فصل
ومما تمس الحاجة إليه من فروع هذه القاعدة ومن مسائل بيع الثمر قبل بدو صلاحه ما قد عم به البلوى في كثير من بلاد الإسلام أو أكثرها لا سيما دمشق وذلك أن الأرض تكون مشتملة على غراس وأرض تصلح للزرع وربما اشتملت على مساكن فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها ويزرعها أو يسكنها مع ذلك فهذا إذا كان فيها أرض وغراس مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال وهو قول الكوفيين والشافعي وهو المشهور من مذهب أحمد عند أكثر أصحابه
والقول الثاني: يجوز إذا كافي الشجر قليلا فكان البياض الثلثين أو أكثر وكذلك إذا استكرى دارا فيها نخلات قليلة أو شجرات عنب ونحو ذلك وهذا قول مالك وعن أحمد كالقولين فإن الكرماني قال لأحمد: الرجل يستأجر الأرض وفيها نخلات قال: أخاف أن يكون استأجر شجرا لم يثمر
وكأنه لم يعجبه أظنه إذا أراد الشجر فلم أفهم عنه أكثر من هذا وقد تقدم فيها إذا باع ربويا بجنسه معه من غير جنسه إذا كان المقصود الأكثر هو غير الجنس كشاة ذات صوف أو لبن بصوف أو لبن روايتان وأكثر أصوله على الجواز كقول مالك فإنه يقول: إذا ابتاع عبدا وله مال وكان مقصوده العبد جاز وإن كان المال مجهولا أو من جنس الثمرة ولأنه يقول إذا ابتاع أرضا أو شجرا فيها ثمر أو زرع لم يدرك يجوز إذا كان مقصوده الأرض والشجر وهذا في البيع نظير مسألتنا في الإجارة فإن ابتياع الأرض واشتراء النخيل ودخول الثمرة التي لم تؤمن العاهة في البيع تبعا للأصل بمنزلة دخول تمر النخلات والعنب في الإجارة تبعا
وحجة الفريقين في المنع ما ثبت عن النبي ﷺ من [ نهيه عن البيع اللبن وبيع الثمر حتى يبدو صلاحه ] كما خرجا في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ [ نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع ] وفيها عن جابر بن عبد الله قال: [ نهى رسول الله ﷺ أن تباع الثمرة حتى تشقح قيل: وما تشقح؟ قال: تحمر أو تصفر ويؤكل منها ] وفي رواية لمسلم أن هذا التفسير كلام سعيد بن ميناء المحدث عن جابر وفي الصحيحين عن جابر [ نهى النبي ﷺ عن المحافلة والمزاينة والمعاوضة والمخابرة ] وفي رواية لهما وعن بيع السنين بدل المعاوضة وفيها أيضا عن زيد بن أبي أنيسة عن عطاء عن جابر: [ أن رسول الله ﷺ نهى عن المحافلة والمزاينة والمخابرة وأن يشتري النخل حتى يشقح ] والإشقاح إن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء والمحافلة أن يبيع الحقل بكيل من الطعام معلوم والمزاينة أن يباع للنخل بأوساق من الثمر والمخابرة الثلث أو الربع وأشباه ذلك
قال زيد: قلت: لعطاء أسمعت جابر يذكرها عن النبي ﷺ؟ قال: نعم وفيها عن أبي البحتري سألت ابن عباس عن بيع النخل فقال: نهى رسول الله ﷺ عن بيع النخل حتى يؤكل منه أو يؤكل منه وحتى يوزن فقلت: ما يوزن فقال رجل عنده: حتى تحرز وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: [ لا تتبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ولا تتبايعوا التمر بالتمر ] وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع تمر النخل سنين لا يجوز قالوا: فإذا أكواه الأرض والشجر فقد باعه التمر قبل أن يخلق وباعه سنة أو سنتين وهو الذي نهى عنه ثم من منع منه مطلقا طرد العموم والقياس ومن جوزه إذا كان قليلا قال: الغرر اليسير يحتمل في العقود كما لو ابتاع النخل وعليها ثمر لم يؤبر أو أبر ولم يبدو صلاحه فإنه يجوز وإن لم يجز أفراده بالعقد وهذا متوجه جدا على أصل الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء الحديث ولا يتوجه على أصل أبي حنيفة لأنه لا يجوز ابتياع الثمر بشرط البقاء ويجوز ابتياعه قبل بدو صلاحه وموجب العقد القطع في الحال فإذا ابتاعه مع الأصل فإنما استحق إبقائه لأن الأصل ملكه وسنتكلم إن شاء الله على هذا الأصل وذكر أبو عبيد أن المنع من إجارة الأرض التي فيها شجر إجماع
القول الثالث: أنه لا يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر ودخول الشجر في الإجارة مطلق وهذا قول ابن عقيل وإليه مال حرب الكرماني وهو كالإجماع من السلف وإن كان المشهور عن الأئمة المتبوعين خلافه فقد روى سعيد بن منصور ورواه عنه حرب الكرماني في مسائله
حدثنا عباد بن عباد عن هشام بن عروة عن أبيه أن أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم دين فدعا عمر غرماءه فقبلهم أرضه سنين وفيها النخل والشجر وأيضا فإن عمر بن الخطاب ضرب الخراج على أرض السواد وغيرها فأقر الأرض التي فيها النخل والعنب في أيدي أهل الأرض وجعل على كل جريب من أجربة الأرض السوداء والبيضاء خراجا مقدارا والمشهور أنه جعل على جريب العنب عشرة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الرطبة ستة دراهم وعلى جريب الزرع درهما وقفيزا من طعامه والمشهور عند مالك والشافعي وأحمد أن هذه المخارجة تجري المؤاجرة وإنما لم يوفه لعموم المصلحة وأن الخراج أجرة الأرض فهذا بعينه إجارة الأرض السوداء التي فيها شجر وهو مما أجمع عليه عمر والمسلمون في زمانه وبعده
ولهذا تعجب أبو عبيد في كتاب الأموال من هذا فرأى أن هذه المعاملة تخالف ما علمه من مذاهب الفقهاء وحجة ابن عقيل أن إجارة الأرض جائزة والحاجة إليها داعية ولا يمكن إجارتها إذا كان فيها شجر إلا بإجارة الشجر وما لا يتم الجائز إلا به جائز لأن المستأجر لا يتبرع بسقي الشجر وقد لا يساقي عليها وهذا كما أن مالكا والشافعي كان القياس عندهما أنه لا تجوز المزارعة فإذا ساقى العامل على شجر فيها بياض جوزا المزارعة في ذلك البياض تبعا للمساقاة فيجوزه ما لم إذا كان دون الثلث كما قال في بيع الشجر للأرض وكذلك الشافي يجوزه إذا كان البياض قليلا لا يمكن سقي النخل إلا به وإن كان كثيرا والنخل قليلا وفيه لأصحابه وجهان هذا إذا جمع بينهما في عقد واحد وسوى بينهما في الجزء المشروط كالثلث أو الربع فإما أن فاضل بين الجزئين ففيه وجهان لأصحابه وكذلك أن فرق بينهما في عقدين وقدم المساقات ففيه وجهان فإما أن قدم الزراعة لم تصح المزارعة وجها واحدا فقد جوزا المزارعة التي لا تجوز عندهما تبعا للمساقاة فكذلك يجوز إجارة الشجر تبعا لإجارة الأرض وقول ابن عقيل هو قياس أحد وجهي أصحاب الشافعي بلا شك
ولأن المانعين من هذا هم بين محتال على جوازه أو مرتكب لما يظن أنه حرام أو ضار متضرر فإن الكوفيين احتالوا على الجواز تارة بأن يؤجر الأرض فقط ويبيحه ثمر الشجر كما يقولون في بيع التمر قبل بدو صلاحها يبيعه إياه مطلقا أو بشرط القطع ويبيحه إبقاءها وهذه الحيلة منقولة عن أبي حنيفة والثوري وغيرهما وتارة بأن يكريه الأرض بجميع الأجرة ويساقيه على الشجر بالمحاباة مثل أن يساقيه على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك وهذه الحيلة إنما يجوزها من يجوز المساقاة كأبي يوسف ومحمد والشافعي في القديم
فأما أبو حنيفة فلا يجوزها بحال وكذلك الشافعي إنما يجوزها في الجديد في النخل والعنب فقد اضطروا إلى ذلك في هذه المعاملة إلى أن يسمى الأجرة في مقابلة منفعة الأرض ويتبرع له إما بإعراء الشجر وإما بالمحاباة في مساقاتها ولفرط الحاجة إلى هذه المعاملة ذكر بعض من صنف في إبطال الحيل من أصحاب أحمد هذه الحيلة فيما يجوز من الحيل - أعني حيلة المحاباة في المساقاة - والمنصوص عن أحمد وأكثر أصحابه إبطال هذه الحيلة بعينها كمذهب مالك وغيره والمنع من هذه الحيل هو الصحيح قطعا لما روي عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: [ لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ] رواه الأئمة الخمسة: أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: حسن صحيح
فنهى ﷺ أن يجمع بين سلف وبيع فإذا جمع بين سلف وإجارة فهو جمع بين سلف وبيع أو مثله وكل تبرع يجمعه إلى البيع والإجارة مثل الهبة والعارية والعرية والمحاباة في المساقاة والمزارعة وغير ذلك هو مثل القرض فجماع معنى الحديث أن لا يجمع بين معاوضة وتبرع لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة لا تبرعا مطلقا فيصير جزأ من العوض فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض جمعا بين أمرين متباينين فإن من أقرض رجلا ألف درهم وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف لم يرض بالإقراض إلا بالثمن الزائد للسلعة والمشتري لم يرض ببدل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها فلا هذا بيعا بألف ولا هذا قرضا محضا بل الحقيقة أنه أعطاه الألف والسلعة بألفين فهي مسألة مدة عجوة فإذا كان المقصود أخذ ألف بأكثر من ألف حرم بلا تردد وإلا خرج على الخلاف المعروف وهكذا من أكترى الأرض التي تساوي مائة بألف وأعراه الشجر أو رضي من ثمرها بجزء من ألف جزء فمعلوم بالاضطرار أنه إنما تبرع بالثمرة لأجل الألف فالثمرة هي حل المقصود المعقود عليه أو بعضه فليست الحيلة إلا ضربا من اللعب والإفساد فالمقصود المعقود عليه ظاهر والذين لا يحتالون أو يحتالون وقد ظهر لهم فساد هذه الحيلة هم بين أمرين أما أن يفعلوا ذلك للحاجة ويعتقدون أنهم فاعلون للمحرم كما رأينا عليه أكثر الناس وإما أن يتركوا ذلك ويتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة فيدخل عليهم من الضرر والإضرار ما لا يعلمه إلا الله وإن أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو إثنان فيما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال التي لا تأتي به شريعة قط فضلا عن شرعية قال الله فيها: { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقال تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال تعالى: { يريد الله أن يخفف عنكم } وفي الصحيحين: [ إنما بعثتم ميسرين يسروا ولا تعسروا ليعلم اليهود أن في ديننا سعة ]
فكلما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعا والغرض من هذا أن تحريم مثل هذا مما لا يمكن الأمة التزامه قط لما فيه من الفساد الذي لا يطاق فعلم أنه ليس بحرام بل هو أشد من الأغلال والآصار التي كانت على بني إسرائيل ووضعها الله عنا على لسان محمد ﷺ ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم }
فكلما احتاج الناس إليهم في معاشهم ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب أو فعل محرم لم يحرم عليهم لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد وإن كان سببه معصية كالمسافر سفر مفضية اضطر فيه إلى الميتة والمنفق للمال في المعاصي حتى لزمته الديون فإن يؤمر بالتوبة ويباح له ما يزيل ضرورته فيباح له الميتة ويقضي عنه دينه من الزكاة وإن لم يتب فهو ظالم لنفسه محتال كحال الذين قال الله فيهم: { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } وقوله: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم } الآية
وهذه قاعدة عظيمة ربما ننبه إن شاء الله عليها وهذا القول المأثور عن السلف الذي اختاره ابن عقيل هو قياس أصول أحمد وبعض أصول الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لوجوه متعددة بعد الأدلة الدالة على نفي التحريم شرعا وعقلا فإن دلالة هذه إنما تتم بعد الجواب عما استدل به للقول الأول:
الوجه الأول: ما ذكرناه من فعل عمر في قصة أسيد بن الحضير فإنه ملك الأرض والشجر التي فيها بالمال الذي كان للغرماء وهذا عين مسألتنا ولا يحمل ذلك على أن النخل والشجر كان قليلا فإنه من المعلوم أن حيطان أهل المدينة الغالب عليها الشجر وأسيد بن الحضير كان من سادات الأنصار ومياسيرهم فيقيد أن يكون الغالب على حائطة الأرض البيضاء ثم هذه القضية لا بد أن تشتهر ولم يبلغنا أن أحدا أنكرها فيكون إجماعا وكذلك ما ضربه من الخراج فإن تسميته خراجا يدل على أنه عوض عما ينتفعون به من منفعة الأرض والشجر كما يسمي الناس اليوم كرا الأرض لمن يغرسها خراجا إذا كان على كل شجرة شيء معلوم ومنه قوله تعالى: { أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير } ومنه خراج العبد فإنه عبارة عن ضريبة يخرجها من ماله فمن اعتقد أنه أجره وجب عليه أن يعتقد جواز مثل هذه لأنه ثابت بإجماع الصحابة ومن اعتقد أنه ثمن أو عوض مستقل بنفسه فمعلوم أنه لا يثبته غيره وإنما جوزته الصحابة ولا نظير له لأجل الحاجة الداعية إليه والحاجة إلى ذلك موجودة في كل أرض فيها شجر كالأرض المفتتحة فإنه إن قيل تمكن المساقاة أو المزارعة قيل وقد كان يمكن عمر المساقاة والمزارعة كما فعل في أبناء الدولة العباسية
أما في خلافة المنصور وأما بعده فإنهم نقلوا أرض السواد من الخراج إلى المقاسمة التي هي المساقاة والمزارعة
وإن قيل: أنه يمكن جعل الكرا بأزاء الأرض والتبرع بمنفعة الشجر أو المحاباة فيها
قيل: وقد كان يمكن عمر ذلك فالقدر المشترك بينهما ظاهر وأيضا فإنا نعلم قطعا أن المسلمين ما زال لهم أرضون فيها شجر تكرى هذا غالب على أموال أهل الأمصار ونعلم أن المسلمين لم يكونوا كلهم يعمرون أرضهم بأنفسهم ولا غالبهم ونعلم أن المساقاة والمزارعة قد لا تتيسر كل وقت لأنها تفتقر إلى عامل أمين وما كل أحد يرضى بالمساقاة ولا كل من أخذ الأرض يرضى بالمشاركة فلا بد أن يكونوا قد كانوا يكرون الأرض السوداء ذات الشجر ومعلوم أن الاحتيال بالتبرع أمر نادر لم يكن السلف من الصحابة والتابعين يفعلونه فلم يبق إلا أنهم كانوا يفعلون كما فعل عمر رضي الله عنه بمال أسيد بن الحضير وكما يفعله غالب المسلمين من تلك الأزمنة وإلى اليوم فإذا لم ينقل عن السلف أنهم حرموا هذه الإجارة ولا أنهم أمروا بحيلة التبرع مع قيام المقتضى لفعل هذه المعاملة علم قطعا أن المسلمين كانوا يفعلونها من غير نكير من الصحابة والتابعين فيكون فعلها كان إجماعا منهم ولعل الذين اختلفوا في كرى الأرض البيضاء والمزارعة عليها لم يختلفوا في كرى الأرض السوداء ولا في المساقاة لأن منفعة الأرض ليست بطائل بالنسبة إلى منفعة الشجر
فإن قيل: فقد قال حرب الكرماني سئل أحمد عن تفسير حديث ابن عمر: القبالات ربا قال: هو أن يتقبل القرية فيها النخل والعلوج قيل له: فإن لم يكن فيها نخل وهي أرض بيضاء قال: لا بأس إنما هو الآن مستأجرا
قيل: فإن فيها علوجا قال فهذا هو القبالة مكروهة قال حرب: حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا سعيد عن جبلة سمع ابن عمر يقول: القبالات ربا قيل: الربا فيما يجوز تأجيله إنما يكون في الجنس الواحد لأجل الفضل
فإن قيل: في الأجرة والثمر أو نحوهما أنه ربا مع جواز تأجيله فلأنه معاوضة بجنسه متفاضلا لأن الربا إما ربا النساء وذلك لا يكون فيما يجوز تأجيله وإما ربا الفضل وذلك لا يكون إلا في الجنس الواحد فإذا انتفى ربا النساء الذي هو التأجير لم يبق إلا ربا الفضل الذي هو الزيادة في الجنس الواحد وهذا يكون إذا كان التقبل بجنس معدن الأرض مثل: أن يتقبل الأرض التي فيها نخل بثمر فيكون مثل المزاينة فهو مثل اكتراء الأرض بجنس الخارج منها إذا كان مضمونا في الذمة مثل أن يكتريها ليزرع فيها حنطة بحطنة معلومة
ففيه روايتان عن أحمد:
إحداهما: أنه ربا كقول مالك وهذا مثل القبالة التي كرهها ابن عمر لأنه ضمن الأرض بحنطة معلومة فكأنه ابتاع حنطة بحنطة يكون أكثر أو أقل فيظهر الربا فالقبالات التي ذكر ابن عمر أنها ربا أن يضمن الأرض التي فيها النخل والفلاحون بقدر معين من جنس منها مثل أن يكون لرجل قرية فيها شجر وأرض وفيها فلاحون يعملون له ما يعمل من الحنطة والثمر بعد أجرة الفلاحين أو نصيبهم فيضمنه رجل منه بمقدار من الحنطة والثمر ونحو ذلك فهذا يظهر تسميته بالربا فأما ضمان الأرض بالدراهم والدنانير فليس من باب الربا بسبيل ومن حرمه فهو عنده من باب الغرر ثم أن أحمد لم يكره ذلك إذا كانت أرضا بيضاء لأن الإجارة عنده جائزة وإن كان من جنس الخارج على إحدى الروايتين لأن المستأجر يعمل في الأرض بمنفعته وماله فيكون المغل بكسبه بخلاف ما إذا كان فيها العلوج وهم الذين يعالجون العمل فإنه لا يعمل فيها شيئا لا بمنفعته ولا بماله بل العلوج يعملونها وهو يؤدي القبالة ويأخذ بدلها فهو طلب الربح في مبادلة المال من غير صناعة ولا تجارة وهذا هو الربا ونظير هذا ما جاء عن أنه ربا وهو اكتراء الحمام والطاحون والفنادق ونحو ذلك مما لا ينتفع المستأجر به فلا يتجر فيه ولا يصطنع فيه وإنما يلتزمه ليكريه فقط فقد قيل: هو ربا والحاصل أنها لم تكن ربا لأجل النخل ولا لأجل الأرض إذا كان بغير جنس المغل وإنما كانت ربا لأجل العلوج وهذه الصورة لا حاجة إليها فإن العلوج يقومون بها فيتقبلها الآخر مراباة ولهذا كرها أحمد وإن كانت بيضاء إذا كان فيها العلوج
وقد استدل حرب الكرماني على المسألة بمعاملة النبي ﷺ لأهل خيبر بشطر ما يخرج منها من تمر أو زرع على أن يعمروها من أموالهم وذلك أن هذا في المعنى اكراء الأرض والشجر بشيء مضمون لأن إعطاء الثمر لو كان بمنزلة بيعه لكان إعطاء بعضه بمنزلة بيعه وذلك لا يجوز وهذه المسألة لها أصلان
الأول: أنه متى كان بين الشجر أرض أو مساكن دعت الحاجة إلى كراءهما جميعا فيجوز لأجل الحاجة وإن كان في ذلك غرر يسير لا سيما إن كان البستان وقفا أو مال يتيم فإن تعطيل منفعته لا يجوز واكتراء الأرض أو المسكن وحده لا يقع في العادة ولا يدخل أحد على ذلك وإن اكتراه اكتراه بنقص كثير عن قيمته وما لا يتم المباح إلا به فهو مباح فكلما أثبت إباحته بنص أو إجماع وجب إباحة لوازمه إذا لم يكن في تحريمها نص ولا إجماع وإن قام دليل يقتضي تحريم لوازمه وما لا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه فهو حرام
فها هنا يتعارضان الدليلان وفي مسألتنا قد ثبت إباحة كراء الأرض بالسنة واتفاق الفقهاء المتبوعين بخلاف دخول كراء الشجر فإن تحريمه مختلف فيه ولا نص عليه وأيضا فمتى اكتريت الأرض وحدها وبقي الشجر لم يكن المكتري مأمونا على الثمر فيفضي إلى اختلاف الأيدي وسوء المشاركة كما إذا بدا الصلاح في نوع واحد
ويخرج على هذا القول مثل قول الليث بن سعد إذا بدا الصلاح في نوع واحد أو جنس وكان في بيعه متفرقا ضرر جاز بيع جميع الأجناس ليعسر تفريق الصفقة ولأنه إذا أراد أن يبيع الثمر بعد ذلك لم يشتر أحد الثمرة إذا كانت الأرض والمساكن لغيره إلا بنقص كثير ولأنه إذا اكترى الأرض فإن شرط عليه سقي الشجر والسقي من جملة المعقود عليه صار المعوض عوضا وإن لم يشترط عليه السقي فإذا سقاها إن ساقاه عليها صارت الإجارة لا تصح إلا بمساقاة وإن لم يساقه لزم تعطيل منفعة المستأجر فيدور الأمر بين أن تكون الأجرة بعض المنفعة أو لا تصح الإجارة إلا بمساقاة أو بتفويت منفعة المستأجر
ثم إن حصل للمكري جميع الثمرة أو بعضها ففي بيعها مع أن الأرض والمساكن لغيره نقص للقيمة في مواضع كثيرة فرجع الأمر إلى أن الصفقة إذا كان في تفريقها ضرر جاز الجمع بينهما في المعاوضة وإن لم يجز أفراد كل منهما لأن حكم الجمع يخالف حكم التفريق
ولهذا وجب عند أحمد وأكثر الفقهاء على أحد الشريكين إذا تعذرت القسمة أن يبيع مع شريكه أو يؤاجر معه وإن كان المشترك منفعة لأن النبي ﷺ: [ من اعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمته عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ] أخرجاه في الصحيحين فأمر النبي ﷺ بتقويم العبد كله وبإعطاء الشريك حصته من القيمة ومعلوم أن قيمة حصته منفردة دون حصته من قيمة الجمع فعلم أن حقه في نصف النصف وإذا استحق ذلك بالإعتاق فبسائر أنواع الإتلاف أولى وإنما يستحق بالإتلاف ما يستحق بالمعاوضة فعلم أن يستحق المعاوضة نصف القيمة وإنما يمكن ذلك عند بيع الجميع فتجب قسمة العين حيث لا ضرر فيها فإن كان فيها ضرر قسمت القيمة
فإذا كنا قد أوجبنا على الشريك بيع نصيبه لما في التفريق من نقص قيمة شريك فلأن يجوز بين الأمرين جميعا إذا كان في تفريقهما ضرر أولى ولذلك جاز بيع الشاة مع اللبن الذي في ضرعها وإن أمكن تفريقهما بالحلب وإن كان بيع اللبن وحده لا يجوز وعلى هذا الأصل فيجوز متى كان مع الشجر منفعة مقصودة كمنفعة أرض للزرع أو بناء للسكن فأما إن كان المقصود لهو الثمر فقط ومنفعة الأرض أو المسكن ليست جزءا من المقصود وإنما دخلت لمجرد الحيلة كما قد يفعل في مسائل مدعجوة لم يجئ هذا
الأصل الثاني: أن يقال أكراء الشجر للإستثمار يجري مجرى أكراء الأرض للأزدراع واستئجار الظئر للرضاع وذلك أن الفوائد التي تستخلف مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع وإن كانت أعيانا وهي ثمر الشجر وألبان البهائم والصوف والماء العذب فإنه كلما خلق من هذه شيء فأخذ خلق الله بدله مع بقاء الأصل كالمنافع سواء
ولهذا جرت في الوقف والعارية والمعاملة بجزء من النماء مجرى المنفعة فإن الوقف لا يكون إلا قيما ينتفع به مع بقاء أصله فإذا جاز وقف الأرض البيضاء أو الزرع لمنفعتها فكذلك وقف الحيطان لثمرتها ووقفت الماشية لدرها وصوفها ووقف الآبار والعيون لمائها بخلاف ما يذهب بالانتفاع كالطعام ونحوه فلا يوقف وأما أرباب العارية فيسمون إباحة للظهر اقراضا يقال أقرض به الظهر وما أبيح لبنه منيحة وما أبيح ثمره عرية وغير ذلك عارية
وشبهوا ذلك بالقرض الذي ينتفع به المقترض ثم يرد مثله ومنه قول النبي ﷺ: [ منيحة لبن أو منيحة ورق ] فاكتراء الشجر لأن يعمل عليها ويأخذ ثمرها بمنزلة استئجار الظئر لأجل لبنها وليس في القرآن إجارة منصوصة إلا إجارة الظئر في قوله سبحانه: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن }
ولما اعتقد بعض الفقهاء أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة ليست عينا ورأى جواز إجارة الظئر قال المعقود عليه هو وضع الطفل في حجرها واللبن دخل ضمنا وتبعا كنقع البئر وهذا مكابرة للعقل والحس فإنا نعلم بالاضطرار أن المقصود بالعقد هو اللبن كما ذكره الله بقوله: { فإن أرضعن لكم } وضم الطفل إلى حجرها إن فعل فإنما هو وسيلة إلى ذلك وإنما العلة ما ذكرته من الفائدة التي ستحلف مع بقاء أصلها يجرير مجرى المنفعة وليس من البيع الخاص فإن الله لم يسم العوض إلا أجرا لم يسمه ثمنا وهذا بخلاف ما لو حلب اللبن فإنه لا يسمى المعاوضة عليه حينئذ إلى بيعا لأنه لم يستوف الفائدة من أصلها كما يستوفي المنفعة من أصلها فلما كانت الفوائد العينية يمكن فصلها عن أصلها كان لها حالان:
حال تشبه فيه المنافع المحضة وهي حال اتصالها واستيفائها كاستيفاء المنفعة
وحال يشبه فيه الأعيان المحضة وهي حال انفصالها وقبضها كقبض الأعيان فإذا كان صاحب الشجر هو الذي يسقيها ويعمل عليها حتى يصلح الثمرة فإنما يبيع ثمرة محضة كما لو كان هو الذي يشق الأرض ويبذرها ويسقيها حتى يصلح الزرع فإنما يبيع زرعا محضا وإن كان المشتري هو الذي يجد ويحصل كما لو باعها على الأرض وكان المشتري هو الذي ينقل ويحول
وبهذا جمع النبي ﷺ بينهما في النهي حيث نهى عن بيع الحب حتى يشتد وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه فإن هذا بيع محض للثمرة والزرع وأما إذا كان المالك يدفع الشجرة إلى المكتري حتى يسقيها ويلقحها ويدفع عنها الأذى فهو بمنزلة دفع الأرض إلى من يشقها ويبذرها ويسقيها ولهذا سوى بينهما في المساقاة والمزارعة فكما أن كرا الأرض ليس ببيع كزرعها فكذلك كرا الشجر ليس ببيع لثمرها بل نسبة كرا الشجر إلى كرا الأرض كنسبة المساواة إلى المزارعة هذا معاملة بجزء من النماء وهذا كراء بعوض معلوم
فإذا كانت هذه الفوائد قد ساوت المنافع في الوقت لأصلها وفي التبرعات بها وفي المشاركة بجزء من نمائها وفي المعاوضة عليها بعد صلاحها فكذلك يساويها في المعاوضة على استفادتها وتحصيلها ولو فرق بينهما بأن الزرع إنما يخرج بالعمل بخلاف الثمر فإنه يخرج بلا عمل كان هذا الفرق عديم النظير بدليل المساقاة والمزارعة وليس بصحيح فإن للعمل تأثيرا في الإثمار كما له تأثير في الإنبات ومع عدم العمل عليها فقد تعدم الثمرة وقد تنقض فإن من الشجر لو لم يخذم لم يثمر ولو لم يكن للعمل عليه تأثيرا أصلا لم يجز دفعه إلى عامل بجزء من ثمره ولم يجز في مثل هذه الصورة إجارته قبل بدو صلاحه فإنه تبع محض للثمرة لا إجارة للشجر ويكون كمن أكرى أرضه لمن يأخذ منها ما ينبته الله بلا عمل أحد أصلا قبل وجوده
فإن قيل: المقصود بالعقد هنا غرر لأنه قد يثمر قليلا وقد يثمر كثيرا يقال ومثله في كراء الأرض فإن المقصود بالعقد غرر أيضا على هذا التقدير فإنها قد تنبت قليلا وقد تنبت كثيرا وإن قيل المعقود عليه هناك التمكن من الازدراع لا نفس الزرع النابت قيل والمعقود عليه هنا التمكن من الاسثتمار لا نفس الثمر الخارج ومعلوم أن المقصود فيهما إنما هو الزرع والثمر إنما يجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك كما أن المقصود باكتراء الدار إنما هو التمكن من السكنى وإذا وجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك فالمقصود في اكتراء الأرض للزرع إنما هو نفس الأعيان التي تحصل ليس كاكتراء السكنى أو للبناء فإن المقصود هناك نفس الانتفاع بجانب الأعيان فيها وهذا بين عند التأمل لا يزيده البحث عنه إلى وضوحا لا بد أن الذي نهى عنه النبي ﷺ من بيع الثمرة قبل زهوها وبيع الحب قبل اعتداده ليس هو إن شاء الله إكراءها لمن يجعل ثمرتها وزرعها بعمله وسقيه ولا هذا أخل في نهيه لفظا ولا معنى
يوضح ذلك: أن البائع لثمرتها والعمل عليها حتى يتمكن المشتري من الجداد كما على بائع الزرع تسليم سقيه حتى يتمكن المشتري من الحصاد فإن هذا من تمام التوفيه ومؤنة التوفية على البائع كالكيل والوزن
وأما المكري لها لمن خدمها حتى يثمر فهو كمكري الأرض لمن يخدمها حتى تبنت ليس على المكري عمل أصلا وإنما عليه التمكين من العمل الذي يحصل به الثمر والزرع
لكن يقال: طرد هذا أن يجوز إكراء البهائم لمن يعلفها ويسقيها ويحتلب لبنها
قيل: إن جوزنا على إحدى الروايتين أن يدفع الماشية لمن يعلفها ويسقيها بجزء من درها ونسلها جاز دفعها إلى من يعمل عليها لدرها ونسلها بشيء مضمون
وإن قيل: فهلا جاز إجارتها لاختلاف لبنها كما جاز إجارة الظئر؟
قيل: نظير إجارة الظئر أن يرضع بعمل صاحبها للغنم لأن الظئر هي ترضع الطفل فإذا كانت هي التي توفي المنفعة فنظيره أن يكون المؤجر هو الذي يوفي منفعة الإرضاع وحينئذ فالقياس جوازه فلو كان لرجل غنم فاستأجر غنم رجل لأن ترضعها لم يكن هذا ممتعا وأما إن كان المستأجر هو الذي يحتلب اللبن أو هو الذي يستوفيه فهذا مشتري اللبن ليس مستوفيا لمنفعة ولا مستوفيا للعين بعمل وهو شبيه لاشتراء الثمرة واحتلابه كاقتطافها وهو الذي نهى عنه بقوله لا تباع لبن في ضرع بخلاف ما لو استأجرها لأن يقوم عليها ويحتلب لبنها فهذا نظير اكتراء الأرض والشجر
فصل
هذا إذا اكتراه الأرض والشجر أو الشجر وحدها لأن يخدمها ويأخذ الثمرة بعوض معلوم فإن باعه الثمرة فقط وإكراء الأرض للسكنى فهنا هنا لا يجيء إلا الأصل الأول المذكور عن ابن عقيل وبعضه عن مالك وأحمد في إحدى الروايتين إذا كان الأغلب هو السكنى
وهو أن الحاجة داعية إلى الجمع بينهما فيجوز في الجمع ما لا يجوز في التفريق كما يقدم من النظائر وهذا إذا كان كل واحد من السكنى والثمرة مقصودا له كما يجري في حوائط دمشق فإن البستان يكترى في المدة الصيفية للسكنى فيه وأخذ ثمره من غير عمل الثمرة أصلا بل العمل على المكري المضمن
وعلى ذلك الأصل فيجوز وإن كان الثمر لم يطلع بحال سواء كان جنسا واحدا أو أجناسا متفرقة كما يجوز ذلك في القسم الأول فإنه إنما جاز لأجل الجمع بينه وبين المنفعة وهو في الحقيقة جمع بين بيع وإجارة بخلاف القسم الآخر فإنه قد يقال هو إجارة لأن مؤنة توفيه الثمر هنا على المضمن وبعمله يصير ثمرا بخلاف القسم الأول فإنه إنما يصير مثمرا بعمل المستأجر
ولهذا يسميه الناس ضمانا وليس بيعا محضا ولا إجارة محضة فسمي باسم الإلتزام العام في المعاوضات وغيرها وهو الضمان كما سمي الفقهاء مثل ذلك في الإلتزام العام في المعاوضات وغيرها وهو الضمان كما سمي الفقهاء مثل ذلك في قوله: ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه وكذلك يسمى القسم الأول ضمانا أيضا لكن ذاك يسمى إجارة وهذا إذا سعى إجارة أو إكتراء فلأن نسميه إجارة أوضح أو إكتراء وفيه بيع أيضا فأما إن كانت المنفعة ليست مقصودة أصلا وإنما جاز لأجل جداد الثمرة مثل أن يشتري عنبا أو نخلا ويريد أن يقيم في الحديقة لقطافه
فهذا لا يجوز قبل بدو صلاحه لأن المنفعة إنما قصدت هنا لأجل الثمر فلأن يكون الثمر تابعا لها ولا يحتاج إلى إجارتها إلا إذا جاز بيع الثمر بخلاف القسم الذي قبله فإن المنفعة إذا كانت مقصودة إحتاج إلى استئجارها واحتاج مع ذلك إلى اشتراء الثمرة فاحتاج إلى الجمع لأن المستأجر لا يمكنه إذا استأجر المكان للسكنى أن يدع غيره يشتري الثمرة ولا يتم غرضه من الانتفاع إلا أن يكون له ثمرة يأكلها كان مقصوده الانتفاع بالسكنى في ذلك المكان والأكل من الثمر الذي فيه ولهذا إذا كان المقصود الأعظم هو السكنى وإنما الشجر قليلة مثل أن يكون في الدار نخلات أو عريش عنب ونحو ذلك
فالجواز هنا مذهب مالك وقيا أكثر نصوص أحمد وغيره وإن كان المقصود مع السكنى التجارة في الثمر وهو أكثر منفعة الأرض فالمنع هنا أوجه منه في التي قبلها كما فرق بينهما مالك وأحمد وإن كان المقصود السكنى والأكل فهو شبيه بما لو قصد السكنى والشرب من البئر وإن كان ثمر المأكول أكثر فهنا الجواز فيه أظهر من التي قبلها ودون الأولى على قول من يفرق
وأما على قول ابن عقيل المأثور عن السلف فالجميع جائز كما قررناه لأجل الجمع فإن اشتراط مع ذلك أن يحرث له المضمن معناه فهو كما لو استأجر أرضا من رجل للزرع على أن يحرثها المؤجر فقد استأجر أرضه واستأجر منه عملا في الذمة
وهذا جائز كما لو استكرى منه جملا أو حمارا على أن يحمل المؤجر للمستأجر عليه متاعه وهذا إجارة عين وإجارة على عمل في الذمة إلا أن يشترط عليه أن يكون هو الذي يعمل العمل فيكون قد استأجر عينين ولو لم تكن السكنى مقصودة وإنما المقصود إبتياع ثمرة في بستان ذي أجناس والسقي على البائع
فهذا عند الليث يجوز وهو قياس القول الثالث الذي ذكرناه عن أصحابنا وغيرهم وقررناه لأن الحاجة إلى الجمع بين الجنسين كالحاجة إلى الجمع بين بيع الثمرة والمنفعة وربما كان أشد فإنه قد لا يمكن بيع كل جنس عند بدو صلاحه فإنه في كثير من الأوقات لا يحصل ذلك وفي بعضها إنما يحصل بضرر كثير وقد رأيت من يواطئ المشتري على ذلك ثم كلها صلحت ثمرة يسقط عليها بعض الثمر
وهذا من الحيل الباردة التي لا يخفى حالها كما تقدم وما زال العلماء والمؤمنون ذوو الفطر السليمة ينكرون تحريم مثل هذا مع أن أصول الشريعة تنافي تحريمه لكن ما سمعوه من العمومات اللفظية والقياسية التي اعتقدوا شمولها هذا مع ما سمعوه من قول العلماء الذين يدرجون هذا العموم الذي أوجب ما أوجب هو قياس ما قررناه من جواز بيع المقثاة جميعها بعد بدو صلاحها لأن تفريق بعضها متعسر ومتعذر كتعسر تفريق الأجناس في البستان الواحد وإن كانت المشقة في المقثاة أوكد ولهذا جوزها من منع ذلك في الأجناس كمالك فإن قيل هذه الصورة داخلة في عموم نهي النبي ﷺ عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه بخلاف ما إذا أكراه الأرض والشجر ليعمل عليه فإنه كما قررتم ليس بداخل في العموم لأنه إجارة لمن يعمل لا بيع لغير وأما هذا فبيع للثمرة فيدخل في النهي فكيف يخالفون النهي فلذا الجواب عن هذا كالجواب عما يجوز بالسنة والإجماع من ابتياع الشجر مع ثمره الذي لم يصلح وابتياع الأرض مع زرعها الذي لم يشتد
وما قررناه من ابتياع المقاثي مع أن بعض خضرها لم يخلق وجواب ذلك كله بطريقين
أحدهما: أن يقال أن النهي لم يشمل بلفظه هذه الصورة لأن نهيه عن بيع الثمر انصراف إلى البيع المعهود عند المخاطبين وما كان مثله لأن لام التعريف ينصرف إلى ما يعرفه المخاطبون فإن كان هناك شخص معهود أو نوع معهود انصرف الكلام إليه كما انصرف إلى الرسول المعين في قوله تعالى: { لا تجعلوا دعاء الرسول } وقوله: { فعصى فرعون الرسول } إلى النوع المخصوص بنهيه عن بيع الثمر بالثمر فإنه لا خلاف بين المسلمين أن المراد بالثمر هنا الرطب دون العنب وغيره وإن لم يكن معهود شخص ولا نوع انصرف إلى العموم
فالبيع المذكور للثمر هو بيع الثمر الذي يعهدونه دخل كدخول القرن الثاني والقرن الثالث فيما خاطب به الرسول ﷺ أصحابه ونظير هذا ما ذكره أحمد في نهي النبي ﷺ أصحابه ونظير هذا ما ذكره أحمد في [ نهي النبي ﷺ عن بول الرجل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ] بحمله على ما كان معهودا على عهده من المياه الدائمة كالآبار والحياض التي بين مكة والمدينة
فأما المصانع الكبار التي لا يمكن نزحها التي أحدثت بعده فلم يدخله في العموم لوجود الفارق المعنوي وعدم العموم اللفظي ويدل على عدم العموم في مسألتين في الصحيحين عن أنس بن مالك [ أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الثمار حتى تزهو قيل: وما تزهو؟ قال: تحمر أو تصفر ] وفي لفظ: [ نهى عن بيع الثمر حتى يزهو ] وفي لفظ مسلم: [ نهى عن بيع الثمر حتى يزهو ] وفي لفظ مسلم: [ نهى عن بيع ثمر النخل حتى يزهو ]
ومعلوم أن ذلك هو ثمر النخل كما جاء مقيدا لأنه هو الذي يزهو فيحمر أو يصفر وإلا فمن الثمار ما يكون نضجها بالبياض كالتوت والتفاح والعنب الأبيض والأجاص الأبيض الذي يسميه أهل دمشق الخوخ والخوخ الأبيض الذي يسميه الفرس ويسميه الدمشقيون الدراقن أو باللبن بلا تغير لون كالتين ونحوه وكذلك في الصحيحين عن جابر نهى [ النبي ﷺ عن بيع الثمرة حتى تشقح قيل: وما تشقح؟ قال: تحمر أو تصفر ] ويؤكل منها وهذه الثمرة هي الرطب
وكذلك في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ [ ولا تبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ولا تبايعوا التمر بالتمر ] والتمر الثاني هو للرطب بلا ريب
فكذلك الأول لأن اللفظ واحد وفي صحيح مسلم أيضا عن النبي ﷺ: [ لا تبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة فإن بدو صلاحه حمرته أو صفرته ] فهذه الأحاديث التي فيها لفظ الثمر وأما غيره فصريح في النخل كحديث ابن عباس المتفق عليه: [ نهى النبي ﷺ عن بيع النول حتى يأكل منه أو يؤكل ] وفي رواية لمسلم عن ابن عمر: [ نهى النبي ﷺ عن بيع النخل حتى يزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري ] والمراد بالنخل ثمره بالاتفاق لأنه ﷺ قد جوز اشتراء النخل المؤبر مع اشتراط المشتري لثمرته
فهذه النصوص ليست عامة عموما لفظيا في كل ثمرة في الأرض وإنما هي عامة لفظا لما عهده المخاطبون وعامة معنى لكل ما في معناه وما ذكرنا عدم تحريمه ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معناه فلم يتناوله دليل الحرمة فيبقى على الحل وهذا وحده دليل على عدم التحريم وبه يتم ما نبهنا عليه أولا أن الأدلة النافية للتحريم من الأدلة الشرعية والاستصحابية يدل على ذلك لكن بشرط نفي الناقل المغير وقد بينا انتفاءه
الطريق الثاني: أن نقول وإن سلمنا العموم اللفظي لكن ليست مرادة بل هي مخصوصة بما ذكرناه من الأدلة التي تخص مثل هذا العموم فإن هذا العموم مخصوص بالسنة والإجماع في الثمر التابع لشجره حيث قال ﷺ: [ من ابتاع نخلا لم تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ] أخرجاه من حديث ابن عمر
فجعلها للمبتاع إذا اشترطها بعد التأبير ومعلوم أنها حينئذ لم يبد صلاحها ولا يجوز بيعها مفردة والعموم المخصوص بالنص أو الإجماع يجوز أن يخص منه صور في معناه عند جمهور الفقهاء من سائر الطوائف ويجوز أيضا تخصيصه بالإجماع وبالقياس القوي وقد ذكرنا من آثار السلف ومن المعاني ما يخص مثل هذا لو كان عاما أو بالاشتداد بلا تغيير لون كالجوز واللوز فبدو الصلاح في الثمار متنوع تارة يكون بالرطوبة بعد اليبس وتارة بلينه وتارة بتغير لونه بحمرة أو صفرة أو بياض وتارة لا يتغير
وإذا كان قد نهى عن بيع الثمرة حتى تحمر أو تصفر علم أن هذا اللفظ لم يشمل جميع أجناس الثمار وإنما يشمل ما يأتي في الحمرة والصفرة وقد جاء مقيدا أنه النخل فتدبر ما ذكرناه في هذه المسألة فإنه عظيم النفع في هذه القضية التي عمت بها البلوى وفي نظائرها وانظر في عموم كلام الله عز وجل ورسوله ﷺ لفظا ومعنى حتى يعطي حقه وأحسن ما استدل على معناه بآثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده فإن ضبط ذلك يوجب توافق أصول الشريعة وجريها على الأصول الثابتة المذكورة في قوله تعالى: { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم }
وأما نهيه ﷺ عن المعاوضة التي جاء مفسرا وفي رواية أخرى بأنه بيع السنين فهو والله أعلم مثل نهيه عن بيع حبل الحبلة وإنما نهى أن يبتاع المشتري الثمرة التي يستثمرها رب الشجر فأما اكتراء الشجر والأرض حتى يستثمرها فلا يدخل هذا في البيع المطلق وإنما هو نوع من الإجارة ونظير هذا ما تقدم من حديث جابر في الصحيح من أنه نهى عن كراء الأرض وإنه نهى عن المخابرة وإنه نهى عن المزارعة وإنه قال: [ لا تكروا الأرض ] فإن المراد بذلك الكراء الذي كانوا يعتادونه من الكراء والمعاوضة الذين يرجع كل منهما إلى بيع الثمرة قبل أن تصلح وإلى المزارعة المشروط فيها جزء معين: وهذا نهي عما فيه مفسدة راجحة هذا نهى عن الغرر في جنس البيع وذلك نهى عن الغرر في جنس الكراء العام الذي يدخل فيه المساقاة والمزارعة وقد بين في كليهما أن هذه المبايعة وهذه المكاراة كانت تفضي إلى الخصومة والشنآن وهو ما ذكره الله في حكمة تحريم الميسر بقوله تعالى: { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر }