سخاء الملك وحياؤه
ومن أخلاق الملك الكرم والسخاء.
فهما قرينا كل ملكٍ كان على وجه الأرض. ولو قال قائل إنهما ركبا في الملوك كتركيب الأعضاء والجوارح، كان له أن يقول؛ إذ كنا لم نشاهد، ولم يبلغنا عمن مضى من الملوك، ملوك العجم ومن كان قبلهم، وملوك الطوائف وغيرهم، القحة والبخل.
فأما السخاء، فلو لم يكن أحد طبائع الملوك، كان يجب أن يكون باكتسابٍ إن كان الملك من أهل التمييز؛ وذلك انه يفيد أكثر مما ينفق. فإذا كانت هذه صفة كل ملك، فما عليه من اتخاذ الصنائع، وعم المنن، والإحسان إلى من نأى عنه أو دنا منه من أو ليائه، والرحمة للفقير والمسكين، والعائدة إلى أهل الحاجة. وأما الحياء، فهو من أجناس الرحمة.
وحقيق للملك، إذ كان الراعي، أن يرحم رعيته؛ وإذ كان الإمام، أن يرق على المؤتم به، وإذ كان المولى، أن يرحم عبده.
فقد تخطي العامة، وكثير من الخاصة، في الملوك، حتى يسمونهم بغير أسمائهم، ويصفونهم بغير صفاتهم، وينحلونهم البخل والإمساك، إذا رأوا الملك على سننٍ من القصد، وعدلٍ من حد الإنفاق، ويغفلون عما أدب الله تعالى به نبيه ﷺ، بقوله عز وجل: " ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ".
وبمدحه الصالحين من عباده بالقصد في ذات أيديهم، بعلمهم أن أرضى الأحوال عنده، ما دخل في باب الاقتصاد، بقوله: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ".
وقد ذكر بعض من لا يعلم، في كتاب ألفه في البخلاء من الملوك، أن هشام بن عبد الملك بن مروان، ومروان بن محمد، وأبا جعفر المنصور وغيره منهم. ولولا أنا احتجنا إلى الأخبار عن جهل هذا، لم يكن لذكره معنى، ولا للتشاغل بالرد عليه. وكيف يكون المنصور ممن دخل في جملة هذا القول، ولا يعلم أن أحداً من خلفاء الإسلام، ولا ملوك الأمم، وصل بألف ألفٍ لرجلٍ واحدٍ غيره! ولقد فرق على جماعة من أهل بيته عشرة آلاف ألف درهم. ذكر ذلك الهيثم بن عدي والمدايني.
وحدثني بعض أصحابنا عن أبيه عن زيد مولى عيسى بن نهيك، قال: دعاني المنصور، بعد موت مولاي،
فقال: يا زيد! قلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: كم خلف أبو يزيد من المال؟ قلت: ألف دينار أو نحوها. قال: فأين هي؟ قلت: أنفقتها الحرة في مأتمه.
قال: فاستعظم ذلك، وقال: أنفقت في مأتمه ألف دينار! ما أعجب هذا! ثم قال: كم خلف من البنات؟ قلت: ستاً! فأطرق ملياً، ثم رفع رأسه وقال: أغد إلى باب المهدي.
فغدوت، فقيل لي: معك بغال؟ فقلت: لم أؤمر بإحضار بغلٍ ولا غيره، ولا أدري لم دعيت.
قال: فأعطيت ثمانين ومائة ألف دينار، وأمرت أن أدفع لكل واحدةٍ من بنات عيسى ثلاثين ألف دينار. ففعلت. ثم دعاني المنصور فقال: قبضت ما أمرنا به لبنات أبي يزيد؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين! قال: أغد علي بأكفائهن، حتى أزوجهن منهم.
قال: فغدوت عليه بثلاثة من ولد العكي وثلاثة من آل نهيكٍ من بني عمهن. فزوج كل واحدة منهن على ثلاثين ألف درهم، وأمر أن يجعل صداقهن من ماله. وأمرني أن أشتري بما أمر لهن ضياعاً يكون معاشهن منها.
فلما سمع هذا الجاهل المائن بمثل هذه المكارم لعربي أو أعجمي! ولو أردنا أن نذكر محاسن المنصور على التفصيل والتقصي، لطال بها الكتاب، وكثرت فيه الأخبار.
وقلما استعملت العامة وكثير من الخاصة التمييز، إيثاراً للتقليد. إذ كان أقل في الشغل، وأدل على الجهل، وأخف في المؤونة. وحسبك من جهل العامة أنها تفضل السمين على النحيف، وإن كان السمين مأفوناً، والنحيف ذا فضائل؛ وتفضل الطويل على القصير، لا للطول ولكن لشيء آخر لا ندري ما هو، وتفضل راكب الدابة على راكب البغل، وراكب البغل على راكب الحمار، اقتصاراً على التقليد إذ كان أسهل في المأتى، وأهون في الاختيار.