☰ جدول المحتويات
كتاب البيوع
قواعد في العقود من المعاملات المالية والنكاحية وغيرها
وأما العقود من المعاملات المالية والنكاحية وغيرها فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة فإن ذلك فيها كالقول في العبادات فمن ذلك:
صفة العقود
فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغة وهي العبارات التي قد يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول سواء في ذلك: البيع والإجارة والهبة والنكاح والعتق والوقف وغير ذلك وهذا ظاهر قول الشافعي وهو قول في مذهب أحمد يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل كالبيع والوقف ويكون تارة رواية مخرجة والإجارة
ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها كما في إشارة الأخرس ويقيمون أيضا الكتابة في مقام العبارة عند الحاجة وقد يستثنون مواضع دلت النصوص على جوازها إذا مست الحاجة إليها كما في الهدي إذا عطب دون محله فإنه ينحر ثم يضمخ نعله المعلق في عنقه بدمه علامة للناس ومن أخذه ملكه وكذلك الهدية ونحو ذلك لكن الأصل عندهم هو اللفظ لأن الأصل في العقود هو التراضي المذكور في قوله: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقوله: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } والمعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي قد جعلت لإبانة ما في القلب إذ الأفعال من المعاطاة ونحوها يحتمل وجوها كثيرة ولأن العقود من جنس الأقوال فهي في المعاملات كالذكر والدعاء في العبادات
القول الثاني: أنها تصح بالأفعال فيما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات بالمعاطاة وكالوقف في مثل من بنى مسجدا وأذن للناس في الصلة فيه أو سبل أرضا للدفن أو بنى مظهرة وسبلها للناس وكبعض أنواع الإجارة: كمن دفع ثوبه إلى غسال أو خياط يعمل بالأجرة أو ركب سفينة ملاح وكالهدية ونحو ذلك
فإن هذه العقود لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أمور الناس ولأن الناس من لدن النبي ﷺ وإلى يومنا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدال على المقصود وهذا قول الغالب على أصول أبي حنيفة وهو قول في مذهب أحمد ووجه في مذهب الشافعي بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة فإنه لا حاجة إليه ولم يجربه العرف
القول الثالث: أنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل فكل ما عده الناس بيعا وإجارة فهو بيع وإجارة وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال وليس لذلك حد مستمر لا في شرع ولا في لغة بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم فإن لفظ البيع والإجارة في لغة العرب ليس هو اللفظ الذي في لغة الفرس أو الروم أو الترك أو البربر أو الحبشة بل قد يختلف أنواع اللغة الواحدة ولا يجب على الناس إلتزام نوع معين من الإصطلاحات في المعاملات ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم وإن كان قد يستحب بعض الصفات
وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد ولهذا يصح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقا وإن كان قد وجد اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر بأن يقول: خذ هذا لله فيأخذه أو يقول: أعطني خبزا بدرهم فيعطيه أو لم يوجد لفظ من أحدهما بأن يضع الثمن ويقبض جرزة البقل أو الحلوى أو غير ذلك كما يتعامل بها غالب الناس أو يضع المتاع ليوضع له بدله فإذا وضع البدل الذي يرضى به أخذه كما يجلبه التجار عن عادة بعض أهل المشرق فكلما عده الناس بيعا فهو بيع
وكذلك في الهبة مثل الهدية ومثل تجهيز الزوجة بمال يحمل معها إلى بيت زوجها إذا كانت العادة جارية بأنه عطية لا عارية
وكذلك الإجارات مثل ركوب سفينة الملاح والمكارين وركوب دابة الجمال إذ الحمار أو البغال المكارين على الوجه المعتاد أنه إجارة ومثل الدخول إلى حمام الحمامي ومثل دفع الثوب إلى غسال أو خياط يعمل بالأجر أو دفع الطعام إلى طباخ أو شواي بطبخ أو يشوي للآخر سواء شوى اللحم مشروحا أو غير مشروح
حتى اختلف أصحابه هل يقع بالمعاطاة مثل أن تقول: اخلعني بهذه الألف أو بهذا الثوب فيقبض العوض على الوجه المتعاقد أنه رضي بالمعاوضة؟
فذهب العكبريون كأبي حفص وأبي علي بن شهاب إلى أن ذلك خلع صحيح وذكروا من كلام أحمد ومن كلام غيره من السلف من الصحابة والتابعين ما يوافق قولهم ولعله هو الغالب على نصوصه بل قد نص على أن الطلاق يقع بالفعل والقول واحتج على أنه يقع بالكتاب بقول النبي ﷺ: [ أن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به ]
قال: وإذا كتب فقد عمل
وذهب البغداديون الذين كانوا في ذلك الوقت كابن حامد ومن اتبعهم كالقاضي أبي يعلى ومن سلك سبيله: أنه لا تقع الفرقة إلا بالكلام وذكروا من كلام أحمد ما اعتمدوه في ذلك بناء على أن الفرقة فسخ النكاح والنكاح يفتقر إلى لفظ فكذلك فسخه
وأما النكاح فقال هؤلاء: ابن حامد والقاضي وأصحابه مثل: أبي الخطاب وعامة المتأخرين: أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج كما قاله الشافعي بناء على أنه لا ينعقد بالكتابة لأنها تفتقر إلى نية والشهادة شرط في صحة النكاح والشهادة على النية غير ممكنة ومنعوا من انعقاد بلفظ الهبة والعطية أو غيرهما من ألفاظ التمليك
وقال أكثر هؤلاء أيضا: أنه لا ينعقد إلا بلفظ العربية لمن يحسنها فإن لم يحسنها ولم يقدر على تعليمها انعقد بمعناها الخاص بكل لسان وإن قدر على تعلمها ففيه وجهان بناء على أنه مختص بهذين اللفظين وأن فيه شوب التعبد وهذا مع أنه ليس منصوصا عن أحمد فهو مخالف لأصوله ولم ينص أحمد على ذلك ولا نقلوا عنه نصا على ذلك وإنما نقلوا قوله في رواية أبي الحرث: إذا وهب لرجل فليس بنكاح فإن الله قال: { خالصة لك من دون المؤمنين }
وهذا إنما هو نص على منع ما كان من خصائص النبي ﷺ وهو النكاح بغير مهر بل قد نص أحمد في المشهور عنه على أن النكاح ينعقد بقوله لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك أو صداقك عتقك أو بقوله: جعلت عتقك صداقك ذكر ذلك في غير موضع من جواباته فاختلف أصحابه
فأما ابن حامد فطرد قياسه وقال: لا بد مع ذلك من أن يقول وتزوجتها أو نكحتها لأن النكاح لا ينعقد قط بالعربية إلا بهاتين اللفظتين
وأما القاضي أبو يعلى وغيره فجعلوا هذه الصورة مستثناة من القياس الذي وافقوا عليه ابن حامد وإن تلك من صورة الاستحسان وذكر ابن عقيل قولا في المذهب أنه ينعقد بعين لفظ الإنكاح والتزويج لنص أحمد
هذا وهذا أشبه بنصوص أحمد وأصوله ومذهب مالك في ذلك شبيه بمذهبه فإن أصحاب مالك اختلفوا: هل ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج على قولين والمنصوص عنه إنما هو منع ما اختص به النبي ﷺ من هبة البضع بغير مهر
قال ابن القاسم وإن وهب ابنته وهو يريد انكاحها فلا أحفظه عن مالك وهو عندي جائز وما ذكره بعض أصحاب مالك وأحمد من أنه لا ينعقد إلا بهذين اللفظين بعيد عن أصولهما
فإن الحكم مبني على مقدمتين:
أحدهما: إنما نسمي ذلك كناية وإن الكناية تفتقر إلى النية ومذهبهما المشهوران دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة ويقوم مقام إظهار النية ولهذا جعل للكنايات في الطلاق والقذف ونحوهما مع دلالة الحال كالصريح ومعلوم أن دلالات الأحوال في النكاح من إجتماع الناس لذلك والتحدث بما اجتمعوا فإذا قال بعد ذلك: ملكتهكها بألف درهم علم الحاضرون بالإضطرار إن المراد به الإنكاح وقد شاع هذا اللفظ في عرف الناس حتى سموا عقده أملاكا وملاكا ولهذا روى الناس قول النبي ﷺ لخاطب الواهبة الذي التمس فلم يجد خاتما من حديد تارة: [ بأنكحتكها بما معك من القرآن ] وتارة ملكتكها وإن كان النبي ﷺ يثبت أنه اقتصر على ملكتكها بل أما قالهما جميعا أو قال أحدهما
لكن لما كان اللفظان عندهم في مثل هذا الموضع سواء رووا الحديث تارة هكذا وتارة هكذا ثم تعين اللفظ العربي في مثل هذا في غاية البعد عن أصول أحمد ونصوصه وعن أصول الأدلة الشرعية إذ النكاح يصح من الكافر والمسلم وهو إن كان قربة فإنما هو كالعتق والصدقة ومعلوم أن العتق لا يتعين له لفظ لا عربي ولا عجمي وكذلك الصدقة والوقف والهبة لا يتعين لفظ عربي بالإجماع ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ كما يفهم من اللغة التي اعتادها
نعم لو قيل: يكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة لكان متوجها كما قد روي عن مالك وأحمد والشافعي ما يدل على كراهة اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة
وقد ذكرنا هذه المسألة في غير هذا الموضع وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد كالقاضي وابن عقيل والمتأخرين أنه يرجع في نكاح الكفار إلى عادتهم كما اعتقدوه نكاحا بينهم جاز إقرارهم عليه إذا تسلموا أو تحاكموا إلينا إذا لم يكن حينئذ مشتملا على مانع وإن كانوا يعتقدون أنه ليس بنكاح لم يعجز الإقرار عليه حتى قالوا: لو قهر حربي حربية فوطئها أو طاوعته واعتقداه نكاحا أقرا عليه وإلا فلا
ومعلوم أن كون القول أن الفعل يدل على مقصود العقد لا يختص به المسلم دون الكافر إنما اختص المسلم بأن الله أمر في النكاح أن يميز عن السفاح كما قال: { محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } فأمر بالوالي والشهود ونحو ذلك مبالغة في تميزه عن السفاح وصيانة النساء عن التشبه بالبغايا حتى شرع الصوت بالدف والوليمة الموجبة لشهرته ولهذا جاء في الأثر: ( المرأة لا تزوج نفسها فإن البغي هي التي تزوج نفسها ) وأمر فيه بالإشهاد أو بالإعلان أو بهما جميعا ثلاثة أقوال: هي ثلاث روايات في مذهب أحمد ومن اقتصر على الإشهاد علله بأن به يحصل الإعلان المميز له عن السفاح وبأنه يحفظ النسب عن التجاحد
فهذه الأمور التي اعتبرها الشارع في الكتاب والآثار حكمها بينه فأما التزام لفظ خاص فليس فيه أثر ولا تعلق
وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة وهي التي تعرفها القلوب وذلك أن الله سبحانه قال: { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } وقال { وأنكحوا الأيامى منكم } وقال: { وأحل الله البيع } وقال: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه } وقال: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقال: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وقال: { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } إلى قوله: { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم } إلى قوله: { فرهان مقبوضة } وقال: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } وقال: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } وقال: { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } وقال: { إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا } وقال: { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } وقال: { فأمسكوهن بمعروف } إلى نحو ذلك من الآيات المشروع فيها العقود إما أمر وإما إباحة والمنهى فيها عن بعضها كالزنا فإن الدلالة فيها من وجوه:
أحدها: أنه بالتراضي في البيع في قوله: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ويطيب النفس في التبرع في قوله: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } فتلك الآية في جنس المعاوضات وهذه من جنس التبرعات ولم يشترط لفظا معينا ولا فعلا معينا يدل على التراضي وعلى طيب النفس ونحن نعلم بالإضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس والعلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود وظاهر في بعضها وإذا وجد تعلق الحكم بهما بدلالة القرآن وبعض الناس قد يحمله الكذب في نصرة قول معين على أن يجحد ما يعلم الناس من التراضي وطيب النفس فلا عبرة بجحد مثل هذا فإن جحد الضروريات قد يقع كثيرا عن موطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب
فالعبرة بلفظته التي لم يعارضها ما يغيرها ولهذا قلنا: أن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم حيث لا يتواطأ على الكذب لأن الفطر لا تتفق فأما مع التواطئ والاتفاق فقد تتفق جماعات على الكذب
الوجه الثاني: إن هذه الأسماء جاءت في كتاب الله وسنة رسوله معلقا بها أحكام شرعية وكل اسم فلا بد له من حد فمنه ما يعلم حده باللغة كالشمس والقمر والبحر والبر والسماء والأرض ومنه ما يعلم بالشرع كالمؤمن والكافر والمنافق وكالصلاة والزكاة والحج
وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض المذكور في قوله ﷺ [ من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه ]
ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحو ذلك لم يحد الشارع له حدا لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله بل ولا ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عين للعقود صيغة معينة من الألفاظ أو غيرها أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ بل قد قيل أن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم وأنه من البدع وليس لذلك حد في اللغة بحيث يقال إن أهل اللغة يسمون هذا بيعا ولا يسمون هذا بيعا حتى يدخل أحدهما في خطاب الله فلا يدخل الآخر بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعا دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعا
والأصل بقاء اللغة وتقديرها لا نقلها وتغييرها فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة المرجوع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم فما سموه بيعا فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة
الوجه الثالث: إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم فاستقراء أصول الشريعة أن العبادات التي أوجبها الله أو أباحها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه
والأصل فيه عدم الحظر فلا يخطر منه إلا ما حظره الله ورسوله وذلك لأن الأمر والنهي مما شرع الله تعالى والعبادة لا بد أن تكون مأمورا بها فما لم يثبت أنه مأمور كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟ وما لم يثبت من العادات أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟
ولهذا كان أصل أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى وإلا دخلنا في معنى قوله: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }
والعادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله: { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله: { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون * وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون } وقالوا: { هذه أنعام وحرث حجر } فذكر ما ابتدعوه من العبادات والتحريمات وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد عن النبي ﷺ قال: [ قال الله تعالى: إني خلفقت عبادي حنفاء فاحتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم ننزل به سلطانا ]
وهذه قاعدة عظيمة نافعة وإذا كان كذلك فنقول: البيع والهبة والإجادة وغيرها هي من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم كالأكل والشرب واللباس فالشريعة جاءت في العادات بالآداب الحسنة فحرمت منها ما فيه فساد وأوجبت منها ما لا بد منه وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها وإذا كان كذلك فالناس يتبايعون ويتآجرون كيف شاؤوا ما لم تحرمه الشريعة كما يأكلون ويشربون كيف شاؤوا ما لم تحرمه الشريعة وإن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروها ولم تحد الشريعة في ذلك حدا فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي
وأما السنة والإجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين من أنواع المبايعات والمؤجرات والتبرعات علم ضرورة أنهم لم يكونوا ملتزمون الصيغة من الطرفين والآثار بذلك كثيرة ليس هذا موضعها إذا الغرض التنبيه على القواعد وإلا فالكلام في أعيان المسائل له موضع غير هذا فمن ذلك أن رسول الله ﷺ بنى مسجده والمسلمون بنوا المساجد على عهده وبعد موته ولم يؤمر أحد أن يقول وقفت هذا المسجد ولا ما يشبه هذا اللفظ بل قال النبي ﷺ: [ من بنى لله مسجدا بنى الله بيتا في الجنة ] فعلق الحكم بنفس بنائه وفي الصحيحين أنه لما اشترى الجمل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هو لك يا عبد الله بن عمر ولم يصدر من ابن عمر لفظ قبول وكان يهدي ويهدي له فيكون قبض الهدية قبولها ولما نحر البدنات قال: من شاء اقتطع مع إمكان قسمتها فكان هذا إيجابا وكان الإقتطاع هو القبول وكان يسأل فيعطي أو يعطي من غير سؤال فيقبض المعطي ويكون الإعطاء هو الإيجاب والأخذ هو القبول في قضايا كثيرة جدا ولم يكن يأمر الآخذين بلفظ ولا يلتزم أن يتلفظ لهم كما في إعطائه للمؤلفة وللعاملين وغيرهم وجعل إظهار الصفات في المبيع بمنزلة اشتراطها باللفظ في مثل المصراة ونحوها من المدلسات
وأيضا فإن التصرفات جنسان عقود وقبوض كما جمعها النبي ﷺ في قوله: [ رحم الله عبدا كان سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى ] وتقول الناس البيع والشراء والأخذ والعطاء والمقصود من العقود إنما هو القبض والاستيفاء فإن المعاقدات تفيد وجوب القبض أو جوازه بمنزلة إيجاب الشارع ثم التقابض ونحوه وفاء بالعقود بمنزلة فعل المأمور به في الشرعيات
والقبض ينقسم إلى صحيح وفاسد كالعقد ويتعلق به أحكام شرعية كما يتعلق بالعقد فإن كان المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحوال والأوقات فكذلك العقود وإن حررت عبارته قلت أحد نوعي التصرفات فكان المرجع فيه إلى عادة الناس كالنوع الآخر ومما يلتحق بهذا أن الإذن العرفي في الإستباحة أو التملك أو التصرف بطريق الوكالة كالإذن اللفظي وكل واحد من الوكالة والإباحة ينعقد بما يدل عليها من قول وفعل والعلم يرضي المستحق يقوم مقام إظهاره الترضي
وعلى هذا يخرج مبايعة النبي ﷺ عن عثمان بن عفان بيعة الرضوان وكان غائبا وإدخاله أهل الخندق إلى منزل أبي طلحة ومنزل جابر بدون استئذانهما لعلمه أنهما راضيان بذلك ولما دعاه ﷺ سادس ستة أتبعتم رجل فلم يدخله حتى استأذن اللحام الداعي
وكذلك ما يؤثر عن الحسن البصري أن أصحابه لما دخلوا منزله وأكلوا طعامه قال: ذكرتموني أخلاق قوم قد مضوا وكذلك معنى قول أبي جعفر أن الإخوان من يدخل أحدهم يده إلى جيب صاحبه فيأخذ منه ما شاء
ومن ذلك قوله ﷺ لمن استوهبه كهبة شعر: أما ما كان إعطاءه لي ولبني عبد المطلب فقد وهبته لك وكذلك المؤلفة عند من يقول أنه أعطاهم من أربعة الأخماس وعلى هذا خرج الإمام أحمد بيع حكيم بن حزام وعروة بن الجعد لما وكله النبي ﷺ في شراء شاة بدينار فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار فإن التصرف بغير استئذان خاص تارة بالمعاوضة وتارة بالشرع وتارة بالانتفاع مأخذه إما إذن عرفي عام أو خاص
القاعدة الثانية: في العقود حلالها وحرامها
والأصل في ذلك أن الله حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل وذم اليهود على أخذ الربا وقد نهوا عنه وأكل أموال الناس بالباطل وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات وما يؤخذ بغير رضى المستحق والإستحقاق
فأكل المال بالباطل في المعاوضات نوعان ذكرهما الله في كتابه هما: الربا والميسر فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر سورة البقرة وسورة آل عمران والروم والمدثر وذم اليهود عليه في النساء وذكر تحريم الميسر في المائدة
ثم أن رسول الله ﷺ فصل ما جمعه الله في كتابه فنهى عن بيع الغرر كما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة عن النبي ﷺ
والغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر وذلك أن العبد إذا أبق والبعير أو الفرس إذا شرد فإن صاحبه إذا باعه إنما يبيعه مخاطرة فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير فإن حصل له قال البائع: قمرتني وأخذت مالي بثمن قليل وإن لم يحصل قال المشتري: قمرتني وأخذت الثمن بلا عوض فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة والبغضاء مع ما فيه من أكل المال بالباطل الذي هو نوع من الظلم ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء ومن نوع الغرر ما نهى عنه ﷺ من بيع حبل الحبلة والمضامين وهن بيع اللبن وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها وبيع الملامسة والمنابذة ونحو ذلك
وأما الربا فتحريمه في القرآن أشد ولهذا قال: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وذكره النبي ﷺ في الكبائر كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة وذكره الله سبحانه أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذوا الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل وأخبر أنه يمحق الله الربا ويربي الصدقات وكلاهما أمر مجرب عند الناس وذلك لأن الربا أصل إنما يفعله المحتاج وإلا فالموسر لا يأخذ ألفا حالة بألف ومائتين مؤجلة إذا لم يكن له حاجة بتلك الألف وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى أجل من هو محتاج إليه فتقع تلك الزيادة ظلما لمحتاج بخلاف الميسر
فإن المظلوم فيه غير مفتقر ولا هو محتاج إلى العقد وقد يخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد في المستقبل المتبع على الصيغة التي ظناها والربا فيه ظلم محقق لمحتاج ولهذا كان ضد الصدقة فإن الله تعالى لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء فإن مصلحة الغني والفقير في الدين والدنيا لا تتم إلا بذلك فإذا أربى معه فهو بمنزلة من له على رجل دين منعه دينه وظلمه زيادة أخرى والغريم محتاج إلى دينه فهو من أشد أنواع الظلم ولعظمته لعن النبي ﷺ آكله وهو الآخذ وموكله وهو المحتاج المعطي للزيادة وشاهديه وكاتبه لإعانتهم عليه
ثم أن النبي ﷺ حرم أشياء منها ما يخفي فيها الفساد لافضائها إلى الفساد المحقق كما حرم قليل الخمر لأنه يدعو إلى كثيرها مثل: ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى إذ عاقل لا يبيع درهمين بدرهم إلا لاختلاف الصفات مثل كون الدرهم صحيحا والدرهمين مكسورين أو كون الدرهم مصوغا أو من نقد نافق ونحو ذلك
وكذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس ومعاوية وغيرهما فلم يروا به بأسا حتى أخبرهم الصحابة الأكابر كعبادة بن الصامت وأبي سعيد وغيرهما بتحريم النبي ﷺ لربا الفضل
وأما الغرر فإنه ثلاثة أنواع: المعدوم كحبل الحبلة واللبن والمعجوز عن تسليمه: كالآبق والمجهول المطلق أو المعين المجهول جنسه أو قدره كقوله: بعتك عبدا أو بعتك ما في بيتي أو بعتك عبيدي
أما المعين المعلوم جنسه وقدره المجهول نوعه أو صفته كقوله: بعتك الثوب الذي في كمي أو العبد الذي أملكه ونحو ذلك ففيه خلاف مشهور يلتفت إلى مسألة بيع الأعيان الغايبة عن أحمد فيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا يصح بيعه بحال كقول الشافعي الجديد
والثانية: يصح وإن لم يوصف وللمشتري الخيار وكقول أبي حنيفة حتى روى عن أحمد لا خيار له
والثالثة: وهو المشهورة أنه يصح بالصفة ولا يصح بدونها كالمطلق الذي في الذمة وهو قول مالك ومفسدة الغرر أقل من الربا فكذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل: بيع العقار وإن لم تعلم دواخل الحيطان والأساس ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع وإن لم يعلم مقدار الحمل واللبن وإن كان قد نهى عن بيع الحمل منفردا وكذلك اللبن عند الأكثرين ومثل بيع الثمرة بعد بدو صلاحها فإن يصح مستحق الإبقاء كما دلت عليه السنة وذهب إليه الجمهور كمالك والشافعي وأحمد وإن كانت الأجزاء التي يكمل بها الصلاح لم تخلق بعد
وجوز ﷺ لمن باع نخلا قد أبرت أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها لكن على وجه البيع للأصل فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره ولما احتاج الناس إلى العرايا أرخص في بيعها بالخرص ولم يجوز الفاضل المتيقن بل صوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو قدر النصاب خمسة أوسق أو ما دونه على اختلاف القولين للشافعي وأحمد وإن كان المشهور عن أحمد ما دون النصاب إذا تبين ذلك فأصول مالك في البيوعات أجود من أصول غيره أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال هو أفقه الناس في البيوع كما كان يقال عطاء أفقه الناس في المناسك وإبراهيم أفقههم في الصلاة والحسن أجمعهم كذلك
ولهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه لمن استقرأ ذلك من أجوبته والإمام أحمد موافق لمالك في ذلك في الأغلب يحرمان الربا ويشددان فيه حق التشديد لما يقدم من شدة تحريمه وعظم مفسدته ويمنعان الاحتيال عليه بكل طريق حتى قد يمنعا الذريعة التي تفضي إليه وإن لم تكن حيلة وإن كان مالك يبالغ في سد الذرائع ما يختلف قول أحمد فيه أولا بقوله: لكن يوافقه بلا خلاف منه على منع الحيل كلها
وجماع الحيل نوعان: إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود أو يضموا إلى العقد عقدا ليس بمقصود
فالأول: مسألة مد عجوة وضابطها أن يبيع ربوبا بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه كمن يكون غرضهما بيع فضة بفضة متفاضلا ونحو ذلك فيضم إلى الفضة القليلة عوضا آخر حتى قد يبيع ألف دينار في منديل بألفي دينار فمتى كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرمت مسألة مد عجوة بلا خلاف عند مالك وأحمد ونحوهما إنما يسوغ مثل هذا من جوز الحيل من الكوفيين وإن كان قدماء الكوفيين كانوا يحرمون هذا
وأما إن كان أحدهما مقصودا كمد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم أو بمدين أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد والمنع قول مالك والشافعي والجواز قول أبي حنيفة وهي مسألة اجتهاد وأما إن كان المقصود من أحد الطرفين غير الجنس الربوي كبيع شاة ذات صوف أو لبن بصوف أو لبن فأشهر الروايتين عن أحمد الجواز
والنوع الثاني: وهو أن يضما إلى العقد المحرم عقدا غير مقصود مثل أن يتواطئا على أن يبيعه الذهب بخرزة ثم يبتاع الخرزة منه بأكثر من ذلك الذهب أو يتواطئا ثالثا على أن يبيع أحدهما عرضا ثم يبيعه المبتاع لمعاملة المرابي ثم يبيعه المرابي لصاحبه وهي الحيلة المثلثة أو يقرون بالقرض محاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة ونحو ذلك مثل أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي عشرة بمائتين أو يكتري منه دابة تساوي ثلاثين بخمسة ونحو ذلك
فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم الله تعالى من أجلها الربا وقد ثبت عن النبي ﷺ من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: [ لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ] قال الترمذي: حديث حسن صحيح وهو من جنس حيل اليهود فإنهم إنما استحلوا الربا بالحيل ويسمونه المشكل وقد لعنهم الله على ذلك
وروى ابن بطة بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: [ لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ] وفي الصحيحين عنه أنه قال: [ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها ] وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: [ من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن تسبق فليس بقمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن تسبق فهو قمار ] وقال ﷺ فيما رواه أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب: [ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ]
ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله ودلائل تحريم الحيل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة ذكرنا منها نحوا من ثلاثين دليلا فيما كتبناه في ذلك وذكرنا ما يحتج به من يجوزها كيمين أيوب وحديث تمر خبير ومقاريض السلف وذكرنا جواب ذلك ومن ذرائع ذلك مسألة العينة وهو بأن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك فهذا مع التواطئ يبطل البيعان لأنها حيلة وقد روى أحمد وأبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: [ إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم ] وإن لم يتواطأ يظل البيع
الثاني: سد الذريعة ولو كانت عكس مسألة العينة عن تواطء ففيه روايتان عن أحمد وهي أن يبيعه حالا ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلا وأما مع التواطئ فربا محتال عليه ولو كان مقصود المشتري الدراهم وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى التورق وفي كراهته عن أحمد روايتان والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك فيما أظن بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة أو غرضة الانتفاع والقنية فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق ففي الجملة أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعيا لمقصود الشريعة وأصولها وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة ويدل عليه معاني الكتاب والسنة
وأما الغرر فأشد الناس قولا فيه أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما وأما الشافعي فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع ما لا يدخل غيره من الفقهاء مثل: الحب والثمر في قشره الذي ليس بصوان كالباقلاء والجوز واللوز في قشره الأخضر وكالحب في سنبله فإن القول الحديد أن ذلك لا يجوز مع أنه اشترى في مرض موته باقلاء خضراء فخرج ذلك له قولا واختاره طائفة من أصحابه كأبي عبيد الاصطخري وروى عنه أنه ذكر له أن النبي ﷺ: [ نهى عن بيع أصول الحب حتى يشتد ] فدل على جواز بيعه بعد اشتداده وإن كان في سنبلة فقال: إن صح هذا أخرجته من العام أو كلاما قريبا من هذا وكذلك ذكر أنه رجع عن القول بالمنع قال ابن المنذر: جواز ذلك هو قول مالك وأهل المدينة وعبيد الله بن الحسن وأهل البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي
وقال الشافعي مرة: لا يجوز ثم بلغه حديث ابن عمر فرجع عنه وقال به قال ابن المنذر ولا نعلم أحدا يعدل عن القول به وذكر بعض أصحابه له قولين وأن الجواز هو القديم حتى منع من بيع الأعيان الغائبة بصفة وبغير صفة متأولا أن الغائب غرر وإن وصف وحتى اشترط فيها في الذمة لدين السلم من الصفات وضبطها ما لم يشترطه غيره ولهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين والدين بمثل هذا القول وقاس على بيع الغرر جميع العقود من التبرعات والمعاوضات فاشتراط في أجرة الأجير المشهور وفدية الخلع والكتابة وصلح أهل الهدنة وجزية أهل الذمة ما يشترطه في البيع عينا ودينا ولم يجوز في ذلك جنسا وقدرا وصفة إلا ما يجوز مثله في البيع وإن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها أو يشترط لها شروطا أخرى
وأما أبو حنيفة فإنه يجوز بيع الباقلاء ونحوه في القشر ويجوز إجارة الأجير بطعامه وكسوته ويجوز أن تكون جهالة المهل كجهالة مهر المثل ويجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة مع الخيار لأنه يكون جهالة لكنه قد يحرم المساقاة والمزارعة ونحوهما من المعاملات مطلقا والشافعي يجوز بعض ذلك ويحرم أيضا كثيرا من الشروط في البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك مما يخالف مطلق العقد وأبو حنيفة يجوز بعض ذلك من الوكالات والشركات ما لا يجوزه الشافعي حتى جوز شركة المعاوضة والوكالة بالمجهول المطلق وقال الشافعي: إن لم تكن شركة المعاوضة باطلا فلا أعلم شيئا باطلا فبينهما في هذا الباب عموم وخصوص لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة
وأما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة أو يقل غرره بحيث يحتمل في العقود حيث يجوز بيع المقاثي جملة وبيع المغيبات في الأرض كالجزر والفجل ونحو ذلك
وأحمد قريب منه في ذلك فإنه يجوز هذه الأشياء على المنصوص عنه أن يكون المهر عبدا مطلقا وعبدا من عبيده ونحو ذلك فلا تزيد جهالته على مهل المثل وإن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق كأبي الخطاب ومنهم من يوافق الشافعي فلا يجوز في المهر وفدية الخلع ونحوهما إلا ما يجوز في البيع كأبي بكر عبد العزيز ويجوز على المنصوص عنه في فدية الخلع أكثر من ذلك حتى ما يجوز في الوصية وإن لم يجز في المهر كقول مالك مع اختلاف في مذهبه ليس هذا موضعه لكن المنصوص عنه أنه لا يجوز بيع المعيب في الأرض كالجزر ونحوه إلا إذ قلع وقال: هذا الغرر شيء لا نراه فكيف نشتريه
وكذا المنصوص عنه لا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان ونحوه إلا عبد قطعها لا يباع من المقاثي والمباطخ إلا ما ظهر دون ما بطن ولا تباع الرطبة إلا بعد جزها كقول أبي حنيفة والشافعي لأن ذلك غرر وهو بيع للثمرة قبل بدو صلاحها ثم اختلف أصحابه فأكثرهم أطلقوا ذلك في كل مغيب كالجزر والفجل والبصل وما أشبه ذلك كقول الشافعي وأبي حنيفة
وقال الشيخ أبو محمد: إن كان مما يقصد فروعه وأصوله كالبصل المبيع أخضر واللآب والفجل أو كان المقصود فروعه فالأولى جواز بيعه لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر والحيطان ويدخل ما لم يظهر في المبيع تبعا وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض لأن الحكم الأغلب وإن تساويا لم يجز أيضا لأن الأصل اعتبار الشرط وإنما سقط في الأقل التابع وكلام أحمد يحتمل وجهين فإن أبا داود قال: قلت لأحمد: بيع الجزر في الأرض قال: لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه هذا الغرر شيء ليس نراه كيف نشتريه فعلل بعدم الرؤية
فقد يقال: إن لم ير لم يبع وقد يقال: رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي كرؤية وجه العبد ولذلك اختلفوا في المقاتي إذا بيعت بأصولها كما هو العادة غالبا فقال قوم المتأخرين: يجوز ذلك لأن بيع أصول الخضروات كبيع الشجر وإذا باع الشجر وعليها ثمر لم يبد صلاحه جاز فكذلك هذا وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي
وقال المتقدمون: لا يجوز بحال وهو معنى كلامه ومنصوصه فهو إنما نهى عما يعتاده الناس وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار أن يباع دون عروقه والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده فإن الأصل عنه في رواية الأثرم وإبراهيم الحربي في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه أنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز وأما إن كان مقصوده الثمر فاشترى الأصل معها حيلة لم يجز ولذلك إذا اشترى أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه فإن كانت الأرض هي المقصودة جاز دخول الثمر والزرع تبعا وإنه كان المقصود هو الثمر والزرع فاشترى الأرض لذلك لم يجز وإذا كان هذا قوله في ثمرة الشجرة فمعلوم أن المقصود من المقائي والمباطخ إنما هو الخضروات دون الأصول التي ليس لها إلا قيم يسيرة بالنسبة إلى الحصة وقد خرج ابن عقيل وغيره فيها وجهين:
أحدهما: كما في جواز بيع المغيبات بناء على إحدى الروايتين عنه وفي بيع ما لم يره ولا شك أنه ظاهر فإنه على المنع إنما يكون على قولنا لا يصح بيع ما لم يره فإذا صححنا بيع الغائب فهذا هو الغائب
والثاني: أنه يجوز بيعها مطلقا كمذهب مالك إلحاقا لها بلب الجوز وهذا القول هو قياسي أصول أحمد وغيره لوجهين:
أحدهما: أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها ويعلمون ذلك أجود مما يعلم العبد برؤية وجهه والمرجع في كل شيء إلى الصالحين من أهل الخبرة به وهم يقرون بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرف غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأولى
الثاني: إن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه فإنه إذا لم يبع حتى قلع حصل على أصحابه ضرر عظيم فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه وإن قطعوه جملة فسد بالقلع فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشرة الأخضر وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزاينة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب أو البائع إلى أكل التمر فحاجة البائع هنا أوكد بكثير وسنقرر ذلك إن شاء الله تعالى وكذلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث وجواز بيع المقاثي باطنها وظاهرها وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم إذا بد صلاحها كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخلة أو شجرة أن يباع جميع ثمرها وإن كان مما لم يصلح بعد
وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس إن قالوا أنه لا يكن أفراد البيع لذلك من نخلة واحدة لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد لأن البسرة تصفر في يومها وهذا بعينه موجود في المقثاة وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث في الزيادة في الثمر بعد العقد ليس تابعا للموجود وإنما يكون ذلك للمشتري لأنه موجود في ملكه والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر لأنه يجب على البائع سقي الثمرة ويستحق إبقاؤها على الشجر بمطلق العقد ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع إبقاؤها على الشجر بمطلق العقد ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به يوجد فإن الواجب على البائع بحكم البيع بوقته المبيع الذي أوجبه العقد لا ما كان من موجبات الملك وأيضا فإن الرواية اختلفت عن أحمد إذا بدا الصلاح في حديقة من الحدائق هل يجوز بيع جميعها أم لا يباع إلا ما صلح منها؟ على روايتين:
أشهرهما عنه: أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه وهي اختيار قدماء الصحابة كأبي بكر وابن باقلا
والثانية: يكون بدو الصلاح في البعض صلاحا للجميع وهي اختيار أكثر أصحابه كابن حامد والقاضي من بعدهما ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال: إذا كان في بستان بعضه بالغ وغير بالغ يبيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ فمنهم كالقاضي وأبي حكيم النهرواني وأبي البركات وغيرهم من قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح ومنهم ما يسوي بين الصلاح والقليل والكثير كأبي الخطاب وجماعات وهو قول مالك والشافعي والليث وزاد مالك فقال يكون صلاحا لما جاوره من الأفرحة وحكوا ذلك رواية عن أحمد واختلف هؤلاء هل يكون صلاح النوع كالبرني من الرطب إصلاحا لسائر أنواع الرطب على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد:
أحدهما: المنع وهو قول القاضي ابن عقيل وأبي محمد
والثاني: الجواز وهو قول ابن الخطاب وزاد الليث على هؤلاء فقال: صلاح الجنس كالتفاح واللوز يكون صلاحا لسائر أجناس الثمار ومأخذ من جوز شيئا من ذلك أن الحاجة تدعو إلى ذلك فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين ومن سوى بينهما
قال: المقصود الأمن من العاهة وذلك يحصل بشروع الثمر في الصلاح ومأخذ من منع ذلك أن قول النبي ﷺ حتى يبدو صلاحها يقتضي بدو صلاح الجميع
والغرض من هذه المذاهب أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه فقياس قوله جواز بيع المقثاة إذا بدا صلاح بعضها والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثات والخيارات وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق فإنه دامر لا ينضبط فإن اجتهاد الناس في ذلك متفاوت والغرض بهذا أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل كما قد روي عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه أصحابه على أصوله وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين فكذلك يكون في النوع الواحد من المسائل قولان في وقتين فيجيب في بعض أفراده بجواب في وقت ويجيب في بعض بجواب آخر في وقت آخر وإذا كانت الأفراد مستوية وكان له فيها قولان فإن لم يكن فيها فرق يذهب إليه مجتهد فقوله فيها واحد بلا خلاف وإن كان مما قد يذهب إليه مجتهد
فقالت طائفة منهم أبو الخطاب: لا يخرج وقال الجمهور كالقاضي أبي يعلي: يخرج الجواب إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق كما اقتضته أصوله ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين وإن لم يعم هل هو ممن يفرق أم لا؟ وإن فرق بيع بعض الأفراد وبعض مستحضرا لهما كان سبب الفرق مأخذا شرعيا كان الفرق قوله وإن كان مأخذا عاديا أو حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة علم به من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك فهذا في الحقيقة لا يفرق بينهما شرعا وإنما هو أمر من الدنيا لم يعلمه العالم فإن العلماء ورثة الأنبياء وقد قال النبي ﷺ: [ أنتم أعلم بأمر دنياكم فأما ما كان من أمر دينكم فإلي ]
وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمى تناقضا أيضا لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والإثبات فإن كان في وقت قد قال إن هذا حرام وقال في وقت آخر فيه أو في مثله أنه ليس بحرام أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام فقد يناقض قولاه وهو مصيب في كلاهما عند من يقول إن كل مجتهد مصيب كأنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده
وأما الجمهور الذين يقولون إن الله حكما في الباطن علمه العالم في إحدى المقالتين ولم يعلمه في المقبلة التي يناقضها وعدم علمه مع اجتهاده مغفور له مع ما يثاب عليه من قصده الحق واجتهاده في طلبه ولهذا شبه بعضهم تعارض الاجتهادات من العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوخ الثابت بخطاب حكم الله باطنا وظاهرا بخلاف أحد قولي العالم المتناقض هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق المرسل وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مذمومون في مناقضاتهم لأنهم يتكلمون بغير علم ولا قصد لما يجب قصده
وعلى هذا فإن لازم قول الإنسان نوعان
أحدهما: لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فإن لازم الحق حق ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره وكثيرا ما يضيف الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب
والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق فهذا لا يجب التزامه إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين عليهم السلام
ثم أن من عرف من حاله أن يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له لم يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه وهو لا يشعر بفساد ذلك القول ولا يلازمه وهذا التفضيل في اختلاف الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أو ليس بمذهب هو أجود من إطلاق أحدهما فما كان من اللوازم يرضي القائل بعد وضوحه به فهو قوله وما لا يرضاه فليس قوله وإن كان متناقضا وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع الملزوم واللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعد لزومها فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال وإلا أضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي ﷺ قاله لكونه ملتزما لرسالته فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول وإن كان لازما له ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه واللازم الذي نفاه ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم لأنه قد يكون عن اجتهاد في وقتين وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء مع وجود الاختلاف في قول كل منهما إن العالم فعل ما أمر به من الاقتضاء والاجتهاد وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام دليله وإن لم يكن مطابقا لكن اعتقادا ليس بيقين كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل وإن كانا في الباطن قد أخطأ أو كذبا وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر فيعتقد ما دل عليه ذلك وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا فالاعتقاد الذي يغلب على الظن هو المأمور به العباد وإن كان قد يكون غير مطابق ولم يؤمروا في الباطن باعتقاد غير مطابق قط فإذا اعتقد العالم اعتقادين متضادين في قضية أو قضيتين مع قصده الحق واتباعه لما أمرنا باتباعه من الكتاب والحكمة عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع هنا بخلاف أهل الأهواء فإنهم إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ويحرمون بما يقولون جزما لا يقبل النقيض مع عدم العلم بجزمه فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطنا ولا ظاهرا ويقصدون ما لم يؤمروا باقتصاده ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والاقتصاد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه فكانوا ظالمين تشبيها بالمغضوب عليهم وجاهلين شبيها بالظالمين
والمجتهد المحض الاجتهاد العلمي ليس له غرض سوى الحق وقد سلك سبيله وأما متبع الهوى المحض فهو من يعلم الحق ويعاند عنه وثم قسم آخر وهو غالب وهو أن يكون له هوى فيه شبهة فيجمع الشهوة والشبهة ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي ﷺ قال: [ إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ] فالمجتهد المحض مغفور له ومأجور وصاحب الهوى المحض مستوجب العذاب والمركب من شبهة وهو مسيء وهم في ذلك على درجات بحسب ما يعلب وبحسب الحسنات الماحية وأكثر المتأخرين من المنتسبين إلى فقه أو تصوف مبتلون بذلك وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك وأصول أحمد وبعض أصول غيرهما أصح الأقوال وعليه يدل غالب معاملات السلف ولا يستقيم أمر الناس في معايشهم إلا به وكل من سرع في تحريم ما يعتقده غررا فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه الله فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة وإما أن يحتال وقد رأينا الناس وبلغتنا أخبارهم فما علمنا أحد التزم مذهبه في تحريم هذه المسائل ولا يمكنه ذلك ونحن نعلم قطعا أن مفسدة التحريم لا تزول بالحيلة التي يذكرونها فمن المحال أن يحرم الشارع علينا أمرا نحن محتاجون إليه ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها وإنما هي من جنس اللعب ولقد تأملت أغلب ما وقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين
أما ذنوب جوزوا عليها تضييقا في أمورهم ولم يستطيعوا دفعه إلا بالحيل فلم يزدهم الحيل إلا بلاء كما جرى لأصحاب السبت من اليهود كما قال تعالى: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وهذا ذنب عملي
وأما مبالغة في التشديد لما اعتبروه من تحريم الشارع فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل وهذا من خطأ الاجتهاد وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحل له وأدى ما وجب عليه فإنه لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدا فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج وإنما بعث نبينا بالحنفية السمحة فالسبب الأول هو الظلم والثاني عدم العلم والظلم والجهل هو وصف الإنسان المذكور في قوله تعالى: { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } وأصل هذا وإن الله سبحانه وتعالى إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان كالدم والميتة ولحم الخنزير أو من التصرفات كالميسر والربا الذي يدخل فيه بيوع الغرر لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها ورسوله بقوله سبحانه وتعالى: { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } فأخبر سبحانه أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء سواء كان ميسرا بالمال أو باللعب فإن المطالبة بلا فائدة وأخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك
وكذلك روى فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال كان الناس في عهد رسول الله ﷺ يتبايعون الثمار فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع أنه أصاب الثمر دمان أصابه مرض أصابه قشام عاهات يحتجون بها فقال رسول الله لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: [ وأيم الله فلا تتبايعوا حتى يبدون صلاح الثمر ] كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم
وذكر خارجة بن زيد أن زيدا لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأحمر من الأصفر رواه البخاري تعليقا وأبو داود إلى قوله خصومتهم وروى أحمد في المسند عنه قال: [ قدم رسول الله ﷺ المدينة ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها فسمع رسول الله ﷺ خصومة فقال: ما هذا؟ فقيل له: إن هؤلاء ابتاعوا الثمار يقولون أصابها الدمار والقشام فقال رسول الله ﷺ: فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها ]
فقد أخبر أن سبب نهي النبي ﷺ عن ذلك ما أقضت إليه من الخصام وهكذا بيوع الغرر وقد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها في الصحيحين من حديث ابن عمر وابن عباس وجابر وأنس وفي مسلم من حديث أبي هريرة وفي حديث أنس تعليله ففي الصحيحين [ عن أنس أن رسول الله ﷺ: نهى عن بيع الثمار حتى تزهو قيل: وما تزهو؟ قال: حتى تحمر أو تصفر فقال رسول الله ﷺ: أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه ] وفي رواية أن النبي ﷺ [ نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو ] فقلنا لأنس: ما زهوها قال: تحمر أو تصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك قال أبو مسعود الدمشقي: جعل مالك والداروردي قول أنس أريت أن منع الله الثمرة من حديث أن النبي ﷺ أدرجه فيه ويرون أنه غلط فهذا التعليل سواء كان من كلام النبي ﷺ أو من كلام أنس فيه بيان أن في ذلك أكلا للمال بالباطل حيث أخذه في عقد معارضة بلا عوض وإذا كان مفسدة بيع الغرر هي كونه مطية العداوة والبغضاء وأكل المال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضها المصلحة الراجحة قدمت عليها كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض وإن لم يجر غيره بعوض وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة فهو باطل وإن كان منفعة وهو ما ذكره النبي ﷺ بقوله: [ كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق ]
صار هذا اللهو حقا ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف منها من تباغض وأكل مال بالباطل لأن الغرور فيها يسير والحاجة إليها ماسة وهي تندفع بيسير الغرر والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم فكيف إذا كانت المفسدة منفية ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقائها بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح أباح الشرع ذلك وقاله جمهور العلماء كما سنقرب قاعدته إن شاء الله تعالى
ولهذا كان مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة كانت من ضمان البائع كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: [ لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ثم تأخذ مال أخيك بغير حق ] وفي رواية لمسلم عنه: [ أمر رسول الله ﷺ بوضع الجوائح ]
والشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث وإنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة فيه اضطراب أخذ في ذلك يقول الكوفيين أنها تكون من ضمان المشتري لا البائع لأنها قد تلفت بعد القبض لأن التخلية بين المشتري وبينه قبض وهذا على أصل الكوفيين أمشى لأن المشتري لا يملك إبقاءه على الشجر وإنما موجب العقد عندهم القبض الناجز بكل حال وهو طرد لقياس سنذكر أصله وضعفه من أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك مع ذلك
مع أني لا أعلم عن النبي ﷺ سنة صريحة بأن المبيع التأليف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع وينفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصحيح يوافقه وهو ما نبه عليه النبي ﷺ بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق فإن المشتري للثمرة إنما يتمكن من جدادها عند كمالها لا عقب العقد كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئا فشيئا فتلف الثمرة قبل التمكن من الجداد كتلف العين المؤجرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة وفي الإجارة ينفك ضمان المؤجر بالاتفاق فكذلك في البيع وأبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة وأن المشتري لم يملك الإبقاء وهذا الفرق لا يقول به الشافعي وسنذكر أصله
فلما كان النبي ﷺ قد نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: [ لا تبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحها وتذهب عنه الآفة ] وفي لفظ لمسلم عنه: [ نهى عن بيع النخل حتى تزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة ] نهى البائع والمشتري وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة: [ نهى رسول الله ﷺ عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض ] فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدوما فإنه بعد بدو صلاحه وأمنه العاهة يريد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد وليس المقصود الأمن من العاهات النادرة فإن هذا لا سبيل إليه إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين: { أقسموا ليصرمنها مصبحين * ولا يستثنون } وما ذكره في سورة يونس في قوله: { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } وإنما المقصود ذهاب العاهة التي يتكرر وردها وهذه إنما تصيبه قبل اشتداد الحب وقبل ظهور النضج في الثمر إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله ولأنه لو منع بيعه بعد هذه الغاية لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر لأنه لا يكمل جملة واحدة وإيجاب قطعة على مالكه فيه ضرر ومرتب على ضرر الغرر
فتبين أن رسول الله ﷺ قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها ﷺ وعلمها أمته ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه غير ناظر إلى ما يعارض عليه من المانع الراجح أفسد كثيرا من أمر الدين وضاق عليه عقله ودينه وأيضا ففي صحيح مسلم عن أبي رافع أن رسول الله ﷺ استلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا فقال: [ إعطه إياه فإن خير الناس أحسنهم قضاء ]
ففي هذا دليل على جواز افتراض ما سوى المكيل والموزون من الحيوان ونحوه كما عليه فقهاء الحجاز والحديث خلافا لمن قال من الكوفيين لا يجوز ذلك لأن القرض موجبة رد المثل والحيوان ليس بمثلي وبناء على أن ما سوى المكيل والموزون لا يثبت في الذمة عوضا عن مال وفيه دليل على أنه يثبت مثل الحيوان تقريبا في الذمة كما هو المشهور من مذاهبهم ووجه في مذهب أحمد أنه تثبت القيمة وهذا دليل على أن المعتبر في معرفة المعقود عليه التقريب وإلا فيعز وجود حيوان مثل ذلك الحيوان لا سيما عند القائلين بأن الحيوان ليس بمثلي وأنه مضمون في الغصب والإتلاف بالقيمة وأيضا فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد والجداد وفيه روايتان عن أحمد إحداهما: يجوز كقول مالك وحديث جابر في الصحيح يدل عليه وأيضا فقد دل على الكتاب في قوله تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } والسنة في حديث بروع بنت واشق وإجماع العلماء على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم وإذا مات عند فقهاء الحديث وأهل الكوفة المتبعين لحديث بروع وهو أحد قولي الشافعي: ومعلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود فلو كان التحديد معتبرا في المهر ما جاز النكاح بدونه وكما رواه أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ: [ نهى عن استئجار الأجير حتى يتبين له أجرهه وعن اللمس والنجش وإلقاء الحجر ] فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر وأن الإجارة لا تجوز إلا مع تبين الأجر فدل على الفرق بينهما وسببه أن المعقود عليه في النكاح وهو منافع البضع غير محدود بل المرجع فيها إلى العرف فكذلك عوضه الأجر
ولأن المهر فيه ليس هو المقصود وإنما هو نخلة تابعة فأشبه الثمر التابع للشجر في البيع قبل بدو الصلاح وكذلك لما قدم وفد هوازن على النبي ﷺ فخيرهم بين السبي وبين المال فاختاروا السبي وقال لهم: إني قائم فخاطب الناس فقولوا إنا نستشفع برسول الله على المسلمين ونستشفع بالمسلمين على رسول الله وقام فخطب الناس: فقال: إني قد رددت على هؤلاء سبيهم فمن شاء طيب ذلك ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلانص من أول ما يفي الله علينا فهذا معاوضة عن الإعتاق كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة إلى أجل متفاوت غير محدود وقد روى البخاري عن ابن عمر في حديث حنين أن النبي ﷺ قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم وعاملهم على الأرض الزرع والنخل فصالحوه على أن يخلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله ﷺ الصفراء والبيضاء والحلقة هي السلاح ويخرجون منها واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم
وعن ابن عباس قال: صالح رسول الله ﷺ أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من السلاح يغزون بها والمسلمون صامتون لها حتى يردوها عليهم رواه أبو داود
فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس غير موصوفة بصفات السلم وكذلك كل عارية خيل وإبل وأنواع من السلاح مطلقة غير موصوفة عند شرط قد يكون وقد لا يكون فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال كالصداق والكتابة والفدية في الخلع والصلح عن القصاص والجزية والصلح مع أهل الحرب ليس يجب أن يعلم كما يعلم الثمن والأجرة ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر لأن الأموال إما أن لا تجب في هذه العقود أو ليست هي المقصود الأعظم فيها وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع بل يكون إيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفي شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده