→ الرد على مستر مرجوليوث | سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إيذاء المشركين لأبي بكر الصديق محمد رشيد رضا |
إظهار الإسلام سنة 613م ← |
عبادة الأصنام مع أنها واضحة البطلان فإن العرب كانوا متمسكين بها تمسكا شديدا لرسوخها في نفوسهم منذ زمن طويل فلا يطيقون سماع من يعيبها أو يطعن فيها بل لا يقبلون إرشاد ناصح يخاطبهم بالحسنى ويناقشهم بالعقل والبرهان، فإذا قيل لهم كيف تعبدون الحجارة التي لا تنفع ولا تضر، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تعلم من يعبدها، ومن لا يعبدها، ثارت ثائرتهم وقالوا: هذا ما وجدنا عليه آباءنا واعتدوا على أعز الناس لديهم وأشرفهم وأعقلهم وأسهلهم أخلاقا، فلم يكن من الحكمة وأصالة الرأي أن يجهر النبي ﷺ وأصحابه القليلون بالإسلام ويؤدوا شعائرهم الدينية أمام أمة بأسرها متعصبة لدينها الوثني تعصبا أعمى.
وقد أدرك بعض أفراد بعقلهم الثاقب وفطرتهم السليمة أن قومهم في خطأ مبين فمنهم من مات وهو منكر لعبادة الأصنام قبل الإسلام، ومنهم من آمن برسول الله عندما بلغته رسالته كسلمان الفارسي أو عندما دعاه رسول الله إلى اتباع الدين القويم كأبي بكر، ومن أَسلم بدعائه وغيرهم ولم يبالوا بما يصيبهم من سخط قومهم وإيذائهم مع ما يعلمونه من قلة عدد المؤمنين في بادىء الأمر.
فما وقع لأبي بكر رضي الله عنه من الأذية ما ذكره بعضهم كما في «السيرة الحلبية» أن رسول الله ﷺ لما دخل دار الأرقم ليعبد الله هو ومن معه من أصحابه سرا ألحَّ أبو بكر رضي الله عنه في الظهور، فقال له النبي ﷺ «يا أبا بكر إنا قليل»، فلم يزل به حتى خرج رسول الله ﷺ ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله ﷺ جالس ودعا إلى رسول الله، فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى، فثار المشركون على أبي بكر رضي الله عنه وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا مبرحا، ووطىء أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا، وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه، فجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر إلى أن أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى آخر النهار، ثم تكلم وقال: ما فعل رسول الله ﷺ فعذلوه فصار يكرر ذلك، فقالت أمه: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل فاسأليها عنه، فخرجت إليها وقالت لها أن تسأل عن محمد بن عبد الله، قالت: لا أعرف محمدا ولا أبا بكر، ثم قالت: تريدين أن أخرج معك؟ قالت: نعم، فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر فوجدته صريعا فصاحت وقالت:
إن قوما نالوا هذا منك لأهلُ فسق، وإني لأرجو أن ينتقم الله منهم، فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: ما فعل رسول الله ﷺ فقالت له: هذه أمك تسمع، قال: فلا عين عليك منها، أي إنها لا تفشي سرك، قالت: سالم هو في دار الأرقم، فقال: والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله ﷺ قالت أمه: فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجنا به يتكىء عليّ حتى دخل على رسول الله ﷺ فرقّ له رقة شديدة وأكب عليه يقبّله وأكب عليه المسلمون كذلك، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي وهذه أمي برّة لو دعوت لها فعسى الله أن يستنقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله ﷺ ودعاها إلى الإسلام فأسلمت.
لا شك أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في خطر شديد، فقد كان لا يهدأ للمشركين بال إلا إذا أساءوا إليهم ولذلك كان الاستخفاء في غاية الحكمة، وبقي المسلمون مستخفين في دار الأرقم حتى كملوا أربعين رجلا، وكان آخرهم إسلاما عمر بن الخطاب، فلما كملوا به أربعين خرجوا وأظهروا إسلامهم.
تلك شجاعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقوة إيمانه وصدق يقينه، لقد وقف أمام المشركين وجها لوجه ولم يبال بكثرتهم وعرّض حياته الغالية للخطر ليدعوهم إلى الحق، إلى عبادة الله الواحد القهار ونبذ الشرك وخلع الوثنية فأصيب بشر ما يصاب به إنسان وكاد يقضى عليه، فلما أفاق كان أول ما تلفظ به السؤال عن رسول الله ﷺ ولم ترتح نفسه وتطمئن حتى رآه بعينيه سالما معافى، فأين هذا من الذين يخالفون عقائدهم ويميلون مع الأهواء وينضمون إلى من يأنسون فيه القوة ويعينون على الباطل لمتاع مؤقت لا يلبث أن يزول؟.
لو كان المسلمون في بادىء أمرهم متهاونين مذبذبين لما ثبتت دعائم الإسلام وصار قوي الأركان، متين البنيان، بل لقُبِرَ في مهده، لكنه ارتفع على كواهل رجال أقوياء صادقين أدهشوا العالم بأعمالهم وجهادهم حتى خضعت لهم أمم الأرض فبمثل عمل هؤلاء فليهتد المصلحون.