كتاب الوقف
1 - 842 - مسألة: في رجل احتكر من رجل قطعة أرض بستان ثم أن المحتكر عمر في أرض البستان صورة مسجد وبنى فيها محرابا وقال لمالك الأرض: هذا عمرته مسجدا فلا تأخذ مني حكره فأجابه إلى ذلك ثم إن مالك الأرض باع البستان ولم يستثن منه شيئا فهل يصير هذا المكان مسجدا بذلك أم لا؟ وإذا لم يصر مسجدا بذلك فهل يكون عدم أخذ مالك الأرض الحكر يصير مسجدا؟ وإذا لم يصر بيع البستان جميعه هل يجوز لباني صورة المسجد أن يضع ما بناه؟
الجواب: إذا لم يسبل للناس كما تسبل المساجد بحيث تصلى فيه الصلوات الخمس التي تصلى في المساجد لم يصر مسجدا بمجرد الأذان في العمارة المذكورة وإذا لم يكن قربة يقتضي خروجه من المبيع دخل في المبيع فإن الشروع في تصييره مسجدا لا يجعله مسجدا
وكذلك القول في العمارة لكن ينبغي لمن أخرج ثمن ذلك أن لا يعود إلى ملكه كم أخرج من ماله مالا ليتصدق به فلم يجد السائل ينبغي له أن يمضي ذلك ويتصدق به على سائل آخر ولا يعيده إلى ملكه وإن لم يجب
وإذا صرف مثل هذا المكان في مصالح مسجد آخر جاز ذلك بل إذا صار مسجدا وكان بحيث لا يصلي فيه أحد جاز أن ينقل إلى مسجد ينتفع به بل إذا جاز أن يباع ويصرف ثمنه في مسجد آخر بل يجوز أن يعمر عمارة ينتفع بها لمسجد آخر
2 - 843 - مسألة: فيمن بنى مسجدا وأوقف حانوتا على مؤذن وقيم معين ولم يتسلم من ريع الحانوت شيئا في حياته فهل يجوز تناوله بعد وفاته؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين إذا وقف وقفا ولم يخرج من يده ففيه: قولان مشهوران لأهل العلم:
أحدهما: يبطل وهو مذهب مالك والإمام أحمد في إحدى الروايتين وقول أبي حنيفة وصاحبه محمد
والثاني: يلزم وهو مذهب الشافعي والإمام أحمد في إحدى الروايتين عن أحمد والقول الثاني في مذهب أبي حنيفة وقول أبي يوسف والله أعلم
3 - 844 - مسألة: في حقوق زاوية وهو بظاهرها وقد أقيم فيه محراب منذ سنين فرأى من له النظر على المكان المذكور المصلحة في بناء طبقة على ذلك المحراب: أما لسكن الإمام أو لمن يخدم المكان من غير ضرورة تعود على المكان المذكور ولا على أهله فهل يجوز ذلك؟
الجواب: إذا لم يكن ذلك مسجدا معدا للصلوات الخمس بل هو من حقوق المكان: جاز أن يبني فيه ما يكون من مصلحة المكان ومجرد تصوير محراب لا يجعله مسجدا لا سيما ‘ذا كان المسجد المعد للصلوات ففي البناء عليه نزاع بين العلماء
4 - 845 - مسألة: فيمن استأجر أرضا وبنى فيها دارا ودكانا أو شيئا يستحل له كرى عشرين درهما كل شهر إذا يعمر وعليه حكر في كل شهر درهم ونصف؟ توقف قديما فهل يجوز للمستأجر أن يعمر مع ما قد عمره من الملك مسجدا لله ويوقف الملك على المسجد؟
الجواب: يجوز أن يقف البناء الذي بناه في الأرض المستأجرة سواء وقفه مسجدا أو غير مسجد ولا يسقط ذلك حق أهل الأرض فإنه متى انقضت مدة الإجارة وانهدم النباء زال حكم الوقف سواء كان مسجدا أو غير مسجد وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها وما دام البناء قائما فيها فعليه أجرة المثل ولو وقف على ربع أو دار مسجدا ثم انهدمت الدار أو الربع فإن وقف العلو لا يسقط حق ملاك السفل كذلك وقف البناء لا يسقط على ملاك الأرض
5 - 846 - مسألة: فيمن وصى أو وقف على جيرانه فما الحكم؟
الجواب: إذا لم يعرف مقصود الواقف والوصي لا يقرينة لفظية ولا عرفية ولا كان له عرف في مسمى الجيران رجع في ذلك إلى المسمى الشرعي وهو أربعون دارا من كل جانب لما روي عن النبي ﷺ أنه قال: [ الجيران أربعون من ههنا وههنا والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ] والله أعلم
6 - 847 - مسألة: في رجل معرف على المراكب وبنى مسجدا وجعل للامام في كل المراكب شهر أجرة من عنده: فهل هو حلال؟ أم حرام وهل تجوز الصلاة في المسجد؟ أم لا؟
الجواب: إن كان يعطي هذه الدراهم من أجرة المراكب التي له جاز أخذها وإن كان يعطيها مما يأخذ من الناس بغير حق فلا والله أعلم
7 - 848 - مسألة: في قوم بيدهم وقف من جدهم من أكثر من مائة وخمسين سنة على شهد مضاف إلى شيث وعلى ذرية الواقف والفقراء ونظره لهم والوقف معروف بذلك من الزمان القديم وقد ثبت ذلك في مجلس الحكم الشريف وبيدهم مراسيم الملوك من زمان نور الدين وصلاح الدين تشهد بذلك وتأمر بإعفاء هذا الوقف ورعاية حرمته وقد قام نظار هذا الوقف في هذا الوقف طلبوا أن يفرقوا نصف المغل في عمارة المشهد والنصف الذي يبقى لذريته يأخذونه لا يعطونهم إياه ولا يصرفونه في مصارف الوقف؟
أجاب: لا يجوز هذا للناظر ولا يجوز تمكينهم من أن يصرفوا الوقف في غير مصارفه الشرعية ولا حرمان ورثة الواقف والفقراء الداخلين في شرط الواقف بل ذريته والفقراء أحق بأن يصرف إليهم ما شرط لهم من المشهد المذكور فكيف يحرمون والحال هذه بل لو كان الوقف على المشهد وحده لكان صرف ما يفضل إليهم مع حاجتهم أولى من صرفه إلى غيرهم
فمن صرف بعض الوقف على المشهد وأخذ بعضه يصرفه فيما لم يقتضه الشرط وحرم الذرية الداخلين في الشرط فقد عصى الله ورسوله وتعدى حدوده من وجوب أداء الوقف على ذرية الواقف جائز باتفاق أئمة المسلمين المجوزين للوقف وهو أمر قديم من زمن الصحابة والتابعين
وأما بناء المشاهد على القبور والوقف عليها فبدعة لم يكن على عهد الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم بل ولا على عهد الأربعة
وقد اتفق الأئمة على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد على القبور ولا الاعانة على ذلك بوقف ولا غيره ولا النذر لها ولا العكوف عليها ولا فضيلة للصلاة والدعاء [ فيها على ] المساجد الخالية عن القبور فإنه يعرف أن هذا خلاف دين الإسلام المعلوم بالاضطرار المتفق عليه بين الأئمة فإنه إن لم يرجع فإنه يستتاب بل قد نص الأئمة المعتبرون على أن بناء المساجد على القبور مثل هذا المشهد ونحوه حرام لما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: [ لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا ] قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذه مسجدا
في صحيح مسلم عنه ﷺ أنه قال: قبل أن يموت بخمس: [ أن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ] وفي السنن عنه ﷺ: [ لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ] فقد لعن من بنى مسجدا على قبر ويوقد فيه سرجا مثل: قنديل وشمعة ونحو ذلك فكيف يصرف مال أحدهم إلى ما نهى عنه رسول الله ﷺ ويترك صرف ما شرط لهم مع استحقاقهم ذلك في دين الله؟ ! نعم ! لو كان هذا مسجدا لله خاليا عن قبر لكانوا هم وهو في تناول شرط الواقف لهما سواء
أما ما يصرف لبناء المشهد فمعصية لله والصرف إليهم واجب وإن كان المسجد منفصلا عن القبر فحكمه حكم سائر مساجد المسلمين ولكن لا فضيلة له على غيره والله أعلم
8 - 849 - مسألة: في رجل وقف وقفا على مدرسة وشرط في كتاب الوقف أنه لا ينزل بالمدرسة المذكورة إلا من لم يكن له وظيفة بجامكية ولا مرتب وأنه لا يصرف ريعها لمن له مرتب في جهة أخرى وشرط لكل طالب جامكية معلومة فهل يصح هذا الشرط والحالة هذه وإذا صح فنقص ريع الوقف ولم يصل كل طالب إلى الجامكية المقررة له فهل يجوز للطالب أن يتناول جامكية في مكان آخر؟ وإذا نقص ريع الوقف ولم يصل كل طالب إلى تمام حقه فهل يجوز للناظر أن يبطل الشرط المذكور أم لا؟ وإذا حكم بصحة الوقف المذكور حاكم هل يبطل الشرط والحالة هذه؟
الجواب: أصل هذه المسائل أن شرط الواقف إن كان قربة وطاعة لله ورسوله كان صحيحا وإن لم يكن شرطا لازما وإن كان مباحا كما لم يسوغ النبي ﷺ السبق إلا في خف أو حافر أو نصل وإن كانت المسابقة بلا عوض قد جوزها بالأقدام وغيرها ولأن الله تعالى قال في مال الفيء: { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } فعلم أن الله يكره أن يكون المال دولة بين الأغنياء
وإن كان الغنى وصفا مباحا فلا يجوز الوقف على الأغنياء وعلى قياسه سائر الصفات المباحة ولأن العمل إذا لم يكن قربة لم يكن الواقف مثابا على بذل المال فيه فيكون قد صرف المال لا ينفعه لا في حياته ولا في مماته ثم إذا لم يكن للعامل فيه منفعة في الدنيا كان تعذيبا له بلا فائدة تصل إليه ولا إلى الواقف ويشبه ما كانت الجاهلية تفعله من الأحباس المنبه عليها في سورة الأنعام والمائدة
وإذا خلا العمل المشروط في العقود كلها عن منفعة في الدين أو في الدنيا كان باطلا بالاتفاق في أصول كثيرة لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فيكون باطلا ولو كان مائة شرط
مثال ذلك: أن يشرط عليه التزام نوع من المطعم أو الملبس أو المسكن الذي لم تستحبه الشريعة أو ترك بعض الأعمال التي تستحب الشريعة عملها ونحو ذلك
يبقى الكلام في تحقيق هذا المناط في اعتبار المسائل فإنه قد يكون متفقا عليه وقد يكون مختلفا فيه لاختلاف الاجتهاد في بعض الأعمال فينظر في شرط ترك من جهة أخرى فما لم يكن فيه مقصود شرعي خالص أو راجح كان باطلا وإن كان صحيحا ثم [ إذا ] نقص الريع عما شرطه الواقف جاز للمطالب أن يرتزق تمام كفايته من جهة أخرى لأن رزق الكفاية لطلبة العلم من الواجبات الشرعية بل هو من المصالح الكلية التي لا قيام للخلق بدونها فليس لأحد أن يشرط ما ينافيها فكيف إذا لم يعلم أنه قصد ذلك؟
ويجوز للناظر مع هذه الحالة أن يوصل إلى المرتزقة بالعلم ما جعل لهم أن لا يمنعهم من تنازل تمام كفايتهم من جهة أخرى يرتبون فيها وليس هذا إبطالا للشرط لكنه ترك العمل به عند تعذره وشروط الله حكمها كذلك وحكم الحاكم لا يمنع ما ذكر
وهذه الأرزاق المأخوذة على الأعمال الدينية إنما هي أرزاق ومعاون على الدين بمنزلة ما يرتزقه المقاتلة والعلماء من الفيء والواجبات الشرعية تسقط بالعذر وليست كالجعالات على علم دنيوي ولا بنزلة الإجارة عليها فهذه حقيقة حال هذه الأموال والله أعلم
9 - 850 - مسألة: في رجل وقف مدرسة وشرط من يكون له بها وظيفة أن لا يشتغل بوظيفة أخرى بغير مدرسته وشرط له فيها مرتبا معلوما وقال في كتاب الوقف: وإذا حصل في ربع هذه المدرسة نقص بسبب محل أو غيره كان ما بقي من ريع هذا الوقف مصروفا في أرباب الوظائف بها لكل منهم بالنسبة إلى معلمه بالمحاصصة وقال في كتاب الوقف: وإذا حصل في السعر غلاء فللناظر أن يرتب لهم زيادة على ما قرر لهم بحسب كفايتهم في ذلك الوقف ثم إذا حصل في ريع الوقف نقص من جهة نقص وقفها بحيث أنه إذا ألغي هذا الشرط من عدم الجمع بينها وبين غيرها يؤدي إلى تعطيل المدرسة: فهل يجوز لمن يكون بها أن يجمع بينها وبين غيرها ليحصل له قدر كفايته والحالة هذه؟ حيث راعى الواقف الكفاية لمن يكون بها أو كما تقدم في فصل غلاء السعر أم لا؟
الجواب: الحمد لله هذه الشروط المشروطة على من فيها كعدم الجمع إنما يلزم الوفاء بها إذا لم يفض ذلك إلى الإخلال بالمقصود الشرعي: الذي هو يكون اسمك إما وجاب وإما مستحب فأما المحافظة على بعض الشروط مع فوات المقصود بالشروط فلا يجوز فاشتراط عدم الجمع باطل مع ذهاب بعض أصل الوقف وعدم حصول الكفاية للمرتب بها لا يجب إلتزامه ولا يجوز الالزام به لوجهين:
أحدها: أن ذلك إنما شرط عليهم مع وجود ريع الموقوف عليهم سواء كان كاملا أو ناقصا فإن ذهب بعض أهل الوقف لم تكن الشروط مشروطة في هذه الحال وفرق بين نقص ريع الوقف مع وجود أصله وبين ذهاب بعض أصله
الوجه الثاني: إن حصول الكفاية المرتب بها أمر لا بد منه حتى لو قدر أن الواقف صرح بخلاف ذلك كان شرطا باطلا مثل أن يقول: إن المرتب بها لا يرتزق من غيرها ولم تحصل له كفايته فلو صرح بهذا لم يصح لأن هذا شرط يخالف كتاب الله فإن حصول الكفاية لا بد منها وتحصليها للمسلم واجب أما عليه وإما على المسلمين فلا يصح شرط يخالف ذلك
وقد ظهر أن الواقف لم يقصد ذلك لأنه شرط لهم الكفاية ولكن ذهاب بعض أموال الوقف بمنزلة تلف العين الموقوفة ونحو ذلك
والوقف سواء شبه بالجعل أو بالأجرة أو بالزرق فإن ما على العامل أن يعلم إذا وفى له بما شرطه له والله أعلم
10 - 851 - مسألة: في رجل وقف وقفا على مسجد وأكفان الموتى وشرط فيه الأرشد فالأرشد من ورثته ثم للحاكم وشرط لإمام المسجد ستة دراهم والمؤذن والقيم بالتربة ستة دراهم شرط لهما دارين لسكناهما ثم أن ريع الوقف زاد خمسة أمثاله بحيث لا يحتاج الأكفان إلى زيادة فجعل لهما الحاكم كل شهر ثلاثين درهما ثم اطلع بعد ذلك على شرط الواقف فتوقف في أن يصرف عليهم ما زاد على شرط الواقف فهل يجوز له ذلك؟ وهل يجوز لهما تناوله؟
وأيضا الدار المذكورة انهدمت فأحكرها ناظر الوقف كل سنة بدرهمين فعمرها المستأجر وأجرها في السنة بخمسين درهما فهل يصح هذا الاحكار؟
أجاب: نعم يجوز أن يعطي الإمام والمؤذن من مثل هذا الوقف الفائض رزق مثلهما وإن كان زائدا على ثلثين بل إذا كانا فقيرين وليس لما زاد مصرف معروف: جاز أن يصرف إليهما منه تمام كفايتهما وذلك لوجهين:
أحدهما: إن تقدير الوقف دراهم مقدرة في وقف مقدار ريع قد يراد به النسبة: مثل أن يشرط له عشرة والمغل مائة ويراد به العشر فإن كان هناك قرينة تدل على إرادة هذا عمل به ومن المعلوم في العرف أن الوقف إذا كان مغله مائة درهم وشرط له ستة ثم صار خمسمائة فإن العادة في مثل هذا أن يشرط له أضعاف ذلك مثل خمسة أمثاله ولم تجر عادة من شرط ستة من مائة أن يشترط ستة من خمسمائة فيحمل كلام الناس على ما جرت به عادتهم في خطابهم
الثاني: إن الواقف لو لم يشترط هذا فزائد الوقف يصرف المصالح التي هي نظير مصالحه وما يشبهها مثل صرفه في مساجد أخر وفي فقراء الجيران ونحو ذلك: لأن الأمر دائر بين أن يصرف في مثل ذلك أو يرصد لما يحدث من عمارة ونحوه ورصده دائما مع زيادة الريع لا فائدة فيه: بل فيه مضرة وهو حبسه لمن يتولى عليهم من الظالمين المباشرين والمتولين الذين يأخذونه بغير حق وقد روي عن علي بن أبي طالب: أنه حض الناس على مكاتب يجمعون له ففضلت فضلة فأمر بصرفها من المكاتبين والسبب فيه أنه إذا تعذر المعين صار الصرف إلى نوعه
ولهذا كان الصحيح في الوقف هو هذا القول وان يتصدق بما فضل من كسوته كما كان عمر بن الخطاب يتصدق كل عام بكسوة الكعبة يقسمها بين الحجاج:
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن صرف الفاضل إلى إمامه ومؤذنه مع الاستحقاق أولى من الصرف إلى غيرهما وتقدير الواقف لا يمنع استحقاق الزيادة بسبب آخر كما لا يمنع استحقاق غير مسجده
وإذا كان كذلك وقدر الأكفان التي هي المصروفة ببعض الريع صرف ما يفضل إلى الإمام والمؤذن والله أعلم
11 - 852 - مسألة: في رجل أوقف وقفا وشرط التنزيل فيه للشيخ وشرط أن لا ينزل فيه شرير ولا متجوه وأنه نزل فيه شخص بالجاه ثم بدا منه أمر يدل على أنه شرير فرأى الشيخ المصلحة في صرفه اعتمادا على شرط الواقف ونزل الشيخ شخصا آخر بطريق شرط الواقف ومرسوم ألفاظه فهل يجوز صرف من نزل بشرط الواقف بغير مستند شرعي وإعادة المتجوه الشرير المخالف لشرط الواقف وهل يحرم على الناظر والشيخ ذلك ويقدح ذلك في ولايتهما؟ وهل يحرم على الساعي في ذلك المساعد له؟
أجاب: إذا علم شرط الواقف عدل عنه إلى شرط الله قبل شرط الواقف [ إذا كان مخالفا لشرط الله ]
فإن الجهات الدينية مثل الخوانك والمدارس وغيرها لا يجوز أن ينزل فيها فاسق سواء كان فسقه بظلمه للخلق وتعديه عليهم بقوله وفعله أو فسقه بتعديه حقوق الله التي بينه وبين الله فإن كلا من هذين الضربين يجب الإنكار عليه وعقوبته فكيف يجوز أن يقرر في الجهات الدينية ونحوها فكيف إذا شرط الواقف ذلك فإنه يصير وجوبه مؤكدا
ومن نزل من أهل الاستحقاق تنزيلا شرعيا لم يجز صرفه لأجل هذا الظلم ولا لغيره فكيف يجوز أن يستبدل الظالم بالعادل والفاجر بالبر ومن أعان على ذلك فقد أعان على الاثم والعدوان سواء علم شرط الواقف أو لم يعلم
12 - 853 - مسألة: في رجل أوقف وقفا على مدرسة وشرط فيها أن ريع الوقف للعمارة والثلثين يكون للفقهاء وللمدرسة وأرباب الوظائف وشرط أن الناظر يرى بالمصلحة والحال جاريا كذلك مدة ثلاثين سنة وإن حصر المدرسة وملء الصهريج يكون من جامكية الفقهاء لأنهم لهم غيبة وأماكن غيرها وإن معلوم الإمام في كل شهر من الدراهم عشرون درهما وكذلك المؤذن فطلب الفقهاء بعد هذه المسألة أرباب الوظائف أن يشاركوهم فيما يؤخذ من جوامكهم لأجل الحصر وملء الصهريج وإن أرباب الوظائف قائمون بهذه الوظيفة ولو لم يكن لهم غيرها هل يجب للناظر موافقة الفقهاء على ما طلبوه ونقص هؤلاء المساكين عن معلومهم اليسير؟ أم لا؟
أجاب: الحمد لله إذا رأى الناظر تقديم أرباب الوظائف الذين يأخذون على عمل معلوم كالامام والمؤذن فقد أصاب في ذلك إذا كان الذي يأخذونه لا يزيد على جعل مثلهم في العادة كما أنه يجب [ أن يقدم ] الجابي والعامل والصانع والبناء ونحوهم ممن يأخذ على عمل يعمله في تحصل المال أو عمارة المكان يقدمون بأخذ الأجرة
والإمامة والأذان شعائر لا يمكن إبطالها ولا تنقيصها بحال فالجاعل جعل مثل ذلك لأصحابها يقدم على ما يأخذه الفقهاء وهذا بخلاف المدرس والمفيد والفقهاء فإنهم من جنس واحد
وإن أمكن صرف ثمن الحصر وملء الصهريج من ثلث العمارة أو غيره يجعل ذلك ويوفر الثلثان على مستحقيه فإنه إذا شرط أن الثلث للعمارة والثلثين لأرباب الوظائف لم يكن أخذ ثمن الحصر ونحوها من هذا أولى من صرفها من هذا إلا أن يكون للوقف شرط شرعي بخلاف هذا
13 - 854 - مسألة: فيمن وقف تربة وشرط المقري عزبا فهل يحل التنزل مع التزوج؟
الجواب: هذا شرط باطل والمتأهل أحق بمثل هذا من المتعزب إذا استويا في سائر الصفات إذ ليس في التعزب هنا مقصود شرعي
14 - 855 - مسألة: في رجل وقف وقفا على عدد معلوم من النساء والأرامل والأيتام وشرط النظر لنفسه في حياته ثم الصالح من ولده بعد وفاته ذكرا كان أو أنثى وللواقف أقارب من أولاد أولاده ممن هو محتاج وقصد الناظر أن يميزهم على غيرهم في الصرف هل يجوز أن يميزهم؟
الجواب: إذا استووا هم وغيرهم في الحاجة فأقارب الواقف يقدمون على نظائرهم الأجانب كما يقدمون لصلته في حياته كما قال النبي ﷺ: [ صدقتك على المسلمين صدقة وعلى ذوي الرحم صدقة وصلة ]
ولهذا يؤمر أن يوصي لأقاربه الذين لا يرثون أما أمر إيجاب على قول بعض العلماء وأما أمر استحباب كقول الأكثرين وهما روايتان عن أحمد والله أعلم
15 - 856 - مسألة: في رجل وقف وقفا على جهة معينة وشرط شروطا ومات الواقف ولم يثبت الوقف على حاكم وعدم الكتاب قبل ذلك ثم عمل محضرا مجردا يخالف الشروط والأحكام المذكورة في كتاب الوقف وأثبت على حاكم بعد تاريخ الوقف المتقدم ذكره سنتين ثم ظهر كتاب الوقف وفيه شروط لم يتضمن المحضر شيئا منها وتوجه الكتاب للثبوت فهل يجوز منع ثبوته والعمل المذكور أم لا؟
الجواب: الحمد لله لا يجوز منع ثبوته بحال من الأحوال بل إذا أمكن ثبوته وجب ثبوته والعمل به وإن خالفه المحضر المثبت بعده وإن حكم بذلك المحضر حاكم فالحاكم به معذور بكونه لم يثبت عنده ما يخالفه ولكن إذا ظهر ما يقال: أنه كتاب الوقف وجب التمكن من إثباته بالطريق الشرعي فإن ثبت وجب العمل به والله أعلم
16 - 857 - مسألة: في رجل أوقف وقفا وشرط في بعض شروطه أنهم يقرآون ما تيسر ويسبحون ويهللون ويكبرون ويصلون على النبي ﷺ بعد الفجر إلى طلوع الشمس فهل الأفضل السر أو الجهر؟ وإن شرط الواقف فما يكون؟
الجواب: الحمد لله بل الإسرار بالذكر والدعاء كالصلاة على النبي ﷺ وغيرها أفضل ولا هو الأفضل مطلقا إلا لعارض راجح وهو في هذا الوقف أفضل خصوصا: فإن الله يقول: { واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة } وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه لما رآى الصحابة رضي الله عنهم يرفعون أصواتهم بالذكر قال: [ أيها الناس ! اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا وإنما تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عتق راحلته ] وفي الحديث: [ خير الذكر الخفي وخير الرزق ما كفي ] والله أعلم
17 - 858 - مسألة: في رجل وقف وقفا وشرط فيه شروطا على جماعة قراء وأنهم يحضرون كل يوم بعد صلاة الصبح يقرأون ما تيسر من القرآن إلى طلوع الشمس ثم يتداولون النهار بينهم يوما مثنى مثنى ويجتمعون أيضا بعد صلاة العصر يقرأ كل منهم حزبين ويجتمعون أيضا في كل ليلة جمعة جملة اجتماعهم في الشهر سبعة وسبعون مرة على هذا النحو عند قبره بالتربة وشرط عليهم أيضا أن يبيتوا كل ليلة بالتربة المذكورة وجعل لكل منهم سكنا يليق به وشرط لهم جاريا من ريع الوقف يتناولون في كل يوم وفي كل شهر فهل يلزمهم الحضور على شرطه عليهم؟ أم يلزمهم أن يتصفوا بتلك الصفات في أي مكان أمكن إقامتهم بوظيفة القراءة أو لا يتعين المكان ولا الزمان؟
وهل يلزمهم أيضا أن يبيتوا بالمكان المذكور أم لا؟ وإن قيل باللزوم فاستخلف أحدهم من يقرأ عنه وظيفته في الوقف والمكان والواقف شرط في كتاب الوقف أن يستنيبوا في أوقات الضرورات فما هي الضرورة التي تبيح النيابة؟
وأيضا إن نقصهم الناظر من معلومهم الشاهد به كتاب الوقف: فهل يجوز أن ينقصوا مما شرط عليهم؟ وسواء كان النقص بسبب ضرورة أو من اجتهاد الناظر أو من غير اجتهاده وليشف سيدنا بالجواب مستوعبا بالأدلة ويجلي به عن القلوب كل عسر مثابا في ذلك
الجواب: الحمد لله رب العالمين أصل هذه المسألة وهو على أهل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى والوصية لأهلها والنذر لهم أن تلك الأعمال لا بد أن تكون من الطاعات التي يحبها الله ورسوله فإذا كانت منهيا عنها لم يجز الوقف عليها ولا اشتراطها في الوقف باتفاق المسلمين وكذلك في النذر ونحوه وهذا متفق عليه بين المسلمين في الوقف والنذر ونحو ذلك ليس فيه نزاع بين العلماء أصلا
ومن أصول ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: [ من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ]
ومن أصوله ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة أيضا أن رسول الله ﷺ خطب على المنبر لما أراد أهل بريرة أن يشترطوا الولاء لغير المعتق فقال: [ ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ]
وهذا الحديث الشريف المستفيض الذي اتفق العلماء على تلقيه بالقبول اتفقوا على أنه عام في الشروط في جميع العقود ليس ذلك مخصوصا عند أحد منهم بالشروط في البيع بل من اشترط في الوقف أو العتق أو الهبة أو البيع أو النكاح أو الإجارة أو النذر أو غير ذلك شروطا تخالف ما كتبه الله على عباده بحيث تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى الله عنه أو النهي عما أمر به أو تحليل ما حرمه أو تحريم ما حلله فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود: الوقف وغيره
وقد روى أهل السنن أبو داود وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: [ الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا ]
وحديث عائشة هو من العام الوارد على سبب وهذا وإن كان أكثر العلماء يقولون: أنه يؤخذ فيه بعموم اللفظ ولا يقتصر على سببه فلا نزاع بينهم إن أكثر العمومات الواردة على أسباب لا تختص بأسبابها كالآيات النازلة بسبب معين: مثل آيات المواريث والجهاد والظهار واللعان والقذف والمحاربة والقضاء والفيء والربا والصدقات وغير ذلك فعامتها نزلت على أسباب معينة مشهورة في كتب الحديث والتفسير والفقه والمغازي مع اتفاق الأمة على أن حكمها عام في حق غير أولئك المعينين وغير ذلك مما يماثل قضاياهم من كل وجه
وكذلك الأحاديث وحديث عائشة مما اتفقوا على عمومه وأنه من جوامع الكلم التي أوتيها ﷺ وبعث بها حيث قال: [ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ]
ولكن تنازعوا في العقود المباحات كالبيع والإجارة والنكاح: هل معنى الحديث من اشترط شرطا لم يثبت أنه خالف فيه شرعا أو من اشترط شرطا يعلم أنه مخالف لما شرعه الله؟ هذا فيه تنازع لأن قوله في آخر الحديث: [ كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ] يدل على أن الشرط الباطل ما خالف ذلك وقوله: [ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل ] قد يفهم منه ما ليس بمشروع
وصاحب القول الأول يقول: ما لم ينه عنه من المباحات فهو مما أذن فيه فيكون مشروعا بكتاب الله وأما ما كان في العقود التي يقصد بها الطاعات كالنذر فلا بد أن يكون المنذور طاعة فمتى كان مباحا لم يجب الوفاء به لكن في وجوب الكفارة به نزاع مشهور بين العلماء كالنزاع في الكفارة بنذر المعصية لكن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به ونذر المباح مخير بين الأمرين كذلك الوقف أيضا
وحكم الشروط فيه يعرف بذكر أصلين: أن الواقف إنما وقف الوقوف بعد موته لينتفع بثوابه وأجره عند الله لا ينتفع به في الدنيا فإنه بعد الموت لا ينتفع الميت إلا بالأجر والثواب
ولهذا فرق بين ما قد يقصد به منفعة الدنيا وبين ما لا يقصد به إلا الأجر والثواب فالأول: كالبيع والإجارة والنكاح فهذا يجوز للإنسان أن يبذل ماله فيها ليحصل أغراضا مباحة دنيوية ومستحبة ودينية بخلاف الأغراض المحرمة وأما الوقف فليس ليس أن يبذل ملكه إلا فيما ينفعه في دينه فإنه إذا بذله فيما لا ينفعه في الدين والوقف لا ينتفع به بعد موته في الدنيا صار بذل المال لغير فائدة تعود إليه لا في دينه ولا في دنياه وهذا لا يجوز
ولهذا فرق العلماء بين الوقف على معين وعلى جهة فلو وقف أو وصى لمعين جاز وإن كان كافرا ذميا لأن صلته مشروعة كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى: { وصاحبهما في الدنيا معروفا } ومثل حديث أسماء بنت أبي بكر لما قدمت أمها وكانت مشركة فقالت: يا رسول الله: إن أمي قدمت وهي راغبة أفاصلها؟ قال: [ صلي أمك ] والحديث في الصحيحين وفي ذلك نزل قوله تعالى: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } وقوله تعالى: { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون }
فبين أن عطية مثل هؤلاء إنما يعطونها لوجه الله وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ في كل ذات كبد رطبة أجر ] فإذا أوصى أو وقف على معين وكان كافرا أو فاسقا لم يكن الكفر والفسق هو سبب الاستحقاق ولا شرطا فيه بل هو يستحق ما أعطاه وإن كان مسلما عدلا فكانت المعصية عديمة التأثير بخلاف ما لو جعلها شرطا في ذلك على جهة الكفار والفساق أو على الطائفة الفلانية بشرط أن يكونوا كفارا أو فساقا فهذا الذي لا ريب في بطلانه عند العلماء
ولكن تنازعوا في الوقف على جهة مباحة الوقف على الأغنياء؟ على قولين مشهورين والصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة والأصول أنه باطل أيضا لأن الله سبحانه قال في مال الفيء: { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } فأخبر سبحانه أنه شرع ما ذكره لئلا يكون الفيء متداولا بين الأغنياء دون الفقراء فعلم أنه سبحانه يكره هذا وينهي عنه ويذمه فمن جعل الوقف للأغنياء فقط فقد جعل المال دولة الأغنياء فيتداولونه بطنا بعد بطن دون الفقراء وهذا مضاد لله في أمره ودينه فلا يجوز ذلك
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: [ لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ] فإذا كان قد نهى عن بذل السبق إلا فيما يعين على الطاعة والجهاد مع أنه بذل لذلك في الحياة وهو منقطع غير مؤبد فكيف يكون الأمر في الوقف وهذا بين في أصول الشريعة من وجهين:
أحدهما: أن بذل المال لا يجوز إلا لمنفعة في الدين أو الدنيا وهذا أصل متفق عليه بين العلماء ومن خرج عن ذلك كان سفيها وحجر عليه عند جمهور العلماء الذين يحجزون على السفيه وكان مبذرا لماله وقد نهى الله في كتابه عن تبذير المال: { ولا تبذر تبذيرا } وهو إنفاقه في غير مصلحة وكان مضيعا لماله وقد نهى النبي ﷺ عن إضاعة المال في الحديث المتفق عليه عن المغيرة بن شعبة عن النبي ﷺ: [ أنه كان ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ] وقد قال الله تعالى في كتابه: { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما }
وقد قال كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم: هذا مثل توكيل السفيه وهو أن يدفع الرجل ماله إلى ولده السفيه أو امرأته السفيهة فينفقان عليه ويكون تحت أمرها وقال آخرون: ذلك أن يسلم إلى السفيه مال نفسه فإن الله نهى عن تسليم مال نفسه إليه إلا إذا أونس منه الرشد
والآية تدل على النوعين كليهما: فقد نهى الله أن يجعل السفيه متصرفا لنفسه أو لغيره: بالوكالة أو الولاية وصرف المال فيهما لا ينفع في الدين ولا الدنيا من أعظم السفه فيكون ذلك منهيا عنه في الشرع
إذا عرف هذا فمن المعلوم أن الواقف لا ينتفع بوقفه في الدنيا كما ينتفع بما يبذله في البيع والإجارة والنكاح وهذا أيضا لا ينتفع به في الدين إن لم ينفقه في سبيل الله وسبيل الله طاعته وطاعة رسوله فإن الله إنما يثيب العباد على ما أنفقوه فيما يحبه وأما ما لا يحبه فلا ثواب في النفقة عليه ونفقة الإنسان على نفسه وولده وزوجته واجبة فلهذا كان الثواب عليها أعظم من الثواب على التطوعات على الأجانب
وإذا كان كذلك فالمباحات التي لا يثبت الشارع عليها لا يثيب على الانفاق فيها والوقف عليها ولا يكون في الوقف عليها منفعة وثواب في الدين ولا منفعة في الوقف عليها في الدنيا فالوقف عليها خال من انتفاع الواقف في الدين والدنيا فيكون باطلا وهذا ظاهر في الأغنياء وإن كان قد يكون مستحبا بل واجبا فإنما ذاك إذا أعطوا بسبب غير الغنى من القرابة والجهاد والدين ونحو ذلك
فأما إن جعل سبب الاسحقاق هو الغني وتخصيص الغني بالاعطاء مع مشاركة الفقير له في أسباب الاستحقاق سوى الغنى مع زيادة استحقاق الفقيرعليه فهذا مما يعلم بالاضطرار في كل ملة أن الله لا يحبه ولا يرضاه فلا يجوز اشتراط ذلك في الوقف
الوجه الثاني: أن الوقف يكون فيما يؤبد على الكفار ونحوهم وفيما يمنع منه التوارث وهذا لو أن فيه منفعة راجحة وإلا كان يمنع منه الواقف لأنه فيه حبس المال عن أهل المواريث ومن ينتقل إليهم وهذا مأخذ من قال: لا حبس عن فرائض الله لكن هذا القول ترك لقول عمر وغيره وما في ذلك من المصلحة الراجحة فأما إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة بل قد حبس المال فمنعه الوارث وسائر الناس أن ينتفع به وهو لم ينتفع به فهذا لا يجوز تنفيذه بلا ريب
ثم هذه المسألة المتنازع فيها هي في الوقف على الصفات المباحة الدنيوية كالغنى بالمال وأما الوقف على الأعمال الدينية كالقرآن والحديث والفقه والصلاة والآذان والامامة والجهاد ونحو ذلك والكلام في ذلك هو الأصل الثاني وذلك لا يمكن أن يكون في ذلك نزاع بين العلماء في أنه لا يجوز أن يوقف إلا على ما شرعه الله وأحبه من هذه الأعمال
فأما من ابتدع عملا لم يشرعه الله وجعله دينا فهذا ينهي عن عمل هذا العمل فكيف يشرع له أن يقف عليه الأموال بل هذا من جنس الوقف على ما يعتقده اليهود والنصارى عبادات وذلك من الدين المبدل أو المنسوخ ولهذا جعلنا هذا أحد الأصلين في الوقف
وذلك أن باب العبادات والديانات والتقربات متلقاة عن الله ورسوله فليس لأحد أن يجعل شيئا عبادة أو قربة إلا بدليل شرعي قال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال تعالى: { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وقال تعالى: { المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون } ونظائر ذلك في الكتاب كثير يأمر الله فيه بطاعة رسوله واتباع كتابه وينهي عن اتباع ما ليس من ذلك
والبدع جميعها كذلك فإن البدعة الشرعية أي المذمومة في الشرع هي ما يشرعه الله في الدين أي ما لم يدخل في أمر الله ورسوله وطاعة الله ورسوله فأما إن دخل في ذلك فإنه من الشرعة لا من البدعة الشرعية وإن كان قد فعل بعد موت النبي ﷺ بما عرف من أمره: كإخراج اليهود والنصارى بعد موته وجمع المصحف وجمع الناس على قارئ واحد في قيام رمضان ونحو ذلك
وعمر بن الخطاب الذي أمر بذلك وإن سماه بدعة فإنما ذلك لأنه بدعة في اللغة إذ كل أمر فعل على غير مثال متقدم يسمى في اللغة بدعة وليس مما تسميه الشريعة بدعة وينهى عنه فلا يدخل فيما رواه مسلم من صحيحه عن جابر قال كان رسول الله ﷺ يقول في خطبته: [ إن أصدق الكلام كلام الله وخيري الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ] فإن قوله ﷺ [ كل بدعة ضلالة ] حق وليس فيما دلت عليه الأدلة الشرعية على الاستحباب بدعة كما قال ﷺ في الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه الترمذي عن العرباض بن سارية عن النبي ﷺ قال: [ وعظنا رسول الله صلى الله الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا: يا رسول الله ! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بتقوى الله وعليكم بالسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ] وفي رواية: [ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ] وفي رواية: [ وكل ضلالة في النار ]
ففي هذا الحديث أمر المسلمين باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين وبين أن المحدثات التي هي البدع التي نهى عنها ما خالف ذلك فالتراويح ونحو ذلك لو لم تعلم دلالة نصوصه وأفعاله عليها لكان أدنى أمرها أن تكون من سنة الخلفاء الراشدين فلا تكون من البدع الشرعية التي سماها النبي ﷺ بدعة ونهى عنها
وبالجملة لا خلاف بين العلماء إن من وقف على صلاة أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي ونحو ذلك لم يصح وقفه بل هو ينهى عن ذلك العمل وعن البذل فيه والخلاف الذي بينهم في المباحات لا يخرج مثله هنا لأن اتخاذ الشيء عبادة واعتقاد كونه عبادة وعمله لأنه عبادة: لا يخلو من أن يكون مأمورا به أو منهيا عنه فإن كان مأمورا به واجبا أو مستحبا في الشريعة كان اعتقاد كونه عبادة والرغبة فيه لأجل العبادة ومحبته وعمله مشروعا وإن لم يكن الله يحبه ولا يرضاه فليس بواجب ولا مستحب لم يجز لأحد أن يعتقد أنه مستحب ولا أنه قربة وطاعة ولا يتخذه دينا ولا يرغب فيه لأجل كونه عبادة
وهذا أصل عظيم من أصول الديانات وهو التفريق بين المباح الذي يفعل لأنه مباح وبين ما يتخذ دينا وعبادة وطاعة وقربة واعتقادا ورغبة وعملا فمن جعل ما ليس مشروعا ولا هو دينا ولا طاعة ولا قربة جعله دينا وطاعة وقربة: كان ذلك حراما باتفاق المسلمين
لكن قد يتنازع العلماء في بعض الأمور: هل هو من باب القرب والعبادات؟ أم لا؟ سواء كان من باب الاعتقادات القولية أو من باب الارادات العملية حتى قد يرى أحدهم واجبا ما يراه الآخر حراما كما يرى بعضهم وجوب قتل المرتد ويرى آخر تحريم ذلك ويرى أحدهم وجوب التفريق بين السكران وامرأته إذا طلقها في سكره ويرى الآخر تحريم التفريق بينهما وكما يرى أحدهم وجوب قراءة فاتحة الكتاب على المأموم ويرى الآخر كراهة قراءته أما مطلقا وأما إذا سمع جهر الإمام ونحو ذلك من موارد النزاع كما أن اعتقادها وعملها من موارد النزاع فبذل المال عليها هو من موارد النزاع أيضا وهو الاجتهادية
وأما كل عمل يعلم المسلم أنه بدعة منهي عنها فإن العالم بذلك لا يجوز الوقف باتفاق المسلمين وإن كان قد يشرط بعضهم بعض هذه الأعمال من لم يعلم الشريعة أو من هو يقلد في ذلك لمن لا يجوز تقليده في ذلك فإن هذا باطل كما قال عمر بن الخطاب: ردوا الجهالات إلى السنة ولما في الصحيح عن عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ]
ولهذا اتفق العلماء أن حكم الحاكم العادل إذا خالف نصا أو إجماعا لم يعلمه فهو منقوض فكيف بتصرف من ليس يعلم هذا الباب من واقف لا يعلم حكم الشريعة ومن يتولى ذلك له من وكلائه وإن قدر أن حاكما حكم بصورة ذلك ولزومه فغايته أن يكون عالما عادلا فلا ينفذ ما خالف فيه نصا أو إجماعا باتفاق المسلمين
والشروط المتضمنة للأمر بما نهى عنه والنهي عن ما أمر الله به مخالفة للنص والإجماع وكل ما أمر الله به أو نهى عنه فإن طاعته فيه بحسب الإمكان كما قال تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم } وكما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه: [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ]
فهذه القواعد هي الكلمات الجامعة والأصول الكلية التي تنبني عليها هذه المسائل ونحوها وقد ذكرنا منها نكتا جامعة بحسب ما تحتمله الورقة يعرفها المتدرب في فقه الدين
وبعد هذا ينظر في تحقيق مناط الحكم في صورة السؤال وغيرها بنظره فما تبين أنه من الشروط الفاسدة الغي وما تبين أنه شرط موافق لكتاب الله عمل به وما اشتبه أمره أو كان فيه نزاع فله حكم نظائره ومن هذه الشروط الباطلة ما يحتاج تغييره إلى همة قوية وقدرة نافذة ويؤيدها الله بالعلم والدين وإلا فمجرد قيام الشخص في هوى نفسه لجلب دنيا أو دفع مضرة دنيوية إذا أخرج ذلك مخرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكاد ينجح سعيه وإن كان متظلما طالبا من يعينه فإن أعانه الله بمن هو متصف بذلك أو بما يقدره له من جهة تعينه حصل مقصوده ولا حول ولا قوة إلا بالله
وما ذكره السائلون فرض تمام الوجود والله يسهل لهم ولسائر المسلمين من يعينهم على خير الدين والدنيا أنه على كل شيء قدير
فمن لا نزاع فيه بين العلماء أن مبيت الشخص في مكان معين دائما ليس قربة ولا طاعة باتفاق العلماء ولا يكون ذلك إلا في بعض الأوقات إذا كان في التعيين مصلحة شرعية مثل: المبيت في ليالي منى ومثل مبيت الإنسان في الثغر للرباط أو مبيته في الحرس في سبيل الله أو عند عالم أو رجل صالح ينتفع به ونحو ذلك
فأما أن المسلم يجب عليه أن يرابط دائما ببقعة بالليل لغير مصلحة دينية فهذا ليس من الدين بل لو كان المبيت عارضا وكان يشرع فيها ذلك لم يكن أيضا من الدين ومن شرط عليه ذلك ووقف عليه المال لأجل ذلك فلا ريب في بطلان مثل هذا الشرط وسقوطه
بل تعيين مكان معين للصلوات الخمس أو قراءة القرآن أو إهدائه غير ما عينه الشارع أيضا مشروعا باتفاق العلماء حتى لو نذر أن يصلي أو يقرأ أو يعتكف في مسجد بعينه غير الثلاثة لم يتعين وله أن يفعل ذلك في غيره لكن في وجوب الكفارة لفوات التعيين قولان للعلماء
والعلماء لهم في وصول العبادات البدنية: كالقراءة والصلاة والصيام إلى الميت قولان: أصحهما أنه يصل لكن لم يقل أحد من العلماء بالتفاضل في مكان دون مكان ولا قال أحد قط من علماء الأمة المتبوعين: ان الصلاة أو القراءة عند القبر أفضل منها عند غيره بل القراءة عند القبر قد اختلفوا في كراهتها فكرهها أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد في إحدى الروايتين وطوائف من السلف ورخص فيها طائفة أخرى من أصحاب أبي حنيفة والإمام أحمد وغيرهم وهو إحدى الروايتين عن أحمد وليس عن الشافعي في ذلك كله نص نعرفه
ولم يقل أحد من العلماء: إن القراءة عند القبر أفضل ومن قال: إنه عند القبر ينتفع الميت بسماعها دون ما إذا بعد القارئ: فقوله هذا بدعة باطلة مخالفة لاجماع العلماء والميت بعد موته لا ينتفع بأعمال يعملها هو بعد الموت: لا من استماع ولا قراءة ولا غير ذلك باتفاق المسلمين وإنما ينتفع بآثار ما عمله في حياته كما قال النبي ﷺ: [ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ]
وينتفع أيضا بما يهدى إليه من ثواب العبادات المالية: كالصدقة والهبة باتفاق الفقهاء وكذلك العبادات البدنية في أصح قوليهم والزام المسلمين أن لا يعملوا ولا يتصدقوا إلا في بقعة معينة مثل كنائس النصارى باطل
وبكل حال فالاستخلاف في مثل هذه الأعمال المشروطة جائز وكونها عن الواقف إذا كان النائب مثل المستنيب فقد يكون في ذلك مفسدة راجحة على المصلحة الشرعية كالأعمال المشروطة في الإجارة على عمل في الذمة لأن التعيين فيه مصلحة شرعية فشرط باطل ومتى نقصوا من المشروط لهم كان لهم أن ينقصوا من المشروط عليهم بحسب ذلك والله أعلم