إكرام الأوفياء
ومن أخلاق الملك إكرام أهل الوفاء وبرهم والاستنامة إليهم والثقة بهم والتقدمة لهم على الخاص والعام، والحاضر والبادي.
وذلك انه لا يوجد في الإنسان فضيلة أكبر ولا أعظم قدراً، ولا أنبل فعلاً من الوفاء. وليس الوفاء شكر اللسان فقط، لأن شكر اللسان ليس على أحدٍ منه مؤونة.
واسم الوفاء مشتمل على خلال:
فمنها أن يذكر الرجل من أنعم عليه، بحضرة الملك فمن دونه. فإن كان الملك
فيه سيء الرأي، فليس من الوفاء أن يعينه على سوء رأيه. فإن خاف سوط الملك وسيفه، فأحس صفاته أن يمسك عن ذكره بخيرٍ أو شرٍ.
ومنها المواساة للصاحب في المال، حتى يقاسمه الدرهم بالدرهم، والنعل بالنعل، والثوب بالثوب.
ومنها الحفظ له في خلفه وعياله، ما كان في الدنيا، حتى يجعلهم أسوةً بعياله في الجدب والخصب.
ومنها الشكر له باللسان والجوارح.
وكانت ملوك الأعاجم كلها، أولها وآخرها، لا تمنع أحداً من خاصتها وعامتها شكر من أنعم عليها أو على أحدٍ منها، وتقريظه وذكر نعمه وإحسانه، وإن كانت الشريعة قد قتلته، والملك قد سخط عليه. بل كانوا يعرفون فضيلة من ظهر ذلك منه، ويأمرون بصلته وتعهده.
ويقال إن قباذ أمر بقتل رجلٍ كان من الطاعنين على المملكة، فقتل. فوقف على رأسه رجل كان من جيرانه، فقال: رحمك الله! إن كنت، ما علمت، لتكرم الجار، وتصبر على أذاه، وتواسي أهل الحاجة، وتقوم بالنائبة! والعجب كيف وجد الشيطان فيك مساغاً حتى حملك على عصيان ملكك، فخرجت من طاعته المفروضة إلى معصيته! وقديماً ما تمكن ممن هو أشد منك قوةً وأثبت عزماً.
فأخذ الرجل
صاحب الشرطة فحبسه. وانتهى كلامه إلى قباذ، فوقع قباذ: يحسن إلى هذا الذي شكر حساناً فعل به، وترفع مرتبته، ويزاد في عطائه.
وهكذا فعل سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة المخزومي، حين حمل رأس مروان الجعدي إلى أبي العباس السفاح بالكوفة، فقعد له مجلساً وجاؤوا بالرأس.
فقام سعيد بن عمرو بن جعدة، فأكب عليه قياماً طويلاً، ثم قال: هذا رأس
أبي عبد الملك، خليفتنا بالأمس، رحمه الله! فوثب أبو العباس، فطعن في حجره. وانصرف ابن جعدة إلى منزله، وتحدث الناس بكلامه. فلامه بنوه وأهله،
وقالوا: عرضتنا ونفسك للبوار.
فقال: اسكتوا. قبحكم الله! ألستم الذين أشاروا علي بالأمس بحران بالتخلف عن مروان، ففعلت في ذلك غير فعل أهل الوفاء والشكر؟ وما ليغسل عني عار تلك الفعلة إلا هذه. فإنما أنا شيخ هامة، فإن نجوت يومي هذا من القتل، مت غداً.
قال: فجعل بنوه يتوقعون رسل أبي العباس أن تطرقه في جوف الليل؛ فأصبحوا، ولم يأته أحد. وغدا الشيخ، فإذا هو بسليم بن مجالد. فلما بصر به،
قال: يا ابن جعده! ألا أبشرك بجميل رأي أمير المؤمنين؟ إنه ذكر في هذه الليلة، ما كان منك، فقال: والله ما أخرج ذلك الكلام من الشيخ إلا الوفاء، ولهو أقرب منا قرابةً، وأمس بنا رحماً منه بمروان، إن أحسنا إليه. قال: أجل، والله.
وهكذا فعل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري بمعاوية بن أبى سفيان، حين دعاه إلى مفارقة علي بن أبى طالب، والدخول في طاعته. فكتب إليه قيس بن سعد: يا وثن بن وثن! تكتب إلي تدعوني إلى مفارقة علي بن أبي طالب، والدخول في طاعتك، وتخوفني بتفرق أصحابه عنه، وإقبال الناس عليك وإجفالهم إليك! فوالله الذي لا إله غيره! لو لم يبق له غيري، ولم يبق لي غيره، وما سالمتك أبداً، وأنت حربه، ولا دخلت في طاعتك وأنت عدوه، ولا اخترت عدو الله على وليه، ولا حزب الشيطان على حزب الله. والسلام! وفي سيرة الاسكندر ذي القرنين أنه لما قصد نحو فارس، تلقاه جماعة من أساورتهم برأس ملكهم، ومن انضم عليهم، وقال: من غدر بملكه، كان بغيره أغدر! وفيما يحكى عن شيرويه أن رجلاً من الرعية وقف له يوماً، وقد رجع من الميدان، فقال: الحمد لله الذي قتل أبرويز على يدك، وملكك ما كنت أحق به منه، وأراح آل ساسان من جبريته وعتوه وبخله ونكده. فإنه كان ممن يأخذ بالحبة،
ويقتل بالظن، ويخيف البريء، ويعمل بالهوى.
فقال شيرويه للحاجب: احمله إلي.
فحمل، فقال له: كم كانت أرزاقك في حياة أبرويز كنت في كفاية من العيش.
فكم زيد في أرزاقك اليوم؟ ما زيد في رزقي شيء.
فهل وترك أبرويز، فانتصرت منه بما سمعت من كلامك؟ لا.
قال: فما دعاك إلى الوقوع فيه، ولم يقطع عنك مادة رزقك، ولا وترك في نفسك؟ وما للعامة والوقوع في الملوك، وهم رعية؟ فأمر أن ينزع لسانه من قفاه، وقال: بحق ما يقال: إن الخرس خير من البيان فيما لا يجب.
وحدثني صباح بن خاقان، قال: حدثني أبي أن أبا جعفر المنصور لما أتي برأس
إبراهيم بن عبد الله، فوضع بين يديه، جاء بعض أولئك الرويدية، فضرب الرأس بعمودٍ كان في يده. فقال المنصور للمسيب: دق وجهه! فدق المسيب أنفه. ثم قال المنصور له: يا ابن اللخناء! تجيء إلى رأس ابن عمي وقد صار إلى حال لا يدفع ولا ينفع تضر به بعمودك، كأنك رايته وهو يريد نفسي، فدفعته عني. اخرج إلى لعنة الله وأليم عذابه.
ويقال أن أبا جعفر وجه إلى شيخٍ من أهل الشام، وكان من بطانة هشام، فسأله عن تدبير هشام في بعض حروبه الخوارج، فوصف له الشيخ ما دبر، فقال: فعل، رحمه الله، كذا، وضع، رحمه الله، كذا.
فقال المنصور: قم، عليك لعنة الله! تطأ بساطي، وتترحم على عدوي؟ فقام الرجل، فقال وهو مول: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي، لا ينزعها غلا غاسلي. فقال له المنصور: ارجع، يا شيخ! فرجع. فقال له: أشهد أنك نهيض حرةٍ وغراس شريف! عد إلى حديثك! فعاد الشيخ إلى حديثه، حتى إذا فرغ، دعا له بمالٍ ليأخذه،
فقال: والله يا أمير المؤمنين، ما بي من حاجةٍ إليه؟ ولقد مات عني من كنت في ذكره آنفاً، فما أحوجني إلى وقوفٍ على باب أحدٍ بعده. ولولا جلالة عز أمير المؤمنين، وإيثار طاعته، ما لبست لأحدٍ بعده نعمةً.
فقال المنصور: مت إذا شئت، فلله أنت! فلو لم يكن لقومك غيرك، لكنت قد أبقيت لهم مجداً مخلداً.
ويقال إن الرجل كان من شيبان.