أخلاق الملك السعيد
ومن أخلاق الملك السعيد ترك القطوب في المنادمة، وقلة التحفظ على ندمائه، ولا سيما إذا غلب أحدهم على عقله، وكان غيره أملك به منه بنفسه.
وللسكر حد، إذا بلغه نديم الملك، فأجمل الأمور وأحراها بأخلاقه أن لا يؤاخذه بزلةٍ إن سبقته، ولا بلفظةٍ إن غلبت لسانه، ولا بهفوةٍ كانت إحدى خواطره.
والحد في ذلك أن لا يفعل ما يقول، ولا ما يقال له؛ وإن خلي ونفسه، رمى بها في مهواة، وإن أراد أحد أخذ ثيابه لم يمانعه.
فأما إذا كان ممن يعرف ما يأتي وما يذر، وكان إذا رام أحد اخذ ما معه، قاتله دونه؛ وكان إذا شتم، غضب وانتصر، وإذا تكلم أفصح، وقل سقطه؛ فإذا كانت هذه صفته، ثم جاءت منه زلة، فعلى عمدٍ أتاها، وبقصدٍ فعلها.
فالملك جدير أن يعاقبه بقدر ذنبه. فإن ترك عقوبة هذا ومن أشبهه، قدح في عزه وسلطانه.
ومن الحق على الملك أن لا يجاوز بأهل الجرائم عقوبة جرائمهم. فإن لكل ذنبٍ عقوبةً. إما في الشريعة والنواميس، وإما في الإجماع والاصطلاح. فمن ترك العقوبة في موضعها، فبالحرى أن يعاقب من لا ذنب له. وليس بين ترك العقوبة، إذا وجبت، وعقوبة من لا ذنب له، فرق. وإنما وضع الله الملوك بهذه المواضع الرفيعة، ليقوموا كل ميل، ويدعموا كل إقامة.
تطيب الملك وتجمله: ومن أخلاق الملك أن لا يشارك بطانته وندماءه في مس طيبٍ ولا مجمرٍ؛ فإن هذا وما أشبهه يرتفع الملك فيه عن مساواة أحد. وكذا يجب على بطانة الملك وقرابته أن لا يمسوا طيباً إذا تطيب، لنفرد الملك بذلك دونهم. وليس الطيب كالطعام والشراب اللذين لا بد من مشاركة الندماء فيهما.
فأما كل ما أمكن الملك أن ينفرد به دون خاصته وحامته؛ فمن أخلاقه أن لا يشارك أحداً فيه. وكذا حكي عن أنوشروان ومعاوية بن أبي سفيان. وبعض أهل العلم يحكي عن الرشيد ما يقرب من هذا.
وأولى الأمور بأخلاق الملك، إن أمكنه التفرد بالماء والهواء، أن لا يشرك فيهما أحداً؛ فإن البهاء والعز والأبهة في التفرد.
ألا ترى أن الأمم الماضية من الملوك، لم يكن شيء أحب إليهم من أن يفعلوا شيئاً تعجز عنه الرعية، أو يتزيوا بزي ينهون الرعية عن مثله؟! فمن ذلك أردشير بن بابك، وكان أنبل ملوك بني ساسان. كان إذا وضع التاج على رأسه، لم يضع أحد في المملكة على رأسه قضيب ريحانٍ متشبهاً به؛ وكان إذا ركب في لبسةٍ، لم ير على أحدٍ مثلها؛ وإذا تختم بخاتمٍ، فحرام على أهل المملكة أن يتختموا بمثل ذلك الفص، وإن بعد في التشابه.
وهذه من فصائل الملوك. وطاعة أهل المملكة أن تتحامى أكثر زي الملك، وأكثر أحواله وشيمه، حتى لا يأتي مالا بد لها منه.
وهذا أبو أحيحة سعيد بن العاص: كان إذا اعتم بمكة، لم يعتم أحد بعمةٍ ما دامت على رأسه.
وهذا الحجاج بن يوسف؛ كان إذا وضع على رأسه طويلة، لم يجتريء أحد من خلق الله أن يدخل، وعلى رأسه مثلها.
وهذا عبد الملك بن مروان؛ كان إذا لبس الخف الأصفر، لم يلبس أحد من الخلق خفاً أصفر حتى ينزعه.
وهذا إبراهيم بن المهدي، بالأمس: دخل على أحمد بن أبي دؤاد بن علي، وعليه مبطنة ملونة من أحسن ثوبٍ في الأرض، وقد اعتم على رأسه رصافيةً بعمامة خزٍ سوداء، لها طرفان خلفه وأمامه، وعليه خف أصفر، وفي يده عكازة آبنوس ملوحٍ بذهبٍ، وفي إصبعه فص ياقوتٍ تضيء يده منه. فنظر إلى هيئةٍ ملت قلبه، وكان جسيماً، فقال: يا إبراهيم! لقد جئتني في لبسةٍ وهيئةٍ ما تصلح إلا لواحدٍ من الخلق.
وحدثني أبو حسان الزيادي وذكر الفضل بن سهلٍ، فترحم عليه، وقال: وجه إلي في ليلة، وقد أويت إلى فراشي، رسولاً، فقال: يقول لك ذو الرياستين:
لا تعتم غداً على قلنسوة إذا حضرت الدار.
قال: فبت واجماً، وأنا لا أعلم ما يريد بذلك. وغدوت، وغدا الناس على طبقاتهم ومراتبهم؛ فجاء الحسين بن أبي سعيد إلى من في الدار، فقال: إن أمير المؤمنين يقعد في هذا اليوم، ويعتم على قلنسوة، فانزعوا عمائمكم. وحدثني بعض أصحابنا عن الحسن بن قريش، قال: لما مات القاسم بن الرشيد، وجه إلي المأمون رسولاً، فأتيته. فجعل يسألني عن عياله وعن أمواله، ويشكوه إلي، ويقول: كان يفعل كذا، ويفعل كذا، فكان في تلك الشكاية أن قال: وكان إذا ركب بمروٍ في رصافية.
الملك في مجلس الشراب: ومن أخلاق الملك، إذا علم أن بعض الندماء قد بلغ غاية مجهوده في الشرب، وأن الزيادة بعد ذلك تضر ببدنه وجوارحه، أن يأمر بالكف عنه، وأن لا يكلف فوق وسعه. فإنه من تجاوز حق العدل عن الخاصة، لم تطمع العامة في إنصافه.
ومن حق الملك أن لا يكلمه أحد من الندماء مبتدئاً ولا سائلاً لحاجة، حتى يكون
هو المبتديء بذلك. فإن جهل أحد ما يلزمه في ذلك، تقدم إليه فيما يجب عليه. فإن عاد، فعلى الموكل بأمر الدار أن يحسن أدبه، وأن لا يأذن له في الدخول، حتى يكون الملك يبتديء ذكره، ثم يوعز إليه أنه، إن عاد، أسقطت مرتبته، فلم يطأ بساط الملك.
وكان شيرويه بن أبرويز يقول: إنما تعذر البطانة برفع حوائجها إلى الملوك عند ضيقةٍ تكون، أو عند جفوةٍ تنالهم من ملوكهم، أو عند موتٍ يحدث لهم، أو عند تتابع أزمةٍ. فإذا كان ذلك، فعلى الملك تعهد ذلك من خاصته، حتى يصلح لهم أمورهم، ويسد خلتهم. فإذا كانوا من الكفاية في أقصى حدودها، ومن خفض العيش في أرفع خصائصه، ومن ذات اليد وإدرار العطايا في أتم صفاتها، ثم فتح أحد فاه بطلب ما فوق هذه الدرجة، فالذي حداه على ذلك الشره والمنافسة. ومن ظهرت هاتان منه، كان جديراً أن تنزع كفايته من يده، وتصير في يد غيره، وينقل إلى الطبقة الخسيسة، فيلزم أذناب البقر، وحراثة الأرض.