هذه السورة قطعة موسيقية مطردة الإيقاع ، قوية التنغيم ، ظاهرة الرنين ، مع صبغة من الحزن في إيقاعها ، ومسحة من الأسى في تنغيمها ، وطائف من الشجى في رنينها ، يساند هذه الظاهرة ويتناسق معها صور السورة ومشاهدها ، ثم روح الإيحاء فيها . وخاصة في اwwwلشطر الأخير بعد انتهاء حكاية قول الجن ، والاتجاه بالخطاب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - هذا الخطاب الذي يثير العطف على شخص الرسول في قلب المستمع لهذه السورة ، عطفاً مصحوباً بالحب وهو يؤمر أن يعلن تجرده من كل شيء في أمر هذه الدعوة إلا البلاغ ، والرقابة الالهية المضروبة حوله وهو يقوم بهذا البلاغ :
( قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا ... قل : إني لا أملك لكم ضراً ولا رشدا .. قل : إني لن يجيرني من الله أحد ولم أجد من دونه ملتحدا ، إلا بلاغاً من الله ورسالاته ، ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ، حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً .. قل : أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً ، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، وأحاط بما لديهم ، وأحصى كل شيء عدداً ) ...
وذلك كله إلى جانب الايقاع النفسي للحقائق التي وردت في حكاية قول الجن ، وبيانهم الطويل المديد . وهي حقائق ذات ثقل ووزن في الحس والتصور ، والاستجابة لها تغشى الحس بحالة من التدبر والتفكير ، تناسب مسحة الحزن ورنة الشجى المتمشية في إيقاع السورة الموسيقي !
إنها ابتداء شهادة من عالم آخر بكثير من قضايا العقيدة التي كان المشركون يجحدونها ويجادلون فيها فيها أشد الجدل ويرجمون في أمرها رجماً لا يستندون فيها إلى حجة ، ويزعمون أحياناً أن محمداًّ – صلى الله عليه وسلم – يتلقى من الجن ما يقوله لهم عنها ! فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها ، وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئاً .
ثم إنها تصحيح لأوهام كثيرة عن عالم الجن في نفوس المخاطبين ابتداء بهذه السورة ، وفي نفوس الناس جميعاً من قبل ومن بعد ، ووضع حقيقة هذا الخلق الغيب في موضعها بلا غلو ولا اعتساف فقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعتقدون أن للجن سلطاناً في الارض .وبين الإغراق في الوهم ، والإغراق في الإنكار . يقرر الإسلام حقيقة الجن ، ويصحح التصورات العامة عنهم ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم :
فالجن لهم حقيقة موجودة فعلاً وهم كما يصفون أنفسهم : ( أما منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً )
ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون : ( وأنه كان يقول سفيهاً على الله شططاً ، وأنا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً )
وهم قابلون للهداية من الضلال مستعدون لإدراك القرآن سماعاً وفهماً وتأثراً : ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا : إما سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فأمنا به ، ولن نشرك بربنا أحداً )
وأنهم قابلون بخلقتهم لتوقيع الجزاء عليهم وتحقيق نتائج الايمان والكفر فيهم : ( وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ، فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً . وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون ، فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ، وأما القاسطون ، فكانوا لجهنم حطبا )
وأنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهم : ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا )
سورة الجن | |
---|---|
الترتيب في القرآن | 72 |
عدد الآيات | 28 |
عدد الكلمات | 286 |
عدد الحروف | 1089 |
الجزء | {{{جزء}}} |
الحزب | {{{حزب}}} |
النزول | مكية |
وأن الجن لا قوة لهم مع قوة الله ولاحيلة : ( وأنا ظننا أن لم لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً )
وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون . أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقاً فلا ندري علام يبنون هذا الإنكار ، وتسميته خرافة ! .
المصدر : قي ظلال القرآن – سيد قطب .