13 - / 13 - مسألة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن زيارة القدس وقبر الخليل عليه السلام؟ وما في أكل الخبز والعدس من البركة ونقله من بلد إلى بلد للبركة؟ وما في ذلك من السنة والبدعة؟
أجاب: الحمد لله أما السفر إلى بيت المقدس للصلاة فيه والاعتكاف أو القراءة أو الذكر أو الدعاء فمشروع مستحب باتفاق علماء المسلمين وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أنه قال: [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ] والمسجد الحرام ومسجد رسول الله ﷺ أفضل منه وفي الصحيحين عنه أنه قال: [ صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ]
وأما السفر إلى مجرد زيارة قبر الخليل أو غيره من مقابر الأنبياء والصالحين ومشاهدهم وآثارهم فلم يستحبه أحد من أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم بل لو نذر ذلك ناذر لم يجب عليه الوفاء بهذا النذر عند الأئمة الأربعة وغيرهم بخلاف المساجد الثلاثة فإنه إذا نذر السفر إلى المسجد الحرام لحج أو عمرة لزمه ذلك باتفاق الأئمة وإذا نذر السفر إلى المسجدين الآخرين لزمه السفر عند أكثرهم كمالك وأحمد والشافعي في أظهر قوليه لقول النبي ﷺ: [ من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصيه ] رواه البخاري
وإنما يجب الوفاء بنذر كل ما كان طاعة مثل من نذر صلاة أو صوما أو اعتكافا أو صدقة لله أو حجا ولهذا لا يجب بالنذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة لأنه ليس بطاعة لقول النبي ﷺ: [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ] فمنع من السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة فغير المساجد أولى بالمنع لأن العبادة في المساجد أفضل منها في غير المساجد وغير البيوت بلا ريب ولأنه قد ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: [ أحب البقاع إلى الله المساجد ] مع أن قوله: [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ] يتناول المنع من السفر إلى كل بقعة مقصودة بخلاف السفر للتجارة وطلب العلم ونحو ذلك فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كانت وكذلك السفر لزياره الأخ في الله فإنه هو المقصود حيث كان
وقد ذكر بعض المتأخرين من العلماء أنه لا بأس بالسفر إلى المشاهد واحتجوا بأن النبي ﷺ كان يأتي قباء كل سبت راكبا وماشيا أخرجاه في الصحيحين ولا حجة لهم فيه لأن قباء ليست مشهدا بل مسجد وهي منهي عن السفر إليها باتفاق الأئمة لأن ذلك ليس بسفر مشروع بل لو سافر إلى قباء من دويره أهله لم يجز ولكن لو سافر إلى المسجد النبوي ثم ذهب منه إلى قباء فهذا يستحب كما يستحب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد
وأما أكل الخبز والعدس المصنوع عند قبر الخليل عليه السلام فهذا لم يستحبه أحد من العلماء لا المتقدمين ولا المتأخرين ولا كان هذا مصنوعا لا في زمن الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا بعد ذلك إلى خمسمائة سنة من البعثة حتى أخذ النصارى تلك البلاد ولم تكن القبة التي على قبره مفتوحة بل كانت مسدودة ولا كان السلف من الصحابة والتابعين يسافرون إلى قبره ولا قبر غيره لكن لما أخذ النصارى تلك البلاد فسووا حجرته واتخذوها كنيسة فلما أخذ المسلمون البلاد بعد ذلك اتخذ ذلك من اتخذه مسجدا وذلك بدعة منهي عنها لما ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: [ لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبورأنبيائهم مساجد ] يحذر ما فعلوا وفي الصحيح عنه أنه قال قبل موته بخمس: [ إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخدوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ] ثم وقف بعض الناس وقفا للعدس والخبز وليس هذا وقفا من الخليل ولا من أحد من بني إسرائيل ولا من النبي ﷺ ولا من خلفائه
بل قد روي عن النبي ﷺ أنه أطلق تلك القرية للدارسين ولم يأمرهم أن يطعموا عند مشهد الخليل عليه السلام لا خبزا ولا عدسا ولا غير ذلك
فمن اعتقد أن الأكل من هذا الخبز والعدس مستحب شرعه النبي ﷺ فهو مبتدع ضال بل من اعتقد أن العدس مطلقا فيه فضيلة فهو جاهل والحديث الذي يروى: كلوا العدس فإنه يرق قدس القلب وقد قدس فيه سبعون نبيا حديث مكذوب مختلق باتفاق أهل العلم ولكن العدس هو مما اشتهاه اليهود وقال الله تعالى لهم: { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير }
ومن الناس من يتقرب إلى الجن بالعدس فيطبخون عدسا ويضعونه في المراحيض أو يرسلونه ويطلبون من الشياطين بعض ما يطلب منهم كما يفعلون في الحمام وغير ذلك وهذا من الإيمان بالجبت والطاغوت
وجماع دين الإسلام أن يعبد الله وحده لا شريك له ولعبده بما شرعه سبحانه وتعالى على لسان نبيه محمد ﷺ من الواجبات والمستحبات والمندوبات فمن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة فهو ضال والله أعلم
14 - 14 - مسألة: في اتباع الرسول ﷺ بصحيح المعقول؟
قال الشيخ: الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ تسليما كثيرا
أما بعد إعلم أنه يجب على كل بالغ عاقل من الإنس والجن أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا أرسله إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم وعربهم وعجمهم وفرسهم وهندهم وبربرهم ورومهم وسائر أصناف العجم أسودهم وأبيضهم
والمراد بالعجم من ليس بعربي على اختلاف ألسنتهم فمحمد ﷺ أرسل إلى كل أحد من الإنس والجن كتابيهم وغير كتابيهم في كل ما يتعلق بدينه من الأمور الباطنة والظاهرة في عقائده وحقائقه وطرائقه وشرائعه فلا عقيدة إلا عقيدته ولا حقيقة إلا حقيقته ولا طريقة إلا طريقته ولا شريعة إلا شريعته ولا يصل أحد من الخلق إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته وولايته إلا بمتابعته باطنا وظاهرا في الأقوال الأعمال الباطنة والظاهرة في أقوال القلب وعقائده وأحوال القلب وحقائقه وأقوال اللسان وأعمال الجوارح وليس لله ولي إلا من اتبعه باطنا وظاهرا فصدقه فيما أخبر به من الغيوب والتزم طاعته فيما فرض على الخلق من أداء الواجبات وترك المحرمات
فمن لم يكن له مصدقا فيما أخبر ملتزما لطاعته فيما أوجب وأمر في الأمور الباطنة التي في القلوب والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمنا فضلا عن أن يكون وليا لله ولو حصل له من خوارق العادات ماذا عسى أن يحصل فإنه لا يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور من أداء الواجبات من الصلاة وغيرها بطهارتها وواجباتها إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله المقربة إلى سخطه وعذابه لكن من ليس بمكلف من الأطفال والمجانين قد رفع القلم عنهم فلا يعاقبون وليس لهم من الإيمان بالله وتقواه باطنا وظاهرا ما يكونون به من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين لكن يدخلون في الإسلام تبعا لآبائهم كما قال تعالى: { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين }
وهم مع عدم العقل لا يكونون ممن في قلوبهم حقائق الإيمان ومعارف أهل ولاية الله وأحوال خواص الله لأن هذه الأمور كلها مشروطة بالعقل فالجنون مضاد العقل والتصديق والمعرفه واليقين والهدى والثناء وإنما يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات
فالمجنون وإن كان الله لا يعاقبه ويرحمه في الآخرة فإنه لا يكون من أولياء الله المقربين والمقتصدين الذين يرفع الله درجاتهم ومن اعتقد أن أحدا من هؤلاء الذين لا يؤدون الواجبات ولا يتركون المحرمات سواء كان عاقلا أو مجنونا أو مولها أو متولها فمن اعتقد أن أحدا من هؤلاء من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين وجنده الغالبين السابقين المقربين والمقتصدين الذين يرفع الله دراجاتهم بالعلم والإيمان مع كونه لا يؤدي الواجبات ولا يترك المحرمات كان المعتقد لولاية مثل هذا كافرا مرتدا عن دين الإسلام غير شاهد لمحمد ﷺ بأنه رسول الله ﷺ بل هو مكذب لمحمد ﷺ فيما شهد به لأن محمدا أخبر عن الله أن أنبياء الله هم المتقون المؤمنون
قال تعالى: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون } وقال تعالى: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والتقوى أن يعمل الرجل بطاعة الله على نور من الله يرجو رحمة الله وأن يترك معصية الله على نور من الله يخاف عذاب الله ولا يتقرب ولي الله إلا بأداء فرائضه ثم بأداء نوافله قال تعالى: ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه كما جاء في الحديث الصحيح الإلهي الذي رواه البخاري
فصل
ومن أحب الأعمال إلى الله وأعظم الفرائض عنده الصلوات الخمس في مواقيتها وهي أول ما يحاسب عليها العبد من عمله يوم القيامة وهي التي فرضها الله تعالى بنفسه ليلة المعراج لم يجعل فيها بينه وبين محمد واسطة وهي عمود الإسلام الذي لا يقوم إلا به وهي أهم أمر الدين كما كان أمير المؤمين عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة ] وقال: [ العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ] فمن لم يعتقد وجوبها على كل عاقل بالغ إلا الحائض والنفساء فهو كافر مرتد باتفاق أئمة المسلمين وإن اعتقد أنها عمل صالح وأن الله يحبها ويثبت عليها وصلى مع ذلك وقام الليل وصام النهار وهو مع ذلك لا يعتقد وجوبها على كل بالغ فهو أيضا كافر مرتد حتى يعتقد أنها فرض واجب على كل بالغ عاقل
ومن اعتقد أنها تسقط عن بعض الشيوخ العارفين والمكاشفين والواصلين أو أن لله خواصا لا تجب عليهم الصلاة بل قد سقطت عنهم لوصولهم إلى حضرة القدس أو لاستغنائهم عنها بما هو أهم منها أو أولى أو أن المقصود حضور القلب مع الرب أو أن الصلاة فيها تفرقة فإذا كان العبد في جمعيته مع الله فلا يحتاج إلى الصلاة بل المقصود من الصلاة هي المعرفة فإذا حصلت لم يحتج إلى الصلاة فإن المقصود أن يحصل لك خرق عادة كالطيران في الهواء والمشي على الماء أو ملء الأوعية ماء من الهواء أو تغوير المياه واستخراج ما تحتها من الكنوز وقتل من يبغضه بالأحوال الشيطانية فمتى حصل له ذلك استغنى عن الصلاة ونحو ذلك أو أن لله رجالا خواصا لا يحتاجون إلى متابعة محمد ﷺ بل استغنوا عنه كما استغنى الخضر عن موسى أو أن كل من كاشف وطار في الهواء أو مشى على الماء فهو ولي سواء صلى أو لم يصل أو اعتقد أن الصلاة تقبل من غير طهارة أو أن المولهين والمتولهين والمجانين الذين يكونون في المقابر والمزابل والطهارات والخانات والقمامين وغير ذلك من البقاع وهم لا يتوضؤون ولا يصلون الصلوات المفروضات
فمن اعتقد أن هؤلاء أولياء فهو كافر مرتد عن الإسلام باتفاق أئمة الإسلام ولو كان في نفسه زاهدا عابدا فالرهبان أزهد وأعبد وقد آمنوا بكثير مما جاء به الرسول وجمهورهم يعظمون الرسول ويعظمون اتباعه ولكنهم لم يؤمنوا بجميع ما جاء به بل آمنوا ببعض وكفروا ببعض فصاروا بذلك كافرين كما قال تعالى: { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا * والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما }
ومن كان مسلوب العقل أو مجنونا فغايته أن يكون القلم قد رفع عنه فليس عليه عقاب ولا يصح إيمانه ولا صلاته ولا صيامه ولا شيء من أعماله فإن الأعمال كلها لا تقبل إلا مع العقل فمن لا عقل له لا يصح شيء من عبادته لا فرائضه ولا نوافله ومن لا فريضة له ولا نافلة ليس من أولياء الله ولهذا قال تعالى: { إن في ذلك لآيات لأولي النهى } أي العقول وقال تعالى: { هل في ذلك قسم لذي حجر } أي الذي عقل وقال تعالى: { واتقون يا أولي الألباب } وقال: { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } وقال تعالى: { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } فإنما مدح الله وأثنى على من كان له عقل فاما من لا يعقل فإن الله لم يحمده ولم يثن عليه ولم يذكره بخير قط بل قال تعالى عن أهل النار { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } وقال تعالى: { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } وقال: { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }
فمن لا عقل له لا يصح إيمانه ولا فرضه ولا نفله ومن كان يهوديا أو نصرانيا ثم جن وأسلم بعد جنونه لم يصح إسلامه لا باطنا ولا ظاهرا ومن قد آمن ثم كفر وجن بعد ذلك فحكمه حكم الكفار ومن كان مؤمنا ثم جن بعد ذلك أثيب على إيمانه الذي كان في حال عقله ومن ولد مجنونا ثم استمر جنونه لم يصح منه إيمان ولا كفر
وحكم المجنون حكم الطفل إذا كان أبوه مسلما كان مسلما تبعا لأبويه باتفاق المسلمين وكذلك إذا كانت أمه مسلمة عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وكذلك من جن بعد إسلامه يثبت لهم حكم الإسلام تبعا لآبائهم وكذلك المجنون الذي ولد بين المسلمين يحكم له بالإسلام ظاهرا تبعا لأبويه أو لأهل الدار كما يحكم بذلك للأطفال لا لأجل إيمان قام به فأطفال المسلمين ومجانينهم يوم القيامة تبع لآبائهم وهذا الإسلام لا يوجب مزية على غيره ولا أن يصير به من أولياء الله المتقين الذين يتقون إليه بالفرائض والنوافل وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا }
فنهى الله عز وجل عن قربان الصلاة إذا كانوا سكارى حتى يعلموا ما يقولون وهذه الآية نزلت باتفاق العلماء قبل أن تحرم بالآية التي أنزلها الله في سورة المائدة
وقد روي أنه كان سبب نزولها أن بعض الصحابة صلى بأصحابه وقد شرب الخمر قبل أن تحرم فخلط فغلط في القراءة فأنزل الله هذه الآية فإذا كان قد حرم الله الصلاة مع السكر والشرب الذي لم يحرم حتى يعلموا ما يقولون علم أن ذلك يوجب أن لا يصلي أحد حتى يعلم ما يقول فمن لم يعلم ما يقول لم تحل له الصلاة وإن كان عقله قد زال بسبب غير محرم ولهذا اتفق العلماء على أنه لا تصح صلاة من زال عقله بأي سبب زال فكيف بالمجنون وقد قال بعض المفسرين وهو يروي عن الضحاك: لا تقربوها وأنتم سكارى من النوم وهذا إذا قيل أن الآية دلت عليه بطريق الأعتبار أو شمول معنى اللفظ العام وإلا فلا ريب أن سبب الآية كان السكر من الخمر واللفظ صريح في ذلك والمعنى الآخر صحيح أيضا
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: [ إذا قام أحدكم يصلي بالليل فاستعجم القرآن على لسانه فليرقد فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه ] وفي لفظ: [ إذا قام يصلي فنعس فليرقد ]
فقد نهى النبي ﷺ عن الصلاة مع النعاس الذي يغلط معه الناعس وقد احتج العلماء بهذا على أن النعاس لا ينقض الوضوء إذ لو نقض بذلك لبطلت الصلاة أو لوجب الخروج منها لتجديد الطهارة والنبي ﷺ إنما علل ذلك بقوله: [ فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه ] فعلم أنه قصد النهي عن الصلاة لمن لا يدري ما يقول وإن كان ذلك بسبب النعاس وطرد ذلك أنه ثبث عنه في الصحيح أنه قال: [ لا يصلي أحدكم وهو يدافع الأخبثين ولا بحضرة طعام ] لما في ذلك من شغل القلب
وقال أبو الدرداء من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته فيقضيها ثم يقبل على صلاته وقلبه فارغ فإذا كانت الصلاة محرمة مع ما يزيل العقل ولو كان بسبب مباح حتى يعلم ما يقول كانت صلاة المجنون ومن يدخل في مسمى المجنون وإن سمي مولها أو متولها أو ولي أن لا تجوز صلاته
ومعلوم أن الصلاة أفضل العبادات كما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: قلت للنبي ﷺ: [ أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد قال: حدثني بهن رسول الله ﷺ ولو استزدته لزادني ]
وثبت أيضا في الصحيحين عنه أنه: [ جعل أفضل الأعمال إيمان بالله وجهاد في سبيله ثم الحج المبرور ] ولا منافاة بينهما فإن الصلاة داخلة في مسمى الإيمان بالله كما دخلت في قوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } قال البراء بن عازب وغيره من السلف: أي صلاتكم إلى بيت المقدس ولهذا كانت الصلاة كالإيمان لا تدخلها النيابة بحال فلا يصلي أحد عن أحد الفرض لا لعذر ولا لغير عذر كما لا يؤمن أحد عنه ولا تسقط بحال كما لا يسقط الإيمان بل عليه الصلاة ما دام عقله حاضرا وهو متمكن من فعل بعض أفعالها فإذا عجز عن جميع الأفعال ولم يقدر على الأقوال فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الأفعال بقلبه فيه قولان للعلماء وإن كان الأظهر أن هذا غير مشروع فإذا كان كذلك تبين أن من زال عقله فقد حرم ما يتقرب به إلى الله من فرض ونفل والولاية هي الإيمان والتقوى المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل فقد حرم ما به يتقرب أولياء الله إليه لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه فلا يعاقب كما لا يعاقب الأطفال والبهائم إذ لا تكليف عليهم في هذه الحال ثم إن كان مؤمنا قبل حدوث الجنون به وله أعمال صالحة وكان يتقرب إلى الله بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله كان له من ثواب ذلك الإيمان والعمل الصالح ما تقدم وكان له من ولاية الله تعالى بحسب ما كان عليه من الإيمان والتقوى كما لا يسقط ذلك بالموت بخلاف ما لو ارتد عن الإسلام فإن الردة تحبط الأعمال وليس من السيئات ما يحبط الأعمال الصالحة إلا الردة كما أنه ليس من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إلا التوبة فلا يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته كما لا يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله فالأعمال المسكرة والنوم لأنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح
ولكن في الحديث الصحيح عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال: [ إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ] وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال في غزوة تبوك: [ إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر ] فهؤلاء كانوا قاصدين للعمل الذي كانوا يعملونه راغبين فيه لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل بخلاف من زال عقله فإنه ليس له قصد صحيح ولا عبادة أصلا بخلاف أولئك فإن لهم قصدا صحيحا يكتب لهم به الثواب
وأما من كان قبل جنونه كافرا أو فاسقا أو مذنبا لم يكن حدوث الجنون به مزيلا لما ثبت من كفره وفقه ولهذا كان من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشورا معهم وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه محشورا مع المؤمنين من المتقين وزوال العقل بجنون أو غيره سواء سمي صاحبه مولها أو متولها لا يوجب مزيد حال صاحبه من الإيمان والتقوى
ولا يكون زوال عقله سببا لمزيد حيره ولا صلاحه ولا ذنبه ولكن الجنون يوجب زوال العيل فيبقى على ما كان عليه من خير وشر لا أنه يزيده ولا ينقصه لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير كما أنه يمنع عقوبته على الشر
وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم كشرب الخمر وأكل الحشيشة أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى يغيب عقله أو الذي يتعبد بعبادات بدعية حتى يقترن به بعض الشياطين فيغيروا عقله أو يأكل بنجا يزيل عقله فهؤلاء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول وكثير من هؤلاء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه فيرقص رقصا عظيما حتى يغيب عقله أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني وكثير من هؤلاء يقصد التوله حتى يصير مولها فهؤلاء كلهم من حزب الشيطان وهذا معروف من غير واحد منهم
واختلف العلماء هل هم مكلفون في حال زوال عقلهم والأصل مسألة السكران والمغصوص عن الشافعي وأحمد وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله وقال كثير من العلماء ليس مكلفا وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وإحدى الروايتين عن أحمد أن طلاق السكران لا يقع وهذا أظهر القولين
ولم يقل أحد من العلماء أن هؤلاء الذين زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء الله الموحدين المقربين وحزبه المفلحين ومن ذكره العلماء من عقلاء المجانين الذين ذكروهم بخير فهم من القسم الأول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم
ومن علامة هؤلاء أنهم إذا حصل لهم من جنونهم نوع من الصحو تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان لا بالكفر والبهتان بخلاف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع أفاقه بالكفر والشرك ويهذي في زوال عقله بالكفر فهذا إنما يكون كافرا لا مسلما ومن كان يهذي بكلام لا يعقل بالفارسية أو التاركية أو البربرية وغير ذلك مما يحصل لبعض من يحضر السماع ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلام لا يعقل أو بغير العربية فهؤلاء إنما يتكلم على ألسنتهم الشيطان كما يتكلم على لسان المصروع
ومن قال أن هؤلاء أعطاهم الله عقولا وأحوالا فأبقى أحوالهم وأذهب عقولهم وأسقط ما فرض عليهم بما سلب قيل: قولك وهب الله لهم أحوالا كلام مجمل فإن الأحوال تنقسم إلى: حال رحماني وحال شيطان وما يكون لهؤلاء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب فتارة يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان وتارة يكون من الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى والإيمان فإن كان هؤلاء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية وكانوا من المؤمنين المتقين فلا ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول وإن كان ما أعطوه من الأحوال الشيطانية كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون فهؤلاء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق كما لم يخرج الأولون عما كانوا عليه من الإيمان والتقوى
كما أن نوم كل واحد من الطائفتين وموته واغمائه لا يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال العقل غايته أن يسقط التكليف ورفع القلم لا يوجب حمدا ولا مدحا ولا ثوابا ولا يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء الله ولا كرامة من كرامات الصالحين بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت ولا مدح في ذلك ولا ذم بل النائم أحسن حالا من هؤلاء
ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام ينامون وليس فيهم مجنون ولا موله والنبي ﷺ يجوز عليه النوم والإغماء ولا يجوز عليه الجنون وكان نبينا محمد ﷺ تنام عيناه ولا ينام قلبه وقد أغمي عليه في مرضه
وأما الجنون فقد نزه الله أنبياءه عنه فإنه من أعظم نقائص الإنسان إذ كمال الإنسان بالعقل ولهذا حرم الله إزالة العقل بكل طريق وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل كشرب الخمر فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل لأنها ذريعة إلى شرب الكثير الذي يزيل العقل فكيف يكون مع هذا زوال العقل سببا شرطا أو مقربا إلى ولاية الله كما يظنه كثير من أهل الضلال حتى قال قائلهم في هؤلاء:
( هم معشر حلوا النظام وخرفوا الس... ياج فلا فرض لديهم ولا نفل )
( مجانين إلا أن سر جنونهم... عزيز على أبوابه يسجد العقل )
فهذا كلام ضال بل كافر ويظن أن للمجنون سرا يسجد العقل على بابه وذاك لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين كما يكون للسحرة والكهان فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا لله ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين
اليهود والنصارى فإن كثيرا من الكفار والمشركين فضلا عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب شياطينهم أضعاف ما لهؤلاء لأنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب لكن لا بد في جميع مكاشفة هؤلاء من الكذب والبهتان ولا بد في أعمالهم من فجور وطغيان كما يكون لإخوانهم من السحرة والكهان قال الله تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم } فكل من تنزلت عليه الشياطين لا بد أن يكون فيه كذب وفجور من أي قسم كان والنبي ﷺ قد أخبر أن أولياء الله هم الذين يتقربون إليه بالفرائض وحزبه المفلحون وجنده الغالبون وعباده الصالحون
فمن اعتقد فيمن لا يفعل الفرائض ولا النوافل أنه من أولياء الله المتقين إما لعدم عقله أو جهله أو لغير ذلك فمن اعتقد في مثل هؤلاء أنه من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين فهو كافر مرتد عن دين رب العالمين وإذا قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله كان من الكاذبين الذين قيل فهم: { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون * ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون }
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ من ترك ثلاث جمع تهاونا من غير عذر طبع الله على قلبه ] فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع - وإن صلى الظهر - فكيف بمن لا يصلي ظهرا ولا جمعة ولا فريضة ولا نافلة ولا يتطهر للصلاة لا الطهارة الكبرى ولا الصغرى فهذا لو كان قبل مؤمنا وكان قد طبع على قلبه كان كافرا مرتدا بما ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض وإن اعتقد أنه مؤمن وكان كافرا مرتدا فكيف يعتقد أنه من أولياء الله المتقين وقد قال تعالى في صفة المنافقين: { استحوذ عليهم الشيطان } أي استولى يقال: حاذ الأبل حوذا إذا استقاها فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلاف ما أمر الله به ورسوله قال تعالى: { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } أي تزعجهم إزعاجا فهؤلاء استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله: { أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون }
وفي السنن عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ أنه قال: [ ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا يقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان ] فأي ثلاثة كانوا من هؤلاء لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة كانوا من حزب الشيطان استحوذ عليهم إلا من أولياء الرحمن الذين أكرمهم فإن كانوا عبادا زهادا ولهم جوع وسهر وصمت وخلوة كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات كأهل جبل لبنان وأهل جبل الفتح الذي باسون وجبل ليسون ومغارة الدم بجبل قاسيون وغير ذلك من الجبال والبقاع التي قصدها كثير من العباد الجهال الضلال ويفعلون فيها خلوات ورياضيات من غير أن يؤذن وتقام فيهم الصلاة الخمس بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها الله ورسوله بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لأحوالهم بالكتاب والسنة ولا قصد المتابعة لرسول الله الذي قال الله فيه: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } الآية
فهؤلاء أهل البدع والضلالات من حزب الشيطان لا من أولياء الرحمن فمن شهد بولاية الله فهو شاهد زور كاذب وعن طريق الصواب ناكب ثم إن كان قد عرف أن هؤلاء مخالفون للرسول وشهد مع ذلك أنهم من أولياء الله فهو مرتد عن دين الإسلام إما مكذب للرسول وإما شاك فيما جاء به مرتاب وإما غير منقاد له بل مخالف له جحودا وعنادا واتباعا لهواه وكل من هؤلاء كافر
وأما إن كان جاهلا بما جاء به الرسول وهو معتقد مع ذلك أنه رسول الله إلى كل أحد في الأمور الباطنة والظاهرة وأنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته ﷺ لكن ظن أن هذه العبادات البدعية والحقائق الشيطانية هي مما جاء بها الرسول ولم يعلم أنها من الشيطان لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته لا القصد مخالفته ولا يرجو الهدى في غير متابعته فهذا يبين له الصواب ويعرف ما به من السنة والكتاب فإن تاب وأتاب وإلا لحق بالقسم الذي قبله وكان كافرا مرتدا ولا تنجيه عبادته ولا زهادته من عذاب الله كما لم ينج من ذلك الرهبان وعباد الصلبان وعباد النيران وعباد الأوثان مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية ومكاشفات شيطانية قال تعالى: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف: نزل في أصحاب الصوامع والديارات
وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أنهم كانوا الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضلالات وقال تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم } فالأفاك هو الكذاب والأثيم الفاجر كما قال: { لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة } ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذبا وإن كان لا يتعمد الكذب
كما ثبت في الصحيحين [ عن النبي ﷺ لما قالت له سبيعة الأسلمية وقد توفي عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع فكانت حاملا فوضعت بعد موت زوجها بليال قلائل فقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين؟ فقال النبي ﷺ: كذب أبو السنابل بل حللت فانكحي ]
وكذلك لما قال سلمة بن الأكوع: [ انهم يقولون أن عامرا قتل نفسه وحبط عمله فقال: كذب من قالها إنه لجاهد مجاهد وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب فإنه كان رجلا صالحا وقد روى أنه كان أسيد بن الحضير لكنه لما تكلم بلا علم كذبه النبي ﷺ ]
وقد قال أبو بكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة فيما يفتون فيه باجتهادهم: إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان فكيف بمن تكلم بلا اجتهاد يبيح له الكلام في الدين؟ فهذا خطأه أيضا من الشيطان مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب والمجتهد خطأه من الشيطان وهو مغفور له
كما أن الاحتلام والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور بخلاف من تكلم بلا اجتهاد يبيح له ذلك فهذا كذب آثم في ذلك وإن كانت له حسنات في غير ذلك فإن الشيطان ينزل على كل إنسان ويوحي بحسب موافقته له ويطرد بحسب إخلاصه لله وطاعته له قال تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله من أداء الواجبات والمستحبات وأما من عبده بغير ذلك فإنه من عباد الشيطان لا من عباد الرحمن قال تعالى: { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون } والذين يعبدون الشيطان وأكثرهم لا يعرفون أنهم يعبدون الشيطان بل قد يظنون أنهم يعبدون الملائكة أو الصالحين كالذين يستغيثون بهم ويسجدون لهم فهم في الحقيقة إنما عبدوا الشيطان وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد الله الصالحين قال تعالى: { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون }
ولهذا [ نهى النبي ﷺ عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ] فإن الشيطان يقارنها حينئذ حتى يكون سجود عباد الشمس له وهم يظنون أنهم يسجدون للشمس وسجودهم للشيطان وكذلك أصحاب دعوات الكواكب الذين يدعون كوكبا من الكواكب ويسجدون له ويناجونه ويدعونه ويضعون له من الطعام واللباس والبخور والتسبيحات ما يناسبه كما ذكره صاحب السر المكتوم المشرقي وصاحب الشعلة النورانية البوني المغربي وغيرهما
فإن هؤلاء تنزل عليهم أرواح تخاطبهم وتخبرهم ببعض الأمور وتقضي لهم بعض الحوائج ويسمون ذلك روحانية الكواكب ومنهم من يظن أنها ملائكة وإنما هي شياطين تنزل عليهم قال تعالى: { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين }
وذكر الرحمن هو الذي أنزله وهو الكتاب والسنة اللذان قال الله فيهما: { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } وقال تعالى: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } وهو الذكر الذي قال الله فيه: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }
فمن أعرض عن هذا الذكر وهو الكتاب والسنة قيض له قرين من الشياطين فصار من أولياء الشيطان بحسب ما تابعه وإن كان مواليا للرحمن تارة وللشيطان كان فيه من الإيمان وولاية الله بحسب ما والى فيه الرحمن وكان فيه من عداوة الله والنفاق بحسب ما والى فيه الشيطان كما قال حذيفة بن اليمان: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه السراج يزهر فذلك قلب الكافر والأغلف قلب يلف عليه غلاف كما قال تعالى عن اليهود: { وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم } وقد تقدم قوله ﷺ: [ من ترك جمع طبع الله على قلبه ] وقلب منكوس فذلك قلب المنافق وقلب فيه ما دتتان مادة تمده للإيمان ومادة تمده للنفاق فأيهما غلب كان الحكم له وقد روي هذا في مسند الإمام أحمد في مسند الإمام أحمد مرفوعا
وفي الصحيحن عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال: [ أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ] فقد بين النبي ﷺ ان القلب يكون فيه شعبة نفاق وشعبة إيمان فإذا كان فيه شعبة نفاق كان فيه شعبة من ولايته وشعبة من عداوته ولهذا يكون بعض هؤلاء يجري على يديه خوارق من جهة إيمانه بالله وتقواه تكون من كرامات الأولياء وخوارق من جهة نفاقه وعداوته تكون من أحوال الشياطين ولهذا أمرنا الله تعالى أن نقول في كل صلاة: { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }
والمغضوب عليهم هم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه والضالون الذين يعبدون الله بغير علم فمن اتبع هواه وذوقه ووجده مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة فهو من المغضوب عليهم وإن كان فذلك من الضالين
نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين