528 - 130 مسألة: قال الشيخ رحمه الله:
نكاح الزانية حرام حتى تتوب سواء كان زنى بها هو أو غيره هذا هو الصواب بلا ريب وهو مذهب طائفة من السلف والخلف: منهم أحمد بن حنبل وغيره وذهب كثير من السلف إلى جوازه وهو قول الثلاثة لكن مالك يشترط الاستبراء وأبو حنيفة يجوز العقد قبل الاستبراء إذا كانت حاملا لكن إذا كانت حاملا لا يجوز وطؤها حتى تضع والشافعي يبيح العقد الوطء مطلقا لأن ماء الزاني غير محترم وحكمه لا يلحقه نسبه هذا مأخذه وأبو حنيفة يفرق بين الحامل وغير الحامل فإن الحامل إذا وطئها استلحق ولدا ليس منه قطعا بخلاف غير الحامل
ومالك وأحمد يشترطان الاستبراء وهو الصواب لكن مالك وأحمد في رواية يشترطان الاستبراء بحيضة والرواية الأخرى عن أحمد هي التي عليها كثير من أصحابه كالقاضي أبي يعلى وأتباعه أنه لا بد من ثلاث حيض والصحيح أنه لا يجب إلا الاستبراء فقط فإن هذه ليست زوجة يجب عليها عدة وليست أعظم من المستبرأة التي يلحق ولدها سيدها وتلك لا يجب عليها إلا الاستبراء فهذه أولى وإن قدر أنها حرة كالتي أعتقت بعد وطء سيدها وأريد تزويجها إما من المعتق وإما من غيره فإن هذه عليها استبراء عند الجمهور ولا عدة عليها وهذه الزانية ليست الموطوءة بشبهة التي يلحق ولدها بالواطئ مع أن في إيجاب العدة على تلك نزاعا
وقد ثبت بدلالة الكتاب وصريح السنة وأقوال الصحابة: أن المختلعة ليس عليها إلا الاستبراء بحيضة لا عدة كعدة المطلقة وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقول عثمان بن عفان وابن عباس وابن عمر في آخر قوليه وذكر مكي: أنه إجماع الصحابة وهو قول قبيصة بن ذؤيب وإسحق بن راهويه وابن المنذر وغيرهم من فقهاء الحديث وهذا هو الصحيح كما قد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر فإذا كانت المختلعة لكونها ليست مطلقة ليس عليها عدة الملطقة بل الاستبراء - ويسمى الاستبراء عدة فالموطوءة بشبهة أولى والزانية أولى
وأيضا فالمهاجرة من دار الكفر كالممتحنة التي أنزل الله فيها: { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } الآية قد ذكرنا في غير هذا الموضع الحديث المأثور فيها وأن ذلك كان يكون بعد استبرائها بحيضة مع أنها كانت مزوجة لكن حصلت الفرقة بإسلامها واختيارها فراقه لا بطلاق منه وكذلك قوله: { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } فكانوا إذا سبوا المرأة أبيحت بعد الاستبراء والمسبية ليس عليها الاستبراء بالسنة واتفاق الناس وقد يسمى ذلك عدة وفي السنن في حديث بريرة لما أعتقت: [ أن النبي ﷺ أمر أن تعتد ] فلهذا قال من قال من أهل الظاهر كابن حزم: إن من ليست بمطلقة تستبرأ بحيضة إلا هذه وهذا ضعيف فإن لفظ تعتد في كلامهم يراد به الاستبراء كما ذكرنا هذه وقد روى ابن ماجه عن عائشة [ أن النبي ﷺ أمرها أن تعتد بثلاث حيض ] فقال كذا لكن هذا حديث معلول
أما أولا فإن عائشة قد ثبت عنها من غير وجه أن العدة عندها ثلاثة أظهار وأنها إذا طعنت في الحيضة الثالثة حلت فكيف تروي عن النبي ﷺ أنه أمرها أن تعتد بثلاث حيض؟ ! والنزاع بين المسلمين من عهد الصحابة إلى اليوم في العدة: هل هي ثلاث حيض أو ثلاث أطهار؟ وما سمعنا أحدا من أهل العلم احتج بهذا الحديث على أنها ثلاث حيض ولو كان لهذا أصل عن عائشة لم يخف ذلك على أهل العلم قاطبة ثم هذه سنة عظيمة تتوافر الهمم والدواعي على معرفتها لأن فيها أمرين عظيمين أحدهما أن المعتقة تحت عبد تعتد بثلاث حيض و الثاني أن العدة ثلاث حيض وأيضا فلو ثبت ذلك كان يحتج به من يرى أن المعتقة إذا اختارت نفسها كان ذلك طلقة بائنة كقول مالك وغيره وعلى هذا فالعدة لا تكون إلا من طلاق لكن هذا أيضا قول ضعيف والقرآن والسنة والاعتبار يدل على أن الطلاق لا يكون إلا رجعيا وإن كل فرقة مباينة فليست من الطلقات الثلاث حتى الخلع كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع
والمقصود هنا الكلام في نكاح الزانية وفيه مسألتان إحداهما في استبرائها وهو عدتها وقد تقدم قول من قال: لا حرمة لماء الزاني يقال له: الاستبراء لم يكن لحرمة ماء الأول بل لحرمة ماء الثاني فإن الإنسان ليس له أن يستلحق ولدا ليس منه وكذلك إذا لم يستبرئها وكانت قد علقت من الزاني وأيضا ففي استلحاق الزاني ولده إذا لم تكن المرأة فراشا قولان لأهل العلم والنبي ﷺ قال: [ الولد للفراش وللعاهر الحجر ] فجعل الولد للفراش دون العاهر فإذا لم تكن المرأة فراشا لم يتناوله الحديث وعمر [ ألحق ] أولادا ولدوا ولدوا في الجاهلية بآبائهم وليس هذا موضع بسط هذه المسألة
والثانية أنها لا تحل حتى تتوب وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار والمشهور في ذلك آية النور قوله تعالى: { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } وفي السنن حديث أبي مرثد الغنوي في عناق والذين لم يعملوا بهذه الآية ذكروا لها تأويلا ونسخا أما التأويل: فقالوا المراد بالنكاح الوطء وهذا مما يظهر فساده بأدنى تأمل
أما أولا فليس في القرآن لفظ نكاح إلا ولا بد أن يراد به العقد وإن دخل فيه الوطء أيضا فأما أن يراد به مجرد الوطء فهذا لا يوجد في كتاب الله قط
وثانيها أن سبب نزول الآية إنما هو استفتاء النبي ﷺ في التزوج بزانية فكيف يكون سبب النزول خارجا من اللفظ؟
الثالث إن قول القائل: الزاني لا يطأ إلا زانية أو الزانية لا يطؤها إلا زان كقوله: الآكل لا يأكل إلا مأكولا والمأكول لا يأكله إلا آكل والزوج لا يتزوج إلا بزوجة والزوجة لا يتزوجها إلا زوج وهذا كلام ينزه عنه كلام الله
الرابع أن الزاني قد يستكره امرأة فيطؤها فيكون زانيا ولا تكون زانية وكذلك المرأة قد تزني بنائم ومكره على أحد القولين ولا يكون زانيا
الخامس أن تحريم الزنا قد علمه المسلمون بآيات نزلت بمكة وتحريمه أشهر من أن تنزل هذه الآية بتحريمه
السادس قال: { لا ينكحها إلا زان أو مشرك } فلو أريد الوطء لم يكن حاجة إلى ذكر المشرك فإنه زان وكذلك المشركة إذا زنى بها رجل فهي زانية فلا حاجة إلى التقسيم
السابع أنه قد قال قبل ذلك: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } فأي حاجة إلى أن يذكر تحريم الزنا بعد ذلك؟
وأما النسخ فقال سعيد بن المسيب وطائفة من: نسخها قوله: { وأنكحوا الأيامى منكم } ولما علم أهل هذا القول أن دعوى النسخ بهذه الآية ضعيف جدا ولم يجدوا ما ينسخها فاعتقدوا أنه لم يقل بها أحد قالوا: هي منسوخة بالإجماع كما زعم ذلك أبو علي الجبائي وغيره أما على قول من يرى من هؤلاء أن الإجماع ينسخ النصوص كما يذكر ذلك عن عيسى بن أبان وغيره وهو قول في غاية الفساد مضمونة أن الأمة يجوز لها تبديل دينها بعد نبيها وإن ذلك جائز لهم كما يقول النصارى: أبيح لعلمائهم أن ينسخوا من شريعة المسيح ما يرونه وليس هذا من أقوال المسلمين وممن يظن الإجماع من يقول: الإجماع دل على نص ناسخ لم يبلغنا ولا حديث إجماع في خلاف هذه الآية وكل من عارض نصا بإجماع وادعى نسخه من غير نص يعارض ذلك النص فإنه مخطئ في ذلك كما قد بسط الكلام على هذا في موضع آخر وبين أن النصوص لم ينسخ منها شيء إلا بنص باق محفوظ عند الأمة وعلمها بالناسخ الذي العمل به أهم عندها من علمها بالمنسوخ الذي لا يجوز العمل به حفظ الله النصوص الناسخة أولى من حفظه المنسوخة
وقول من قال: هي منسوخة بقوله: { وأنكحوا الأيامى منكم } في غاية الضعف فإن كونها زانية وصف عارض لها يوجب تحريما عارضا: مثل كونها محرمة ومعتدة ومنكوحة للغير ونحو ذلك مما يوجب التحريم إلى غاية ولو قدر أنها محرمة على التأييد لكانت كالوثنية ومعلوم أن هذه الآية لم تتعرض للصفات التي بها تحرم المرآة مطلقا أو مؤقتا وإنما أمر بإنكاح الأيامى من حيث الجملة وهو أمر بإنكاحهن بالشروط التي بينها وكما أنها لا تنكح في العدة والاحرام لا تنكح حتى تتوب
وقد احتجوا بالحديث الذي فيه: إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال طلقها فقال: إني أحبها قال: فاستمتع بها
الحديث رواه النسائي وقد ضعفه أحمد وغيره فلا تقوم به حجة في معارضة الكتاب والسنة ولو صح لم يكن صريحا فإن من الناس من يؤول اللامس بطالب المال لكنه ضعيف لكن لفظ اللامس قد يراد من مسها بيده وإن لم يطأها فإن من النساء من يكون فيها تبرج وإذا نظر إليها رجل أو وضع يده عليها لم تنفر عنه ولا تمكنه من وطئها ومثل هذه نكاحها مكروه ولهذا أمره بفراقها ولم يوجب ذلك عليه لما ذكر أنه يحبها فإن هذه لم تزن ولكنها مذنبة ببعض المقدمات ولهذا قال: لا ترد يد لامس فجعل اللمس باليد فقط ولفظ اللمس والملامسة إذا عني بهما الجماع لا يحص باليد بل إذا قرن باليد فهو كقوله تعالى: { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم }
وأيضا فالتي تزني بعد النكاح ليست كالتي تتزوج وهي زانية فإن دوام النكاح أقوى من ابتدائه والإحرام والعدة تمنع الابتداء دون الدوام فلو قدر أنه قام دليل شرعي على أن الزانية بعد العقد لا يجب فراقها لكان الزنا كالعدة تمنع الابتداء دون الدوام جمعا بين الدليلين
فإن قيل: ما معنى قوله: { لا ينكحها إلا زان أو مشرك }؟
قيل: المتزوج بها إن كان مسلما فهو زان وإن لم يكن مسلما فهو كافر فإن كان مؤمنا بما به الرسول من تحريم هذا وفعله فهو زان وإن لم يكن مؤمنا بما جاء به الرسول فهو مشرك كما كانوا عليه في الجاهلية كانوا يتزوجون البغايا يقول: فإن تزوجتم بهن كما كنتم تفعلون من غير اعتقاد تحريم ذلك فأنتم مشركون وإن اعتقدتم التحريم فأنتم زناة لأن هذه تمكن من نفسها غير الزوج من وطئها فيبقى الزوج يطؤها كما يطؤها أولئك وكل امرأة اشترك في وطئها رجلان فهي زانية فإن الفروج لا تحتمل الاشتراك بل لا تكون الزوجة إلا محصنة
ولهذا لما كان المتزوج بالزانية زانيا كان مذموما عند الناس وهو مذموم أعظم مما يذم الذي يزني بنساء الناس ولهذا يقول في الشتمة : سبه بالزاي والقاف أي قال: يا زوج القحبة فهذا أعظم ما يتشاتم به الناس لما قد استقر عند المسلمين من قبح ذلك فكيف يكون مباحا؟ !
ولهذا كان قذف المرأة طعنا في زوجها فلو كان يجوز له التزويج ببغي لم يكن ذلك طعنا في الزوج ولهذا قال من قال من السلف: ما بغت امرأة نبي قط فالله تعالى أباح للأنبياء أن يتزوجوا كافرة ولم يبح تزوج البغي لأن هذه تفسد مقصود النكاح بخلاف الكافرة ولهذا أباح الله للرجل أن يلاعن مكان أربعة شهداء إذا زنت امرأته وأسقط عنه الحد بلعانه لما في ذلك من الضرر عليه
وفي الحديث: [ لا يدخل الجنة ديوث ]
والذي يتزوج ببغي هو ديوث وهذا مما فطر الله على ذمه وعيبه بذلك جميع عباده المؤمنين بل وغير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم كلهم يذم من تكون امرأته بغيا ويشتم بذلك ويعير به فكيف ينسب إلى شرع الإسلام إباحة ذلك؟ ! وهذا لا يجوز أن يأتي به نبي من الأنبياء فضلا عن أفضل الشرائع بل يجب أن تنزه الشريعة عن مثل هذا القول الذي إذا تصوره المؤمن ولوازمه استعظم أن يضاف مثل هذا إلى الشريعة ورأى أن تنزيهها عنه أعظم من تنزيه عائشة عما قاله أهل الإفك وقد أمر الله المؤمنين أن يقولوا: { سبحانك هذا بهتان عظيم } والنبي ﷺ إنما لم يفارق عائشة لأنه يصدق ما قيل أولا ولما حصل له الشك استشار عليا وزيد بن حارثة وسأل الجارية لينظر إن كان حقا فارقها حتى أنزل الله براءتها من السماء فذلك الذي ثبت نكاحها ولم يقل مسلم: أنه يجوز إمساك بغي وكان المنافقون يقصدون بالكلام فيها الطعن في الرسول ولو جاز التزوج ببغي لقال: هذا لا حرج علي فيه كما كان النساء أحيانا يؤذينه حتى يهجرهن فليس ذنوب المرأة طعنا بخلاف بغائها فإنه طعن فيه عند الناس قاطبة ليس أحد يدفع الذم عمن تزوج بمن يعلم أنها بغية مقيمة على البغاء ولهذا توسل المنافقون إلى الطعن حتى أنزل الله براءتها من السماء وقد كان سعد بن معاذ لما قال النبي ﷺ: [ من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ ! والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ] فقام: سعد بن معاذ - الذي اهتز لموته عرش الرحمن فقال: أنا أعذرك منه: إن كان من أخواننا من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فأخذت سعد بن عبادة غيرة قالت عائشة: وكان قبل ذلك أمرأ صالحا ولكن أخذته حمية لأن ابن أبي كان كبير قومه [ فقال ] كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير فقال: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين وثار الحيان حتى نزل رسول الله ﷺ فجعل يسكنهم فلولا أن ما قيل في عائشة طعن في النبي ﷺ لم يطلب المؤمنون قتل من تكلم بذلك من الأوس والخزرج لقذفه لامرأته ولهذا كان من قذف أم النبي ﷺ يقتل لأنه قدح في نسبه وكذلك من قذف نساءه يقتل لأنه قدح في دينه وإنما لم يقتلهم النبي ﷺ لأنهم تكلموا بذلك قبل أن يعلم براءتها وأنها من أمهات المؤمنين اللاتي لم يفارقهن عليه إذا كان يمكن أن يطلقها فتخرج بذلك من هذه الأمومة في أظهر قولي العلماء فإن فيمن طلقها النبي ﷺ ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره
أحدها أنها ليست من أمهات المؤمنين
والثاني : أنها من أمهات المؤمنين
والثالث : يفرق بين المدخول بها وغير المدخول بها والأول أصح لأن النبي ﷺ لما خير نساءه بين الإمساك والفراق وكان المقصود لمن فارقها أن يتزوجها غيره فلو كان هذا مباحا لم يكن ذلك قدحا في دينه
وبالجملة فهذه المسألة في قلوب المؤمنين أعظم من أن تحتاج إلى كثرة الأدلة فإن الإيمان والقرآن يحرم مثل ذلك لكن لما كان قد أباح مثل ذلك كثير من علماء المسلمين الذين لا ريب في علمهم ودينهم من التابعين ومن بعدهم وعلو قدرهم بنوع تأويل تأولوه احتيج إلى البسط في ذلك ولهذا نظائر كثيرة: يكون القول ضعيفا جدا وقد اشتبه أمره على كثير من أهل العلم والإيمان وسادات الناس لأن الله لم يجعل العصمة عند تنازع المسلمين إلا في الرد إلى الكتاب والسنة وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ الذي لا ينطق على الهوى
فإن قيل: فقد قال: { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة }؟ قيل: هذا يدل على أن الزاني الذي لم يتب لا يجوز أن يتزوج عفيفة كما هو إحدى الروايتين عن أحمد فإنه إذا كان يطأ هذه وهذه وهذه كما كان: كان وطؤه لهذه من جنس وطئه لغيرها من الزواني وقد قال الشعبي: من زوج كريمته من فاجر فقد قطع رحمها
وأيضا فإنه إذا كان يزني بنساء الناس كان هذا مما يدعو المرأة إلى أن تمكن منها غيره كما هو الواقع كثيرا فلم أر من يزني بنساء الناس أو ذكر أن إلا فيحمل امرأته على أن تزني بغيره مقابلة على ذلك ومغايظة
وأيضا فإذا كان عادته الزنا استغنى بالبغايا فلم يكف امرأته في الإعفاف فتحتاج إلى الزنا
وأيضا فإذا زنى بنساء الناس طلب الناس أن يزنوا بنساءه كما هو الواقع فامرأة الزاني تصير زانية من وجوه كثيرة وإن استحلت ما حرمه الله كانت مشركة وإن لم تزن بفرجها زنت بعينها وغير ذلك فلا يكاد يعرف في نساء الرجال الزناة المصرين على الزنا الذين لم يتوبوا منه امرأة سليمة سلامة تامة وطبع المرأة يدعو إلى الرجال الأجانب إذا رأت زوجها يذهب إلى النساء الأجانب وقد جاء في الحديث: [ بروا آباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم ] فقوله: { الزاني لا ينكح إلا زانية } إما أن يراد أن نفس نكاحه ووطئه لها زنا أو أن ذلك يفضي إلى زناها وأما الزانية فنفس وطئها مع إصرارها على الزنا زنا
وكذلك { المحصنات من المؤمنات }: الحرائر وعن ابن عباس: هن العفائف فقد نقل عن ابن عباس تفسير { المحصنات } بالحرائر وبالعفائف وهذا حق فنقول مما يدل على ذلك قوله تعالى: { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب * اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين } المحصنات قد قال أهل التفسير: هن العفائف هكذا قال الشعبي والحسن والنخعي والضحاك والسدي
وعن ابن عباس: هن الحرائر ولفظ ( المحصنات ) إن أريد به الحرائر فالعفة داخلة في الإحصان بطريق الأولى فإن أصل المحصنة هي العفيفة التي أحصن فرجها قال الله تعالى: { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها } وقال تعالى: { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } وهن العفائف قال حسان بن ثابت
( حصان رزان ما تزن بريبة - وتصبح غرثى من لحوم الغوافل )
ثم عادة العرب أن الحرة عندهم لا تعرف الزنا وإنما تعرف بالزنا الإماء ولهذا لما بايع النبي ﷺ هند امرأة أبي سفيان على ألا تزني قالت: أو تزني الحرة؟ فهذا لم يكن معروفا عندهم والحرة خلاف الأمة صارت في عرف العامة أن الحرة هي العفيفة لأن الحرة التي ليست أمة كانت معروفة عندهم بالعفة صار لفظ الإحصان يتناول الحرية مع العفة لأن الإماء لم تكن عفائف وكذلك الإسلام هو ينهي عن الفحشاء والمنكر وكذلك المرأة المتزوجة زوجها يحصنها لأنها تستكفي به ولأنه يغار عليها فصار لفظ الإحصان يتناول: الإسلام والحرية والنكاح وأصله إنما هو العفة فإن العفيفة هي التي أحصن فرجها من غير صاحبها كالمحصن الذي يمتنع من غير أهله وإذا كان الله إنما أباح من المسلمين وأهل الكتاب نكاح المحصنات والبغايا لسن محصنات: فلم يبح الله نكاحهن
ومما يدل على ذلك قوله: { إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } والمسافح الزاني الذي يسفح ماءه مع هذه وهذه وكذلك المسافحة والمتخذة الخدن الذي تكون له صديقة يزني بها دون غيره فشرط في الحل أن يكون الرجل غير مسافح ولا متخذ خدن فإذا كانت المرأة بغيا وتسافح هذا وهذا لم يكن زوجها محصنا لها عن غيره إذ لو كان محصنا لها كانت محصنة وإذا كانت مسافحة لم تكن محصنة والله إنما أباح النكاح إذا كان الرجال محصنين غير مسافحين وإذا شرط فيه أن لا يزني بغيرها فلا يسفح ماءه مع غيرها كان أبلغ وأبلغ وقال أهل اللغة: السفاح الزنا قال ابن قتيبة ( محصنين ) أي متزوجين ( غير مسافحين ) قال: وأصله من سفحت القربة إذا صببتها فسمى الزنا سفاحا لأنه يصب النطفة وتصب المرأة النطفة وقال ابن فارس: السفاح صب الماء بلا عقد ولا نكاح فهي التي تسفح ماءها وقال الزجاج: ( محصنين ) أي عاقدين التزوج
وقال غيرهما: متعففين غير زانين وكذلك قال في النساء: { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } ففي هاتين الآيتين اشترط أن يكون الرجال محصنين غير مسافحين بكسر الصاد والمحصن هو الذي يحصن غيره ليس هو المحصن بالفتح الذي يشترط في الحد فلم يبح إلا تزوج من يكون محصنا للمرأة غير مسافح ومن تزوج ببغي مع بقائها على البغاء ولم يحصنها من غيره بل هي كما كانت قبل النكاح تبغي مع غيره فهو مسافح بها لا محصن لها وهذا حرام بدلالة القرآن
فإن قيل: إنما أراد بذلك إنك تبتغي بمالك النكاح لا تبتغي به السفاح فتعطيها المهر على أن تكون زوجتك ليس لغيرك فيها حق بخلاف ما إذا أعطيتها على أنها مسافحة لمن تريد وإنها صديقة لك تزني بك دون غيرك فهذا حرام؟
قيل: فإذا كان النكاح مقصوده أنها تكون له لا لغيره وهي لم تتب من الزنا: لم تكن موفية بمقتضى العقد؟
فإن قيل: فإنه يحصنها بغير اختيارها فيسكنها حيث لا يمكنها الزنا؟
قيل: أما إذا أحصنها بالقهر فليس هو بمثل الذي يمكنها من الخروج إلى الرجال ودخول الرجال إليها لكن قد عرف بالعادات والتجارب أن المرأة إذا كانت لها إرادة في غير الزوج احتالت إلى ذلك بطرق كثيرة وتخفي على الزوج وربما أفسدت عقل الزوج بما تطعمه وربما سحرته أيضا وهذا كثير موجود: رجال أطعمهم نساؤهم وسحرتهم نساؤهم حتى يمكن المرأة أن تفعل ما شاءت وقد يكون قصدها مع ذلك أن لا يذهب هو إلى غيرها: فهي تقصد منعه من الحلال أو من الحرام والحلال وقد تقصد أن يمكنها أن تفعل ما شاءت فلا يبقى محصنا لها قواما عليها بل تبقى هي الحاكمة عليه فإذا كان هذا موجودا فيمن تزوجت ولم تكن بغيا: فكيف بمن كانت بغيا؟ ! والحكايات في هذا الباب كثيرة ويا ليتها مع التوبة يلزم معه دوام التوبة: فهذا إذا أبيح له نكاحها وقيل له: أحصنها واحتفظ أمكن ذلك أما بدون التوبة فهذا متعذر أو متعسر
ولهذا تكلموا في توبتها فقال ابن عمر وأحمد بن حنبل: يراودها على نفسها فإن أجابته كما كانت تجيبه لم تتب وقالت طائفة منهم أبو محمد: لا يراودها لأنها قد تكون تابت فإذا راودها نقضت التوبة ولأنه يخاف عليه إذا راودها أن يقع في ذنب معها والذين اشترطوا امتحانها قالوا: لا يعرف صدق توبتها بمجرد القول فصار كقوله: { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } و المهاجر قد يتناول التائب قال النبي ﷺ: [ المهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمهاجر من هجر السوء ] فهذه إذا ادعت أنها هجرت السوء امتحنت على ذلك وبالجملة لا بد أن يغلب على قلبه صدق توبتها
وقوله تعالى: { ولا متخذي أخدان } حرم به أن يتخذ صديقة في السر تزني معه لا مع غيره وقد قال سبحانه في آية الإماء: { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فذكر في الإماء محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان وأما الحرائر فاشترط فيهن أن يكون الرجال محصنين غير مسافحين وذكر في المائدة { ولا متخذي أخدان } لما ذكر نساء أهل الكتاب وفي النساء لم يذكر إلا غير مسافحين وذلك أن الإماء كن معروفات بالزنا دون الحرائر فاشترط في نكاحهن أن يكن محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فدل ذلك أيضا على الأمة التي تبغي لا يجوز تزوجها إلا إذا تزوجها على أنها محصنة يحصنها زوجها فلا تسافح الرجال ولا تتخذ صديقا وهذا من أبين الأمور في تحريم نكاح الأمة الفاجرة مع ما تقدم
وقد روي عن ابن عباس ( محصنات ) عفائف غير زوان ( ولا متخذات أخدان ) يعني أخلاء: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي وعنه رواية أخرى: المسافحات المعلنات بالزنا والمتخذات أخدان ذوات الخليل الواحد قال بعض المفسرين: كانت المرأة تتخذ صديقا تزني معه ولا تزني مع غيره فقد فسر ابن عباس هو وغيره من السلف المحصنات بالعفائف وهو كما قالوا وذكروا أن الزنا في الجاهلية كان نوعين: نوعا مشتركا ونوعا مختصا والمشترك ما يظهر في العادة بخلاف المختص فإنه مستتر في العادة ولما حرم الله المختص وهو شبيه بالنكاح فإن النكاح تختص فيه المرأة بالرجل: وجب الفرق بين النكاح الحلال والحرام من اتخاذ الأخدان فإن هذه إذا كان يزني بها وحدها لم يعرف أنها [ لم يطأها غيره ] ولم يعرف أن الولد الذي تلده منه ولا يثبت لها خصائص النكاح
نكاح السر والشغار
فلهذا كان عمر بن الخطاب يضرب على نكاح السر فإن نكاح السر من جنس اتخاذ الأخدان شبيه به لا سيما إذا زوجت نفسها بلا ولي ولا شهود وكتما ذلك: فهذا مثل الذي يتخذ صديقة ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا فلا يشاء من يزني بامرأة صديقة له إلا قال: تزوجتها ولا يشاء أحد أن يقول لمن تزوج في السر: إنه يزني بها إلا قال ذلك فلا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق مبين قال الله تعالى: { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } وقال تعالى: { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } فإذا ظهر للناس أن هذه المرأة قد أحصنها تميزت عن المسافحات والمتخذات أخدانا وإذا كان يمكنها أن تذهب إلى الأجانب لم تتميز المحصنات كما أنه إذا كتم نكاحها فلم يعلم به أحد لم تتميز من المتخذات أخدانا وقد اختلف العلماء فيما يتميز به هذا عن هذا فقيل: الواجب الإعلان فقط سواء أشهد أو لم يشهد كقول مالك وكثير من فقهاء الحديث وأهل الظاهر وأحمد في رواية وقيل: الواجب الإشهاد سواء أعلن أو لم يعلن كقول أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد وقيل: يجب الأمران وهو الرواية الثالثة عن أحمد وقيل: يجب أحدهما وهو الرواية الرابعة عن أحمد
واشتراط الإشهاد وحده ضعيف ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة فإنه لم يثبت عن النبي ﷺ فيه حديث ومن الممتنع أن يكون الذي يفعله المسلمون دائما له شروط لم يبنها رسول الله ﷺ وهذا مما تعم به البلوى فجميع المسلمين يحتاجون إلى معرفة هذا وإذا كان هذا شرطا كان ذكره أولى من ذكر المهر وغيره مما لم يكن له ذكر في كتاب الله ولا حديث ثابت عن رسول الله ﷺ [ فتبين ] أنه ليس مما أوجبه الله على المسلمين في مناكحهم قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الحديث: لم يثبت عن النبي ﷺ في الإشهاد على النكاح شيء ولو أوجبه لكان الإيجاب إنما يعرف من جهة النبي ﷺ وكان هذا من الأحكام التي يجب إظهارها وإعلانها فاشتراط المهر أولى فإن المهر لا يجب تقديره في العقد بالكتاب والسنة والإجماع ولو كان قد أظهر ذلك لنقل ذلك عن الصحابة: ولم يضيعوا حفظ ما لا بد للمسلمين عامة من معرفته فإن الهمم والدواعي تتوافر على نقل ذلك والذي يأمر بحفظ ذلك وهم قد حفظوا نهيه عن نكاح الشغار ونكاح المحرم ونحو ذلك من الأمور التي تقع قليلا فكيف النكاح بلا إشهاد إذا كان الله ورسوله قد حرمه وأبطله كيف لا يحفظ في ذلك نص عن رسول الله ﷺ؟ ! بل لو نقل في ذلك شيء من أخبار الآحاد لكان مردودا عند من يرى مثل ذلك فإن هذا من أعظم ما تعم به البلوى أعظم من البلوى بكثير من الأحكام فيمتنع أن يكون كل نكاح للمسلمين لا يصح إلا بإشهاد وقد عقد المسلمون من عقود الأنكحة ما لا يحصيه إلا رب السموات فعلم أن اشتراط الإشهاد دون غيره باطل قطعا ولهذا كان المشترطون للإشهاد مضطربين اضطرابا يدل على فساد الأصل فليس لهم قول يثبت على معيار الشرع إذا كان فيهم من يجوزه بشهادة فاسقين والشهادة التي لا تجب عندهم قد أمر الله فيها بإشهاد ذوي العدل فكيف بالإشهاد الواجب؟ !
ثم من العجب أن الله أمر بالإشهاد في الرجعة ولم يأمر به النكاح ثم يأمرون به في النكاح ولا يوجبه أكثرهم في الرجعة والله أمر بالإشهاد في الرجعة لئلا ينكر الزوج ويدوم مع امرأته فيفضي إلى إلى إقامته معها حراما ولم يأمر بالإشهاد على طلاق لا رجعة معه لأنه حينئذ يسرحها بإحسان عقيب العدة فيظهر الطلاق ولهذا قال يزيد بن هارون مما يعيب به أهل الرأي: أم الله بالإشهاد في البيع دون النكاح وهم أمروا به في النكاح دون البيع وهو كما قال والإشهاد في البيع إما واجب وإما مستحب وقد دل القرآن والسنة على أنه مستحب وأما النكاح فلم يرد الشرع فيه بإشهاد واجب ولا مستحب وذلك أن النكاح أمر فيه بالإعلان فأغنى إعلانه مع دوامه عن الإشهاد فإن المرأة تكون عند الرجل والناس يعلمون أنها امرأته فكان هذا الإظهار الدائم مغنيا عن الإشهاد كالنسب فإن النسب لا يحتاج إلى أن يشهد فيه أحدا على ولادة امرأته بل هذا يظهر ويعرف أن امرأته ولدت هذا فأغني هذا عن الإشهاد بخلاف البيع فإنه قد يجحد ويتعذر إقامة البينة عليه ولهذا إذا كان النكاح في موضع لا يظهر فيه كان إعلانه بالإشهاد فالإشهاد قد يجب في النكاح لأنه به يعلن ويظهر لا لأن كل نكاح لا ينعقد إلا بشاهدين بل إذا زوجه وليته ثم خرجا فتحدثا بذلك وسمع الناس أو جاء الشهود والناس بعد العقد فأخبروهم بأنه تزوجها: كان هذا كافيا وهكذا كانت عادة السلف لم يكونوا يكلفون إحضار شاهدين ولا كتابة صداق
ومن القائلين بالإيجاب من اشتراط شاهدين مستورين وهو لا يقبل عند الأداء إلا من تعرف عدالته: فهذا أيضا لا يحصل به المقصود وقد شذ بعضهم فأوجب من يكون معلوم العدالة فهذا أيضا لا يحصل به المقصود وقد شذ بعضهم فأوجب من يكون معلوم العدالة وهذا مما يعلم فساده قطعا فإن أنكحة المسلمين لم يكونوا يلتزمون فيها هذا وهذه الأقوال في مذهب أحمد على قوله باشتراط الشهادة فقيل: يجزئ فاسقان: كقول أبي حنيفة وقيل: يجزئ مستوران وهذا المشهور عن نذهبه ومذهب الشافعي وقيل: في المذهب لا بد من معروف العدالة وقيل: بل أن عقد حاكم فلا يعقده إلا بمعروف العدالة بخلاف غيره فإن الحكام هم الذين يميزون بين المبرور والمستور ثم المعروف العدالة عند حاكم البلد: فهو خلاف ما أجمع المسلمون عليه قديما وحديثا: حيث يعقدون الأنكحة فيما بينهم والحاكم بينهم والحاكم لا يعرفهم وإن اشترطوا من يكون مشهورا عندهم بالخير فليس من شرط العدل المقبول الشهادة أن يكون كذلك ثم الشهود يموتون وتتغير أحوالهم وهم يقولون: مقصود الشهادة إثبات الفراش عند التجاحد حفظا لنسب الولد فيقال: هذا حاصل بإعلان النكاح ولا يحصل بالإشهاد مع الكتمان مطلقا فالذي لا ريب فيه أن النكاح مع الإعلان يصح وإن لم يشهد شاهدان وأما مع الكتمان والإشهاد فهذا مما ينظر فيه وإذا اجتمع الإشهاد والإعلان فهذا الذي لا نزاع في صحته وإن خلا عن الإشهاد والإعلان: فهو باطل عند العامة فإن قدر فيه خلاف فهو قليل وقد يظن أن في ذلك خلافا في مذهب أحمد ثم يقال بما يميز هذا عن المتخذات أخدانا وفي المشترطين للشهادة من أصحاب أبي حنيفة من لا يعلل ذلك بإثبات الفراش ولكن كان المقصود حضور اثنين تعظيما للنكاح وهذا يعود إلى مقصود الإعلان وإذا كان الناس ممن يجهل بعضهم حال بعض ولا يعرف من عنده هل هي امرأته أو خدينه مثل الأماكن التي يكثر فيها الناس المجاهيل: فهذا قد يقال: يجب الإشهاد هنا
ولم يكن الصحابة يكتبون صداقات لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر بل يعجلون المهر وإن أخروه فهو معروف فلما صار الناس يتزوجون على المؤخر والمدة تطول وينسى: صاروا يكتبون المؤخر وصار ذلك حجة في إثبات الصداق وفي أنها زوجة له لكن هذا الإشهاد يحصل به المقصود سواء حضر الشهود العقد أو جاؤوا بعد العقد فشهدوا على إقرار الزوج والولي وقد علموا أن ذلك نكاح قد أعلن وإشهادهم عليه من غير تواص بكتمانه إعلان
وهذا بخلاف الولي فإنه قد دل عليه القرآن في غير موضع والسنة في غير موضع وهو عادة الصحابة إنما كان يزوج النساء الرجال لا يعرف أن امرأة تزوج نفسها وهذا مما يفرق بين النكاح ومتخذات أخدان ولهذا قالت عائشة: لا تزوج المرأة نفسها فإن البغي هي التي تزوج نفسها لكن لا يكتفي بالولي حتى يعلن فإن من الأولياء من يكون مستحسنا على قرابته قال الله تعالى: { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } وقال تعالى: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } فخاطب الرجال بإنكاح الأيامى كما خاطبهم بتزويج الرقيق وفرق بين قوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركين } وقوله: { ولا تنكحوا المشركات } وهذا فرق مما احتج به بعض السلف من أهل البيت
وأيضا فإن الله أوجب الصداق في غير هذا الموضع ولم يوجب الإشهاد فمن قال: إن النكاح يصح مع نفي المهر ولا يصح إلا مع الإشهاد: فقد أسقط ما أوجبه الله وأوجب ما لم يوجبه الله
وهذا مما بين أن قول المدنيين وأهل الحديث أصح من قول الكوفيين في تحريمهم نكاح الشغار وأن علة ذلك إنما هو نفي المهر فحيث يكون المهر: فالنكاح صحيح كما هو قول المدنيين وهو أنص الروايتين وأصرحهما عن أحمد بن حنبل واختيار قدماء الصحابة
وهذا وأمثاله مما يبين رجحان أقوال أهل الحديث والأثر وأهل الحجاز كأهل المدينة على ما خالفها من الأقوال التي قيلت برأي يخالف النصوص لكن الفقهاء الذين قالوا برأي يخالف النصوص بعد اجتهادهم واستفراغ وسعهم رضي الله عنهم قد فعلوا ما قدروا عليه من طلب العلم واجتهدوا والله يثيبهم وهم مطيعون لله سبحانه في ذلك والله يثيبهم على اجتهادهم: فآجرهم الله على ذلك وإن كان الذين علموا ما جاءت به النصوص أفضل ممن خفيت عليه النصوص وهؤلاء لهم أجران وأولئك لهم أجر كما قال تعالى: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما }
ومن تدبر نصوص الكتاب والسنة وجدها مفسرة لأمر النكاح لا تشترط فيه ما يشترطه طائفة من الفقهاء كما اشترط بعضهم: ألا يكون إلا بلفظ الإنكاح والتزويج واشترط بعضهم: أن يكون بالعربية واشترط هؤلاء وطائفة: ألا يكون إلا بحضرة شاهدين ثم أنهم مع هذا صححوا النكاح مع نفي المهر ثم صاروا طائفتين: طائفة تصحح نكاح الشغار لأنه لا مفسد له إلا نفي المهر وذلك ليس بمفسد عندهم وطائفة تبطله وتعلل ذلك بعلل فاسدة كما قد بسطناه في مواضع وصححوا نكاح المحلل الذي يقصد التحليل فكان قول أهل الحديث وأهل المدينة الذين لم يشترطوا لفظا معينا في النكاح ولا إشهاد شاهدين مع إعلانه وإظهاره وأبطلوا نكاح الشغار وكل نكاح نفي فيه المهر وأبطلوا نكاح المحلل أشبه بالكتاب والسنة وآثار الصحابة
ثم أن كثيرا من أهل الرأي الحجازي والعراقي وسعوا باب الطلاق فأوقعوا طلاق السكران والطلاق المحلوف به وأوقع هؤلاء طلاق المكره وهؤلاء الطلاق المشكوك فيه فيما حلف به وجعلوا الفرقة البائنة طلاقا محسوبا من الثلاث فجعلوا الخلع طلاقا بائنا محسوبا من الثلاث إلى أمور أخرى وسعوا بها الطلاق الذي يحرم الحلال وضيقوا النكاح الحلال ثم لما وسعوا الطلاق صار هؤلاء يوسعون في الاحتيال في عود المرأة إلى زوجها وهؤلاء لا سبيل عندهم إلى ردها فكان هؤلاء في آصار وأغلال وهؤلاء في خداع واحتيال ومن تأمل الكتاب والسنة وآثار الصحابة تبين له أن الله أغنى عن هذا وأن الله بعث محمدا بالحنيفة السمحة التي أمر فيها بالمعروف ونهى عن المنكر وأحل الطيبات وحرم الخبائث والله سبحانه أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم