→ غزوة فتح مكة رمضان سنة 8 هـ | سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قريش تبعث أبا سفيان إلى المدينة محمد رشيد رضا |
استعداد رسول الله صلى الله عليه وسلم للزحف على مكة ← |
كان رسول الله ﷺ قال للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد ويزيد في المدة، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه فلقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله ليشدد العقد ويزيد في المدة وقد خافوا مما صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بديلا، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله، قال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي، قال: أوَ ما أتيت محمدا؟ قال: لا، فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان كان جاء المدينة لقد علف بها النوى فعمد إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى - وهذا من فراسة العرب - فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا، ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله ﷺ المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان - زوج رسول الله - فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله ﷺ طوته عنه، فقال: يا بنية والله ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله، قال: والله لقد أصابك بعدي شر، فقالت: «بل هداني الله تعالى للإسلام وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر، واعجبا منك يا أبت وأنت سيد قريش وكبيرها»، فقال: «أنا أترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد؟»، ثم خرج حتى أتى رسول الله ﷺ فكلمه في تجديد العقد وزيادة مدة الهدنة فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله فقال: «ما أنا بفاعل» ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله؟ فوالله لو لم آخذ إلا الذر لجاهدتكم، ثم خرج فدخل على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وعنده فاطمة ابنة رسول الله وعندها الحسن بن عليّ غلام يدب بين يديها فقال: يا عليّ إنك أمسّ القوم بي رحما وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا، اشفع لنا إلى رسول الله، قال: ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابنة محمد هل لك أن تأمري بُنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بنيَّ ذلك أن يجير بين الناس وما يجير على رسول الله أحد، قال: أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليَّ فانصحني فقال له: والله ما أعلم شيئا يغني عنك ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك، قال: أوَ ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟» قال: لا والله ما أظن ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: «أيها الناس إني قد أجرت بين الناس» ثم ركب بعيره وانطلق.
نقول: أراد أبو سفيان من ذهابه إلى المدينة أن يشدد العقد ويزيد في المدة ولكن النبي ﷺ أعرض عنه، ولم يجبه بشيء ووجد من أبي بكر وعمر وعليّ وفاطمة رضي الله عنهم كل إعراض ولم يعده أحد منهم بشيء حتى يئس ورجع بخفي حنين لكنه على كل حال كان يعلم أن رسول الله قد عزم على أمر بإزاء ما كان من تعدي بني بكر ومساعدة نفر من قريش لهم في هذا التعدي لأن ذلك نقض للعهد.
أما ما تخيله بعض المستشرقين من أن أبا سفيان اتفق مع رسول الله على أنه إذا دخل مكة اجتنب سفك الدماء وأن أبا سفيان يقوم من جانبه بمنع أهل مكة من المقاومة فهذا لا أساس له، وليس في السير شيء يدل على هذا الاتفاق.
وقد قالوا أيضا: إن رسول الله كان ينتظر أي فرصة تسنح لفتح مكة فلما وقع الاعتداء على خزاعة تظاهر بالغضب، ووعد بأخذ الثأر والانتصار لهم، والحقيقة أن اعتداء بني بكر نقض صريح للعهد، وكيف لا يغضب وقد قُتل من خزاعة وهم حلفاؤه أكثر من عشرين نفرا وقد لجأوا إليه وناشدوه أن يدفع عنهم هذا الاعتداء.
والدليل على أن أبا سفيان عاد من غير أن يحظى بأي اتفاق لما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد علَيَّ شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة - أبا بكر - فلم أجد عنده خيرا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى القوم، ثم جئت عليّ بن أبي طالب فوجدته أليَن القوم وقد أشار علَيَّ بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغنيني شيئا أم لا؟ قالوا: وبماذا أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك والله إن زاد على أن لعب بك فما يغني عنا ما قلت، قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.
غير أن قريشا لما طالت غيبة أبي سفيان اتهمته أشد التهمة وقالوا: قد صبأ واتبع محمدا سرا وكتم إسلامه.
ولكنه لم يصبأ ولم يتبع رسول الله ﷺ إنما طالت غيبته بسبب أنه أكثر من الالتجاء والتحدث إلى أصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين والأنصار ليشفعوا له إلى رسول الله ﷺ فلما طال انتظاره وأيس منهم عاد إلى مكة من غير أن ينال طائلا.