34 - 18 - مسألة: في السواك وتسريح اللحية في المسجد هل هو جائز أم لا؟
الجواب: أما السواك في المسجد فما علمت أحدا من العلماء كرهه بل الآثار تدل على أن السلف كانوا يستاكون في المسجد
ويجوز أن يبصق الرجل في ثيابه في المسجد ويمتخط في ثيابه باتفاق الأئمة وبسنة رسول الله الثابتة عنه بل يجوز التوضؤ في المسجد بلا كراهة عند جمهور العلماء:
فإذا جاز الوضوء فيه مع الوضوء يكون فيه السواك وتجوز الصلاة فيه والصلاة يستاك عندها فكيف يكره السواك؟ وإذا جاز البصاق والامتخاط فيه فكيف يكره السواك؟
وأما التسريح فإنما كرهه بعض الناس بناء على أن شعر الإنسان المنفصل نجس ويمنع أن يكون في المسجد شيء نجس أو بناء على أنه كالقذاة
وجمهور العلماء على أن شعر الإنسان المنفصل عنه طاهر: كمذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه وأحد الوجهين في مذهب الشافعي وهو الصحيح [ فإن النبي ﷺ حلق رأسه وأعطى نصفه لأبي طلحة ونصفه قسمه بين الناس ]
وباب الطهارة والنجاسة يشارك النبي ﷺ فيه أمته بل الأصل أنه أسوة لهم في جميع الأحكام إلا ما قام فيه دليل يوجب إختصاصه به
وأيضا الصحيح الذي عليه الجمهور: أن شعور الميتة طاهرة بل في أحد قولي العلماء وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين أن جميع الشعور طاهرة حتى شعرالخنزير وعلى القولين إذا سرح شعره وجمع الشعر فلم يترك في المسجد فلا بأس بذلك
وأما ترك شعره في المسجد فهذا يكره وإن لم يكن نجسا فإن المسجد يصان حتى عن القذاة التي تقع في العين والله أعلم
35 - 19 - مسألة: في المرأة هل تختن أم لا؟
الجواب: الحمد لله نعم تختن وختانها أن تقعطع أعلى الجلدة التي كعرف الديك قال رسول الله للخافضة - وهي الخاتنة: [ أشمي ولا تنهكي فإنه أبهى للوجه وأحظى لها عند الزوج ]
يعني: لا تبالغي في القطع وذلك أن المقصود بختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة والمقصود من ختان المرأة تعديل شهوتها فإنها إذا كانت قلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة
ولهذا يقال في المشاتمة: يا بن القلفاء فإن القلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر ولهذا من الفواحش في نساء التتر ونساء الإفرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين وإذا حصل المبالغة في الختان ضعفت الشهوة فلا يكمل مقصود الرجل فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود باعتدال والله أعلم
36 - 20 - مسألة: مسلم بالغ عاقل يصوم ويصلي وهو غير مختون وليس مطهرا هل يجوز ذلك ومن ترك الختان كيف حكمه؟:
الجواب: إذا لم يخف عليه ضرر الختان فعليه أن يختتن فإن ذلك مشروع مؤكد للمسلمين باتفاق الأئمة وهو واجب عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه وقد اختتن إبراهيم الخليل عليه السلام بعد الثمانين من عمره
ويرجع في الضرر إلى الأطباء الثقات وإذا كان يضره في الصيف أخره إلى زمان الخريف والله أعلم
37 - 21 - مسألة: في الختان متى يكون؟
الجواب: أما الختان فمتى شاء اختتن لكن إذا راهق البلوغ فينبغي أن يختن كما كانت العرب تفعل لئلا يبلغ إلا وهو مختون
وأما الختان في السابع ففيه قولان هما روايتان عن أحمد: قيل لا يكره لأن إبراهيم ختن إسحق في السابع وقيل يكره لأنه عمل اليهود فيكره التشبيه بهم وهذا مذهب مالك والله أعلم
22 - 38 - مسألة: كم مقدار أن يقعد الرجل حتى يحلق عانته
الجواب: عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ: [ وقت لهم في حلق العانة ونتف الإبط ونحو ذلك أن لا يترك أكثر من أربعين يوما ] وهو في الصحيح والله أعلم
23 - 39 - مسألة: إذا كان الرجل جنبا وقص ظفره أو شاربه أو مشط رأسه هل عليه شيء في ذلك؟ فقد أشار بعضهم إلى هذا وقال: إذا قص الجنب شعره أو ظفره فإنه تعود إليه أجزاؤه في الآخرة فيقوم يوم القيامة وعليه قسط من الجنابة بحسب ما نقص من ذلك وعلى كل شعرة قسط من الجنابة فهل ذلك كذلك أم لا؟
الجواب: قد ثبت عن النبي ﷺ من حديث حذيفة ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنهما: أنه لما ذكر له الجنب فقال: [ إن المؤمن لا ينجس ]
وفي صحيح الحاكم: حيا ولا ميتا وما أعلم على كراهية إزالة شعر الجنب وظفره دليلا شرعيا بل قد قال النبي للذي أسلم: [ ألق عنك شعر الكفر واختتن ]
فأمر الذي أسلم أن يغتسل ولم يأمره بتأخير الاختتان وإزالة الشعر عن الاغتسال فإطلاق كلامه يقتضي جواز الأمرين
وكذلك تؤمر الحائض بالامتشاط في غسلها مع أن الامتشاط يذهب ببعض الشعر والله أعلم
24 - 40 - مسألة: في مسح الرأس في الوضوء من العلماء من أوجب جميع الرأس ومنهم من أوجب ربع الرأس ومنهم من قال بعض شعره يجزىء فما ينبغي أن يكون الصحيح من ذلك؟ بينوا لنا ذلك
الجواب: الحمد لله اتفق الأئمة كلهم على أن السنة مسح جميع الرأس كما ثبت في الأحاديث الصحيحة والحسنة عن النبي ﷺ فإن الذين نقلوا وضوءه لم ينقل عنه أحد منهم اقتصر على مسح بعض رأسه وما يذكره بعض الفقهاء: كالقدوري في أول مختصره وغيره أنه توضأ ومسح على ناصيته إنما هو بعض الحديث الذي في الصحيح: من حديث المغيرة بن شعبة: [ أن النبي ﷺ توضأ عام تبوك ومسح على ناصيته ]
ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى جواز مسح بعض الرأس وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وقول في مذهب مالك وأحمد
وذهب آخرون إلى وجوب مسح جميعه وهو المشهور من قول مالك وأحمد
وهذا القول هو الصحيح فإن القرآن ليس ما يدل على جواز مسح بعض الرأس فإن قوله تعالى: { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم }
نظير قوله: { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم }
لفظ المسح في الآيتين وحرف الباء في الآيتين فإذا كانت آية التيمم لا تدل على مسح البعض مع أنه يدل على الوضوء وهو مسح التراب لا يشرع فيه تكرار فكيف تدل على ذلك آية الوضوء مع كون الوضوء هو الأصل والمسح فيه بالماء المشروع فيه التكرار؟ هذا لا يقوله من يعقل ما يقول
ومن ظن أن من قال بإجزاء البعض لأن الباء للتبعيض أو دالة على القدر المشترك فهو خطأ أخطأه على الأئمة وعلى اللغة وعلى دلالة القرآن والباء للإلصاق وهي لا تدخل إلا لفائدة فإذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه أفادت قدرا زائدا كما في قوله: { عينا يشرب بها عباد الله }
فإنه لو قيل: يشرب منها لم تدل على الري فضمن: يشرب معنى: يروى فقيل: يشرب بها فأفاد ذلك أنه شرب يحصل معه الري وباب تضمين الفعل معنى فعل آخر حتى يتعدى بتعديته كقوله: { لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه }
وقوله: ونجيناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا
وقوله: { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك }
وأمثال ذلك كثير في القرآن وهو يغني عند البصريين من النحاة عما يتكلفونه الكوفيون من دعوى الاشتراك في الحروف
وكذلك المسح في الوضوء والتيمم لو قال: فامسحوا رؤوسكم أو وجوهكم لم تدل على ما يلتصق بالمسح فإنك تقول: مسحت رأس فلان وإن لم يكن بيدك بلل فإذا قيل: فامسحوا برؤوسكم وبوجوهكم ضمن المسح معنى الإلصاق فأفاد أنكم تلصقون برؤوسكم وبوجوهكم شيئا بهذا المسح
وهذا يفيد في آية التيمم: أنه لا بد أن يلتصق الصعيد بالوجه واليد ولهذا قال: فامسحوا بوجوهكم منه
وإنما مأخذ من جوز البعض: الحديث ثم تنازعوا فمنهم من قال يجزىء قدر الناصية كرواية عن أحمد وقول بعض الحنفية ومنهم يجزئ الأكثر كرواية عن أحمد وقول بعض المالكية ومنهم من قال يجزئ الربع ومنهم من قال: قدر ثلاث أصابع وهما قولان للحنفية ومنهم من قال: ثلاث شعرات أو بعضها ومنهم من قال: شعرة أو بعضها وهما قولان للشافعية
وأما الذين أوجبوا الاستيعاب: كمالك وأحمد في المشهور من مذهبهما فحجتهم ظاهر القرآن وإذا سلم لهم منازعوهم وجوب الاستيعاب في مسح التيمم كان في مسح الوضوء أولى وأحرى لفظا ومعنى ولا يقال التيمم وجب فيه الاستيعاب لأنه بدل عن غسل الوجه واستيعابه واجب لأن البدل إنما يقوم مقام المبدل في حكمه لا في وصفه ولهذا المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين ولا يجب فيه الاستيعاب مع وجوبه في الرجلين وأيضا السنة المستفيضة من عمل رسول الله ﷺ
وأما حديث المغيرة بن شعبة فعند أحمد وغيره من فقهاء الحديث: يجوز المسح على العمامة للأحاديث الصحيحة الثابتة في ذلك وإذا مسح عنده بناصيته وكمل الباقي بعمامته أجزأه ذلك عنده بلا ريب
وأما مالك: فلا جواب له عن الحديث إلا أن يحمله على أنه كان معذورا لا يمكنه كشف الرأس فتيمم على العمامة للعذر ومن فعل ما جاءت به السنة من المسح بناصيته وعمامته أجزأه مع العذر بلا نزاع وأجزأه بدون العذر عند الثلاثة
ومسح الرأس مرة مرة يكفي بالاتفاق كما يكفي تطهير سائر الأعضاء مرة
وتنازعوا في مسحه ثلاثا هل يستحب؟
فمذهب الجمهور: أنه لا يستحب كمالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه
وقال الشافعي وأحمد في رواية عنه: يستحب لما في الصحيح أنه توضأ ثلاثا ثلاثا وهذا عام
وفي سنن أبي داود: أنه مسح برأسه ثلاثا ولأنه عضو من أعضاء الوضوء فسن فيه الثلاث كسائر الأعضاء
والأول أصح فإن الأحاديث الصحيحة: [ عن النبي ﷺ أنه كان يمسح رأسه مرة واحدة ] ولهذا قال أبو داود السجستاني: أحاديث عثمان الصحاح تدل على أنه مسح مرة واحدة وبهذا يبطل ما رواه من مسحه ثلاثا فإنه يبين أن الصحيح أنه مسح رأسه مرة وهذا المفصل يقضي على المجمل وهو قوله: توضأ ثلاثا ثلاثا
كما أنه لما قال: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول
كان هذا مجملا وفسره حديث ابن عمر أنه يقول عند الحيعلة: لا حول ولا قوة إلا بالله فإن الخاص المفسر يقضي على العام المجمل
وأيضا فإن هذا مسح والمسح لا يسن فيه التكرار: كمسح الخف والمسح في التيمم ومسح الجبيرة وإلحاق المسح بالمسح أولى من إلحاقه بالغسل لأن المسح إذا كرر كان كالغسل
وما يفعله الناس من أنه يمسح بعض رأسه بل بعض شعره ثلاث مرات خطأ مخالف للسنة المجمع عليها من وجهين: من جهة مسحه بعض رأسه فإنه خلاف السنة باتفاق الأئمة ومن جهة تكراره فإنه خلاف السنة على الصحيح
ومن يستحب التكرار: كالشافعي وأحمد في قول لا يقولون امسح البعض وكرره بل يقولون امسح الجميع وكرر المسح
ولا خلاف بين الأئمة أن مسح جميع الرأس مرة واحدة أولى من مسح بعضه ثلاثا بل إذا قيل إن مسح البعض يجزئ وأخذ رجل بالرخصة كيف يكرر المسح؟
ثم المسلمون متنازعون في جواز الاقتصار على البعض وفي استحباب تكرار المسح فكيف يعدل إلى فعل لا يجزىء عند أكثرهم ولا يستحب عند أكثرهم ويترك فعل يجزىء عند جميعهم وهو الأفضل عند أكثرهم والله أعلم
25 - 41 - مسألة: هل صح عن النبي ﷺ أنه مسح على عنقه أو أحد من الصحابة رضي الله عنهم؟
الجواب: لم يصح عن النبي ﷺ أنه مسح على عنقه في الوضوء بل ولا روي عنه ذلك في حديث صحيح بل الأحاديث الصحيحة التي فيها صفة وضوء النبي ﷺ لم يكن يمسح على عنقه ولهذا لم يستحب ذلك جمهور العلماء: كمالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهما ومن استحبه فاعتمد على أثر يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أو حديث يضعف نقله أنه مسح رأسه حتى بلغ القذال ومثل ذلك لا يصلح عمدة ولا يعارض ما دل عليه الأحاديث ومن ترك مسح العنق فوضوءه صحيح باتفاق العلماء والله أعلم
6 - 42 - مسألة: هل يجوز مس المصحف بغير وضوء أم لا؟
الجواب: مذهب الأئمة الأربعة: أنه لا يمس إلا طاهر كما قال في الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ لعمرو بن حزم: [ إنه لا يمس القرآن إلا طاهر ]
قال الإمام أحمد: لا شك أن النبي ﷺ كتبه له
وهو أيضا قول سلمان الفارسي وعبد الله بن عمر وغيرهما ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف
27 - 43 - مسألة: هل لمس كل ذكر ينقض الوضوء من الآدميين والحيوان؟ وهل باطن الكف هو ما دون باطن الأصابع؟
الجواب: لمس فرج الحيوان غير الإنسان لا ينقض الوضوء حيا ولا ميتا باتفاق الأئمة وذكر بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي فيه وجهين وإنما تنازعوا في مس فرج الإنسان خاصة وبطن الكف يتناول الباطن كله بطن الراحة والأصابع ومنهم من يقول: لا ينقض بحال: كأبي حنيفة وأحمد في رواية
26 - 42 - مسألة: إذا توضأ وقام يصلي أحس بالنقطة في صلاته فهل تبطل صلاته أم لا؟ وهل إذا أصاب النقطة يغسل الثوب؟
الجواب: مجرد الإحساس لا ينقض الوضوء ولا يجوز له الخروج من الصلاة الواجبة بمجرد الشك فإنه قد ثبت عن النبي ﷺ [ أنه سئل عن الرجل يجد الشيء في الصلاة فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ]
وأما إذا تيقن خروج البول إلى ظاهر الذكر فقد انتقض وضوءه وعليه الاستنجاء إلا أن يكون به سلس البول فلا تبطل الصلاة بمجرد ذلك إذا فعل ما أمر به والله أعلم
45 - / 29 - مسألة: إذا مر يد الصبي الأمرد فهل هو من جنس النساء في نقض الوضوء وما جاء في تحريم النظر إلى وجه الأمرد الحسن؟
وهل هذا الذي يقوله بعض المخالفين للشريعة أن النظر إلى وجه الصبي الأمرد عبادة وإذا قال لهم أحد: هذا النظر حرام يقول: أنا إذا نظرت إلى هذا أقول سبحان الذي خلقه لا أزيد على ذلك
الجواب: الحمد لله إذا مس الأمرد لشهوة ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره:
أحدهما: أنه كمس النساء لشهوة ينقض الوضوء وهو المشهور من مذهب مالك ذكره القاضي أبو يعلى في شرح المذهب
والثاني: أنه لا ينقض الوضوء وهو المشهور من مذهب الشافعي والقول الأول أظهر فإن الوطء في الدبر يفسد العبادات التي تفسد بالوطء بالقبل: كالصيام والإحرام والاعتكاف ويوجب الغسل كما يوجبه هذا فتكون مقدمات هذا في باب العبادات كمقدمات هذا فلو مس الأمرد لشهوة وهو محرم فعليه دم كما لو مس أجنبية لشهوة وكذلك إذا مسه لشهوة وجب أن يكون كما لو مس المرأة لشهوة في نقض الوضوء
والذي لم ينقض الوضوء بمسه يقول: إنه لم يخلق محلا لذلك فيقال له: لا ريب أنه لم يخلق لذلك وإن الفاحشة اللوطية من أعظم المحرمات لكن هذا القدر لم يعتبر في باب الوطء فإن وطىء في الدبر تعلق به ما ذكر من الأحكام وإن كان الدبر لم يخلق محلا للوطء مع إن نفرة الطباع عن الوطء في الدبر أعظم من نفرتها عن الملامسة
ونقض الوضوء بالمس يراعى فيه حقيقة الحكمة وهو أن يكون المس لشهوة عند الأكثرين: كمالك وأحمد وغيرهما كما يراعى مثل ذلك في الإحرام والاعتكاف وغير ذلك وعلى هذا القول: فحيث وجد اللمس لشهوة تعلق به الحكم حتى لو مس أمه وأخته وبنته لشهوة انتقض وضوءه فكذلك الأمرد
وأما الشافعي وأحمد في رواية فتعتبر المظنة وهو أن النساء مظنة الشهوة فينقض الوضوء سواء بشهوة أو بغير شهوة ولهذا لا ينقض لمس المحارم لكن لو لمس ذوات محارمه لشهوة فقد وجدت حقيقة الحكمة وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة
والتلذذ بمس الأمرد كمصافحته ونحو ذلك حرام بإجماع المسلمين كما يحرم التلذذ بمس ذوات محارمه والمرأة الأجنبية بل الذي عليه أكثر العلماء أن ذلك أعظم إثما من التلذذ بالمرأة الأجنبية كما أن الجمهور على أن عقوبة اللوطي أعظم من عقوبة الزنا بالأجنبية فيجب قتل الفاعل والمفعول به سواء كان أحدهما محصنا أو لم يكن وسواء كان أحدهما مملوكا للآخر أو لم يكن كما جاء ذلك في السنن عن النبي ﷺ وعمل به أصحابه من غير نزاع يعرف بينهم وقتله بالرجم كما قتل الله قوم لوط بالرجم وبذلك جاءت الشريعة في قتل الزاني أنه يرجم فرجم النبي ﷺ ماعز بن مالك والغامدية واليهوديين والمرأة التي أرسل إليها أنيسا وقال: [ إذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ] فاعترفت فرجمها
والنظر إلى وجه الأمرد لشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم والمرأة الأجنبية بالشهوة سواء كانت الشهوة شهوة الوطء أو شهوة التلذذ بالنظر فلو نظر إلى أمه وأخته وابنته يتلذذ بالنظر إليها كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية كان معلوما لكل أحد أن هذا حرام فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة
وقول القائل: إن النظر إلى وجه الأمرد عبادة كقوله: إن النظر إلى وجوه النساء أو النظر إلى وجوه محارم الرجل كبنت الرجل وأمه وأخته: عبادة ومعلوم أن من جعل هذا النظر المحرم عبادة كان بمنزلة من جعل الفواحش عبادة قال تعالى: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }
ومعلوم أنه قد يكون في صور النساء الأجنبيات وذوات المحارم من الاعتبار والدلالة على الخالق من جنس ما في صورة المرد فهل يقول مسلم أن للإنسان أن ينظر بهذا الوجه إلى صور نساء العالم وصور محارمه ويقول إن ذلك عبادة؟
بل من جعل مثل هذا النظر عبادة فإنه كافر مرتد يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهو بمنزلة من جعل إعانة طالب الفواحش عبادة أو جعل تناول يسير الخمر عبادة أو جعل السكر بالحشيشة عبادة فمن جعل المعاونة على الفاحشة بقيادة أو غيرها عبادة أو جعل شيئا من المحرمات التي يعلم تحريمها من دين الإسلام عبادة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهو مضاه المشركين { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }
وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة وكانوا يقولون لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها فهؤلاء إنما كانوا يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية وقد ذكر عنهم فكيف بمن يجعل جنس الفاحشة المتعلقة بالشهوة عبادة
والله سبحانه قد أمر في كتابه بغض البصر وهو نوعان: غض البصر عن العورة وغضها عن محل الشهوة
فالأول: كغض الرجل بصره عن عورة غيره كما قال النبي ﷺ: [ لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ]
ويجب على الإنسان أن يستر عورته كما قال النبي ﷺ لمعاوية بن حيدة: [ إحفظ عورتك إلا من عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قلت: فإذا كان أحدنا مع قومه؟ قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها. قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله أحق أن يستحيي منه الناس ]
ويجوز يكشف بقدر الحاجة كما يكشف عند التخلي وكذلك إذا اغتسل الرجل وحده بجنب ما يستر فله أن يغتسل عريانا كما اغتسل موسى عريانا وأيوب وكما في اغتساله ﷺ يوم الفتح واغتساله في حديث ميمونة
وأما النوع الثاني من النظر: كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية فهذا أشد من الأول كما أن الخمر أشد من الميتة والدم ولحم الخنزير وعلى صاحبها الحد
وتلك المحرمات إذا تناولها غير مستحل لها كان عليه التعزير لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهي الخمر وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهي كما يشتهي النظر إلى النساء ونحوهن وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة هو من هذا الباب وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم لشهوة
والخالق سبحانه يسبح عند رؤية مخلوقاته كلها وليس خلق الأمرد بأعجب في قدرته من خلق ذي اللحية ولا خلق النساء بأعجب في قدرته من خلق الرجال بل تخصيص الإنسان التسبيح بحال نظره إلى الأمرد دون غيره كتخصيصه التسبيح بنظره إلى المرأة دون الرجل وما ذاك إلا أنه دل على عظمة الخالق عنده ولكن لأن الجمال يغير قلبه وعقله وقد يذهله ما رآه فيكون تسبيحه بما يحصل في نفسه من الهوى كما أن النسوة لما رأين يوسف { أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم }
وقد ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: [ إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ]
وإذا كان الله لا ينظر إلى الصور والأموال وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال فكيف يفضل الشخص بما لم يفضله الله به وقد قال تعالى: { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا }
وقال في المنافقين: { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون }
فإذا كان هؤلاء المنافقون الذين تعجب الناظر أجسامهم لما فيهم من البهاء والرواء والزينة الظاهرة وليسوا ممن ينظر إليه لشهوة قد ذكر الله عنهم ما ذكر فكيف بمن ينظر إليه لشهوة وذلك أن الإنسان قد ينظرإليه لما فيه من الإيمان والتقوى وهنا الاعتبار بقلبه وعمله لا بصورته وقد ينظر إليه لما فيه من الصورة الدالة على المصور فهذا حسن
وقد ينظر من جهة استحسان خلقه كما ينظر إلى الجبل والبهائم وكما ينظر إلى الأشجار فهذا أيضا إذا كان على وجه إستحسان الدنيا والرياسة والمال فهو مذموم لقوله تعالى: { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه }
وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين وإنما فيه راحة النفس فقط كالنظر إلى الأزهار فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق
وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حراما بلا ريب سواء كانت شهوة تمتع بنظر الشهوة أو كان نظرا بشهوة الوطء وفرق بين ما يجده الإنسان عند نظره الأشجار والأزهار وما يجده عند نظره النسوان والمرد فلهذا الفرقان افترق الحكم الشرعي فصار النظر إلى المرد ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقرن به الشهوة فهو حرام بالاتفاق
والثاني: ما يجزم أنه لا شهوة معه كنظر الرجل الورع إلى ابنه الحسن وابنته الحسنة وأمه فهذا لا يقرن به شهوة إلا أن يكون الرجل من أفجر الناس ومتى اقترنت به الشهوة حرم
وعلى هذا من لا يميل قلبه إلى المرد كما كان الصحابة وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة فإن الواحد من هؤلاء لا يفرق بين هذا الوجه وبين نظره إلى ابنه وابن جاره وصبي أجنبي ولا يخطر بقلبه شيء من الشهوة لأنه لم يعتد ذلك وهو سليم القلب من مثل ذلك
وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات وهن متكشفات الرؤوس وتخدم الرجال مع سلامة القلوب فلو أراد الرجال أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس في مثل هذه البلاد والأوقات كما كان أولئك الإماء يمشين كان هذا من باب الفساد وكذلك المرد الحسان لا يصلح أن يخرجوا في الأمكنة والأزمنة التي يخاف فيها الفتنة بهم إلا بقدر الحاجة فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج ولا من الجلوس في الحمام بين الأجانب ولا من رقصه بين الرجال ونحو ذلك مما فيه فتنة للناس والنظر إليه كذلك
وإنما وقع النزاع بين العلماء في القسم الثالت من النظر وهو: النظر إليه لغير شهوة لكن مع خوف ثورانها فيه وجهان في مذهب أحمد أصحهما وهو المحكي عن نص الشافعي: إنه لا يجوز والثاني يجوز لأن الأصل عدم ثورانها فلا يحرم بالشك بل قد يكره والأول هو الراجح كما أن الراجح في مذهب الشافعي وأحمد: إن إلنظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز وإن كانت الشهوة منتفية لكن لأنه يخاف ثوراتها ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية لأنها مظنة الفتنة
والأصل أن كل ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة ولهذا كان النظر الذي يفضي إلى الفتنة محرما إلا إذا كان لمصلحة راجحة مثل: نظر الخاطب والطبيب وغيرهما فإنه يباح النظر للحاجة لكن مع عدم الشهوة وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز
ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه أو أدامه وقال: إني لا أنظر لشهوة كذب في ذلك فإنه إذا لم يكن معه داع يحتاج معه إلى النظر لم يكن النظر إلا لما يحصل في القلب من اللذة بذلك وأما نظرة الفجأة فهي عفو إذا صرف بصره كما ثبت في الصحيح: عن جرير قال: سألت رسول الله ﷺ عن نظرة الفجأة فقال: [ أصرف بصرك ]
وفي السنن: إنه قال لعلي عليه السلام: [ يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية ]
وفي الحديث الذي في المسند وغيره: [ النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ]
وفيه: من نظر إلى محاسن امرأة ثم غض بصره عنها أورث الله قلبه حلاوة عابدة يجدها إلى يوم القيامة أو كما قال
ولهذا يقال: إن غض البصر عن الصورة التي نهى عن النظر إليها كالمرأة والآمرد الحسن يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر:
إحداها: حلاوة الإيمان ولدته التي هي أحلى وأطيب مما تركه الله فإن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه والنفس تحب النظر إلى هذه الصور لا سيما نفوس أهل الرياضة والصفا فإنه يبقى فيها رقة تجتذب بسببها إلى الصور حتى تبقى تجذب أحدهم وتصرعه كما يصرعه السبع
ولهذا قال بعض التابعين: ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه من حدث جميل يجلس إليه
وقال بعضهم: اتقوا النظر إلى أولاد الملوك فإن لهم فتنة كفتنة العذارى
وما زال أئمة العلم والدين: كشيوخ الهدى وشيوخ الطريق يوصون بترك صحبة الأحداث
حتى يروى عن فتح الموصلي أنه قال: صحبت ثلاثين من الأبدال كلهم يوصيني عند فراقه بترك صحبة الأحداث
وقال بعضهم: ما سقط عبد من عين الله إلا بصحبة هؤلاء الأنتان
ثم النظر يؤكد المحبه فيكون علاقة لتعلق القلب بالمحبوب ثم صبابة لا نصباب القلب إليه ثم غراما للزومه للقلب كالغريم الملازم لغريمه ثم عشقا إلى أن يصير تتيما والمتيم المعبد وتيم الله عبد الله فيبقى القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون أخا بل ولا خادما وهذا إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص لله كما قال تعالى في حق يوسف:
{ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }
فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء ويوسف عليه السلام مع عزوبته ومراودتها له واستعانتها عليه بالنسوة وعقوبتها له بالحبس على العفة عصمه الله بإخلاصه لله تحقيقا لقوله: { ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين }
قال تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين }
والغي هو اتباع الهوى
وهذا الباب من أعظم أبواب اتباع الهوى
ومن أمر يعشق الصور من المتفلسفة: كابن سينا وذويه أو من الفرس كما يذكر عن بعضهم أو من جهال المتصوفة فإنهم أهل ضلال وغي فهم مع مشاركة اليهود في الغي والنصارى في الضلال زادوا على الأمتين في ذلك فإن هذا وإن ظن أن فيه منفعة للعاشق: كتطليق نفسه وتهذيب أخلاقه وللمعشوق من الشفاء في مصالحه وتعليمه وتأديبه وغير ذلك أضعاف منفعته وأين إثم ذلك من منفعته
وإنما هذا كما يقال: إن في الزنا منفعة لكل منهما بما يحصل له من التلذذ والسرور ويحصل لها من الجعل وغير ذلك
وكما يقال إن شرب الخمر منافع بدنية ونفسية وقد قال في الخمر والميسر:
{ قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما }
وهذا قبل التحريم دع ما قاله عند التحريم وبعده
وباب التعلق بالصور هو من جنس الفواحش وباطنه من باطن الفواحش وهو من باطن الإثم
قال تعالى: { وذروا ظاهر الإثم وباطنه }
وقال تعالى: { إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن }
وقد قال: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }
وليس بين أئمة الدين نزاع في أن هذا ليس بمستحب كما أنه ليس بواجب فمن جعله ممدوحا وأثنى عليه فقد خرج من إجماع المسلمين بل اليهود والنصارى بل وعما عليه عقل بني آدم من جميع الأمم وهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله
{ ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين }
وقد قال تعالى: { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى }
وقال تعالى: { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب }
وأما من نظر إلى الأمرد ظانا أنه ينظر إلى الجمال الإلهي وجعل هذا طريقا له إلى الله كما يفعله طوائف من المدعين للمعرفة فقوله هذا أعظم كفرا من قول عباد الأصنام ومن كفر قوم لوط فهؤلاء من شر الزنادقة المرتدين الذين يجب قولهم بإجماع كل الأمة فإن عباد الأصنام قالوا: { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }
وهؤلاء يجعلون الله موجودا في نفس الأصنام وحالا فيها فإنهم لا يريدون بظهوره وتجليه في المخلوقات أنها داله عليه وآيات لهم بل يريدون أنه سبحانه هو ظهر فيها وتجلى فيها ويشبهون ذلك بظهور الماء في الزجاجة والزبد في اللبن والزيت في الزيتون والدهن في السمسم ونحو ذلك مما يقتضي حلول تفس ذاته في مخلوقاته أو اتحاده بها في جميع المخلوقات نظير ما قالته النصارى في المسيح خاصة يجعلون المرد مظاهر الجمال فيقرون هذا الشرك الأعظم طريقا إلى استحلال الفواحش بل إلى استحلال كل محرم
كما قيل لأفضل متأخريهم التلمساني: إذا كان قولكم بأن الوجود واحد هو الحق فما الفرق بين أمي وأختي وابنتي؟ تكون هذه حلالا وهذه حراما؟ فقال: الجميع عندنا سواء لكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام فقلنا: حرام عليكم
ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والإتحاد ببعض الأشخاص إما ببعض الأنبياء كالمسيح أو ببعض الصحابة كقول الغالية في علي أو ببعض الشيوخ كالحلاجية ونحوهم أو ببعض الصور كصور المرد
ويقول في أحدهم: أنا أنظر إلى صفات خالقي وأشهدها في هذه الصورة
والكفر في هذا القول أبين من أن يخفى على من يؤمن بالله ورسوله ولو قال مثل هذا الكلام في بني كريم لكان كافرا فكيف إذا قاله في صبي أمرد
فقبح الله طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها وقد قال تعالى: { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }
فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبين أربابا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون لله كفارا فكيف بمن اتخذ بعض المخلوقات أربابا مع قوله: إن الله فيها أو متحد بها فوجودها وجوده ونحو ذلك من المقالات
وأما الفائدة الثانية في غض البصر فهو: أنه يورث نور القلب والفراسة
قال تعالى عن قوم لوط: { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون }
فالتعلق في الصور يوجب فساد العقل وعمي البصيرة وسكر القلب بل جنونه كما قيل:
( سكران سكر هوى وسكر مدامة... فمتى إفاقة من به سكران؟ )
وقيل:
( قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم... العشق أعظم مما بالمجانين )
( العشق لا يستفيق الدهر صاحبه... وإنما يصرع المجنون في الحين )
وذكر سبحانه آية النور عقيب آيات غض البصر فقال: { الله نور السماوات والأرض }
وكان شاه بن شجاع الكرماني لا تخطئ له فراسة وكان يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات وذكر خصلة خامسة إنما هو أكل الحلال ولم تخطىء له فراسة
والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله فغض بصره عما حرم يعوضه الله عليه من جنسه بما هو خير منه فيطلق نور بصيرته ويفتح عليه باب العلم والمعرفة والكشوف ونحو ذلك مما ينال بصيرة القلب
والفائدة الثالثة قوة القلب وثباته وشجاعته فيجعل الله سلطان النصرة مع سلطان الحجة
وفي الأثر: الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله
ولهذا يوجد في المتبع لهواه من الذل ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه فإن الله جعل العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه
قال تعالى: { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين }
وقال تعالى: { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }
ولهذا كان في كلام الشيوخ: الناس يطلبون العز من أبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله
وكان الحسن البصري يقول: وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال فإن ذل المعصية في رقابهم يأبى الله إلا أن يذل من عصاه ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه
وفي دعاء القنوت: إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت
والصوفية المشهورون عند الأئمة الذين لهم لسان صدق في الأمة لم يكونوا يستحبون مثل هذا بل ينهون عنه ولهم في الكلام في ذم صحبة الأحداث وفي الرد على أهل الحلول وبيان مبيانة الخالق للمخلوق مالا يتسع هذا الموضع لذكره وإنما استحسنه من تشبه بهم ممن هو عاص أو فاسق أو كافر فتظاهر بدعوى الولاية لله وتحقيق الإيمان والعرفان وهو من شر أهل العداوة لله وأهل النفاق والبهتان
والله تعالى يجمع لأوليائه المتقين خير الدنيا والآخرة ويجعل لأعدائه الصفقة الخاسرة والله أعلم