استقصاء أحوال الرعية
ومن أخلاق الملك السعيد البحث عن سرائر خاصته وحامته، وإذكاء العيون عليهم خاصةً، وعلى الرعية عامة.
وإنما سمي الملك راعياً، ليفحص عن دقائق أمور الرعية وخفي نياتهم. ومتى غفل الملك عن فحص أسرار رعيته، والبحث عن أخبارها، فليس له من اسم الراعي إلا رسمه، ومن الملك إلا ذكره.
فأما الملك السعيد، فمن أخلاقه البحث عن كل خفي ودفين حتى يعرفه معرفة نفسه عند نفسه، وأن لا يكون شيء أهم ولا أكبر في سياسته ونظام ملكه من الفحص عما قدمنا ذكره.
ولم ير ملك قط كان أعجب في هذا الأمر من أردشير بن بابك. ويقال إنه كان يصبح فيعلم كل شيء بات عليه من كان في قصبه دار مملكته من خيرٍ أو شر، ويمسي فيعلم كل شيءٍ أصبحوا عليه. فكان متى شاء قال لأرفعهم وأوضعهم: كان عندك في هذه الليلة كيت وكيت.
ثم يحدثه بكل ما كان فيه إلى أن أصبح.
فقال إن بعضهم كان يقول إنه كان يأتيه ملك من السماء، فيخبره. وما كان ذلك إلا لتيقظه وكثرة تعهده لأمور رعيته.
ثم كان فيمن نأى من أهل مملكته على مثل هذه الحال.
فيقال إن الأمم كلها، أولها وآخرها، وقديمها وحديثها، لم تخف أحداً من ملوكها، خوفها أردشير بن بابك من ملوك الأعاجم، ومن كان قبلهم، وعمر بن الخطاب من خلفاء الإسلام.
فإن عمر كان علمه بمن نأى عنه من عماله ورعيته كعلمه بمن بات معه في مهادٍ واحدٍ، وعلى وسادٍ واحد. فلم يكن له في قطر من الأقطار، ولا ناحية من النواحي عامل ولا أمير جيشٍ إلا وعليه له عين لا يفارقه ما وجده. فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممسً ومصبح.
وأنت ترى ذلك في كتبه إلى عماله وعمالهم، حتى كان العامل منهم ليتهم أقرب الخلق إليه، وأخصهم به. فساس الرعية سياسة أردشير بن بابك في الفحص عن أسرارها خاصةً.
ثم اقتفى معاوية فعله، وطلب أثره، فانتظم له أمره، وطالت له مدته.
وكذا كان زياد ابن أبيه يحتذي فعل معاوية، كاحتذاء معاوية فعل عمر.
وفيما يحكى عنه أن رجلاً كلمه في حاجةٍ له، فتعرف إليه، وهو يظن أنه، لا يعرفه، فقال: أصلح الله الأمير! أنا فلان بن فلان.
فتبسم زياد وقال: تتعرف إلي، وأنا أعرف منك بأبيك؟ والله إني لأعرفك وأعرف أباك وجدك وأمك وجدتك، وأعرف هذا البرد الذي عليك، وهو لفلان بن فلان.
فبهت الرجل وأرعب حتى أرعد، وكاد يغشى عليه.
وعلى هذا كان عبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف.
ثم لم يكن بعد هؤلاء أحد في مثل هذه السياسة حتى ملك المنصور. فكان أكثر الأمور عنده معرفة أحوال الناس، حتى عرف الولي من العدو، والمداجي من المسالم. فساس الرعية ولبسها، وهو من معرفتها على مثل وضح النهار. ثم درست هذه السياسة حتى ملك الرشيد، فكان أشد الملوك بحثاً عن أسرار رعيته، وأكثرهم بها عنايةً، وأحزمهم فيها أمراً.
وعلى نحو هذا كان المأمون أيامه. والدليل على ما قلنا فيه ما شاهدنا من رسالته إلى اسحق بن إبراهيم في الفقهاء وأصحاب الحديث، وهو بالشأم. خبر فيها عن عيب واحدٍ واحدٍ، وعن حالته وأموره التي خفيت، أو أكثرها، عن القريب والبعيد.
ثم ما علمت أن أحداً ممن كان دون السلطان الأعظم في دهرنا هذا كان أشد على الأسرار بحثاً وأكثر لها فحصاً، حتى بلغ من هذا الجنس أقصى حده، وآخر نهايته، وأبعد مداه، وجعله أكثر شغله في ليله ونهاره، إلا اسحق بن إبراهيم.
فحدثني موسى بن صالح بن شيخ، قال: كلمته في امرأةٍ من بعض أهلنا، وسألته النظر لها، فقال: يا أبا محمد! من قصة هذه المرأة ومن حالها ومن فعلها.
قال: فوالله! لم يزل يصفها ويصف أحوالها حتى بهت.
وحدث أبو البرق الشاعر، قال: كان يجري علي أرزاقاً، فدخلت عليه، فقال بعد أن أنشدته: كم عيالك؟ تحتاج في كل شهرٍ من الدقيق إلى كذا ومن الحطب إلى كذا.
فأخبرني بشيءٍ من أمر منزلي مما جهلت بعضه، وعلمه كله.
وحدثني بعض من كان في ناحيتة، قال: رفعت إليه رقعةً أسأله فيها إجراء أرزاقي.
فقال: كم عيالك؟ فزدت في العدد. فقال: كذبت! فبهت، وقلت في نفسي: يا نفس، من أين علم أني كذبت؟ فأقمت سنةً، لا أجتري على كلامه. ثم رفعت إليه رقعةً أخرى في إجراء أرزاقي. فقال: كم عيالك؟ فقلت: أربعة. فقال: صدقت فوقع في حاشية رقعتي: يجرى على عياله كذا وكذا.
ولولا أن يطول كتابنا في إسحاق وذكره، لحكينا عنه أخباراً كثيرةً، وهي من هذا الجنس، وفيما ذكرناه كفاية. فعلى الملك أن يميز بين أوليائه وأعدائه بالفحص عن أسرارهم ودقيق أخبارهم، حتى إن أمكنه أن يعرف مبيت أحدهم ومقيله، وما أحدث فيهما، فعل.
فإن الرعية لا تسكن قلوبها جلالة ملكها، ولو عبدته الجن والإنس ودانت له ملوك الأمم كلها، حتى يكون أشد إشرافاً عليها، وأكثر بحثاً عن سرائرها من أم الفريد عن حركته وسكونه.
خصال تطول بها مدة الملك: وأيضاً فإنه يقال في بعض كتب الأوائل في مواعظ الملوك وآدابها: إن الملك تطول مدته إذا كانت فيه أربع خصال: إحداهما: أنه لا يرضى لرعيته إلا ما يرضاه لنفسه، والأخرى: أن لا يسوف عملاً يخاف عاقبته، والأخرى: أن يجعل ولي عهده من ترضاه وتختاره رعاياه، لا من تهواه نفسه، والرابعة: أن يفحص عن أسرار الرعية، فحص المرضع عن منام رضيعها.
وقد تجد مصداق هذا القول ونشهد به. وذلك أنا لم نر مدةً طالت لملك عربي ولا عجمي قط إلا لمن فحص عن الأسرار، وبحث عن خفي الأخبار، حتى يكون في أمر رعيته على مثل وضح النهار.