فصل
وأما قول الحالف: الطلاق يلزمني على مذهب الأئمة الأربعة أو على مذهب من يلزمه بالطلاق لا من يجوز في الحلف به كفارة أو فعلي الحج: على مذهب مالك بن أنس أو فعلي كذا على مذهب من يلزمه من فقهاء المسلمين أو فعلي كذا على أغلظ قول قيل في الإسلام أو فعلي كذا أني لا أستفتي من يفتيني بالكفارة في الحلف بالطلاق أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا ولا أستفتي من يفتيني بحل يميني أو رجعة في يميني ونحو هذه الألفاظ التي يغلظ فيها اللزوم تغليظا يؤكد به لزوم المعلق عند الحنث لئلا يحنث في يمينه فإن الحالف عند اليمين يريد تأكيد يمينه بكلما يخطر بباله من أسباب التأكيد ويريد منع نفسه من الحنث فيها بكل طريق يمكنه وذلك كله لا يخرج هذه العقود عن أن تكون أيمانا مكفرة ولو غلظ الأيمان التي شرع أن فيها الكفارة بما غلظ ولو قصد أن لا يحنث فيها بحال: فذلك لا يغير شرع الله وإيمان الحالفين لا تغير شرائع الدين بل ما كان الله قد أمر به قبل يمينه فقد أمر به بعد اليمين واليمين ما زادته إلا توكيدا
وليس لأحد أن يفتي أحدا بترك ما أوجبه الله ولا بفعل ما حرمه الله ولو لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه؟
وهذا مثل الذي يحلف على فعل ما يجب عليه: من الصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين وصلة الأرحام وطاعة السلطان ومناصحته وترك الخروج ومحاربته وقضاء الدين الذي عليه وأداء الحقوق إلى مستحقيها والامتناع من الظلم والفواحش وغير ذلك فهذه الأمور كانت قبل اليمين واجبة وهي بعد اليمين أوجب
وما كان محرما قبل اليمين فهو بعد اليمين أشد تحريما ولهذا كانت الصحابة يبايعون النبي ﷺ على طاعته والجهاد معه وذلك واجب عليهم ولو لم يبايعوه فالبيعة أكدته وليس لأحد أن ينقض مثل هذا العقد وكذلك مبايعة السلطان التي أمر الله بالوفاء بها ليس لأحد أن ينقضها ولو لم يحلف فكيف إذا حلف؟ ! بل لو عاقد الرجل غيره على بيع أو إجارة أو نكاح: لم يجز له أن يغدر به ولوجب عليه الوفاء بهذا العقد فكيف بمعاقدة ولاة الأمور على ما أمره الله به ورسوله: من طاعتهم ومناصحتهم والامتناع من الخروج عليهم
فكل عقد وجب الوفاء به بدون اليمين إذا حلف عليه كانت اليمين موكدة له ولو لم يجز فسخ مثل هذا العقد بل قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ]
وما كان مباحا قبل اليمين إذا حلف الرجل عليه لم يصر حراما بل له أن يفعله ويكفر عن يمينه وما لم يكن واجبا فعله إذا حلف عليه لم يصر واجبا عليه بل له أن يكفر يمينه ولا يفعله ولو غلظ في اليمين بأي شيء غلظها فإيمان الحالفين لا تغير شرائع الدين وليس لأحد أن يحرم بيمينه ما أحله الله ولا يوجب بيمينه ما لم يوجبه الله هذا هو شرع محمد ﷺ
وأما شرع من قبله فكان في شرع بني إسرائيل إذا حرم الرجل شيئا حرم عليه وإذا حلف ليفعلن شيئا وجب عليه ولم يكن في شرعهم كفارة فقال تعالى: { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } فإسرائيل حرم على نفسه شيئا فحرم عليه وقال الله تعالى لنبينا: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وهذا الفرض هو المذكور في قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون * لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون }
ولهذا لما لم يكن في شرع من قبلنا كفارة بل كانت اليمين توجب عليهم فعل المحلوف عليه أمر الله أيوب أن يأخذه بيده ضغثا فيضرب به ولا يحنث لأنه لم يكن في شرعه كفارة يمين ولو كان في شرعه كفارة يمين كان ذلك أيسر عليه من ضرب امرأته ولو بضغث فإن أيوب كان قد رد الله عليه أهله ومثلهم معهم لكن لما كان ما يوجبونه باليمين بمنزلة ما يجب بالشرع كانت اليمين عندهم كالنذر والواجب بالشرع قد يرخص فيه عند الحاجة كما يرخص في الجلد الواجب في الحد إذا كان المضروب لا يحتمل التفريق بخلاف ما التزمه الإنسان بيمينه في شرعنا فإن لا يلزم بالشرع فليزمه ما التزمه وله مخرج من ذلك في شرعنا بالكفارة
ولكن بعض علمائنا لما ظنوا أن الايمان من ما لا مخرج لصاحبه منه بل يلزمه ما التزمه فظنوا أن شرعنا في هذا الموضع كشرع بني إسرائيل احتاجوا إلى الاحتيال في الإيمان: إما في لفظ اليمين وإما بخلع اليمين وإما بدور الطلاق وإما يجعل النكاح فاسدا فلا يقع فيه الطلاق وإن غلبوا عن هذا كله دخلوا في التحليل وذلك لعدم العلم بما بعث الله به محمدا ﷺ في هذا الموضع من الحنيفية السمحة وما وضع الله به من الآصار والأغلال كما قال تعالى: { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون }
وصار ما شرعه النبي ﷺ لأمته هو الحق في نفس الأمر وما أحدث غيره غايته أن يكون بمنزلة من قبله مع شرعه وإن كان الذين قالوه باجتهادهم لهم سعي مشكور وعمل مبرور وهم مأجورون على ذلك مثابون عليه فإنه كلما كان من مسائل النزاع التي تنازعت فيه الأمة فأصوب القولين فيه ما وافق كتاب الله وسنة رسوله: من أصاب هذا القول فله أجران ومن لم يؤده اجتهاده إلا إلى القول الآخر كان له أجر واحد والقول الموافق لسنته مع القول الآخر بمنزلة طريق سهل مخصب يوصل إلى المقصود وتلك الأقوال فيها بعد وفيها وعورة وفيها حدوثة فصاحبها يحصل له من التعب والجهد أكثر مما في الطريقة الشرعية
ولهذا أذاعوا ما دل عليه الكتاب والسنة على تلك الطريقة التي تتضمن من لزوم ما يبغضه الله ورسوله: من القطيعة والفرقة وتشتيت الشمل وتخريب الديار وما يحبه الشيطان والسحرة من التفريق بين الزوجين وما يظهر ما فيها من الفساد لكل عاقل ثم إما أن يلزموا هذا الشر العظيم ويدخلوا في الأصار وأغلال وإما أن يدخلوا في منكرات أهل الاحتيال وقد نزه الله النبي وأصحابه من كلا الفريقين بما أغناهم به من الحلال
فالطرق ثلاثة: إما الطريقة الشرعية المحضة الموافقة للكتاب والسنة وهي طريق أفاضل السابقين الأولين وتابعيهم بإحسان وإما طريقة الآصار والأغلال والمكر والاحتيال وإن كان من سلكها من سادات أهل العلم والإيمان وهم مطيعون لله ورسوله فيما أتوا به من الاجتهاد المأمور به: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }
وهذا كالمجتهد في القبلة إذا أدى اجتهاد كل فرقة إلى جهة من الجهات الأربع: فكلهم مطيعون لله ورسوله مقيمون للصلاة لكن الذي أصاب القبلة في نفس الأمر له أجران والعلماء ورثة الأنبياء وقال تعالى: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } وكل مجتهد مصيب: بمعنى أنه مطيع لله ولكن الحق في نفس الأمر واحد
والمقصود هنا أن ما شرع الله تكفيره من الإيمان هو مكفر ولو غلظه بأي وجه غلظ ولو التزم أن لا يكفره كان له أن يكفره فإن إلتزامه أن لا يكفره التزام لتحريم ما أحله الله ورسوله وليس لأحد أن يحرم ما أحله الله ورسوله بل عليه في يمينه الكفارة
فهذا الملتزم لهذا الإلتزام الغليظ هو يكره لزومه إياه وكلما غلظ كان لزومه له أكره إليه وإنما التزمه لقصده الحظر والمنع ليكون لزومه له مانعا من الحنث يلتزمه لقصد لزومه إياه عند وقوع الشرط فإن هذا القصد يناقض عقد اليمين فإن الحالف لا يحلف إلا بالتزام ما يكره وقوعه عند المخالفة ولا يحلف قط إلا بالتزامه ما يريد وقوعه عند المخالفة فلا يقول حالف إن فعلت كذا غفر الله لي ولا أماتني على الإسلام بل يقول: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو نسائي طوالق أو عبيدي أحرار أو كلما أملكه صدقة أو علي عشر حجج حافيا مكشوف الرأس على مذهب مالك بن أنس أو فعلي الطلاق على المذاهب الأربعة أو فعلي كذا على أغلظ قول
وقد يقول مع ذلك: علي أن لا أستفتي من يفتيني بالكفارة ويلتزم عند غضبه من اللوازم ما يرى أنه لا مخرج له منه إذا حنث ليكون لزوم ذلك مانعا من الحنث وهو في ذلك لا يقصد قط أن يقع به شيء من تلك اللوازم وإن وقع الشرط أو لم يقع وإذا اعتقد أنها تلتزم لاعتقاده لزومها إياه مع كراهته لأن يلتزمه لا مع إرادته أن يلتزمه وهذا هو الحالف واعتقاد لزوم الجزاء غير قصده للزوم الجزاء
فإن قصد لزوم الجزاء عند الشرط: لزمه مطلقا ولو كان بصيغة القسم فلو كان قصده أن يطلق امرأته إذا فعلت ذلك الأمر أو إذا فعل هو ذلك الأمر فقال: الطلاق يلزمني لا تفعلين كذا وقصده أنها تفعله فتطلق: ليس مقصوده أن ينهاها عن الفعل ولا هو كاره لطلاقها بل هو مريد لطلاقها: طلقت في هذه الصورة ولم يكن هذا في الحقيقة حالفا بل هو معلق للطلاق على ذلك الفعل بصيغة القسم ومعنى كلامه معنى التعليق الذي يقصد به الإيقاع فيقع به الطلاق هنا عند الحنث في اللفظ الذي هو بصيغة القسم ومقصوده مقصود التعليق والطلاق هنا إنما وقع عند الشرط الذي قصد إيقاعه عنده لا عند ما هو حنث في الحقيقة إذ الاعتبار بقصده ومراده لا بظنه واعتقاده: فهو الذي تبنى عليه الأحكام كما قال النبي ﷺ: [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ]
والسلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وجماهير الخلف من اتباع الأئمة الأربعة وغيرهم متفقون على أن اللفظ الذي يحتمل الطلاق وغيره إذا قصد به الطلاق فهو طلاق وإن قصد به غير الطلاق لم يكن طلاقا وليس للطلاق عندهم لفظ معين فلهذا يقولون: إنه يقع بالصريح والكناية ولفظ الصريح عندهم كلفظ الطلاق لو وصله بما يخرجه عن طلاق المرأة لم يقع به الطلاق كما لو قال لها: أنت طالق من وثاق الحبس أو من الزوج الذي كان قبلي ونحو ذلك
والمرأة إذا أبغضت الرجل كان لها أن تفتدي نفسها منه كما قال تعالى: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } وهذا الخلع تبين به المرأة فلا يحل له أن يتزوجها بعده إلا برضاها وليس هو كالطلاق المجرد فإن ذلك يقع رجعيا له أن يرتجعها في العدة بدون رضاها لكن تنازع العلماء في هذا الخلع: هل يقع به طلقة بائنة محسوبة من الثلاث؟ أو تقع به فرقة بائنة وليس من الطلاق الثلاث بل هو فسخ؟ على قولين مشهورين
والأول: مذهب أبي حنيفة ومالك وكثير من السلف ونقل عن طائفة من الصحابة لكن لم يثبت عن واحد منهم بل ضعف أحمد بن حنبل وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم جميع ما روي في ذلك عن الصحابة
والثاني: أنه فرقة بائنة وليس من الثلاث وهذا ثابت عن ابن عباس باتفاق أهل المعرفة بالحديث وهو قول أصحابه: كطاووس وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي وهو ظاهر مذهب أحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث واسحق بن راهوية وأبي ثور وداود وابن المنذر وابن خزيمة وغيرهم واستدل ابن عباس على ذلك بأن الله تعالى ذكر الخلع بعد طلقتين ثم قال: { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } فلو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا
ثم أصحاب هذا القول تنازعوا: هل يشترط أن يكون الخلع بغير لفظ الطلاق؟ أو لا يكون إلا بلفظ الخلع والفسخ والمفاداة ويشترط مع ذلك أن لا ينوي الطلاق؟ أو لا فرق بين أن ينويه أو لا ينويه وهو خلع بأي لفظ وقع بلفظ الطلاق أو غيره؟ على أوجه في مذهب أحمد وغيره أصحها الذي دل عليه كلام ابن عباس وأصحابه وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه وهو الوجه الأخير وهو: أن الخلع هو الفرقة بعوض فمتى فارقها فهي مفتدية لنفسها به وهو خالع لها بأي لفظ كان ولم ينقل أحد قط لا عن ابن عباس وأصحابه ولا عن أحمد بن حنبل أنهم فرقوا بين الخلع بلفظ الطلاق وبين غيره بلا كلامهم لفظه ومعناه يتناول الجميع
والشافعي رضي الله عنه لما ذكر القولين في الخلع هل هو طلاق أم لا؟ قال: وأحسب الذين قالوا هو طلاق هو فيما إذا كان بغير لفظ الطلاق ولهذا ذكر محمد بن نصر والطحاوي أن هذا لا نزاع فيه والشافعي لم يحك عن أحد هذا بل ظن أنهم يفرقون وهذا بناه الشافعي على أن العقود وإن كان معناها واحدا فإن حكمها يختلف باختلاف الألفاظ وفي مذهبه نزاع في الأصل
وأما أحمد بن حنبل فإن أصوله ونصوصه وقول جمهور أصحابه أن الاعتبار في العقود بمعانيها لا بالألفاظ وفي مذهبه قول آخر: أنه تختلف الأحكام باختلاف الألفاظ وهذا يذكر في التكلم بلفظ البيع وفي المزارعة بلفظ الإجارة وغير ذلك وقد ذكرنا ألفاظ ابن عباس وأصحابه وألفاظ أحمد وغيره وبينا أنها بينة في عدم التفريق وأن أصول الشرع لا تحتمل التفريق وكذلك أصول أحمد وسببه ظن الشافعي أنهم يفرقون وقد ذكرنا في غير هذا الموضع وبينا أن الآثار الثابتة في هذا الباب عن النبي ﷺ وابن عباس وغيره تدل دلالة بينة أنه خلع وأن كان بلفظ الطلاق وهذه الفرقة توجب البينونة والطلاق الذي ذكره الله تعالى في كتابه هو الطلاق الرجعي
قال هؤلاء وليس في كتاب الله طلاق بائن محسوب من الثلاث أصلا بل كل طلاق ذكره الله تعالى في القرآن فهو الطلاق الرجعي وقال هؤلاء: ولو قال لامرأته: أنت طالق طلقة بائنة لم يقع بها طلقة رجعية كما هو مذهب أكثر العلماء: وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه قالوا: وتقسيم الطلاق إلى رجعي وبائن تقسيم مخالف لكتاب الله وهذا قول فقهاء الحديث وهو مذهب الشافعي وظاهر مذهب أحمد فإن كل طلاق بغير عوض لا يقع إلا رجعيا
وإن قال: أنت طالق طلقة بائنة أو طلاقا بائنا: لم يقع به عندهما إلا طلقة رجعية وأما الخلع ففيه نزاع في مذهبهما فمن قال بالقول الصحيح طرد هذا الأصل واستقام قوله ولم يتناقض كما يتناقض غيره إلا من قال من أصحاب الشافعي وأحمد: إن الخلع بلفظ الطلاق يقع طلاقا بائنا فهؤلاء أثبتوا في الجملة طلاقا بائنا محسوبا من الثلاث فنقضوا أصلهم الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة
وقال بعض الظاهرية: إذا وقع بلفظ الطلاق كان طلاقا رجعيا لا بائنا لأنه لم يمكنه أن يجعله طلاقا بائنا لمخالفة القرآن وظن أنه بلفظ الطلاق يكون طلاقا فجعله رجعيا وهذا خطأ فإن مقصود الافتداء لا يحصل إلى مع البينونة ولهذا كان حصول البينونة بالخلع مما لم يعرف فيه خلاف بين المسلمين لكن بعضهم جعله جائزا فقال: للزوج أن يرد العوض ويراجعها والذي عليه الأئمة الأربعة والجمهور أنه لا يملك الزوج وحده أن يفسخه ولكن لو اتفقا على فسخه كالتقايل: فهذا فيه نزاع آخر كما بسط في موضعه
والمقصود هنا أن كتاب الله يبين أن الطلاق بعد الدخول لا يكون إلا رجعيا وليس في كتاب الله طلاق بائن إلا قبل الدخول وإذا انقضت العدة فإذا طلقها ثلاثا فقد حرمت عليه وهذه البينونة الكبرى وهي إنما تحصل بالثلاث لا بطلقة واحدة مطلقة لا يحل بها لا بينونة كبرى ولا صغرى وقد ثبت عن ابن عباس أنه قيل له: إن أهل اليمن عامة طلاقهم الفداء فقال ابن عباس: ليس الفداء بطلاق ورد المرأة على زوجها بعد طلقتين وخلع مرة وبهذا أخذ أحمد بن حنبل في ظاهر مذهبه والشافعي في أحد قوليه لكن تنازع أهل هذا القول: هل يختلف الحكم باختلاف الألفاظ؟ والصحيح أن المعنى إذا كان واحدا فالاعتبار بأي لفظ وقع وذلك أن الاعتبار بمقاصد العقود وحقائقها لا باللفظ وحده فما كان خلعا فهو خلع بأي لفظ كان وما كان طلاقا بأي لفظ كان وما كان يمينا فهو يمين بأي لفظ كان وما كان إيلاء فهو إيلاء بأي لفظ كان وما كان ظهارا فهو ظهار بأي لفظ كان
والله تعالى ذكر في كتابه الطلاق واليمين والظهار والإيلاء والافتداء وهو الخلع وجعل لكل واحد حكما فيجب أن نعرف حدود ما أنزل الله على رسوله وندخل في الطلاق ما كان طلاقا وفي اليمين ما كان عينا وفي الخلع ما كان خلعا وفي الظهار ما كان ظهارا وفي الإيلاء ما كان إيلاء
وهذا هو الثابت عن أئمة الصحابة وفقهائهم والتابعين لهم بإحسان ومن العلماء من اشتبه عليه بعض ذلك ببعض فيجعل ما هو ظهار طلاقا فيكثر بذلك وقوع الطلاق الذي يبغضه الله ورسوله ويحتاجون إما إلى دوام المكروه وإما إلى زواله بما هو أكره إلى الله ورسوله منه وهو نكاح التحليل
وأما الطلاق الذي شرعه الله ورسوله فهو أن يطلق امرأته إذا أراد طلاقها طلقة واحدة في طهر لم يصبها فيه أو كانت حاملا قد استبان حملها ثم يدعها تتربص ثلاثة قروء فإن كان له غرض راجعها في العدوة وإن لم يكن له فيها غرض؟ سرحها بإحسان ثم أن بدا له بعد هذا إرجاعها يتزوجها بعقد جديد ثم إذا أراد ارتجاعها أو تزوجها وإن أراد أن يطلقها طلقها فهذا طلاق السنة المشروع
ومن لم يطلق إلا طلاق السنة لم يحتج إلى ما حرم الله ورسوله من نكاح التحليل وغيره بل إذا طلقها ثلاث تطليقات له في كل طلقة رجعة أو عقد جديد: فهنا قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ولا يجوز عودها إليه بنكاح تحليل أصلا بل قد: [ لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له ] واتفق على ذلك أصحابه وخلفاؤه الراشدون وغيرهم فلا يعرف في الإسلام أن النبي ﷺ أو أحدا من خلفائه أو أصحابه أعاد المطلقة ثلاثا إلى زوجها بعد نكاح تحليل أبدا ولا كان نكاح التحليل ظاهرا على عهد النبي ﷺ بل كان من يفعله سرا وقد لا تعرف المرأة ولا وليها وقد [ لعن النبي ﷺ المحلل والمحلل له ] وفي الربا قال: [ لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ] فلعن الكاتب والشهود لأنهم كانوا يشهدون على دين الربا ولم يكونوا يشهدون على نكاح التحليل
وأيضا فإن النكاح لم يكن على عهد النبي ﷺ يكتب فيه صداق كما تكتب الديون ولا كانوا يشهدون فيه لأجل الصداق بل كانوا يعقدونه بينهم وقد عرفوا به ويسوق الرجل المهر للمرأة فلا يبقى لها عليه دين فهذا لم يذكر رسول الله في نكاح التحليل الكاتب والشهود كما ذكرهم في الربا
ولهذا لم يثبت عن النبي ﷺ في الإشهاد على النكاح حديث ونزاع العلماء في ذلك على أقوال في مذهب أحمد وغيره
فقيل: يجب الإعلان أشهدوا أو لم يشهدوا فإذا أعلنوه ولم يشهدوا تم العقد وهو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايات
وقيل: يجب الإشهاد: أعلنوه أو لم يعلنوه فمتى أشهدوا وتواصوا بكتمانه لم يبطل وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات
وقيل: يجب الأمران الإشهاد والإعلان وقيل: يجب أحدهما وكلاهما يذكر في مذهب أحمد
وأما نكاح السر الذي يتواصون بكتمانه ولا يشهدون عليه أحدا فهو باطل عند عامة العلماء وهو من جنس السفاح قال الله تعالى: { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } { ولا متخذي أخدان } وهذه المسائل مبسوطة في موضعها
وإنما المقصود هنا التنبيه على الفرق بين الأقوال الثابتة بالكتاب والسنة وما فيها من العدل والحكمة والرحمة وبين الأقوال المرجوحة وإن ما بعث الله به نبيه محمدا ﷺ من الكتاب والحكمة يجمع مصالح العباد في المعايش والمعاد على أكمل وجه فإنه ﷺ خاتم النبيين ولا نبي بعده وقد جمع الله في شريعته ما فرقه في شرائع من قبله من الكمال إذ ليس بعده نبي فكمل به الأمر كما كمل به الدين فكتابه أفضل الكتب وشرعه أفضل الشرائع ومنهاجه أفضل المناهج وأمته خير الأمم وقد عصمها الله على لسانه فلا تجتمع على ضلالة ولكن يكون عند بعضها من العلم والفهم ما ليس عند بعض والعلماء ورثة الأنبياء وقد قال تعالى: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } فهذان نبيان كريمان حكما في قصة فخص الله أحدهما بالفهم ولم يعب الآخر بل أثنى عليهما جميعا بالحكم والعلم وهكذا حكم العلماء المجتهدين ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل العاملين بالكتاب
وهذه القضية التي قضى فيها دواد وسليمان لعلماء المسلمين فيها وما يشبهها أيضا قولان منهم من يقضي بقضاء داود ومنهم من يقضي بقضاء سليمان وهذا هو الصواب وكثير من العلماء أو أكثرهم لا يقول به بل قد لا يعرفه وقد بسطنا هذا في غير هذا الجواب والله أعلم بالصواب
وأما إذا ( حلف بالحرام ) فقال: الحرام يلزمني لا أفعل كذا أو الحل علي حرام لا أفعل كذا أو ما أحل الله علي حرام إن فعلت كذا أو ما يحل على المسلمين يحرم علي إن فعلت كذا أو نحو ذلك وله زوجة ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف لكن القول الراجح أن هذه يمين لا يلزمه بها طلاق ولو قصد بذلك الحلف بالطلاق وهو مذهب أحمد المشهور عنه حتى لو قال: أنت علي حرام ونوى به الطلاق لم يقع به الطلاق عنده
ولو قال أنت علي كظهر أمي وقصد به الطلاق فإن هذا لا يقع به الطلاق عند عامة العلماء وفي ذلك أنزل الله القرآن فإنهم كانوا يعدون الظهار طلاقا والإيلاء طلاقا فرفع الله ذلك كله وجعل في الظهار الكفارة الكبرى وجعل الإيلاء يمينا يتربص فيها الرجل أربعة أشهر فإما أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان وكذلك قال كثير من السلف والخلف: إنه إذا كان مزوجا فحرم امرأته أو حرم الحلال مطلقا كان مظاهرا وهو مذهب أحمد
وإذا حلف بالظهار أو الحرام لا يفعل شيئا وحنث في يمينه: أجزأته الكفارة في مذهبه لكن قيل: إن الواجب كفارة ظهار سواء حلف أو أوقع وهو المنقول عن أحمد وقيل: بل إن حلف به أجزأه كفارة يمين وإن أوقعه لزمه كفارة ظهار وهذا أقوى وأقيس على أصل أحمد وغيره فالحالف بالحرام تجزؤه كفارة يمين كما تجزئ الحالف بالنذر إذا قال: إن فعلت كذا فعلي الحج أو فمالي صدقة
وكذلك إذا حلف بالعتق لزمته كفارة يمين عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين وكذلك الحلف بالطلاق تجزئ أيضا فيه كفارة يمين كما أفتى من أفتى به من السلف والخلف والثابت عن الصحابة لا يخالف ذاك بل معناه يوافقه وكل يمين يحلف بها المسلمون من أيمانهم ففيها كفارة يمين كما دل عليه الكتاب والسنة
وأما إذا كان مقصود الرجل أن يطلق أو يعتق أو أن يظاهر: فهذا يلزمه ما أوقعه سواء كان منجزا أو معلقا فلا تجزؤه كفارة يمين والله أعلم بالصواب