وهكذا يحكى عن أبي شجرة، يزيد بن شجرة الرهاوي، أنه بينا هو يساير معاوية
بن أبي سفيان، ومعاوية يحدثه عن يوم خزاعة وبني مخزوم وقريش، وكان هذا قبل الهجرة، وكان يوماً أشرف فيه الفريقان على الهلكة حتى جاءهم أبو سفيان فارتفع ببعيره على رابية، ثم أومأ بكميه إلى الفريقين، فانصرفوا. قال: فبينا معاوية يحدث يزيد بن شجرة بهذا الحديث، إذ صك وجه يزيد حجر عائر فأدماه، وجعلت الدماء تسيل من وجهه على ثوبه، وهو ما يمسح وجهه.
فقال له معاوية: لله أنت! ما ترى ما نزل بك؟ قال: وما ذاك، يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا دم وجهك يسيل على ثوبك! قال: أعتق ما أملك، إن لم يكن حديث أمير المؤمنين ألهاني حتى غمر فكري، وغطى على قلبي، فما شعرت بشيء حتى نبهني أمير المؤمنين.
فقال له معاوية: لقد ظلمك من جعلك في ألفٍ من العطاء، أخرجك من عطاء أبناء المهاجرين، وكماة أهل صفين، فأمر له بخمسمائة ألف درهم، وزاده في عطائه ألف درهم، وجعله بين جلده وثوبه. فلئن كان يزيد بن شجرة خدع معاوية في هذه، فمعاوية ممن لا يخادع ولا يجارى؛ ولئن كان بلغ من بلادة يزيد بن شجرة وقلة حسه ما وصف به نفسه، ما كان بجدير بخمسمائة ألف في عطائه.
وما أظن ذلك خفي عن معاوية، ولكنه تغافل على معرفةٍ، لما وفاه حق رياسته.
ويروى عن معاوية انه كان يقول: السرو التغافل.
بين أبي العباس السفاح وأبي بكر الهذلي: وكذلك حكي عن أبي بكر الهذلي أنه بينما هو يسامر أبا العباس، إذ تحدث أبو العباس بحديث من أحاديث الفرس، فعصفت الريح، فأذرت طساً من سطح إلى مجلس أبي العباس، فارتاع ومن حضره، ولم يتحرك أبو بكر لذلك، ولم تزل عينه متطلعة لعين أبي العباس.
فقال له: ما أعجب شأنك، يا هذلي! لم ترع مما راعنا.
قال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل يقول: ما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه، وإنما للمرء قلب واحد، فلما غمره السرور بمحادثة أمير المؤمنين، لم يكن فيه لحادث مجال. وإن الله إذا انفرد بكرامة أحد، وأحب أن يبقى له ذكرها، جعل تلك الكرامة على لسان نبيه أو خليفته. وهذه كرامة خصصت بها، مال إليها ذهني، وشغل بها فكري. فلو انقلبت الخضراء على الغبراء ما أحسست بها ولا وجمت لها إلا بما يلزمني في نفسي لأمير المؤمنين.
فقال أبو العباس: لئن بقيت لك، لأرفعن منك ضبعاً لا تطيف به السباع، ولا تنحط عليه العقبان.