر ولو وقع الشرط: فهذا حالف والموقع يقصد وقوع الجزاء اللازم عند وقوع الشرط الملزوم سواء كان الشرط مرادا له أو مكروها أو غير مراد له: فهذا موقع ليس بحالف وكلاهما ملتزم معلق لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم
والفرق بين هذا وهذا ثابت عن أصحاب رسول الله ﷺ وأكابر التابعين وعليه دل الكتاب والسنة وهو مذهب جمهور العلماء كالشافعي وأحمد وغيرهما: في تعليق النذر قالوا: إذا كان مقصوده النذر فقال: لئن شفى الله مريضي فعلي الحج فهو ناذر إذا شفى الله مريضه لزمه الحج فهذا حالف تجزئه كفارة يمين ولا حج عليه وكذلك قال أصحاب رسول الله ﷺ: مثل ابن عمر وابن عباس وعائشة وأم سلمة وزينب ربيبة النبي ﷺ وغير واحد من الصحابة في من قال إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر قالوا: يكفر عن يمينه ولا يلزمه العتق
هذا مع أن العتق طاعة وقربة فالطلاق لا يلزمه بطريق الأولى كما قال ابن عباس رضي الله عنه: الطلاق عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله ذكره البخاري في صحيحه بين ابن عباس أن الطلاق إنما يقع بمن غرضه أن يوقعه لا لمن يكره وقوعه كالحالف به والمكره عليه وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: كل يمين وإن عظمت فكفارتها كفارة اليمين بالله وهذا ما يتناول جميع الأيمان: من الحلف بالطلاق والعتاق والنذر وغير ذلك والقول بأن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق مذهب خلق كثير من السلف والخلف لكن فيهم من لا يلزمه الكفارة: كداود وأصحابه ومنهم من يلزمه كفارة يمين: كطاووس وغيره من السلف والخلف
والأيمان التي يحلف بها الخلق ثلاثة أنواع:
أحدها: يمين محترمة منعقدة: كالحلف باسم الله تعالى: فهذه فيها الكفارة بالكتاب والسنة والإجماع
الثاني: الحلف بالمخلوقات: كالحالف بالكعبة فهذه لا كفارة فيها باتفاق المسلمين
والثالث: أن يعقد اليمين لله فيقول: إن فعلت كذا فعلي الحج أو مالي صدقة أو فنسائي طوالق أو فعبيدي أحرار ونحو ذلك فهذه فيها الأقوال الثلاثة المتقدمة: إما لزوم المحلوف به وإما الكفارة وإما لا هذا ولا هذا وليس في حكم الله ورسوله إلا يمينان: يمين من أيمان المسلمين ففيها الكفارة أو يمين ليست من أيمان المسلمين: فهذه لا شيء فيها إذا حنث فهذه الأيمان إن كانت من أيمان المسلمين ففيها كفارة وإن لم تكن من أيمان المسلمين لم يلزم بها شيء
فأما إثبات يمين يلزم الحالف بها ما التزمه ولا تجزئه فيها كفارة: فهذا ليس في دين المسلمين بل هو مخالف للكتاب والسنة والله تعالى ذكر في سورة التحريم حكم أيمان المسلمين وذكر في السورة التي قبلها حكم طلاق المسلمين فقال في سورة التحريم: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم } وقال في سورة الطلاق: { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا * فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا } فهو سبحانه بين في هذه السورة حكم الطلاق وبين في تلك حكم أيمان المسلمين وعلى المسلمين أن يعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله فيعرفوا ما يدخل في الطلاق وما يدخل في أيمان المسلمين ويحكموا في هذا بما حكم الله ورسوله ولا يتعدوا حدود الله فيجعلوا حكم أيمان المسلمين وحكم طلاقهم حكم أيمانهم فإن هذا مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإن كان قد اشتبه بعض ذلك على كثير من علماء المسلمين فقد عرف ذلك غيرهم من علماء المسلمين والذين ميزوا بين هذا وهذا من الصحابة والتابعين هم أجل قدرا عند المسلمين ممن اشتبه عليه هذا وهذا وقد قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فما تنازع فيه المسلمون وجب رده إلى الكتاب والسنة
والاعتبار الذي هو أصح القياس وأجلاه إنما يدل على قول من فرق بين هذا وهذا مع ما في ذلك من صلاح المسلمين في دينهم ودنياهم إذا فرقوا بين ما فرق الله ورسوله بينه فإن الذين لم يفرقوا بين هذا وهذا أوقعهم هذا الاشتباه: إما في آصار وأغلال وإما في مكر واحتيال: كالاحتيال في ألفاظ الأيمان والاحتيال بطلب إفساد النكاح والاحتيال بدور الطلاق والاحتيال بخلع اليمين والاحتيال بالتحليل والله أغنى المسلمين بنبيهم الذي قال الله فيه: { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } أي يخلصهم من الآصار والأغلال ومن الدخول في منكرات أهل الحيل والله تعالى أعلم
فصل
في التفريق بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والذي يقصد به اليمين:
فالأول: أن يكون مريدا للجزاء عند الشرط وإن كان الشرط مكروها له لكنه إذا وجد الشرط فإنه يريد الطلاق لكون الشرط أكره إليه من الطلاق فإنه وإن كان يكره طلاقها ويكره الشرط لكن إذا وجد الشرط فإنه يختار طلاقها: مثل أن يكون كارها للتزوج بامرأة بغي أو فاجرة أو خائنة أو هو لا يختار طلاقها لكن إذا فعلت هذه الأمور: اختار طلاقها فيقول إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق ومراده إذا فعلت ذلك أن يطلقها: إما عقوبة لها وإما كراهة لمقامه معها على هذا الحال: فهذا موقع للطلاق عند الصفة لا حالف ووقوع الطلاق في مثل هذا هو المأثور عن الصحابة كابن مسعود وابن عمر وعن التابعين وسائر العلماء وما علمت أحدا من السلف قال في مثل هذا: إنه لا يقع الطلاق ولكن نازع في ذلك طائفة من الشيعة وطائفة من الظاهرية وهذا ليس بحالف ولا يدخل في لفظ اليمين المكفرة الواردة في الكتاب والسنة ولكن من الناس من سمى هذا حالفا كما أن منهم من يسمي كل معلق حالفا ومن الناس من يسمي كل منجز للطلاق حالفا وهذه الاصطلاحات الثلاثة ليس لها أصل في اللغة ولا في كلام الشارع ولا كلام الصحابة وإنما سمي ذلك يمينا لما بينه وبين اليمين من القدر المشترك عند المسمى وهو ظنه وقوع الطلاق عند الصفة
وأما التعليق الذي يقصد به اليمين فيمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم بخلاف نوع الأول فإنه لا يمكن التعبير عن معناه: صيغة القسم وهذا القسم إذا ذكره بصيغة الجزاء فإنما يكون إذا كان كارها للجزاء وهو أكره إليه من الشرط: فيكون كارها للشرط وهو للجزاء أكره ويلتزم أعظم المكروهين عنده ليمتنع به من أدنى المكروهين فيقول: إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو عبيدي أحرار أو علي الحج ونحو ذلك أو يقول لامرأته: إن زنيت أو سرقت أو خنت: فأنت طالق يقصد زجرها أو تخويفها باليمين لا إيقاع الطلاق إذا فعلت لأنه يكون مريدا لها وإن فعلت ذلك لكون طلاقها أكره إليه من مقامها على تلك الحال فهو علق بذلك لقصد الحظر والمنع لا لقصد الإيقاع: فهذا حالف ليس بموقع وهذا هو الحالف في الكتاب والسنة وهو الذي تجزئه الكفارة والناس يحلفون بصيغة القسم وقد يحلفون بصيغة الشرط التي في معناها فإن علم هذا وهذا سواء باتفاق العلماء والله أعلم
وأما الملتزم لأمر عند الشرط فإنما يلزمه بشرطين: أحدهما أن يكون الملتزم قربة والثاني أن يكون قصده التقرب إلى الله به لا الحلف به فلو التزم ما ليس بقربه كالتطليق والبيع والإجارة والأكل والشرب لم يلزمه
ولو التزم القربة كالصدقة والصيام والحج على وجه الحلف بها لم تلزمه بل تجزئه كفارة يمين عند الصحابة وجمهور السلف وهو مذهب الشافعي وأحمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وقول المحققين من أصحاب مالك وهذا الحالف بالطلاق هو التزم وقوعه على وجه اليمين وهو يكره وقوعه إذا أوجد الشرط كما يكره وقوع الكفر إذا حلف به وكما يكره وجوب تلك العبادات إذا حلف بها وأما قول القائل: إن هذا حالف بغير الله فلا تلزمه كفارة فيقال: النص ورد فيمن حلف بالمخلوقات ولهذا جعله شركا لأنه عقد اليمين بغير الله فمن عقد اليمين لله فهو أبلغ ممن عقدها بالله ولهذا كان النذر أبلغ من اليمين فوجوب الكفارة فيما عقد لله أولى من وجوبها فيما عقد بالله والله تعالى أعلم
544 - 7 سئل رحمه الله تعالى: فيمن يقول أن للمرأة إذا وقع بها الطلاق الثلاث تباح بدون نكاح ثان للذي طلقها ثلاثا فهل قال هذا القول أحد من المسلمين؟ ومن قال هذا القول ماذا يجب عليه وما صفة النكاح الثاني الذي يبيحها أفتونا؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين إذا وقع بالمرأة الطلاق الثلاث لم تحل لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره كما ذكر الله ذلك في كتابه وقضت به سنة رسول الله ﷺ وهذا متفق عليه بين المسلمين لم يقل فيه أحد منهم أنها تباح بعد وقوع الثلاث بدون نكاح زوج ثان ومن نقل هذا عن أحد من علماء المسلمين فقد كذب عليه ولكن طائفة من متأخري الفقهاء اعتقد في بعض صور التعليق وهي صورة التسريح أن صاحبها لا يقع منه بعد هذا طلاق وأنكر ذلك جماهير علماء المسلمين وردوا هذا القول وهو قول محدث لم يقل به أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من الأئمة الأربعة ولا نظرائهم إنما قاله بشبهة وقعت في مثل ذلك وقد بيناها وبنا فسادها في غير هذا الموضع ومن قال: إن الطلاق الثلاث لا يقع بحال فقد جعل نكاح المسلمين مثل نكاح النصارى
والله قد شرع الطلاق في الجملة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة فمن قال: إنها تباح بعد وقوع الثلاث بدون زوج ثان فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل ومن استحل وطؤها بعد علمه أنه وقع به الثلاث فإن كان جاهلا عرف الحكم فإن أصر على استحلال ذلك فهو مرتد تجري عليه أحكام المرتدين بخلاف ما تنازع فيه المسلمون وساغ فيه الاجتهاد فإن المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم تنازعوا في مسائل كثيرة هل يقع فيها الطلاق أو لا يقع؟ وهل يقع واحدة أو ثلاث؟ وتنازعوا في بعض الصور هل الطلاق مباح أو محرم ولم يتنازعوا أنه محرم في بعض الأحوال كالطلاق في الحيض إذا لم تسأله الطلاق فإنه لا يحل حتى تطهر فيطلقها في طهر لم يصبها فيه وإنه يباح في بعض الأحوال كما إذا احتاج إليه فإننا مع الحاجة إليه مباح فلا كراهة وبدون الحاجة مكره عند بعض العلماء وتحرم عند بعضهم والفرق بين مواقع الإجماع وموارد النزاع معلوم عند العلماء
والمسائل التي تنازع فيها العلماء من مسائل الطلاق كثيرة كمسائل الكنايات الظاهرة والخفية هل تقع بها واحدة رجعية أو يقع بالظاهرة واحدة بائنة أو ثلاث وهل يفرق بين حال وحال ونحو ذلك من مسائل الاجتهاد واتفقوا كلهم على أنها لا تباح بعد وقوع الثلاث إلا بنكاح زوج ثان ولا بد فيه من الوطء عند عامة السلف والخلف
كما ثبتت به سنة رسول الله ﷺ لم يعرف فيه نزاع إلا عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول إذا كان النكاح نكاح رغبة لم يحتج إلى الدخول ومن نقل هذا القول عن مالك والشافعي أو داود أو غيرهم فقد أخطأ أن تعمد الكذب وسعيد بن المسيب يقال أنه أعلم بسنة رسول الله ﷺ وقوله لامرأة رفاعة القرظي لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك والذي عليه جماهير السلف والخلف أنها لا تباح للأول إلا بنكاح رغبة وهو النكاح المعروف الذي يفعله الناس في العادة بخلاف نكاح التحليل فإن جمهور السلف لا يبيحونها به والله تعالى أعلم