حديث الملك
ومن حق الملك، إذا حدث بحديث، أن يصرف من حضره فكره وذهنه نحوه، فإن كان يعرف الحديث الذي يحدث به الملك، استمعه استماع من لم يدر في حاسة سمعه قط ولم يعرفه، وأظهر السرور بفائدة الملك والاستبشار بحديثه، فإن في ذلك أمرين: أحدهما ما يظهر من حسن أدبه، والآخر أنه يعطي الملك حقه بحسن الاستماع. وإن كان لم يعرفه، فالنفس إلى فوائد الملوك والحديث عنهم أقرم وأشهى منها إلى فوائد السوقة ومن أشبههم.
وإنما مدار الأمر والغاية التي إليها يجري، الفهم والإفهام، والطلب ثم التثبت.
قال عمرو بن العاص: ثلاثة لا أملهن: جليسي ما فهم عني، وثوبي ما سترني، ودابتي ما حملت رحلي وذكر الشعبي ناساً، فقال: ما رأيت مثلهم أشد تناقداً في مجلس ولا أحسن فهماً عن محدث.
وقال سعيد بن سلم الباهلي لأمير المؤمنين المأمون: لو لم أشكر الله إلا على حسن ما أبلاني أمير المؤمنين من قصده إلي بالحديث، وإشارته إلي بطرفه، لقد كان ذلك من أعظم ما تفرضه الشريعة، وتوجبه الحرية.
قال المأمون: لأن أمير المؤمنين، والله، يجد عندك من حسن الإفهام إذا تحدثت، وحسن الفهم إذا حدثت، ما لم يجده عند أحدٍ فيما مضى، ولا يظن أنه يجده فيما بقي.
وفيما يحكى عن أنوشروان أنه بينا هو في مسيرٍ له، وكان لا يسايره أحد من الخلق مبتدئاً وأهل المراتب العالية خلف ظهره على مراتبهم، فإن التفت يميناً، دنا منه صاحب الحرس، وإن التفت شمالاً، دنا منه الموبذ، فأمره بإحضار من أراد مسايرته، قال: فالتفت في مسيره هذا، يميناً، فدنا منه صاحب الحرس،
فقال: فلان. فأحضره، فقال: حدثني عن أردشير بن بابك حين واقع ملك الخزر، وكان الرجل قد سمع من أنوشروان هذا الحديث مرة، فاستعجم عليه وأوهمه أنه لا يعرفه. فحدثه أنوشروان بالحديث، فأصغى الرجل إليه بجوارحه كلها، وكان مسيرهما على شاطيء نهر.
وترك الرجل، لإقباله على الحديث، النظر إلى مواطيء حافر دابته، فزلت إحدى قوائم الدابة، فمالت بالرجل إلى النهر، فوقع في الماء ونفرت دابته، فابتدرها حاشية الملك وغلمانه، فأزالوها عن الرجل، وجذبوه فحملوه على أيديهم حتى أخرجوه، فاغتم لذلك أنوشروان، ونزل عن دابته، وبسط له هناك، فأقام حتى تغدى في موضعه ذلك، ودعا بثياب من خاص كسوته، فألقيت على الرجل، وأكل معه،
وقال له: كيف أغفلت النظر إلى موطيء حافر دابتك؟
قال: أيها الملك! إن الله إذا أنعم على عبدٍ بنعمة، قابلها بمنحةٍ، وعارضها ببلية، وعلى قدر النعم تكون المحن. وإن الله أنعم علي بنعمتين عظيمتين هما: إقبال الملك علي بوجهه من بين هذا السواد الأعظم، وهذه الفائدة وتدبير هذه الحرب التي حدث فيها عن أردشير، حتى لو رحلت إلى حيث تطلع الشمس أو تغرب، كنت فيه رابحاً. فلما اجتمعت نعمتان جليلتان في وقت واحد، قابلتهما هذه المحنة، ولولا أساورة الملك وخدمه وحسن جده، كنت بمعرض هلكة. وعلى ذلك، فلو غرقت حتى أذهب عن جديد الأرض، كان قد أبقى لي الملك ذكراً متلداً، ما بقي الضياء والظلام. فسر الملك،
وقال: ما ظننتك بهذا المقدار الذي أنت فيه!.