الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة الثمانون


كتـاب الصلاة

صلاة المسافر

513 - مسألة : ومن خرج عن بيوت مدينته ، أو قريته ، أو موضع سكناه فمشى ميلا فصاعدا : صلى ركعتين ولا بد إذا بلغ الميل ، فإن مشى أقل من ميل : صلى أربعا ؟ قال علي : اختلف الناس في هذا - : كما رويناه من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أبي المهلب : أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب : إنه بلغني أن رجالا يخرجون : إما لجباية ، وإما لتجارة ، وإما لجشر ثم لا يتمون الصلاة ، فلا تفعلوا ، فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا ، أو بحضرة عدو . ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عياش بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي : أن عثمان بن عفان كتب إلى عماله - : لا يصلي الركعتين : جاب ، ولا تاجر ، ولا تان ، إنما يصلي الركعتين من كان معه الزاد والمزاد . قال علي : الثاني - هو صاحب الضيعة ؟ قال علي : هكذا في كتابي وصوابه عندي : عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود قال : لا يغرنكم سوادكم هذا من صلاتكم ، فإنه من مصركم ؟ وعن عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنت مع حذيفة بالمدائن فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة ، فأذن لي وشرط علي أن لا أفطر ولا أصلي ركعتين حتى أرجع إليه ، وبينهما نيف وستون ميلا ؟ وهذه أسانيد في غاية الصحة وعن حذيفة : أن لا يقصر إلى السواد ، وبين الكوفة والسواد : سبعون ميلا . وعن معاذ بن جبل ، وعقبة بن عامر : لا يطأ أحدكم بماشيته أحداب الجبال ، وبطون الأودية ، وتزعمون أنكم سفر ، لا ولا كرامة ، إنما التقصير في السفر البات ، من الأفق إلى الأفق ؟ ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن عاصم عن ابن سيرين قال : كانوا يقولون : السفر الذي تقصر فيه الصلاة : الذي يحمل فيه الزاد والمزاد ؟ وعن أبي وائل شقيق بن سلمة : أنه سئل عن قصر الصلاة من الكوفة إلى واسط ؟ فقال : لا تقصر الصلاة في ذلك ، وبينهما مائة ميل وخمسون ميلا ؟ فهنا قول - : ورويناه من طريق ابن جريج : أخبرني نافع : أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة إليه : مال له بخيبر ، وهي مسيرة ثلاث فواصل لم يكن يقصر فيما دونه . ومن طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني ، وحميد ، كلاهما عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة فيما بين المدينة ، وخيبر ، وهي كقدر الأهواز من البصرة ، لا يقصر فيما دون ذلك ؟ قال علي : بين المدينة ، وخيبر كما بين البصرة ، والأهواز - : وهو مائة ميل واحدة غير أربعة أميال وهذا مما اختلف فيه عن ابن عمر ، ثم عن نافع أيضا عن ابن عمر . وروينا عن الحسن بن حي : أنه قال : لا قصر في أقل من اثنين وثمانين ميلا ، كما بين الكوفة ، وبغداد ومن طريق وكيع عن سعيد بن عبيد الطائي عن علي بن ربيعة الوالبي الأسدي قال : سألت ابن عمر عن تقصير الصلاة ؟ فقال : حاج ، أو معتمر ، أو غاز ؟ قلت : لا ، ولكن أحدنا تكون له الضيعة بالسواد ، فقال : تعرف السويداء ؟ قلت : سمعت بها ولم أرها ، قال : فإنها ثلاث وليلتان وليلة للمسرع ، إذا خرجنا إليها قصرنا قال علي : من المدينة إلى السويداء - : اثنان وسبعون ميلا ، أربعة وعشرون فرسخا ؟ فهذه رواية أخرى عن ابن عمر . ومن طريق عبد الرزاق عن إسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى يقول : سمعت سويد بن غفلة يقول : إذا سافرت ثلاثا فاقصر الصلاة ؟ وعن عبد الرزاق عن أبي حنيفة ، وسفيان الثوري ، كلاهما عن حماد عن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي - : أنه قال في قصر الصلاة ، قال أبو حنيفة في روايته : مسيرة ثلاث وقال سفيان في روايته : إلى نحو المدائن يعني من الكوفة ، وهو نحو نيف وستين ميلا ، لا يتجاوز ثلاثة وستين ولا ينقص عن واحد وستين ؟ وبهذين التحديدين جميعا يأخذ أبو حنيفة . وقال في تفسير الثلاث : سير الأقدام والثقل والإبل وقال سفيان الثوري : لا قصر في أقل من مسيرة ثلاث ، ولم نجد عنه تحديد الثلاث ؟ وعن حماد بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير في قصر الصلاة : في مسيرة ثلاث ؟ ومن طريق الحجاج بن المنهال : ثنا يزيد بن إبراهيم قال : سمعت الحسن البصري يقول : لا تقصر الصلاة في أقل من مسيرة ليلتين ؟ ومن طريق وكيع عن الربيع بن صبيح عن الحسن : لا تقصر الصلاة إلا في ليلتين ، ولم نجد عنه تحديد الليلتين ؟ وعن معمر عن قتادة عن الحسن مثله ، قال : وبه يأخذ قتادة وعن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد عن الحسن مثله ، إلا أنه قال : مسيرة يومين ؟ ولم نجد عن قتادة ، ولا عن الزهري : تحديد اليومين وعن وكيع عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن مجاهد عن ابن عباس قال : إذا سافرت يوما إلى العشاء فأتم ، فإن زدت فقصر ؟ وعن الحجاج بن المنهال : ثنا أبو عوانة عن منصور هو ابن المعتمر - عن مجاهد عن ابن عباس قال : لا يقصر المسافر عن مسيرة يوم إلى العتمة ، إلا في أكثر من ذلك . وهذا مما اختلف فيه عن ابن عباس ؟ ومن طريق وكيع عن هشام بن الغاز ربيعة الجرشي عن عطاء بن أبي رباح : قلت لابن عباس : أقصر إلى عرفة ؟ قال : لا ، ولكن إلى الطائف وعسفان ، فذلك ثمانية وأربعون ميلا وعن معمر أخبرني أيوب عن نافع : أن ابن عمر كان يقصر الصلاة مسيرة أربعة برد ؟ وهذا مما اختلف فيه عن ابن عمر كما ذكرنا ؟ وبهذا يأخذ الليث ، ومالك في أشهر أقواله عنه . وقال : فإن كانت أرض لا أميال فيها فلا - قصر في أقل من يوم وليلة للثقل قال : وهذا أحب ما تقصر فيه الصلاة إلي . وقد ذكر عنه : لا قصر إلا في خمسة وأربعين ميلا فصاعدا ؟ وروي عنه : أنه لا قصر إلا في اثنين وأربعين ميلا فصاعدا . وروي عنه : لا قصر إلا في أربعين ميلا فصاعدا . وروى عنه إسماعيل بن أبي أويس : لا قصر إلا في ستة وثلاثين ميلا فصاعدا - ذكر هذه الروايات عنه : إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه المعروف بالمبسوط . ورأى لأهل مكة خاصة في الحج خاصة - : أن يقصروا الصلاة إلى منى فما فوقها ، وهي أربعة أميال . وروى عنه ابن القاسم : أنه قال فيمن خرج ثلاثة أميال - كالرعاء وغيرهم - فتأول فأفطر في رمضان ؟ فلا شيء عليه إلا القضاء فقط وروينا عن الشافعي : لا قصر في أقل من ستة وأربعين ميلا بالهاشمي وههنا أقوال أخر أيضا - : كما روينا من طريق وكيع عن شعبة عن شبيل عن أبي جمرة الضبعي قال : قلت لابن عباس : أقصر إلى الأبلة ؟ قال : تذهب وتجيء في يوم ؟ قلت : نعم ، قال : لا ، إلا يوم متاح ؟ وعن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء ، قلت لابن عباس : أقصر إلى منى أو عرفة ؟ قال : لا ، ولكن إلى الطائف ، أو جدة ، أو عسفان ، فإذا وردت على ماشية لك ، أو أهل : فأتم الصلاة قال علي : من عسفان إلى مكة بتكسير الحلفاء اثنان وثلاثون ميلا . وأخبرنا الثقات أن من جدة إلى مكة : أربعين ميلا . وعن وكيع عن هشام بن الغاز عن نافع عن ابن عمر : لا تقصر الصلاة إلا في يوم تام ؟ وعن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر أنه سافر إلى ريم فقصر الصلاة . قال عبد الرزاق : وهي على ثلاثين ميلا من المدينة . وعن عكرمة : إذا خرجت فبت في غير أهلك فاقصر ، فإن أتيت أهلك فأتمم ؟ وبه يقول الأوزاعي : لا قصر إلا في يوم تام ولم نجد عن هؤلاء تحديد اليوم ومن طريق مالك عن نافع عن ابن عمر : أنه قصد إلى ذات النصب ، وكنت أسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر ؟ قال عبد الرزاق : ذات النصب من المدينة على ثمانية عشر ميلا . ومن طريق محمد بن جعفر : ثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب قال : خرجت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى ذات النصب - وهي من المدينة على ثمانية عشر ميلا - فلما أتاها قصر الصلاة ؟ ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة : ثنا هشيم أنا جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة : أن علي بن أبي طالب خرج إلى النخيلة فصلى بها الظهر ركعتين ، والعصر : ركعتين ، ثم رجع من يومه ، وقال : أردت أن أعلمكم سنة نبيكم ﷺ . ومن طريق وكيع : ثنا حماد بن زيد ثنا أنس بن سيرين قال : خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه ببذق سيرين - وهي على رأس خمسة فراسخ - فصلى بنا العصر في سفينة ، وهي تجري بنا في دجلة قاعدا على بساط ركعتين ثم سلم ، ثم صلى بنا ركعتين ثم سلم ؟ ومن طريق البزاز : ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا شعبة عن يزيد بن خمير عن حبيب بن عبيد عن جبير بن نفير عن ابن السمط هو شرحبيل - : أنه أتى أرضا يقال لها " دومين " - من حمص على بضعة عشر ميلا - فصلى ركعتين ، فقلت له : أتصلي ركعتين ؟ قال : { رأيت عمر يصلي بذي الحليفة ركعتين ، وقال أفعل كما رأيت رسول الله ﷺ يفعل } " . وعن محمد بن بشار : ثنا محمد بن أبي عدي ثنا شعبة عن يزيد بن خمير عن حبيب بن عبيد عن جبير بن نفير قال : خرج ابن السمط هو شرحبيل - إلى أرض يقال لها " دومين " - من حمص على ثلاثة عشر ميلا ، فكان يقصر الصلاة ، وقال : { رأيت عمر بن الخطاب يصلي بذي الحليفة ركعتين فسألته ؟ فقال : أفعل كما رأيت رسول الله ﷺ يفعل } . ورويناه من طريق مسلم أيضا بإسناده إلى شرحبيل عن ابن عمر . قال علي : لو كان هذا في طريق الحج لم يسأله ولا أنكر ذلك ؟ ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة : ثنا إسماعيل ابن علية عن الجريري عن أبي الورد بن ثمامة عن اللجلاج قال : كنا نسافر مع عمر بن الخطاب ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة فيفطر ويقصر . ومن طريق محمد بن بشار : ثنا أبو عامر العقدي ثنا شعبة قال : سمعت ميسر بن عمران بن عمير يحدث عن أبيه عن جده : أنه خرج مع عبد الله بن مسعود - وهو رديفه على بغلة له - مسيرة أربعة فراسخ ، فصلى الظهر ركعتين ، والعصر ركعتين . قال شعبة : أخبرني بهذا ميسر بن عمران ، وأبوه عمران بن عمير شاهد قال علي : عمير هذا مولى عبد الله بن مسعود . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة : ثنا علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني هو سليمان بن فيروز - عن محمد بن زيد بن خلدة عن ابن عمر قال : تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال ؟ قال علي : /126 L471 محمد بن زيد /126 هذا طائي ولاه علي بن أبي طالب القضاء بالكوفة ، مشهور من كبار التابعين . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة : ثنا وكيع ثنا مسعر هو ابن كدام - عن محارب بن دثار قال : سمعت ابن عمر يقول : إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر ، يعني الصلاة . /126 L472 محارب /126 هذا سدوسي قاضي الكوفة ، من كبار التابعين ، أحد الأئمة ، ومسعر أحد الأئمة . ومن طريق محمد بن المثنى : ثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ثنا سفيان الثوري قال : سمعت جبلة بن سحيم يقول : سمعت ابن عمر يقول : لو خرجت ميلا قصرت الصلاة ؟ جبلة بن سحيم تابع ثقة مشهور . وحدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشار كلاهما عن غندر هو محمد بن جعفر - عن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال : سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة ؟ فقال : { كان رسول الله ﷺ إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شك شعبة - صلى ركعتين } . قال علي : لا يجوز أن يجيب أنس إذا سئل إلا بما يقول به ؟ ومن طريق أبي داود السجستاني : أن دحية بن خليفة الكلبي أفطر في مسير له من الفسطاط إلى قرية على ثلاثة أميال منها . ومن طريق محمد بن بشار : ثنا أبو داود الطيالسي ثنا شعبة عن قيس بن مسلم عن سعيد بن جبير قال : لقد كانت لي أرض على رأس فرسخين فلم أدر أأقصر الصلاة إليها أم أتمها ؟ ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة : ثنا حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة قال : سألت سعيد بن المسيب : أأقصر الصلاة وأفطر في بريد من المدينة ؟ قال : نعم ، وهذا إسناد كالشمس ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن زمعة هو ابن صالح - عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء هو جابر بن زيد - قال : يقصر في مسيرة ستة أميال ؟ ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة : ثنا وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة أنه سمع الشعبي يقول : لو خرجت إلى دير الثعالب لقصرت ؟ وعن القاسم بن محمد ، وسالم : أنهما أمرا رجلا مكيا بالقصر من مكة إلى منى ، ولم يخصا حجا من غيره ، ولا مكيا من غيره . وصح عن كلثوم بن هانئ ، وعبد الله بن محيريز ، وقبيصة بن ذؤيب : القصر في بضعة عشر ميلا . وبكل هذا نقول ، وبه يقول أصحابنا في السفر : إذا كان على ميل فصاعدا في حج ، أو عمرة ، أو جهاد ، وفي الفطر ، في كل سفر قال علي : فهم من الصحابة كما أوردنا : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، ودحية بن خليفة ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، وشرحبيل بن السمط . ومن التابعين : سعيد بن المسيب ، والشعبي ، وجابر بن زيد ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وقبيصة بن ذؤيب ، وعبد الله بن محيريز ، وكلثوم بن هانئ ، وأنس بن سيرين ، وغيرهم . وتوقف في ذلك سعيد بن جبير ، ويدخل فيمن قال بهذا : مالك في بعض أقواله ، على ما ذكرنا عنه في المفطر متأولا ، وفي المكي يقصر بمنى وعرفة ؟ قال علي : وإنما تقصينا الروايات في هذه الأبواب ، لأننا وجدنا المالكيين والشافعيين قد أخذوا يجربون أنفسهم في دعوى الإجماع على قولهم بل قد هجم على ذلك كبير من هؤلاء وكبير من هؤلاء . فقال أحدهما : لم أجد أحدا قال بأقل من - القصر فيما قلنا به ، فهو إجماع وقال الآخر : قولنا هو قول ابن عباس وابن عمر ، ولا مخالف لهما من الصحابة فاحتسبنا الأجر في إزالة ظلمة كذبهما عن المغتر بهما ، ولم نورد إلا رواية مشهورة ظاهرة عند العلماء بالنقل ، وفي الكتب المتداولة عند صبيان المحدثين ، فكيف أهل العلم ؟ والحمد لله رب العالمين .

قال علي : أما من قال بتحديد ما يقصر فيه بالسفر ، من أفق إلى أفق ، وحيث يحمل الزاد والمزاد وفي ستة وتسعين ميلا ، وفي اثنين وثمانين ميلا ، وفي اثنين وسبعين ميلا ، وفي ثلاثة وستين ميلا ، أو في أحد وستين ميلا ، أو ثمانية وأربعين ميلا ، أو خمسة وأربعين ميلا ، أو أربعين ميلا ، أو ستة وثلاثين ميلا : فما لهم حجة أصلا ولا متعلق ، لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا سقيمة ، ولا من إجماع ولا من قياس ، ولا رأي سديد ، ولا من قول صاحب لا مخالف له منهم - وما كان هكذا فلا وجه للاشتغال به ثم نسأل من حد ما فيه القصر ، والفطر بشيء من ذلك عن أي ميل هو ؟ ثم نحطه من الميل عقدا أو فترا أو شبرا ، ولا نزال نحطه شيئا فشيئا فلا بد له من التحكم في الدين ، أو ترك ما هو عليه ؟ فسقطت هذه الأقوال جملة والحمد لله رب العالمين ؟ ولا متعلق لهم بابن عباس ، وابن عمر لوجوه - : أحدها : أنه قد خالفهم غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم . والثاني : أنه ليس التحديد بالأميال في ذلك من قولهما ، وإنما هو من قول من دونهما . والثالث : أنه قد اختلف عنهما أشد الاختلاف كما أوردنا . فروى حماد بن سلمة عن أيوب السختياني ، وحميد كلاهما عن نافع ، ووافقهما ابن جريج عن نافع : أن ابن عمر كان لا يقصر في أقل من ستة وتسعين ميلا وروى معمر عن أيوب عن نافع : أن ابن عمر كان يقصر في أربعة برد ، ولم يذكر أنه منع من القصر في أقل ؟ وروى هشام بن الغاز عن نافع : أن ابن عمر قال : لا يقصر الصلاة إلا في اليوم التام وروى مالك عن نافع عنه : أنه لا يقصر في البريد . وقال مالك : ذات النصب ، وريم : كلتاهما من المدينة على نحو أربعة برد ، وروى عنه علي بن ربيعة الوالبي : لا قصر في أقل من اثنين وسبعين ميلا . وروى عنه ابنه سالم بن عبد الله - وهو أجل من نافع - : أنه قصر إلى ثلاثين ميلا . وروى عنه ابن أخيه حفص بن عاصم - وهو أجل من نافع وأعلم به : أنه قصر إلى ثمانية عشر ميلا ؟ وروى عنه شرحبيل بن السمط ، ومحمد بن زيد بن خلدة ، ومحارب بن دثار ، وجبلة بن سحيم - وكلهم أئمة - : القصر في أربعة أميال ، وفي ثلاثة أميال ، وفي ميل واحد ، وفي سفر ساعة . وأقصى ما يكون سفر الساعة من ميلين إلى ثلاثة . وأما ابن عباس فروى عنه عطاء : القصر إلى عسفان ، وهي اثنان وثلاثون ميلا ، وإذا وردت على أهل أو ماشية فأتم ، ولا تقصر إلى عرفة ولا منى . وروى عنه مجاهد : لا قصر في يوم إلى العتمة ، لكن فيما زاد على ذلك وروى عنه أبو جمرة الضبعي : لا قصر إلا في يوم متاح . وقد خالفه مالك في أمره عطاء : أن لا يقصر إلى منى ولا إلى عرفة ، وعطاء مكي ، فمن الباطل أن يكون بعض قوله حجة وجمهور قوله ليس حجة وخالفه أيضا مالك ، والشافعي في قوله : إذا قدمت على أهل أو ماشية فأتم الصلاة . فحصل قول مالك ، والشافعي : خارجا عن أن يقطع بأنه تحديد أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا وجد بينا عن أحد من التابعين أنه حد ما فيه القصر بذلك . ولعل التحديد - الذي في حديث ابن عباس - إنما هو من دون عطاء ، وهو هشام بن ربيعة . وليس في حديث نافع عن ابن عمر : أنه منع القصر في أقل من أربعة برد فسقطت أقوال من حد ذلك بالأميال المذكورة سقوطا متيقنا - وبالله تعالى التوفيق . ثم رجعنا إلى قول من حد بثلاثة أيام ، أو يومين ، أو يوم وشيء زائد ، أو يوم تام ، أو يوم وليلة - : فلم نجد لمن حد ذلك بيوم وزيادة شيء متعلقا أصلا ، فسقط هذا القول فنظرنا في الأقوال الباقية فلم نجد لهم متعلقا إلا بالحديث الذي صح عن رسول الله ﷺ من طريق أبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وابن عمر في { نهي المرأة عن السفر - : في بعضها ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم وفي بعضها ليلتين إلا مع ذي محرم وفي بعضها يوما وليلة إلا مع ذي محرم وفي بعضها يوما إلا مع ذي محرم } " . فتعلقت كل طائفة مما ذكرنا ؟ فأما من تعلق بليلتين ، أو بيوم وليلة : فلا متعلق لهم أصلا ؛ لأنه قد جاء ذلك الحديث بيوم ، وجاء بثلاثة أيام ، فلا معنى للتعلق باليومين ، ولا باليوم والليلة ، دون هذين العددين الآخرين أصلا . وإنما يمكن أن يشغب هاهنا بالتعلق بالأكثر مما ذكر في ذلك الحديث ، أو بالأقل مما ذكر فيه - وأما التعلق بعدد قد جاء النص بأقل منه ، أو بأكثر منه ، فلا وجه له أصلا ، فسقط هذان القولان أيضا ؟ فنظرنا في قول من تعلق بالثلاث ، أو باليوم : فكان من شغب من تعلق باليوم أن قال : هو أقل ما ذكر في ذلك الحديث ، فكان ذلك هو حد السفر الذي ما دونه بخلافه ، فوجب أن يكون ذلك حدا لما يقصر فيه قالوا : وكان من أخذ بحدنا قد استعمل حكم الليلتين واليوم والليلة والثلاث ، ولم يسقط من حكم ما ذكر في ذلك الحديث شيئا : وهذا أولى ممن أسقط أكثر ما ذكر في ذلك الحديث ؟ قال علي : فقلنا لهم : تأتوا بشيء فإن كنتم إنما تعلقتم باليوم ؛ لأنه أقل ما ذكر في الحديث - : فليس كما قلتم ، وقد جهلتم أو تعمدتم فإن هذا الحديث رواه بشر بن المفضل عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوما وليلة إلا ومعها ذو محرم منها } " . ورواه مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال : { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر يوما وليلة إلا مع ذي محرم منها } " . ورواه الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه : أن أبا هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { لا يحل لامرأة مسلمة تسافر ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها } . ورواه ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ : { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم } . ورواه جرير بن حازم عن سهيل بن أبي صالح عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ - فذكر الحديث وفيه - : " أن تسافر بريدا " وسعيد أدرك أبا هريرة وسمع منه ؟ فاختلف الرواة عن أبي هريرة ، ثم عن سعيد بن أبي سعيد ، وعن سهيل بن أبي صالح كما أوردنا . وروى هذا الحديث ابن عباس فلم يضطرب عليه ولا اختلف عنه ؟ كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب كلاهما عن سفيان بن عيينة ثنا عمرو بن دينار عن أبي معبد ، هو مولى ابن عباس - قال : سمعت ابن عباس يقول : سمعت رسول الله ﷺ يقول : { لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم } . فعم ابن عباس في روايته كل سفر دون اليوم ودون البريد وأكثر منهما ، وكل سفر قل أو طال فهو عام لما في سائر الأحاديث وكل ما في سائر الأحاديث فهو بعض ما في حديث ابن عباس هذا فهو المحتوي على جميعها ، والجامع لها كلها ، ولا ينبغي أن يتعدى ما فيه إلى غيره ، فسقط قول من تعلق باليوم أيضا - وبالله تعالى التوفيق . ثم نظرنا في قول من حد ذلك بالثلاث فوجدناهم يتعلقون بذكر الثلاث في هذا الحديث وبما صح عن رسول الله ﷺ من قوله في المسح " { للمسافر ثلاثا بلياليهن ، وللمقيم يوما وليلة } لم نجدهم موهوا بغير هذا أصلا قال علي : وقالوا : من تعلق بالثلاث كان على يقين من الصواب ، لأنه إن كان عليه السلام ذكر نهيه عن سفرها ثلاثا قبل نهيه عن سفرها يوما أو أقل من يوم - : فالخبر الذي ذكر فيه اليوم هو الواجب أن يعمل به ، ويبقى نهيه عن سفرها ثلاثا غير منسوخ ، بل ثابت كما كان . وإن كان ذكر نهيه عن سفرها ثلاثا بعد نهيه عن سفرها يوما أو أقل من يوم - : فنهيه عن السفر ثلاثا هو الناسخ لنهيه إياها عن السفر أقل من ثلاث ؟ قالوا : فنحن على يقين من صحة حكم النهي عن السفر ثلاثا إلا مع ذي محرم وعلى شك من صحة النهي لها عما دون الثلاث ، فلا يجوز أن يترك اليقين للشك قال علي : وهذا تمويه فاسد من وجوه ثلاثة - : أحدها : أنه قد جاء النهي أن تسافر أكثر من ثلاث . روينا ذلك من طرق كثيرة في غاية الصحة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله ﷺ : { لا تسافر المرأة فوق ثلاث إلا ومعها ذو محرم } .

ومن طريق قتادة عن قزعة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال : { لا تسافر المرأة فوق ثلاث ليال إلا مع ذي محرم } " . ومن طريق أبي معاوية ، ووكيع عن الأعمش عن أبي صالح السمان عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ : { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أخوها أو أبوها أو زوجها أو ابنها ، أو ذو محرم منها } . فإن كان ذكر الثلاث في بعض الروايات مخرجا لما دون الثلاث ، مما قد ذكر أيضا في بعض الروايات ، عن حكم الثلاث - : فإن ذكر ما فوق الثلاث في هذه الروايات مخرج للثلاث أيضا ، وإن ذكرت في بعض الروايات عن حكم ما فوق الثلاث ، وإلا فالقوم متلاعبون متحكمون بالباطل ؟ ويلزمهم أن يقولوا : إنهم على يقين من صحة حكم ما فوق الثلاث وبقائه غير منسوخ ، وعلى شك من صحة بقاء النهي عن الثلاث ، كما قالوا في الثلاث وفيما دونها سواء بسواء ولا فرق فقالوا : لم يفرق أحد بين الثلاث وبين ما فوق الثلاث ؟ فقيل لهم : قلتم بالباطل ، قد صح عن عكرمة أن حد ما تسافر المرأة فيه بأكثر من ثلاث لا بثلاث . فكيف ؟ ولا يجوز أن يكون قول قاله رجلان من التابعين ، ورجلان من فقهاء الأمصار ، واختلف فيه عن واحد من الصحابة قد خالفه غيره منهم فما يعده إجماعا إلا من لا دين له ولا حياء فكيف ؟ وإذ قد جاء عن ابن عمر أنه عد اثنين وسبعين ميلا إلى السويداء مسيرة ثلاث ، فإن تحديده الذي روي عنه : أن لا قصر فيما دونه لستة وتسعين ميلا - : موجب أن هذا أكثر من ثلاث ، لأن بين العددين أربعة وعشرين ميلا ، ومحال كون كل واحد من هذين العددين ثلاثا مستوية والوجه الثاني : أنه قد عارض هذا القول قول من حد باليوم الواحد ، وقولهم : نحن على يقين من صحة استعمالنا نهيه عليه السلام عن سفرها يوما واحدا مع غير ذي محرم ونهيها عن أكثر من ذلك ، لأنه إن كان النهي عن سفرها ثلاثا هو الأول أو هو الآخر ، فإنها منهية أيضا عن اليوم ، وليس تأخير نهيها عن الثلاث بناسخ لما تقدم من نهيه عليه السلام عما دون الثلاث ، وأنتم على يقين من مخالفتكم لنهيه عليه السلام لها عما دون الثلاث ، وخلاف أمره عليه السلام - بغير يقين للنسخ لا يحل ، فتعارض القولان والثالث : أن حديث ابن عباس الذي ذكرنا : قاض على جميع هذه الأحاديث ، وكلها بعض ما فيه ، فلا يجوز أن يخالف ما فيه أصلا ؟ لأن من عمل به فقد عمل بجميع الأحاديث المذكورة ، ومن عمل بشيء من تلك الأحاديث - دون سائرها - فقد خالف نهي رسول الله ﷺ ، وهذا لا يجوز ؟ قال علي : ثم لو لم تتعارض الروايات فإنه ليس في الحديث الذي فيه نهي المرأة عن سفر مدة ما إلا مع ذي محرم ، ولا في الحديث الذي فيه مدة مسح المسافر والمقيم - : ذكر أصلا - لا بنص ولا بدليل - على المدة التي يقصر فيها ويفطر ، ولا يقصر ، ولا يفطر في أقل منها . ومن العجب أن الله تعالى - : ذكر القصر في الضرب في الأرض مع الخوف . وذكر الفطر في السفر والمرض ؟ وذكر التيمم عند عدم الماء في السفر والمرض - : فجعل هؤلاء حكم نهي المرأة عن السفر إلا مع ذي محرم ، وحكم مسح المسافر - : دليل على ما يقصر فيه ويفطر ، دون ما لا قصر فيه ولا فطر ، ولم يجعلوه دليلا على السفر الذي يتيمم فيه من السفر الذي لا يتيمم فيه ؟ فإن قالوا : قسنا ما تقصر فيه الصلاة ، وما لا تقصر فيه على ما تسافر فيه المرأة مع غير ذي محرم ، وما لا تسافره ، وعلى ما يمسح فيه المقيم ، وما لا يمسح ؟ قلنا لهم : ولم فعلتم هذا ؟ وما العلة الجامعة بين الأمرين ؟ أو ما الشبه بينهما ؟ وهلا قستم المدة التي إذا نوى إقامتها المسافر أتم على ذلك أيضا ؟ وما يعجز أحد أن يقيس برأيه حكما على حكم آخر وهلا قستم ما يقصر فيه على ما لا يتيمم فيه ؟ فهو أولى إن كان القياس حقا ، أو على ما أبحتم فيه للراكب التنفل على دابته . ثم نقول لهم : أخبرونا عن قولكم : إن سافر ثلاثة أيام قصر وأفطر ، وإن سافر أقل لم يقصر ولم يفطر - : ما هذه الثلاثة الأيام ؟ أمن أيام حزيران ؟ أم من أيام كانون الأول فما بينهما ؟ وهذه الأيام التي قلتم ، أسير العساكر ؟ أم سير الرفاق على الإبل ، أو على الحمير ، أو على البغال ، أم سير الراكب المجد ؟ أم سير البريد ؟ أم مشي الرجالة . وقد علمنا يقينا أن مشي الراجل الشيخ الضعيف في وحل ووعر ، أو في حر شديد - : خلاف مشي الراكب على البغل المطيق في الربيع في السهل ، وأن هذا يمشي في يوم ما لا يمشيه الآخر في عشرة أيام ؟ وأخبرونا عن هذه الأيام : كيف هي ؟ أمشيا من أول النهار إلى آخره ؟ أم إلى وقت العصر ، أو بعد ذلك قليلا ، أو قبل ذلك قليلا ؟ أم النهار والليل معا ؟ أم كيف هذا وأخبرونا : كيف جعلتم هذه الأيام ثلاثا وستين ميلا على واحد وعشرين ميلا كل يوم ؟ ولم تجعلوها اثنين وسبعين ميلا على أربعة وعشرين ميلا كل يوم ؟ أو اثنين وثلاثين ميلا كل يوم ؟ أو عشرين ميلا كل يوم ؟ أو خمسة وثلاثين ميلا كل يوم فما بين ذلك فكل هذه المسافات تمشيها الرفاق ، ولا سبيل لهم إلى تحديد شيء مما ذكرنا - دون سائره - إلا برأي فاسد . وهكذا يقال لمن قدر ذلك بيوم ، أو بليلة ، أو بيوم ، أو بيومين ، ولا فرق ؟ فإن قالوا : هذا الاعتراض يلزمكم أن تدخلوه على رسول الله ﷺ في أمره المرأة أن لا تسافر ثلاثا أو ليلتين ، أو يوما وليلة أو يوما إلا مع ذي محرم ، وفي تحديده عليه السلام مسح المسافر ثلاثا والمقيم يوما وليلة ؟ قلنا - ولا كرامة لقائل هذا منكم - : بل بين تحديد رسول الله ﷺ وتحديدكم أعظم الفرق ، وهو أنكم لم تكلوا الأيام التي جعلتموها - حدا لما يقصر فيه وما يفطر ، أو اليوم والليلة كذلك ، التي جعلها منكم من جعلها حدا - : إلى مشي المسافر المأمور بالقصر أو الفطر في ذلك المقدار ؟ بل كل طائفة منكم جعلت لذلك حدا من مساحة الأرض لا ينقص منها شيء ؛ لأنكم مجمعون على أن من مشى ثلاثة أيام كل يوم ثمانية عشر ميلا ، أو عشرين ميلا لا يقصر ، فإن مشى يوما وليلة ثلاثين ميلا فإنه لا يقصر . واتفقتم أنه من مشى ثلاثة أيام كل يوم بريدا غير شيء أو جمع ذلك المشي في يوم واحد أنه لا يقصر ؟ واتفقتم معشر المموهين بذكر الثلاث ليالي في الحديثين على أنه لو مشى من يومه ثلاثا وستين ميلا فإنه يقصر ويفطر . ولو لم يمش إلا بعض يوم وهذا ممكن جدا ، كثير في الناس ؟ وليس كذلك أمر رسول الله ﷺ المرأة بأن لا تسافر ثلاثا أو يوما إلا مع ذي محرم . وأمره عليه السلام المسافر ثلاثة أيام بلياليهن بالمسح ثم يخلع ، لأن هذه الأيام موكولة إلى حالة المسافر والمسافرة ، على عموم قوله عليه السلام الذي لو أراد غيره لبينه لأمته . فلو أن مسافرة خرجت تريد سفر ميل فصاعدا لم يجز لها أن تخرجه إلا مع ذي محرم إلا لضرورة ؟ ولو أن مسافرا سافر سفرا يكون ثلاثة أميال يمشي في كل يوم ميلا لكان له أن يمسح ؟ ولو سافر يوما وأقام آخر وسافر ثالثا لكان له أن يمسح الأيام الثلاثة كما هي . وحتى لو لم يأت عنه عليه السلام إلا خبر الثلاث فقط لكان القول : أن المرأة إن خرجت في سفر مقدار قوتها فيه أن لا تمشي إلا ميلين من نهارها أو ثلاثة - : لما حل ، لها إلا مع ذي محرم . فلو كان مقدار قوتها أن تمشي خمسين ميلا كل يوم لكان لها أن تسافر مسافة مائة ميل مع ذي محرم لكن وحدها . والذي حده عليه السلام في هذه الأخبار معقول مفهوم مضبوط غير مقدر بمساحة من الأرض لا تتعدى ، بل بما يستحق به اسم سفر ثلاث أو سفر يوم ، ولا مزيد ؟ والذي حددتموه أنتم غير معقول ولا مفهوم ولا مضبوط أصلا بوجه من الوجوه فظهر فرق ما بين قولكم وقول رسول الله ﷺ ، وتبين فساد هذه الأقوال كلها بيقين لا إشكال فيه ، وأنها لا متعلق لها ولا لشيء منها لا بقرآن ولا بسنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا بإجماع ولا بقياس ولا بمعقول ، ولا بقول صاحب لم يختلف عليه نفسه ، فكيف أن لا يخالفه غيره منهم ، وما كان هكذا فهو باطل بيقين فإن قول رسول الله ﷺ في الأخبار المأثورة عنه حق كلها على ظاهرها ومقتضاها ، من خالف شيئا منها خالف الحق ، لا سيما تفريق مالك بين خروج المكي إلى منى وإلى عرفة في الحج فيقصر - : وبين سائر جميع بلاد الأرض يخرجون هذا المقدار فلا يقصرون ولا يعرف هذا التفريق عن صاحب ولا تابع قبله ؟ واحتج له بعض مقلديه بأن قال : إنما ذلك لأن رسول الله ﷺ قال : { يا أهل مكة أتموا فإنا قوم سفر } ولم يقل ذلك : بمنى . قال علي : وهذا لا يصح عن رسول الله ﷺ أصلا ، وإنما هو محفوظ عن عمر رضي الله عنه ؟ ثم لو صح لما كانت فيه حجة لهم ، لأنه كان يلزمهم إذ أخرجوا حكم أهل مكة بمنى عن حكم سائر الأسفار من أجل ما ذكروا - : أن يقصر أهل منى بمنى وبمكة ؛ لأنه عليه السلام لم يقل لأهل منى : أتموا ؟ فإن قالوا : قد عرف أن الحاضر لا يقصر ؟ قيل لهم : صدقتم ، وقد عرف أن ما كان من الأسفار له حكم الإقامة فإنهم لا يقصرون فيها ، فإن كان ما بين مكة ومنى من أحد السفرين المذكورين فتلك المسافة في جميع بلاد الله تعالى كذلك ولا فرق ، إذ ليس إلا سفر أو إقامة بالنص والمعقول ولا فرق وقد حد بعض المتأخرين ذلك بما فيه المشقة ؟ قال علي : فقلنا هذا باطل لأن المشقة تختلف ، فنجد من يشق عليه مشي ثلاثة أميال حتى لا يبلغها إلا بشق النفس ، وهذا كثير جدا ، يكاد أن يكون الأغلب ، ونجد من لا يشق عليه الركوب في عمارية في أيام الربيع مرفها مخدوما شهرا وأقل وأكثر ، فبطل هذا التحديد قال علي : فلنقل الآن بعون الله تعالى وقوته على بيان السفر الذي يقصر فيه ويفطر فنقول - وبالله تعالى التوفيق - : قال الله عز وجل : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } . وقال عمر ، وعائشة ، وابن عباس : { إن الله تعالى فرض الصلاة على لسان نبيه ﷺ في السفر ركعتين ، } ولم يخص الله تعالى ولا رسوله ﷺ ولا المسلمون بأجمعهم سفرا من سفر ، فليس لأحد أن يخصه إلا بنص أو إجماع متيقن ؟ فإن قيل : بل لا يقصر ولا يفطر إلا في سفر أجمع المسلمون على القصر فيه والفطر ؟ قلنا لهم : فلا تقصروا ولا تفطروا إلا في حج ، أو عمرة ، أو جهاد ، وليس هذا قولكم ، ولو قلتموه لكنتم قد خصصتم القرآن والسنة بلا برهان ، وللزمكم في سائر الشرائع كلها أن لا تأخذا في شيء منها لا بقرآن ، ولا بسنة إلا حتى يجمع الناس على ما أجمعوا عليه منها ، وفي هذا هدم مذاهبكم كلها ، بل فيه الخروج على الإسلام ، وإباحة مخالفة الله تعالى ورسوله ﷺ في الدين كله ، إلا حتى يجمع الناس على شيء من ذلك ، وهذا نفسه خروج عن الإجماع وإنما الحق في وجوب اتباع القرآن والسنن حتى يصح نص أو إجماع في شيء منهما أنه مخصوص أو منسوخ ، فيوقف عند ما صح من ذلك ، فإنما بعث الله تعالى نبيه ﷺ ليطاع . قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } ولم يبعثه الله تعالى ليعصى حتى يجمع الناس على طاعته ، بل طاعته واجبة قبل أن يطيعه أحد . وقبل أن يخالفه أحد ، لكن ساعة يأمر بالأمر ، هذا ما لا يقول مسلم خلافه ، حتى نقض من نقض والسفر : هو البروز عن محلة الإقامة ، وكذلك الضرب في الأرض ، هذا الذي لا يقول أحد من أهل اللغة - التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن - سواه ، فلا يجوز أن يخرج عن هذا الحكم إلا ما صح النص بإخراجه ؟ ثم وجدنا رسول الله ﷺ قد خرج إلى البقيع لدفن الموتى ، وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا ولا أفطروا ، ولا أفطر ولا قصر فخرج هذا عن أن يسمى سفرا ، وعن أن يكون له حكم السفر ، فلم يجز لنا أن نوقع اسم سفر وحكم سفر إلا على من سماه من هو حجة في اللغة سفرا ، فلم نجد ذلك في أقل من ميل . فقد روينا عن ابن عمر أنه قال : لو خرجت ميلا لقصرت الصلاة ، فأوقعنا اسم السفر وحكم السفر في الفطر والقصر على الميل فصاعدا ، إذ لم نجد عربيا ولا شريعيا عالما أوقع على أقل منه اسم سفر ، وهذا برهان صحيح - وبالله تعالى التوفيق فإن قيل : فهلا جعلتم الثلاثة الأميال - كما بين المدينة وذي الحليفة - حدا للقصر والفطر ، إذ لم تجدوا عن رسول الله ﷺ أنه قصر ولا أفطر في أقل من ذلك ؟ قلنا : ولا وجدنا عليه السلام منعا من الفطر والقصر في أقل من ذلك ، بل وجدناه عليه السلام أوجب عن ربه تعالى الفطر في السفر مطلقا ، وجعل الصلاة في السفر ركعتين مطلقا ، فصح ما قلناه - ولله تعالى الحمد . والميل : هو ما سمي عند العرب ميلا ، ولا يقع ذلك على أقل من ألفي ذراع ؟ فإن قيل : لو كان هذا ما خفي على ابن عباس ، ولا على عثمان ، ولا على من لا يعرف ذلك من التابعين والفقهاء ، فهو مما تعظم به البلوى قلنا : قد عرفه عمر ، وابن عمر ، وأنس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين . ثم نعكس عليكم قولكم - : فنقول للحنفيين : لو كان قولكم في هذه المسألة حقا ما خفي على عثمان ، ولا على ابن مسعود ، ولا على ابن عباس ، ولا على من لا يعرف قولكم ، كمالك ، والليث ، والأوزاعي ، وغيرهم ، ممن لا يقول به من الصحابة والتابعين والفقهاء وهو مما تعظم به البلوى ؟ ونقول للمالكيين : لو كان قولكم حقا ما خفي على كل من ذكرنا من الصحابة والتابعين والفقهاء ، وهو مما تعظم به البلوى ؟ إلا أن هذا الإلزام لازم للطوائف المذكورة لا لنا ؛ لأنهم يرون هذا الإلزام حقا ، ومن حقق شيئا لزمه . وأما نحن فلا نحقق هذا الإلزام الفاسد بل هو عندنا وسواس وضلال ، وإنما حسبنا اتباع ما قال الله تعالى ورسوله عليه السلام ، عرفه من عرفه ، وجهله من جهله ، وما من شريعة اختلف الناس فيها إلا قد علمها بعض السلف وقال بها ، وجهلها بعضهم فلم يقل بها - وبالله تعالى التوفيق قال علي : وقد موه بعضهم بأن قال : إن من العجب ترك سؤال الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله ﷺ عن هذه العظيمة ، وهي حد السفر الذي تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه في رمضان ؟ فقلنا : هذا أعظم برهان ، وأجل دليل ، وأوضح حجة لكل من له أدنى فهم وتمييز - : على أنه لا حد لذلك أصلا إلا ما سمي سفرا في لغة العرب التي بها خاطبهم عليه السلام ، إذ لو كان لمقدار السفر حد غير ما ذكرنا لما أغفل عليه السلام بيانه ألبتة ، ولا أغفلوا هم سؤاله عليه السلام عنه ، ولا اتفقوا على ترك نقل تحديده في ذلك إلينا ، فارتفع الإشكال جملة ، ولله الحمد ، ولاح بذلك أن الجميع منهم قنعوا بالنص الجلي ، وإن كل من حد في ذلك حدا فإنما هو وهم أخطأ فيه ؟ قال علي : وقد اتفق الفريقان على أنه إذا فارق بيوت القرية وهو يريد : إما ثلاثة أيام وإما أربعة برد - : أنه يقصر الصلاة . فنسألهم : أهو في سفر تقصر فيه الصلاة ؟ أم ليس في سفر تقصر فيه الصلاة بعد ، لكنه يريد سفرا تقصر فيه الصلاة بعد ، ولا يدري أيبلغه أم لا ؟ ولا بد من أحد الأمرين ؟ فإن قالوا : ليس في سفر تقصر فيه الصلاة بعد ، ولكنه يريده ، ولا يدري أيبلغه أم لا ، أقروا بأنهم أباحوا له القصر ، وهو في غير سفر تقصر فيه الصلاة ، من أجل نيته في إرادته سفرا تقصر فيه الصلاة ، ولزمهم أن يبيحوا له القصر في منزله وخارج منزله بين بيوت قريته ، من أجل نيته في إرادته سفرا تقصر فيه الصلاة ولا فرق . وقد قال بهذا القول : عطاء ، وأنس بن مالك ، وغيرهما ، إلا أن هؤلاء يقرون أنه ليس في سفر ، ثم يأمرونه بالقصر ، وهذا لا يحل أصلا وإن قالوا : بل هو في سفر تقصر فيه الصلاة ؟ هدموا كل ما بنوا ، وأبطلوا أصلهم ومذهبهم ، وأقروا بأن قليل السفر وكثيره : تقصر فيه الصلاة ، لأنه قد ينصرف قبل أن يبلغ المقدار الذي فيه القصر عندهم ؟ وأما نحن فإن ما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر ، فلا يقصر فيه ولا يفطر ، فإذا بلغ الميل فحينئذ صار في سفر تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه ، فمن حينئذ يقصر ويفطر . وكذلك إذا رجع فكان على أقل من ميل فإنه يتم ، لأنه ليس في سفر - يقصر فيه بعد .

محلى ابن حزم - المجلد الأول/كتاب الصلاة

كتاب الصلاة (مسألة 275 - 280) | كتاب الصلاة (مسألة 281 - 284) | كتاب الصلاة (مسألة 285) | كتاب الصلاة (مسألة 286) | كتاب الصلاة (تتمة مسألة 286) | كتاب الصلاة (مسألة 287 - 295) | كتاب الصلاة (مسألة 296 - 300) | كتاب الصلاة (مسألة 301) | كتاب الصلاة (تتمة مسألة 301) | كتاب الصلاة (مسألة 302 - 313) | كتاب الصلاة (مسألة 314 - 321) | كتاب الصلاة (مسألة 322 - 334) | كتاب الصلاة (مسألة 335) | كتاب الصلاة (مسألة 336) | كتاب الصلاة (مسألة 337 - 347) | كتاب الصلاة (مسألة 344 - 348) | كتاب الصلاة (مسألة 349) | كتاب الصلاة (مسألة 350 - 353) | كتاب الصلاة (مسألة 354 - 360) | كتاب الصلاة (مسألة 361 - 368) | كتاب الصلاة (مسألة 369 - 371) | كتاب الصلاة (مسألة 372 - 376) | كتاب الصلاة (مسألة 377 - 384) | كتاب الصلاة (مسألة 385 - 391) | كتاب الصلاة (مسألة 392 - 394) | كتاب الصلاة (مسألة 395 - 412) | كتاب الصلاة (مسألة 413 - 420) | كتاب الصلاة (مسألة 421 - 434) | كتاب الصلاة (مسألة 435 - 442) | كتاب الصلاة (مسألة 443 - 446) | كتـاب الصلاة (مسألة 447 - 453) | كتـاب الصلاة (مسألة 454 - 458) | كتـاب الصلاة (مسألة 459 - 461) | كتـاب الصلاة (مسألة 462 - 466) | كتـاب الصلاة (مسألة 467 - 472) | كتـاب الصلاة (مسألة 473 - 484) | كتـاب الصلاة (مسألة 485) | كتـاب الصلاة (مسألة 486 - 488) | كتـاب الصلاة (مسألة 489 - 493) | كتـاب الصلاة (مسألة 494 - 496) | كتـاب الصلاة (مسألة 497 - 504) | كتـاب الصلاة (مسألة 505) | كتـاب الصلاة (مسألة 506 - 510) | كتـاب الصلاة (مسألة 511 - 512) | كتـاب الصلاة (مسألة 513) | كتـاب الصلاة (مسألة 514 - 518) | كتـاب الصلاة (مسألة 519 - 520) | كتاب الصلاة (مسألة 521 - 523) | كتاب الصلاة (مسألة 524 - 529) | كتاب الصلاة (مسألة 530 - 540) | كتاب الصلاة (مسألة 543 - 553) | كتاب الصلاة (مسألة 554 - 555) | كتاب الصلاة (مسألة 556 - 557)