→ كتاب الصلاة (مسألة 275 - 280) | ابن حزم - المحلى كتاب الصلاة (مسألة 281 - 284) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الصلاة (مسألة 285) ← |
كتاب الصلاة
الصلوات المفروضات الخمس
281 - مسألة : المفروض من الصلاة على كل بالغ عاقل حر أو عبد ذكر أو أنثى خمس وهي : الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة ، وهي العتمة ، وصلاة الفجر . فالصبح ركعتان أبدا ، على كل أحد ، من صحيح أو مريض أو مسافر أو مقيم ؛ خائف أو آمن ؛ والمغرب ثلاث ركعات أبدا ؛ كما قلنا في الصبح سواء سواء . وأما الظهر والعصر والعشاء الآخرة - فكل واحدة منهن على المقيم - مريضا كان أو صحيحا ، خائفا أو آمنا - أربع ركعات أربع ركعات ؛ وكل هذا إجماع متيقن مقطوع به ، لا خلاف فيه بين أحد من الأمة قديما ، ولا حديثا ، ولا في شيء منه ؛ وكل واحدة منهن على المسافر الآمن ركعتان ركعتان ، وأما المسافر الخائف فإن شاء صلى كل واحدة منهن ركعتين ، وإن شاء صلى كل واحدة منهن ركعة واحدة ، والخلاف موجود في كل هذا فيما ذلك السفر ؛ وفي مقدار ذلك السفر من الزمان ومن المسافة ؛ وفي هل ذلك القصر عليه فرض أم هو فيه مخير ، وفي هل تجزئ ركعة واحدة في الخوف في السفر أم لا . وسنذكر البرهان على الحق من ذلك ، وبطلان الخطأ فيه ، في أبوابه إن شاء الله عز وجل ، ولا حول ، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وبه تعالى نستعين وبه نتأيد .
أقسام التطوع
282 - مسألة : أوكد التطوع ما قد ذكرناه في أول مسألة من كتاب الصلاة من ديواننا هذا ، من الأقسام التي أمر بها رسول الله ﷺ مخصوصة بأسمائها ، وبعد ذلك ما لم يرد به أمر ، ولكن جاء الندب إليه . أوكد ذلك ركعتان بعد الفجر الثاني وقبل صلاة الصبح ، ثم صلاة العيدين ؛ ثم صلاة الاستسقاء وقيام رمضان ، وأربع ركعات قبل الظهر بعد الزوال ، وأربع ركعات بعد الظهر وأربع ركعات قبل العصر ، إن شاء لم يسلم إلا في آخرهن ، وإن شاء سلم من كل ركعتين ، وركعتان بعد صلاة العصر ، وركعتان بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب ، وركعتان بعد صلاة المغرب ، وركعتان قبل صلاة العتمة ؛ وركعتان عند القدوم من السفر في المسجد ؛ وما تطوع به المرء إذا توضأ ثم ما تطوع به المرء في نهاره وليله . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ثنا يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج أخبرني عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة أم المؤمنين { أن النبي ﷺ لم يكن على شيء من النوافل ، أشد تعاهدا منه على ركعتين قبل الصبح } . وبه إلى مسلم : حدثنا محمد بن عبيد الغبري ثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام بن عامر عن عائشة أم المؤمنين عن النبي ﷺ قال { ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها } . وقد { صلى رسول الله ﷺ صلاة الاستسقاء } على ما سنذكره في بابها إن شاء الله عز وجل ، { وحض عليه السلام أيضا على قيام رمضان } على ما نذكره في بابه إن شاء الله عز وجل . وبه إلى مسلم : حدثنا يحيى بن يحيى النيسابوري ثنا هشيم عن خالد هو الحذاء - عن عبد الله بن شقيق قال : سألت عائشة عن صلاة رسول الله ﷺ عن تطوعه ؟ فقالت : { كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعا ؛ ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين ؛ ويصلي بالناس المغرب ، ثم يدخل فيصلي ركعتين ، ويصلي بالناس العشاء ، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين } . حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا حفص بن عمر هو الحوضي - ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه { أن رسول الله ﷺ كان يصلي قبل العصر ركعتين } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا إسماعيل بن مسعود ثنا يزيد بن زريع ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة : سألنا عليا عن صلاة رسول الله ﷺ ؛ فوصف ، قال : { كان يصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ثنتين ، ويصلي قبل العصر أربعا ، يفصل بين كل ركعتين بتسليم على الملائكة المقربين والنبيين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين } . وبه إلى أحمد بن شعيب : أنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن عبد الرحمن ثنا حصين بن عبد الرحمن عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة قال : سألنا عليا عن صلاة رسول الله ﷺ فوصف قال : { كان يصلي قبل الظهر أربع ركعات ؛ يجعل التسليم في آخر ركعة ، وبعدها أربع ركعات يجعل التسليم في آخر ركعة } . قال أبو محمد : لا تعارض بين شيء مما ذكرنا ، بل كل ذلك حسن مباح ؛ من رواية الثقات الأثبات . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا عبد الله بن محمد النفيلي ثنا ابن علية هو إسماعيل - عن الجريري عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله ﷺ { بين كل أذانين صلاة لمن شاء } . قال علي : دخل في هذا العموم ما بين أذان العتمة ، وإقامتها ، وما بين أذان المغرب ، وإقامتها ؛ وما بين أذان صلاة الصبح ، وإقامتها . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن المثنى ثنا الضحاك يعني أبا عاصم - ثنا ابن جريج أنا ابن شهاب أن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أخبره عن أبيه وعمه عبد الله وعبيد الله ابني كعب بن مالك عن أبيهما : { أن رسول الله ﷺ كان لا يقدم من سفر إلا نهارا في الضحى ، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس فيه } . وبه إلى مسلم : ثنا عبد بن حميد أنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال : { كان رسول الله ﷺ يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة } . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا إسحاق بن نصر ثنا أبو أسامة عن أبي حيان التيمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة { أن رسول الله ﷺ قال ؛ لبلال عند صلاة الفجر : يا بلال ؛ حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام ؟ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة قال بلال : ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعة ليل أو نهار ، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي } .
فصل في الركعتين قبل المغرب
283 - مسألة : قال أبو محمد : منع قوم من التطوع بعد غروب الشمس ، وقبل صلاة المغرب ، منهم مالك وأبو حنيفة ، وما نعلم لهم حجة إلا أن أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي قال ثنا محمد بن أحمد بن مفرج ثنا الصموت ثنا البزار ثنا عبد الواحد بن غياث ثنا حيان بن عبيد الله عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي ﷺ { بين كل أذانين صلاة إلا المغرب } . قال أبو محمد : هذه اللفظة انفرد بها حيان بن عبيد الله - وهو مجهول - والصحيح هو ما رواه الجريري عن عبد الله بن بريدة ، وقد ذكرناه آنفا . وذكروا عن إبراهيم النخعي : أن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا يصلونها وهذا لا شيء ؛ أول ذلك أنه منقطع ؛ لأن إبراهيم لم يدرك أحدا ممن ذكرناه ، ولا ولد إلا بعد قتل عثمان بسنين ، ثم لو صح لما كانت فيه حجة ؛ لأنه ليس فيه أنهم رضي الله عنهم نهوا عنهما ، ولا أنهم كرهوهما ، ونحن لا نخالفهم في أن ترك جميع التطوع مباح ، ما لم يتركه المرء رغبة عن سنة رسول الله ﷺ فهذا هو الهالك ، ثم لو صح نهيهم عنهما - ومعاذ الله أن يصح - لما كانت في أحد منهم حجة على رسول الله ﷺ ولا على من صلاهما من الصحابة رضي الله عنهم ، وقد خالفوا أبا بكر وعمر وجماعة من الصحابة في المسح على العمامة ، ومعهم سنة رسول الله ﷺ فلا عجب أعجب من إقدامهم على مخالفة الصحابة إذا اشتهوا وتعظيمهم مخالفتهما إذا اشتهوا وهذا تلاعب بالدين لا خفاء به نعني هؤلاء المقلدين المتأخرين . وذكروا عن ابن عمر أنه قال : ما رأيت أحدا يصليهما ، وهذا لا شيء أول ذلك أنه لا يصح ؛ لأنه عن أبي شعيب أو شعيب ، ولا ندري من هو ؟ وأيضا فليس في هذا لو صح نهي عنهما ، ونحن لا ننكر ترك التطوع ما لم ينه عنه بغير حق ثم لو صح عنه النهي عنهما ؛ وهو لا يصح أبدا ؛ بل قد روي عنه جواز صلاتهما ؛ لما كان فيه حجة على رسول الله ﷺ ولا على سائر الصحابة النادبين إليهما ؛ ومن العجائب أنهم لا يرون حجة قول ابن عمر { صليت خلف رسول الله ﷺ وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم يقنت أحد منهم } إذ لم يوافق تقليدهم ، وقد صح هذا عنه ثم يجعلون ما لم يصح عنه ، حجة إذا وافق أهواءهم وهذا عجب جدا . قال علي : والحجة فيها هو ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن يزيد هو المقري - ثنا سعيد بن أبي أيوب ثنا يزيد بن أبي حبيب سمعت مرثد بن عبد الله اليزني هو أبو الخير قال : { أتيت عقبة بن عامر الجهني فقلت : ألا أعجبك من أبي تميم ؛ يركع ركعتين قبل صلاة المغرب فقال عقبة إنا كنا نفعله على عهد رسول الله ﷺ فسألت فما يمنعك الآن ؟ قال : الشغل } . وبه إلى البخاري : ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر عن غندر ثنا شعبة قال : سمعت عمرو بن عامر الأنصاري عن أنس بن مالك قال { كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب رسول الله ﷺ يبتدرون السواري حتى يخرج النبي ﷺ وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كريب وأبو بكر بن أبي شيبة ، كلاهما عن ابن فضيل عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال { كنا على عهد رسول الله ﷺ نصلي ركعتين بعد غروب الشمس ، فسألت : أكان رسول الله ﷺ يصليهما ؟ فقال : كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا } . قال علي : إن رسول الله ﷺ لا يقر إلا على الحق الحسن ، ولا يرى مكروها إلا كرهه ، ولا خطأ إلا نهى عنه . قال الله تعالى { لتبين للناس ما نزل إليهم } . قال علي : وقال بهذا جمهور الناس ، وروينا عن عبد الوارث بن سعيد عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال " كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت لكثرة من يصليهما " فهذا عموم للصحابة رضي الله عنهم . وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق ؛ كلاهما عن سفيان الثوري عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش أنه رأى عبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب يصليان الركعتين قبل صلاة المغرب . وقال حماد بن زيد عن عاصم عن زر عن عبد الرحمن وأبي مثل ذلك ، وزاد : لا يدعانهما . وعن معمر عن الزهري عن أنس : أنه كان يصلي ركعتين قبل صلاة المغرب . وعن عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن يزيد بن خمير عن خالد بن معدان عن رغبان مولى حبيب بن مسلمة : رأيت أصحاب رسول الله ﷺ يهبون إلى الركعتين قبل صلاة المغرب كما يهبون إلى الفريضة . وروينا عن وكيع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب : ما رأيت فقيها يصلي الركعتين قبل المغرب إلا سعد بن مالك ، يعني سعد بن أبي وقاص . وروينا من طريق حجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن داود الوراق عن جعفر بن أبي وحشية : أن جابر بن عبد الله كان يصلي قبل المغرب ركعتين . وعن عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن سليمان بن عبد الرحمن عن راشد بن يسار قال : أشهد على خمسة من أصحاب رسول الله ﷺ من أصحاب الشجرة أنهم كانوا يصلون ركعتين قبل المغرب . وعن محمد بن جعفر عن شعبة عن الحكم بن عتيبة : أنه صلى مع عبد الرحمن بن أبي ليلى فكان يصلي الركعتين قبل المغرب . وعن وكيع عن يزيد بن إبراهيم : سمعت الحسن البصري يسأل عن الركعتين قبل المغرب ؟ فقال : حسنتين جميلتين ؛ لمن أراد بهما وجه الله تعالى ، وبه يقول الشافعي وأصحابنا .
284 - مسألة : وأما إعادة من صلى إذا وجد جماعة تصلي تلك الصلاة ، فإن ذلك مستحب - مكروه تركه - في كل صلاة ، سواء كان صلى منفردا ؛ لعذر أو في جماعة ، وليصلها ولو مرات كلما وجد جماعة تصليها ، وقد قال قوم : لا يصليها ثانية أصلا . وقال أبو حنيفة : لا يصلي ثانية إلا الظهر والعتمة فقط ، سواء كان صلاهما في جماعة أو منفردا ، والأولى هي صلاته ؛ حاشا صلاة الجمعة ؛ فإنه إن صلاها في بيته منفردا أجزأته ، ولم يكن عليه أن ينهض إلى الجامع ، فإن خرج إلى المسجد والإمام لم يسلم بعد من صلاة الجمعة ؛ فحين خروجه لذلك تبطل صلاته التي كان صلى في بيته ، وكانت التي تصلى مع الإمام فرضه . وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن : لا تبطل صلاته التي صلى في بيته بخروجه إلى الجامع ، لكن بدخوله مع الإمام في صلاة الجمعة تبطل التي صلى في منزله . وقال مالك : يعيد من صلى في منزله صلاة فرض مع الجماعة إذا وجدها تصلي تلك الصلاة جميع الصلوات حاشا المغرب فلا يعيدها ، قال : والأمر في أي الصلاتين فرضه إلى الله تعالى ، قال : فإن صلى في جماعة لم يعد في أخرى . قال أبو محمد : أما من منع من الإعادة جملة فإنه احتج بما رويناه من طريق أبي داود : ثنا أبو كامل يزيد بن زريع ثنا حسين هو المعلم - عن عمرو بن شعيب عن سليمان بن يسار قال : أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون ، فقلت : ألا تصلي معهم ؟ قال قد صليت ، وسمعت رسول الله ﷺ يقول { لا تصلوا صلاة في يوم مرتين } . قال علي : وهذا خبر صحيح لا يحل خلافه ، ولا حجة لهم فيه ولم نقل قط ، ومعاذ الله من هذا ؛ إنه يصلي على نية أنها الصلاة التي صلى ، فيجعل في يوم واحد ظهرين أو عصرين أو صبحين أو مغربين أو عتمتين ؛ هذا كفر لا يحل القول به ؛ لأحد لكنه يصلي نافلة كما نص رسول الله ﷺ على ذلك . وأما قول أبي حنيفة ، فإنه احتج بأن التطوع بعد الصبح وبعد العصر لا يجوز واحتج بالأخبار الواردة في ذلك ، وغلبها على أحاديث الأمر ؛ وغلبنا نحن أحاديث الأمر ، وسنذكر البرهان على الصحيح من العملين إن شاء الله تعالى ، بعد تمام كلامنا في هذه المسألة وفي التي بعدها إن شاء الله . وأما قول مالك فإنهم احتجوا في المنع من أن يصلي مع الجماعة التي تصلي المغرب خاصة بأن قالوا : إن المغرب وتر النهار ، فلو صلاها ثانية لشفعها ، فبطل كونها وترا . قال علي : وهذا خطأ ؛ لأن إحداهما نافلة والأخرى فريضة ، بإجماع منا ومنهم والنافلة لا تشفع الفريضة ، بإجماع منا ومنهم . وقالوا : لا تطوع بثلاث ؛ لأن رسول الله ﷺ قال { صلاة الليل والنهار مثنى مثنى } وهذا لا حجة لهم فيه ؛ لأن الذي وجبت طاعته في إخباره بأن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ، هو الذي أمر من صلى ووجد جماعة تصلي أن يصلي معهم ولم يخص صلاة بعد صلاة ، وهو الذي أمر أن يتنفل في الوتر بواحدة أو بثلاث ، والعجب من احتجاجهم بهذا الخبر ، ونسوا أنفسهم في الوقت فقالوا : يصلي الظهر والعصر والعتمة مع الجماعة ؛ فأجازوا له التطوع بأربع ركعات لا يسلم بينها ؛ وليس ذلك مثنى مثنى ، وهذا تناقض منهم . والحق في هذا هو أن جميع أوامره ﷺ حق لا يضرب بعضها ببعض ، بل يؤخذ بجميعها كما هي . وقالوا : إن وقت صلاة المغرب ضيق ، وهذا خطأ ؛ لأن الجماعة التي وجدها تصلي ، لا شك في أنها تصلي في وقت تلك الصلاة بلا خلاف ، فما ضاق وقتها بعد ، فبطل كل ما شغبوا به في تخصيص المغرب هم والحنفيون معا ، وبالله تعالى التوفيق . وأما تخصيص المالكيين بأن يصلي من صلاها منفردا فخطأ ؛ لأنه لم يأت بتخصيص ذلك قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ، ولا رأي صحيح ، وإن كانت الصلاة فضلا لمن صلى منفردا فإنها أفضل لمن يصلي في جماعة ، ولا فرق ، وفضل صلاة الجماعة قائم في كل جماعة يجدها ، ولا فرق . وأما قولهم : إنه لا يدري أيهما صلاته فخطأ ؛ لأنهم لا يختلفون في أنه إن لم يصل مع الجماعة التي وجدها تصلي - غير راغب عن سنة رسول الله ﷺ - فلا إثم عليه ، فإذ لا خلاف عندهم في أنه إن لم يصل فلا يلزمه أن يصلي ، ولا بد ؛ فلا شك في أنها نافلة إن صلاها ؛ لأن هذه هي صفة النافلة ؛ فلا خلاف في أنه إن شاء صلاها ، وإن شاء لم يصلها . وأيضا فإنه لا يخلو إذا صلى مع الجماعة وقد صلى تلك الصلاة قبل من أن يكون نوى صلاته إياها أنه فرضه ، ونوى ذلك أيضا في التي صلى في منزله ، فإن كان فعل هذا ، فقد عصى الله تعالى ورسوله ﷺ وخرق الإجماع ؛ في أن صلى صلاة واحدة في يوم مرتين ؛ على أن كل واحدة منهما فرضه الذي أمر به ، أو يكون لم ينو شيئا من ذلك في كلتيهما ؛ فهذا لم يصل أصلا . ولا تجزيه واحدة منهن ، وهو عابث عاص ؛ لله تعالى أو يكون نوى في الأولى أنها فرضه وفي الثانية أنها نافلة أو في الأولى أنها نافلة وفي الثانية أنها فرضه ، فهو كما نوى ، ولا يمكن غير هذا أصلا وقال الأوزاعي : الثانية هي فرضه . قال علي : والحق في هذا : أنه إن كان ممن له عذر في التخلف عن الجماعة فصلى وحده ، أو صلى في جماعة ، فالأولى فرضه بلا شك ؛ لأنها هي التي أدى على أنها فرضه ، ونوى ذلك فيها . وقد قال رسول الله ﷺ { إنما الأعمال بالنيات وإنما ؛ لكل امرئ ما نوى } ، وإن كان ممن لا عذر له في التأخر عن الجماعة ؛ فالأولى إن صلاها وحده باطل : والثانية فرضه ، وعليه أن يصلي ، ولا بد على ما نذكر في وجوب فرض الجماعة إن شاء الله تعالى ، والجمعة وغيرها في كل ذلك سواء . وأما قول أبي حنيفة وأصحابه فيمن صلى الجمعة في منزله ؛ لغير عذر فباطل لوجوه : أولها : تفريقه في ذلك بين الجمعة وغيرها بلا برهان . والثاني : أنه فرق بين الجمعة وغيرها فقد أخطأ في قوله : إنها تجزئه إذا صلاها منفردا ؛ لغير عذر في منزله . والثالث : إبطاله تلك الصلاة بعد أن جوزها : إما بخروجه إلى الجامع ، وإما بدخوله مع الإمام ، وكل ذلك آراء فاسدة مدخولة ، وقول في الدين بغير علم . قال علي : فإذ قد بطلت هذه الأقوال كلها فلنذكر ما صح عن رسول الله ﷺ في ذلك . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج : حدثني أبو الربيع الزهراني وأبو كامل الجحدري قالا : ثنا حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله ﷺ { وكيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ، أو يميتون الصلاة عن وقتها ؟ قلت : فما تأمرني ؟ قال : صل الصلاة لوقتها ، فإن أدركتها فيهم فصل فإنها لك نافلة } . وبه إلى مسلم : حدثني زهير بن حرب ثنا إسماعيل هو ابن إبراهيم بن علية - عن أيوب السختياني عن أبي العالية البراء قال : أخر ابن زياد الصلاة ، فجاء عبد الله بن الصامت فذكرت له صنيع ابن زياد فقال : سألت أبا ذر كما سألتني فقال { إني سألت رسول الله ﷺ كما سألتني فضرب فخذي وقال : صل الصلاة لوقتها فإن أدركت الصلاة معهم فصل ولا تقل إني قد صليت فلا أصلي } . فهذا عموم منه ﷺ لكل صلاة ، ولمن صلاها في جماعة أو منفردا لا يجوز تخصيص شيء من ذلك بالدعوى بلا دليل ، وبالله تعالى التوفيق . وأخذ بهذا جماعة من السلف كما روينا عن أبي ذر : أنه أفتى بذلك ؛ وكما روينا عن حماد بن سلمة عن حميد عن أنس بن مالك أن أبا موسى الأشعري والنعمان بن مقرن اتعدا موعدا فجاء أحدهما إلى صاحبه وقد صلى ، فصلى الفجر مع صاحبه . وبه إلى حماد بن سلمة عن ثابت البناني وحميد كلاهما عن أنس بن مالك قال : قدمنا مع أبي موسى الأشعري فصلى بنا الفجر في المربد ، ثم جئنا إلى المسجد الجامع فإذا المغيرة بن شعبة يصلي بالناس ، والرجال والنساء مختلطون ، فصلينا معهم . فهذا فعل الصحابة في صلاة الفجر بخلاف قول أبي حنيفة ؛ وبعد أن صلوا جماعة بخلاف قول مالك ، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف يخص صلاة المنفرد دون غيره . وروينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن جابر عن سعد بن عبيد عن صلة بن زفر العبسي : خرجت مع حذيفة فمر بمسجد فصلى معهم الظهر وقد كان صلى ؛ ثم مر بمسجد فصلى معهم العصر وقد كان صلى ، ثم مر بمسجد فصلى معهم المغرب وشفع بركعة وكان قد صلى ، وعن قتادة قال : يعيد العصر إذا جاء الجماعة . قال سعيد بن المسيب : صل مع القوم فإن صلاتك معهم تفضل صلاتك وحدك بضعا وعشرين صلاة . وعن سفيان عن جابر عن الشعبي : لا بأس أن تعاد الصلاة كلها . وعن ابن جريج عن عطاء : إذا صليت المكتوبة في البيت ثم أدركتها مع الناس فإني أجعل التي صليتها في بيتي نافلة ، وأجعل التي صليت مع الناس المكتوبة ولو لم أدرك إلا ركعة واحدة منها . قال : وسئل عطاء عن المغرب يصليها الرجل في بيته ثم يجد الناس فيها ؟ قال : أشفع التي صليت في بيتي بركعة ثم أسلم ثم ألحق بالناس ، فأجعل التي هم فيها المكتوبة . وروينا عن وكيع عن عمرو بن حسان عن وبرة قال : صليت أنا وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن الأسود المغرب ، ثم جئنا إلى الناس وهم في الصلاة ، فدخلنا معهم فلما سلم الإمام قام إبراهيم فشفع بركعة . قال أبو محمد : لم يشفع عبد الرحمن ، وكل ذلك مباح ؛ لأنه تطوع لم يأت نهي عن شيء منه . وعن حماد بن سلمة أخبرنا عثمان البتي عن أبي الضحى أن مسروقا صلى المغرب ، ثم رأى قوما يصلون فصلى المغرب معهم في جماعة ، ثم شفع المغرب بركعة . وعن وكيع عن الربيع بن صبيح قال : تعاد الصلاة إلا الفجر والعصر ؛ ولكن إذا أذن في المسجد فالفرار أقبح من الصلاة . قال أبو محمد : فإن ذكروا ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع أن ابن عمر قال : إن كنت قد صليت في أهلك ثم أدركت الصلاة في المسجد مع الإمام فصل معه ؛ غير صلاة الصبح والمغرب ، فإنهما لا يصليان في يوم مرتين ، فلا حجة لهم في هذا ؛ لأنهم قد خالفوه فخالفه أبو حنيفة في زيادته العصر فيما لا يعاد ؛ وخالفه مالك في إعادة صلاة الصبح ، ومن أقر على نفسه بخلاف الحق والحجة ، فقد كفى خصمه مؤنته ، وبالله تعالى التوفيق .