حفظ حرم الملك
فأما محنته في الحرم، فكان إذا خف الرجل على قلبه، وقرب من نفسه، وكان عالماً يظهر التأله، وكان عنده ممن يصلح للأمانة في الدماء والفروج والأموال على ظاهره، أحب أن يمتحنه بمحنةٍ باطنة فيأمر به أن يحول إلى قصره، ويفرغ له بعض الحجر التي تقرب منه، ولا يحول إليها امرأةً ولا جاريةً ولا حرمةً، ويقول له: إني أحب الأنس بك في ليلي ونهاري، ومتى كان معك بعض حرمك، قطعك عني، وقطعني عنك.
فاجعل منصرفك إلى منزل نسائك في كل خمس ليالٍ ليلةً. فإذا تحول الرجل، وخلابه، وآنسه، وكان آخر من ينصرف من عنده، فيتركه على هذه الحال أشهراً.
فامتحن رجلاً من خاصته بهذه المحنة في الحرم، ثم دس إليه جاريةً من خواص جواريه، ووجه معها إليه بألطافٍ وهدايا. وأمرها أن لا تقعد عنده في أول ما تأتيه. فلما أتته بألطاف الملك، قامت. فلم تلبث أن انصرف. حتى إذا كانت المرة الثانية، أمرها أن تقعد هنيهةً، وأن تبدي بعض محاسنها، حتى يتأملها، ففعلت، ولاحظها الرجل، وتأملها، ثم انصرف.
فلما كانت المرة الثالثة، أمرها أن تقعد عنده، وتطيل القعود وتحادثه، وإن أرادها على الزيادة من المحادثة، أجابته، ففعلت، وجعل الرجل يحد النظر إليها، ويسر بحديثها. ومن شأن النفس أن تطلب، بعد ذلك، الغرض من هذه المطايبة، فلما أبدى ما عنده، قالت: إني أخاف أن يعثر علينا، ولكن دعني أدبر في هذا ما يتم به امرنا. ثم انصرف.
فأخبرت الملك بكل ما دار بينهما، فوجه أخرى من خاص جواريه وثقاتهن بألطافه وهداياه، فلما جاءته، قال لها: ما فعلت فلانة؟ قالت: اعتلت. فاربد لون الرجل، ثم لم تطل القعود عنده، كما فعلت الأولى في المرة الأولى، ثم عاودته بعد ذلك، فقعدت أكثر من المقدار الأول، وأبدت بعض محاسنها، حتى تأملها. وعاودته في المرة الثالثة، فأطالت عنده القعود والمضاحكة والمهازلة. فدعاها إلى ما في تركيب النفس من الشهوة. فقالت: إنا من الملك على خطى يسيرة، ومعه في دار واحدة.
ولكن الملك يمضي بعد ثلاثٍ إلى بستانه الذي بموضع كذا، فيقيم هناك، فإن أرادك على الذهاب معه، فأظهر أنك عليل، وتمارض. فإن خيرك بين الانصراف إلى دور نسائك أو المقام ههنا إلى رجوعه، فاختر المقام، وأخبره أن الحركة تصعب عليك. فإذا أجابك إلى ذلك، جئت في أول الليل، ولبثت عندك إلى آخره.
فسكن الرقيع إلى هذه الأنسة، وانصرف الجارية إلى الملك، فأخبرته بكل ما دار بينها وبينه.
فلما كان الوقت الذي وعدته أن يخرج الملك فيه، دعاه الملك، فقال للرسول: أخبره أني عليل. فلما جاءه الرسول وأخبره، تبسم أبرويز، وقال: هذا أول الشر. فوجه إليه بمحفةٍ، فحمل فيها حتى أتاه، وهو معصب الرأس. فلما بصر به من بعيد، قال: والعصابة الشر الثاني. وتبسم.
فلما دنا من الملك، سجد، فقال له أبرويز: متى حدثت بك هذه العلة؟ قال: في هذه الليلة. قال: فأي الأمرين احب إليك: الانصراف إلى منزلك ونسائك ليمرضنك، أو المقام ههنا إلى وقت رجوعي؟ قال: ههنا، أيها الملك، أرفق لي، لقلة الحركة.
فتبسم أبرويز، وقال: ما صدقت! حركتك ههنا، إن خلفتك، أكثر من حركتك في منزلك.
ثم أمر أن تخرج له عصا الزناة التي كان يوسم بها من زنى. فأيقن الرجل بالشر.
وأمر أن يكتب ما كان من أمره حرفاً حرفاً، فيقرأ على الناس إذا حضروا، وأن ينفى إلى أقصى حد المملكة، ويجعل العصا في رأس رمحٍ تكون معه حيث كان، ليحذر منه من لا يعرفه.
فلما أخرج بالرجل عن المداين، متوجهاً به نحو فارس، أخذ مديةً كانت مع بعض الأعوان الذين وكلوا به، فجب بها ذكره،
وقال: من أطاع عضواً من أعضائه صغيراً، أفسد عليه أعضاءه كلها، صغارها وكبارها، فمات من ساعته.