→ أول من آمن به | سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق وإسلامه محمد رشيد رضا |
علي بن أبي طالب وإسلامه ← |
☰ جدول المحتويات
هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي.
ولد أبو بكر سنة 573 م وهو أول الخلفاء وأمه أم سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وهي ابنة عم أبي قحافة وهو صاحب رسول الله ﷺ في الغار وفي الهجرة والخليفة بعده، روى عن النبي ﷺ وروى عنه عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وحذيفة وزيد بن ثابت وغيرهم، وقد اختلف في اسمه فقيل: كان عبد الكعبة فسماه رسول الله ﷺ عبد الله، وقيل: إن أهله سموه عبد الله ولا يبعد ذلك لأن التسمية بعبد الله كانت موجودة قبل الإسلام؛ ويقال له عتيق أيضا، واختلفوا في السبب الذي قيل له لأجله «عتيق» فقال بعضهم: قيل له عتيق لحسن وجهه وجماله، قاله الليث بن سعد وجماعة معه. وقال الزبير بن بكار وجماعة معه: إنما قيل له عتيق لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به، وقيل: إنما سمي عتيقا لأن رسول الله ﷺ قال: «أنت عتيق من النار». وعن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل على رسول الله ﷺ فقال له: «أنت عتيق من النار» فيومئذ سُمي عتيقا، وقيل له: «الصديق» أيضا، قالت عائشة رضي الله عنها: لما أُسريَ بالنبي ﷺ إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كان قد آمن وصدق وفتنوا به، فقال أبو بكر: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة، فلذلك سُمي أبو بكر الصدّيقَ، وقال أبو محجن الثقفي:
وسميت صديقا وكل مهاجر ** سواك يسمى باسمه غير منكر
سبقت إلى الإسلام والله شاهد ** وكنت جليسا في العريش المشهر
وكان رضي الله عنه صديقا لرسول الله قبل البعثة وهو أصغر منه سنا بثلاث سنوات، وكان يكثر غشيانه في منزله ومحادثته وقيل: كُنّي بأبي بكر لابتكاره الخصال الحميدة فلما أسلم آزر النبي ﷺ في نصر دين الله تعالى بنفسه وماله وكان له لما أسلم أربعون ألف درهم أنفقها في سبيل الله مع ما كسب من التجارة، قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى} (الليل: 17 - 19)، وقد أجمع المفسرون على أن المراد منه أبو بكر؛ قال الفخر الرازي ردا على من قال إنها نزلت في حق عليّ رضي الله عنه: «ولما ذكر ذلك بعضهم في محضري قلت أقيم الدلالة العقلية على أن المراد من هذه الآية أبو بكر، وتقريرها أن المراد من هذا الأتقى هو أفضل الخلق فإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد هو أبو بكر فهاتان المقدمتان متى صحتا صح المقصود إلى أن قال - لأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله إما أبو بكر أو عليّ ولا يمكن حمل هذه الآية على عليّ بن أبي طالب فتعين حملها على أبي بكر، وإنما قلنا لا يمكن حملها على عليّ بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى: {وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى} (الليل: 19)، وهذا الوصف لا يصدق على عليّ بن أبي طالب لأنه كان في تربية النبي ﷺ ولأنه أخذه من أبيه وكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه وكان الرسول منعما عليه نعمة يجب جزاؤها، أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه السلام عليه نعمة دنيوية بل أبو بكر كان ينفق على الرسول عليه السلام، بل كان للرسول عليه السلام عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين إلا أن هذا لا يجزي لقوله تعالى: {مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (الفرقان: 57) والمذكور ها هنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزى فعلمنا أن هذه الآية لا تصلح لعليّ رضي الله عنه».
كان أبو بكر رضي الله عنه من رؤساء قريش في الجاهلية محببا فيهم مؤلفا لهم وكان إليه الأشناق في الجاهلية كان إذا حمل شيئا صدّقته قريش وأمضوا حمالته وحمالة من قام معه وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدقوه فلما جاء الإسلام سبق إليه وأسلم على يده جماعة لمحبتهم له وميلهم إليه حتى إنه أسلم على يده خمسة من العشرة، وقد ذهب جماعة إلى أنه أول من أسلم، قال الشعبي: سألت ابن عباس من أول من أسلم؟ قال: أبو بكر، أما سمعت قول حسان:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ** بعد النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده ** وأول الناس قدما صدّق الرسلا
وكان أعلم العرب بأنساب قريش وما كان فيها من خير وشر وكان تاجرا ذا ثروة طائلة وكريما حسن المجالسة عالما بتعبير الرؤيا، ولما أسلم جعل يدعو الناس إلى الإسلام، قال ابن إسحاق: بلغني أن النبي ﷺ قال: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر رضي الله عنه ما عتم عنه حين ذكرته له» - أي أنه بادر به -، ونزل فيه وفي عمر: {وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ} (آل عمران: 159)، فكان أبو بكر بمنزلة الوزير من رسول الله ﷺ فكان يشاوره في أموره كلها ولما اشتد أذى كفار قريش لم يهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين بل بقي مع رسول الله ﷺ وهاجر معه إلى المدينة تاركا عياله وأولاده وأقام معه في الغار ثلاثة أيام، قال الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40).
لما كانت الهجرة جاء رسول الله ﷺ إلى أبي بكر وهو نائم فأيقظه فقال رسول الله ﷺ «قد أذِنَ لي في الخروج»، قالت عائشة: فلقد رَأيت أبا بكر يبكي من الفرح، ثم خرجا حتى دخلا الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام، قال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40).
وقد دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر لأن رسول الله لولا ثقته التامة بأبي بكر لما استصحبه في هجرته واستخلصه لنفسه وكل من سوى أبي بكر فارق رسول الله وأنه تعالى سماه ثاني اثنين، وكان النبي ﷺ يكرمه ويجله ويعرّف أصحابه مكانه ويثني عليه في وجهه، واستخلفه في الصلاة وشهد مع رسول الله ﷺ بدرا وأُحُدا والخندق وبيعة الرضوان بالحديبية وخيبر وفتح مكة وحنينا والطائف وتبوك وحجة الوداع.
قال رسول الله ﷺ «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا»، ودفع أبو بكر عقبة بن أبي معيط عن رسول الله ﷺ لما خنق رسول الله وهو يصلي عند الكعبة خنقا شديدا وقال: «يا قوم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم» وأعتق أبو بكر سبعة كانوا يعذبون في الله تعالى منهم بلال وعامر بن فهيرة، وكان أبو بكر إذا مُدح قال: «اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم اللهم اجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون» وهذا من تواضعه رضي الله عنه، ومما يدل على قوة إرادة أبي بكر ما قاله أبو السفر وهو: دخلوا على أبي بكر في مرضه فقالوا: يا خليفة رسول الله ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك؟ قال: قد نظر إليّ، قالوا: ما قال؟ قال: «إني فعَّال لما أريد».
قال عمر رضي الله عنه: أمرنا رسول الله ﷺ أن نتصدق ووافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، فجئت بنصف مالي، فقال: «ما أبقيت لأهلك»؟ قلت: مثله، جاء أبو بكر بكل ما عنده فقال: «يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك»؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيء أبدا.
ومن أخبار تواضعه رضي الله عنه أنه كان يحلب للحيّ أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا منائحنا، فسمعها أبو بكر فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية: أتحبين أن أرغي لك أو أن أصرح؟ فأي ذلك؟ قالت: فعل.
والآن يقولون إننا في عصر المدنية والحرية والديمقراطية ومع هذا تجد الموظف الصغير يأنف أن يكلم الناس أو يقضي حوائجهم.
وعن سالم بن عبيد أن النبي ﷺ لما اشتد مرضه أُغمِيَ عليه فلما أفاق قال: «مروا بلالا فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس»، قال: ثم أُغميَ عليه فقالت عائشة: إن أبي رجل أسِيف فلو أمرت غيره، فقال: «أقيمت الصلاة»؟ فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبي رجل أسِيف فلو أمرت غيره، قال: «إنكن صواحبات يوسف مروا بلالا فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس»، ثم أفاق فقال: «أقيمت الصلاة»؟ قالوا: نعم، قال: «ادعوا لي إنسانا أعتمد عليه» فجاءت بريرة وإنسان آخر فانطلقوا يمشون به وإن رجليه تخطان في الأرض، فأجلسوه إلى جنب أبي بكر فذهب أبو بكر يتأخر فحبسه حتى فرغ الناس فلما توفي - قال: وكانوا قوما أميين لم يكن فيهم نبي قبله - قال عمر: لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا، فقالوا له: اذهب إلى صاحب رسول الله ﷺ فادعه - يعني أبا بكر -، فذهبت، فوجدته في المسجد قال: فأجهشت أبكي، قال: لعل نبي الله توفي، قلت: إن عمر قال لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا، قال: فأخذ بساعدي ثم أقبل يمشي حتى دخل فأوسعوا له فأكب على رسول الله ﷺ حتى كاد وجهه يمس وجه رسول الله ﷺ فنظر نفسه حتى استبان أنه توفي، فقال: إنك ميت وإنهم ميتون، قالوا: يا صاحب رسول الله توفي رسول الله ﷺ قال: نعم، فعلموا أنه كما قال.
قال ابن إسحاق: توفي أبو بكر رضي الله عنه يوم الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشر (23 أغسطس سنة 634) وصلى عليه عمر بن الخطاب.
توفي بعد النبي ﷺ بسنتين وأشهر بالمدينة وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وكان أبو بكر رجلا أبيض نحيفا خفيف العارضين أحنى، معروق الوجه، غائر العينين، ناتىء الجبهة، عاري الأشاجع، يخضب بالحناء والكتم، وكان أول من أسلم من الرجال وأسلم أبواه، له ولوالديه ولولده وولد ولده صحبة رضي الله عنهم، واختلف في سبب موته، فقيل: إنه مات مسموما، وقيل: إنه اغتسل في يوم بارد فَحُمَّ خمسة عشر يوما ثم مات بعدها، وقيل: إنه مات كمدا على رسول الله ﷺ
هذه ترجمة حياة أبي بكر أثبتناها هنا بمناسبة إسلامه وما كان له من الشأن العظيم والقدر الرفيع، ولأنه قد بذل المجهود في نصرة الرسول فدل بذلك على غاية الوفاء ومنتهى الإخلاص، ولم يكن - رضي الله عنه - رجلا ضعيفا كما ظن بعض المستشرقين، بل كان شجاعا وكان مع شجاعته مخلصا لا يبالي بالأهوال ويحتمل المشقات كما يستفاد من سيرته، فبقي مع الرسول ولم يهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين عند اشتداد أذى الكفار على المسلمين، ولما دعاه النبي ﷺ إلى الهجرة معه بكى من فرط السرور واشترك معه في غزواته، وهو ممن ثبت مع رسول الله في غزوة أُحُد، ولما توفي النبي فقد الناس صوابهم وقال عمر من قال: إن محمدا مات ضربته بسيفي هذا، أما أبو بكر فملك شعوره ولم يفقده وقع المصاب الجلل صوابه، فقال: إنك ميت وإنهم ميتون، وسيأتي تفصيل ذلك عند ذكر وفاة رسول الله ﷺ فإذا كانت هذه مواقف ضعف وخلال وهن فأين مواطن القوة؟ ولم نذكر هنا أعماله الجليلة في خلافته.
يقول هؤلاء المستشرقون إنه كان يصدق الرسول تصديقا أعمى وإنه كان كالنساء سريع البكاء، وهو قول عجيب، فكيف لا يصدق الرسول وهو يعلم أنه صادق لا يكذب، بل هو أعلم خلق الله بصدقه عليه الصلاة والسلام لصحبته له تلك الصحبة الطويلة، إن تصديقه لرسول الله في كل ما قاله نتيجة الثقة به ولأجل هذه الثقة المتينة كان لا يتردد في التصديق به، ولأجلها تحمل معه الشدائد والاضطهادات، ولأجلها أنفق أمواله كلها وهذا شأن العاقل الذي إذا ثبت يقينه على أساس قوي لم يبال بما يصادفه من عقبات في سبيل نصرة الحق، أما بكاؤه عند سماع القرآن فهذا أظهر دليل على إخلاصه وتوقد ذكاؤه وقوة فهمه لكلام الله عز وجل إذ بقدر الفهم يكون التأثر، وقد أجمعوا على كثرة علمه ووفور عقله وفهمه وزهده وتواضعه.
كلماته المأثورة
كان رضي الله عنه يقول:
«أكيس الكياسة التقوى، وأحمق الحمق الفجور، وأصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة، إن العبد إذا داخله العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة، ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل، وكان يأخذ بطرف لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد».
وقال: «لا خير في قول لا يراد به وجه الله ولا في مال لا ينفق منه في سبيل الله، ولا فيمن يغلب جهلُه حلمَه، ولا فيمن يخاف في الله لومة لائم».
«وجدنا الكرم في التقوى والغَناء في اليقين والشرف في التواضع».
«من مقت نفسه في ذات الله، أمنه الله من مقته».
«فاز بالمروءة من امتطى التغافل، وهان على القربى من عرف باللجاج».
«إياكم والفخر، وما فخر من خلق من تراب ثم إليه يعود، ثم يأكله الدود».
«لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة».