« سورة غافر » | |
---|---|
الترتيب في القرآن | 40 |
عدد الآيات | 85 |
عدد الكلمات | 1228 |
عدد الحروف | 4984 |
الجزء | {{{جزء}}} |
الحزب | {{{حزب}}} |
النزول | مكية |
سورة غافر
هدف السورة: أهمية الدعوة وتفويض الأمر لله
سورة غافر مكيّة وهي من أكثر سور القرآن الكريم التي فيها دعاء فقد ابتدأت بذكر صفتين من صفات رحمة الله ومغفرته (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) آية 3 ثم أعقبت بدعوة الملائكة للمؤمنين (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) آية 7 وفيها دعوة الله عباده لدعائه وأعقب هذا الدعاء بالاستجابة (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) آية 60 وفيها دعوة الله عباده بالدعاء له وهو يضمن لهم الإجابة فهو غافر الذنب وقابل التوب الله.
والسورة تتحدث عن نماذج أناس دعوا إلى الله والأهم أنهم فوّضوا أمرهم لله لأن الداعي إلى الله قد يواجه بالأذى ممن يدعوهم ولهذا يحتاج إلى أن يفوض أمره إلى الله بعد أن يبذل كل ما بوسعه في سبيل الدعوة لله. ومن هذه النماذج نموذج موسى في دعوته لفرعون الطاغية الجبّار وقومه وقد جابه فرعون موسى حتى كاد أن يقتله فوّض موسى أمره إلى الله (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) آية 26 و27 وفي هذا الموقف الصعب يظهر من آل فرعون رجل يكتم إيمانه وهذه المرة الأولى التي يحدثنا القرآن عن قصة هذا المؤمن من آل فرعون مع أن قصة موسى تكررت كثيراً في القرآن لكن وجود هذه الجزئية من القصة هنا يخدم هدف السورة تماماً. وهذا الرجل المؤمن جادل فرعون وقومه بأساليب متعددة:
باستخدام المنطق (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) آية 28
باستخدام العاطفة (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) آية 29، ومن اللافت في هذه الدعوة أنه نسب الملك لهم أي لآل فرعون (لكم الملك) ولمّا تحدث عن العذاب شمل نفسه معهم (فمن ينصرنا من بأس الله) اظهاراً للمودة وحب الخير لقومه
باستخدام الحبّ والخوف عليهم والحرص على نجاتهم (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ) آية 30 و 31
باستخدام التاريخ (وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ) آية 34، التذكير بتاريخ من سبق وصنيعهم مع رسولهم للعبرة والإتعاظ.
ثم ذكّر بيوم القيامة وبلقاء الله لأنها من أهم الأسباب التي ترقق القلب(وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) آية 32 ، كلمة (التناد) في وصف يوم القيامة ليظهر لنا صورة كيف ينادي الناس بعضهم البعض في هذا الحشر العظيم وفي هذا الموقف الهائل وحرصه على نجاتهم في هذا الموقف. (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) آية 33. ثم عاد إلى العقل (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) آية 41، ثم عاد للتفويض مرة ثانية بعد أن جادلهم بكل الوسائل الممكنة، فلمّا فوّض أمره إلى الله (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) آية 44 جاء الرد من الله (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ) آية وكذلك مع موسى (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) آية 27
سميّت السورة بـ (غافر) لأن الله ذكر لنا هذا الوصف الجليل الذي هو من صفاته الحسنى (غافر الذنب وقابل التوب) وكرر ذكر المغفرة في السورة وفي دعوة الرجل المؤمن (وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفّار) وهذا كله لنعلم أن الله رحيم بالعباد وعليهم أن لا يقنطوا من رحمته لأن رحمته سبقت غضبه ورحمته وسعت كل شيء.
هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل ، قضية الإيمان والكفر ، قضية الدعوة والتكذيب وأخيراً قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق ، وبأس الله الذي يأخد العالين والمتجبرين ...وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم ، واستغفار الملائكة لهم ، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم .
جوالسورة كله – كأنه جو معركة ، وهي المعركة بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والطغيان وبين المتكبرين والمتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخدهم بالمار والتنكيل.تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين !
ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين . كما يتمثل في عرض مشاهد يوم القيامة –هذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر – وتفرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله ، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة .
ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة بإيقاعات ذات رنين خاص : ( غافر الذنب ، وقابل الثوب ، شدشد العقاب . ذي الطول .لا إله إلا هو . إليه المصير ) ..فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس . ومعانيها كذلك مساندة لإيقاعها الموسيقي !
كذلك نجد كلمة البأس . وبأس الله . وبأسنا ..مكرر تتردد مي مواضع متفرقة من السورة . وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها .
والسورة كلها تبدو كأنها مطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين . وقد ترق أحياناُ فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس القلب برفق ، وعي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين ، أو تعرض الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية . وتضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة من هذه وتلك ...
من مصارع الغابرين : ( كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم )
ومن مشاهد القيامة : (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين )
ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب : (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمده )
ومن اللمسات الموحية عرض أيات الله في الأنفس وفي الافاق : (هو الذي خلقكم من تراب ، ثم من نظفة ، ثم من علقة ، ثم يخرجكم طفلا ، ثم لتبلغوا أشدكم . ثم لتكونوا شيوخاً . ومنكم من يتوفي من قبل )
ويجري سياق السورة في موضوعاتها في أربعة أشواط
يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة : (حم ، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) ثم تقرر أن الوجود كله مستسلم لله ، والكفار في موقف الذلة والانكسار يقرون بذنبهم ويعترفون بربهم فلا ينفعهم الأعتراف .
ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم ، وتعرض قصة موسى من فرعون وهامان وقارون ، والحوار بين اللذين استكبروا مع خزنة جهنم ، وقي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله - صلى الله عليه وسلم – إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق والتوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار .
فأما الشوط الثالت فيبدأ بتقرير أن اللذين يجادلون في آيات الله بغير حجه ولابرهان إنما يدفعهم لهذا كبر في نفوسهم عن الحق ، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر ، ويوجه الله رسوله إلى الصبر مرة أخرى ، والثقة بأن وعد الله حق ، سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه .
والشوط الأخير في السورة يتصل بالشوط الثالث – فبعد توجيه الرسول – صلى الله عليه وسلم – للصبر والانتظار يذكر أن الله قد أرسل رسلاً قبله كثيرين : (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ) ويصور ختام السورة نهاية المتكبرين ، ويتفق مع جو السورة وظلها وطابعها الأصيل .
المصدر : في ظلال القرآن - سيد قطب