→ دين النصارى | هداية الحيارى المؤلف: ابن القيم |
الفصل الثاني عشر: لو لم يظهر محمد لبطلت نبوة سائر الأنبياء ← |
مقالة أشباه الحمير في مريم وابنها
أما قولهم في «مريم» فإنهم يقولون: إنها أم المسيح ابن الله في الحقيقة ووالدته في الحقيقة، لا أم لابن الله إلا هي؛ ولا والدة له غيرها، ولا أب لابنها إلا الله، لا ولد له سواه، وإن الله اختارها لنفسه ولولادة ولده وابنه من بين سائر النساء.
ولو كانت كسائر النساء لما ولدت إلا عن وطء الرجال لها، ولكن اختصت عن النساء بأنها حبلت بابن الله، وولدت ابنه الذي لا ابن له في الحقيقة غيره، ولا والد له سواه، وإنها على العرش جالسة عن يسار الرب تبارك وتعالى والد ابنها، وابنها عن يمينه.
والنصارى يدعونها ويسألونها سعة الرزق وصحة البدن وطول العمر ومغفرة الذنوب، وأن تكون لهم عند ابنها ووالده - الذي يعتقد عامتهم أنه زوجها، ولا ينكرون ذلك عليهم - سورا وسندا وذخرا وشفيعا وركنا، ويقولون في دعائهم: يا والدة الإله، اشفعي لنا!
وهم يعظمونها ويرفعونها على الملائكة وعلى جميع النبيين والمرسلين، ويسألونها ما يسأل الإله من العافية والرزق والمغفرة، حتى أن اليعقوبية يقولون في مناجاتهم لها: يا مريم، يا والدة الإله، كوني لنا سورا وسندا وذخرا وركنا.
والنسطورية يقولون: يا والدة المسيح، كوني لنا كذلك!
ويقولون لليعقوبية: لا تقولوا يا والدة الإله، وقولوا: يا والدة المسيح، فقالت لهم اليعقوبية: المسيح عندنا وعندكم إله في الحقيقة، فأي فرق بيننا وبينكم في ذلك؟ ولكنكم أردتم مصالحة المسلمين ومقاربتهم في التوحيد.
هذا والأوقاح الأرجاس من هذه الأمة، تعتقد أن الله سبحانه اختار مريم لنفسه ولولده، وتخطاها كما يتخطى الرجل المرأة.
قال النظام بعد أن حكى ذلك عنهم: وهم يفصحون بهذا عند من يثقون به.
وقد قال ابن الأخشيد هذا عنهم في المعونة وقال: إليه يشيرون، ألا ترون أنهم يقولون: من لم يكن والدا يكون عقيما، والعقم آفة وعيب، وهذا قول جميعهم وإلى المباضعة يشيرون، ومن خالط القوم وطاولهم وباطنهم عرف ذلك منهم، فهذا كفرهم وشركهم برب العالمين ومسبتهم له، ولهذا قال فيهم أحد الخلفاء الراشدين: أهينوهم ولا تظلموهم، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر.
وقد أخبر النبي ﷺ عن ربه في الحديث الصحيح أنه قال: «شتمني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وكذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته».
فلو أتى الموحدون بكل ذنب وفعلوا كل قبيح وارتكبوا كل معصية، ما بلغت مثقال ذرة في جنب هذا الكفر العظيم برب العالمين ومسبته هذا السب وقول العظائم فيه.
فما ظن هذه الطائفة برب العالمين أن يفعله بهم إذا لقوه (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) ويسأل المسيح على رؤس الأشهاد وهم يسمعون (يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) فيقول المسيح مكذبا لهم ومتبرئا منهم: (سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليه شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد)
فهذا أصل دينهم، وأساسه الذي قام عليه.
وأما فروعه وشرائعه فهم مخالفون للمسيح في جميعها، وأكثر ذلك بشهادتهم وإقرارهم ولكن يحيلون على البتاركة والأساقفة؛ فإن المسيح صلوات الله وسلامه عليه كان يتدين بالطهارة ويغتسل من الجنابة ويوجب غسل الحائض.
وطوائف النصارى عندهم أن ذلك كله غير واجب، وإن الإنسان يقوم من على بطن المرأة ويبول ويتغوط ولا يمس ماء ولا يستجمر، والبول والنجو ينحدر على ساقه وفخذه ويصلي كذلك، وصلاته صحيحة تامة، ولو تغوط وبال وهو يصلي لم يضره فضلا عن أن يفسو أو يضرط، ويقولون: إن الصلاة بالجنابة والبول والغائط أفضل من الصلاة بالطهارة، لأنها حينئذ أبعد من صلاة المسلمين واليهود وأقرب إلى مخالفة الأمتين.
ويستفتح الصلاة بالتصليب بين عينيه، وهذه الصلاة رب العالمين بريء منها، وكذلك المسيح وسائر النبيين؛ فإن هذه بالاستهزاء أشبه منها بالعبادة، وحاش المسيح أن تكون هذه صلاته، أو صلاة أحد من الحواريين، والمسيح كان يقرأ في صلاته ما كان الأنبياء وبنو إسرائيل يقرؤنه في صلاتهم من التوراة والزبور؛ وطوائف النصارى إنما يقرؤن في صلاتهم كلاما قد لحنه لهم الذين يتقدمون ويصلون بهم، يجري مجرى النوح والأغاني.
فيقولون: هذا قداس فلان، وهذا قداس فلان. ينسبونه إلى الذين وضعوه، وهم يصلون إلى الشرق. وما صلى المسيح إلى الشرق قط، وما صلى إلى أن توفاه الله إلا إلى بيت المقدس، وهي قبلة داود والأنبياء قبله، وقبلة بني إسرائيل.
والمسيح اختتن وأوجب الختان، كما أوجبه موسى وهارون والأنبياء قبل المسيح.
والمسيح حرم الخنزير ولعن آكله وبالغ في ذمه؛ والنصارى تقر بذلك، ولقي الله ولم يطعم من لحمه بوزن شعيرة؛ والنصارى تتقرب إليه بأكله.
والمسيح ما شرع لهم هذا الصوم الذي يصومونه قط ولا صامه في عمره مرة واحدة، ولا أحد من أصحابه، ولا صام صوم العذارى في عمره، ولا أكل في الصوم ما يأكلونه، ولا حرم فيه ما يحرمونه، ولا عطل السبت يوما واحدا حتى لقي الله، ولا اتخذ الأحد عيدا قط، والنصارى تقر أنه رقى مريم المجدلية، فأخرج منها سبع شياطين، وأن الشياطين قالت له: أين نأوي؟ فقال لها: اسلكي هذه الدابة النجسة، يعني الخنزير.
فهذه حكاية النصارى عنه وهم يزعمون أن الخنزير من أطهر الدواب وأجملها، والمسيح سار في الذبائح والمناكح والطلاق والمواريث والحدود سيرة الأنبياء قبله.
وليس عند النصارى على من زنا أو لاط أو سكر حد في الدنيا أبدا ولا عذاب في الآخرة؛ لأن القس والراهب يغفره لهم، فكلما أذنب أحدهم ذنبا أهدى للقس هدية أو أعطاه درهما أو غيره ليغفر له به.
وإذا زنت امرأة أحدهم بيّتها عند القس ليطيبها له فإذا انصرفت من عنده، وأخبرت زوجها أن القس طيبها قبل ذلك منها وتبرك به.
وهم يقرون أن المسيح قال: «إنما جئتكم لأعمل بالتوراة وبوصايا الأنبياء قبلي، وما جئت ناقضا بل متمما، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئا من شريعة موسى، ومن نقض شيئا من ذلك يدعى ناقضا في ملكوت السماء»، وما زال هو وأصحابه كذلك إلى أن خرج من الدنيا، وقال لأصحابه:
«اعملوا بما رأيتموني أعمل، وارضوا من الناس بما أرضيتكم به، ووصوا الناس بما وصيتكم به، وكونوا معهم كما كنت معكم، وكونوا لهم كما كنت لكم» وما زال أصحاب المسيح بعده على ذلك قريبا من ثلاثمائة سنة.
ثم أخذ القوم في التغيير والتبديل والتقرب إلى الناس بما يهوون، ومكايدة اليهود ومناقضتهم بما فيه ترك دين المسيح والانسلاخ منه جملة، فرأوا اليهود قد قالوا في المسيح: إنه ساحر مجنون ممخرق ولد زنية، فقالوا: هو إله تام وهو ابن الله!
ورأوا اليهود يختتنون فتركوا الختان!
ورأوهم يبالغون في الطهارة، فتركوها جملة!
ورأوهم يتجنبون مؤاكلة الحائض وملامستها ومخالطتها جملة، فجامعوها!
ورأوهم يحرمون الخنزير، فأباحوه وجعلوه شعار دينهم!
ورأوهم يحرمون كثيرا من الذبائح والحيوان، فأباحوا ما دون الفيل إلى البعوضة، وقالوا: كل ماشئت ودع ما شئت، لا حرج!
ورأوهم يستقبلون بيت المقدس في الصلاة، فاستقبلوا هم الشرق!
ورأوهم يحرمون على الله نسخ شريعة شرعها، فجوزا هم لأساقفتهم وبتاركتهم أن ينسخوا ما شاؤا ويحللوا ما شاؤا ويحرموا ما شاؤا!
ورأوهم يحرمون السبت ويحفظونه، فحرموا هم الأحد وأحلوا السبت، مع إقرارهم بأن المسيح كان يعظم السبت ويحفظه!
ورأوهم ينفرون من الصليب، فإن في التوراة «ملعون من تعلق بالصليب» والنصارى تقر بهذا، فعبدوا هم الصليب. كما أن في التوراة تحريم الخنزير نصا، فتعبدوا هم بأكله، وفيها الأمر بالختان، فتعبدوا هم بتركه، مع إقرار النصارى بأن المسيح قال لأصحابه:
«إنما جئتكم لأعمل بالتوراة، ووصايا الأنبياء قبلي، وما جئت ناقضا بل متمما، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئا من شريعة موسى»، فذهبت النصارى تنقضها شريعة شريعة في مكايدة اليهود ومغايظتهم، وانضاف إلى هذا السبب ما في كتابهم المعروف عندهم بأفركسيس:
أن قوما من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأتوا أنطاكية وغيرها من الشام، فدعوا الناس إلى دين المسيح الصحيح فدعوهم إلى العلم بالتوراة وتحريم ذبائح من ليس من أهلها وإلى الختان وإقامة السبت وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة، فشق ذلك على الأمم واستثقلوه. فاجتمع النصارى ببيت المقدس وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليحببوهم إلى دين المسيح ويدخلوا فيه. فاتفق رأيهم على مداخلة الأمم والترخيص لهم والاختلاط بهم وأكل ذبائحم والانحطاط في أهوائهم والتخلق بأخلاقهم وإنشاء شريعة تكون بين شريعة الإنجيل وما عليه الأمم، وأنشأوا في ذلك كتابا، فهذا أحد مجامعهم الكبار.
وكانوا كلما أرادوا إحداث شيء اجتمعوا مجمعا وافترقوا فيه على ما يريدون إحداثه إلى أن اجتمعوا المجمع الذي لم يجتمع لهم أكبر منه في عهد قسطنطين الرومي ابن هيلانة الحرانية الفندقية، وفي زمنه بدل دين المسيح، وهو الذي أشاد دين النصارى المبتدع وقام به وقعد.
وكان عدتهم زهاء ألفي رجل، فقرروا تقريرا ثم رفضوه ولم يرتضوه، ثم اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا منهم، والنصارى يسمونهم: الآباء، فقرروا هذا التقرير الذي هم عليه اليوم، وهو أصل الأصول عند جميع طوائفهم لا يتم لأحد منهم نصرانية إلا به، ويسمونه: سنهودس وهي الأمانة.
ولفظها: «نؤمن بالله الأب الواحد، خالق ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله بكر أبيه، وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه، الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معشر الناس، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم البتول، وحبلت به مريم البتول وولدته، وأخذ وصلب، وقتل أيام فيلاطس الرومي. ومات ودفن، وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بالرب الواحد، روح القدس روح الحق الذي يخرج من أبيه روح محبته، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية سليحية جاثليقية، وبقيام أبداننا، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين».
فصرحوا فيها بأن المسيح رب، وأنه ابن الله وأنه بكره ليس له ولد غيره، وأنه ليس بمصنوع: أي ليس بعبد مخلوق، بل هو رب خالق، وإنه إله حق، استل وولد ومن إله حق، وأنه مساو لأبيه في الجوهر، وأنه بيده أتقنت العوالم، وهذه اليد التي أتقنت العوالم بها عندهم وهي التي ذاقت حر المسامير، كما صرحوا به في كتبهم، وهذه ألفاظهم.
قالوا: «وقد قال القدوة عندنا: إن اليد التي سمرها اليهود في الخشبة هي اليد التي عجنت طين آدم وخلقته، وهي اليد التي شبرت السماء، وهي اليد التي كتبت التوراة لموسى»!
قالوا: وقد وصفوا صنيع اليهود به، وهذه ألفاظهم: «وأنهم لطموا الإله وضربوه على رأسه»!
قالوا: «وفي بشارة الأنبياء به أن الإله تحبل به امرأة عذراء، وتلده، ويؤخذ، ويصلب، ويقتل»!
قالوا: وأما «سنهودس» دون الأمم، قد اجتمع عليه سبعمائة من الآباء وهو القدوة وفيه «أن مريم حبلت بالإله وولدته وأرضعته وسقته وأطعمته» قالوا: «وعندنا أن المسيح ابن آدم وهو ربه وخالقه ورازقه وابن ولده إبراهيم وربه وخالقه ورازقه وابن إسرائيل وربه وخالقه ورازقه وابن مريم وربها وخلقها ورازقها».
قالوا: وقد قال علماؤنا ومن هو القدوة عند جميع طوائفنا: اليسوع في البدء ولم يزل كلمة، والكلمة لم تزل الله، والله هو الكلمة، فذاك الذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله، وهو ابن الله وهو كلمة الله، هذه ألفاظهم. قالوا:
فالقديم الأزلي خالق السموات والأرض هو الذي عاينه الناس بأبصارهم ولمسوه بأيديهم، وهو الذي حبلت به مريم، وخاطب الناس من بطنها حيث قال للأعمى: أنت مؤمن بالله؟ قال الأعمى: ومن هو حتى أومن به؟ قال: هو المخاطب لك ابن مريم، فقال: آمنت بك وخر ساجدا.
قالوا: «فالذي حبلت به مريم هو الله وابن الله وكلمة الله».
وقالوا: «وهو الذي ولد ورضع وفطم وأخذ وصلب وصفع وكتفت يداه وسمر وبصق في وجهه ومات ودفن وذاق ألم الصلب والتسمير والقتل، لأجل خلاص النصارى من خطاياهم».
قالوا: وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة بنبي ولا عبد صالح، بل هو رب الأنبياء وخالقهم وباعثهم ومرسلهم وناصرهم ومؤيدهم ورب الملائكة. قالوا: وليس مع أمه بمعنى الخلق والتدبير واللطف والمعونة، فإنه لا يكون لها بذلك مزية على سائر الإناث ولا الحيوانات. ولكنه معها بحبلها به واحتواء بطنها عليه؛ فلهذا فارقت إناث جميع الحيوانات، وفارق ابنها جميع الخلق، فصار الله وابنه الذي نزل من السماء، وحبلت به مريم، وولدته إلها واحدا وربا واحدا وخالقا واحدا لا يقع بينهما فرق، ولا يبطل الاتحاد بينهما بوجه من الوجوه، لا في حبل ولا في ولادة ولا في حال نوم ولا مرض ولا صلب ولا موت ولا دفن. بل هو متحد به في حال الحبل، فهو في تلك الحال مسيح واحد وخالق واحد وإله واحد ورب واحد، وفي حال الولادة كذلك، وفي حال الصلب والموت كذلك.
قالوا: فمنا من يطلق في لفظه، وعبارته حقيقة هذا المعنى، فيقول: مريم حبلت بالإله، وولدت الإله، ومات الإله، ومنا من يمتنع من هذه العبارة لبشاعة لفظها، ويعطي معناها وحقيقتها، ويقول: مريم حبلت بالمسيح في الحقيقة، وولدت المسيح في الحقيقة، وهي أم المسيح في الحقيقة، والمسيح إله في الحقيقة، ورب في الحقيقة، وابن الله في الحقيقة، وكلمة الله في الحقيقة، لا ابن لله في الحقيقة سواه، ولا أب للمسيح في الحقيقة إلا هو.
قالوا: فهؤلاء يوافقون في المعنى قول من قال: حبلت بالإله، وولدت الإله، وقتل الإله، وصلب الإله، ومات ودفن، وإن منعوا اللفظ والعبارة.
قالوا: وإنما منعنا هذه العبارة التي أطلقها إخواننا، لئلا يتوهم علينا إذا قلنا: حبلت بالإله، وولدت الإله، وألم الإله، ومات الإله، أن هذا كله حل ونزل بالإله الذي هو أب، ولكنا نقول: حل هذا كله، ونزل بالمسيح، والمسيح عندنا وعند طوائفنا إله تام من إله تام من جوهر أبيه، فنحن وإخواننا في الحقيقة شيء واحد لا فرق بيننا إلا في العبارة فقط.
قالوا: فهذا حقيقة ديننا وإيماننا، والآباء والقدوة قد قالوه قبلنا، وسنوه لنا، ومهدوه، وهم أعلم بالمسيح منا.
ولا تختلف النصارى من أولهم إلى آخرهم أن المسيح ليس بنبي، ولا عبد صالح، ولكنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وإنه إله تام من إله تام، وأنه خالق السموات والأرضين، والأولين والآخرين ورازقهم، ومحييهم ومميتهم، وباعثهم من القبور وحاشرهم، ومحاسبهم ومثيبهم ومعاقبهم، والنصارى تعتقد أن الأب انخلع من ملكه كله وجعله لابنه فهو الذي يخلق، ويرزق، ويميت، ويحي، ويدبر أمر السموات والأرض، ألا تراهم يقولونفي أمانتهم: «ابن الله وبكر أبيه وليس بمصنوع - إلى قولهم - بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء - إلى قولهم - وهو مستعد للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء».
ويقولون في صلواتهم ومناجاتهم: «أنت أيها المسيح يسوع تحيينا وترزقنا وتخلق أولادنا وتقيم أجسادنا وتبعثنا وتجازينا»
وقد تضمن هذا كله تكذيبهم الصريح للمسيح، وإن أوهمتهم ظنونهم الكاذبة أنهم يصدقونه، فإن المسيح قال لهم: إن الله ربي وربكم، وإلهي وإلهكم» فشهد على نفسه أنه عبد لله، مربوب مصنوع، كما أنهم كذلك، وأنه مثلهم في العبودية والحاجة والفاقة إلى الله، وذكر أنه رسول الله إلى خلقه كما أرسل الأنبياء قبله.
ففي إنجيل يوحنا أن المسيح قال في دعائه: «إن الحياة الدائمة إنما تجب للناس بأن يشهدوا أنك أنت الله الواحد الحق، وأنك أرسلت يسوع المسيح».
وهذا حقيقة شهادة المسلمين أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وقال لبني إسرائيل: تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله». فذكر ما غايته أنه رجل بلغهم ما قاله الله، ولم يقل: وأنا إله ولا ابن الإله على معنى التوالد، وقال: «إني لم أجيء لأعمل بمشيئة نفسي، ولكن بمشيئة من أرسلني».
وقال: «إن الكلام الذي تسمعونه مني ليس من تلقاء، نفسي ولكن من الذي أرسلني، والويل لي أن قلت شيئا من تلقاء نفسي، ولكن بمشيئة، هو من أرسلني». وكان يواصل العبادة من الصلاة والصوم ويقول: «ما جئت لأُخدَم إنما جئت لأَخدم» فأنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله الله بها، وهي منزلة الخدام، وقال: «لست أدين العباد بأعمالهم، ولا أحاسبهم بأعمالهم، ولكن الذي أرسلني هو الذي يلي ذلك منهم». كل هذا في الإنجيل الذي بأيدي النصارى.
وفيه أن المسيح قال: «يا رب قد علموا إنك قد أرسلتني، وقد ذكرت لهم اسمك» فأخبر أن الله ربه، وإنه عبده ورسوله.
وفيه: «أن الله الواحد رب كل شيء. أرسل من أرسل من البشر إلى جميع العالم ليقبلوا إلى الحق».
وفيه أنه قال: «إن الأعمال التي أعمل هي الشاهدات لي بأن الله أرسلني إلى هذا العالم».
وفيه: «ما أبعدني وأتعبني إن أحدثت شيئا من قبل نفسي، ولكن أتكلم وأجيب بما علمني ربي».
وقال: «إن الله مسحني وأرسلني، وأنا عبد الله وإنما أعبد الله الواحد ليوم الخلاص».
وقال: «إن الله عز وجل ما أكل ولا يأكل وما شرب ولا يشرب ولم ينم ولا ينام، ولا ولد له ولا يلد ولا يولد ولا رآه أحد، ولا يراه أحد إلا مات».
وبهذا يظهر لك سر قوله تعالى في القرآن: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) تذكيرا للنصارى بما قال لهم المسيح.
وقال في دعائه لما سأل ربه أن يحي الميت: «أنا أشكرك وأحمدك، لأنك تجيب دعائي في هذا الوقت، وفي كل وقت، فأسألك أن تحيي هذا الميت ليعلم بنو إسرائيل أنك أرسلتني وأنك تجيب دعائي».
وفي الإنجيل أن المسيح حين خرج من السامرية، ولحق بجلجال، قال: «لم يكرم أحد من الأنبياء في وطنه» فلم يزد على دعوى النبوة.
وفي إنجيل لوقا: «لم يقتل أحد من الأنبياء في وطنه، فيكف تقتلونني».
وفي إنجيل مرقس: «أن رجلا أقبل إلى المسيح، وقال: أيها المعلم الصالح، أي خير أعمل لأنال الحياة الدائمة؟ فقال له المسيح: لم قلت صالحا؟ إنما الصالح الله وحده، وقد عرفت الشروط، لا تسرق ولا تزن ولا تشهد بالزور ولا تخن، وأكرم أباك وأمك».
وفي إنجيل يوحنا أن اليهود لما أرادوا قبضه رفع بصره إلى السماء وقال: «قد دنا الوقت يا إلهي فشرفني لديك، واجعل لي سبيلا أن أملك كل من ملكتني الحياة الدائمة، وإنما الحياة الباقية أن يؤمنوا بك إلها واحدا، وبالمسيح الذي بعثت، وقد عظمتك على أهل الأرض واحتملت الذي أمرتني به فشرفني» فلم يدع سوى أنه عبد مرسل مأمور مبعوث.
وفي إنجيل متى: «لا تنسبوا أباكم الذي على الأرض، فإن أباكم الذي في السماء وحده، ولا تدعوا معلمين، فإنما معلمكم المسيح وحده».
والأب في لغتهم: الرب المربي، أي لا تقولوا إلهكم، وربكم في الأرض، ولكنه في السماء.
ثم أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه، ومالكه، وهو أن غايته أنه يعلم في الأرض، وإلههم هو الذي في السماء.
وفي إنجيل لوقا حين دعا الله فأحيا ولد المرأة فقالوا: «إن هذا النبي لعظيم، وإن الله قد تفقد أمته».
وفي إنجيل يوحنا إن المسيح أعلن صوته في البيت، وقال لليهود: «قد عرفتموني وموضعي، ولم آت من ذاتي، ولكن بعثني الحق، وأنتم تجهلونه، فإن قلت: إني أجهله، كنت كاذبا مثلكم، وأنا أعلم وأنتم تجهلونه، إني منه وهو بعثني» فما زاد في دعواه على ما ادعاه الأنبياء، فأمسكت المثلثة قوله: «إني منه» وقالوا: إله حق من إله حق.
وفي القرآن: (رسول من الله).
وقال هود: (ولكني رسول من رب العالمين)
وكذلك قال صالح. ولكن أمة الضلال كما أخبر الله عنهم يتبعون المتشابه، ويردون المحكم.
وفي الإنجيل أيضا أنه قال لليهود. وقد قالوا له: (نحن أبناء الله) فقال لهم: «لو كان الله أباكم لأطعتموني، لأني رسول منه، خرجت مقبلا، ولم أقبل من ذاتي، ولكن هو بعثني، لكنكم لا تقبلون وصيتي، وتعجزون عن سماع كلامي، إنما أنتم أبناء الشيطان، وتريدون إتمام شهواته».
وفي الإنجيل: «أن اليهود أحاطت به، وقالت له: إلى متى تخفي أمرك إن كنت المسيح الذي ننتظره فأعلمنا بذلك» ولم تقل إن كنت الله، أو ابن الله، فإنه لم يدع ذلك و لا فهمه عنه أحد من أعدائه ولا أتباعه.
وفي الإنجيل أيضا: «أن اليهود أرادوا القبض عليه، فبعثوا لذلك أعوان، وإن الأعوان رجعوا إلى قوادهم، فقالوا لهم: لِم لم تأخذوه؟ فقالوا: ما سمعنا آدميا أنصف منه، فقالت اليهود: وأنتم أيضا مخدوعون، أترون أنه آمن به أحد من القواد، أو من رؤساء أهل الكتب؟
فقال لهم بعض أكابرهم: أترون كتابكم يحكم على أحد قبل أن يسمع منه؟ فقالوا له: اكشف الكتب ترى أنه لا يجيء من جلجال نبي».
فما قالت اليهود ذلك إلا وقد أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه، ومالكه أنه نبي، ولو علمت من دعواه الإلهية لذكرت ذلك له، وأنكرته عليه، وكان أعظم أسباب التنفير عن طاعته؛ لأن كذبه كان يعلم بالحس، والعقل، والفطرة، واتفاق الأنبياء.
ولقد كان يجب لله سبحانه - لو سبق في حكمته أنه يبرز لعباده، وينزل عن كرسي عظمته، ويباشرهم بنفسه - أن لا يدخل في فرج امرأة، ويقيم في بطنها بين البول والنجو والدم عدة أشهر، وإذ قد فعل ذلك لا يخرج صبيا صغيرا يرضع ويبكي، وإذ قد فعل ذلك لا يأكل مع الناس ويشرب معهم وينام، وإذ قد فعل ذلك فلا يبول ولا يتغوط ويمتنع من الخرأة، إذ هي منقصة ابتلى بها الإنسان في هذه الدار لنقصه وحاجته، وهو تعالى المختص بصفات الكمال المنعوت بنعوت الجلال، الذي ما وسعته سمواته ولا أرضه، وكرسيه وسع السموات والأرض، فكيف وسعه فرج امرأة. تعالى الله رب العالمين. وكلكم متفقون على أن المسيح كان يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وينام.
فيا معشر معشر المثلثة وعباد الصليب: أخبرونا من كان الممسك للسموات والأرض، حين كان ربها وخالقها مربوطا على خشبة الصليب، وقد شدّت يداه ورجلاه بالحبال، وسمرت اليد التي أتقنت العوالم، فهل بقيت السموات والأرض خلوا من إلهها، وفاطرها، وقد جرى عليه هذا الأمر العظيم؟
أم تقولون: استخلف على تدبيرها غيره، وهبط عن عرشه، لربط نفسه على خشبة الصليب، وليذوق حر المسامير، وليوجب اللعنة على نفسه، حيث قال في التوراة: «ملعون من تعلق بالصليب» أم تقولون: كان هو المدبر لها في تلك الحال، فكيف وقد مات ودفن؟
أم تقولون - وهو حقيقة قولكم - لا ندري، ولكن هذا في الكتب، وقد قاله الآباء وهم القدوة.
والجواب عليهم: فنقول لكم، وللآباء معاشر المثلثة عباد الصليب: ما الذي دلكم على إلهية المسيح؟ فإن كنتم استدللتم عليها بالقبض من أعدائه عليه وسوقه إلى خشبة الصليب وعلى رأسه تاج من الشوك، وهم يبصقون في وجهه ويصفعونه. ثم أركبوه ذلك المركب الشنيع، وشدوا يديه ورجليه بالحبال وضربوا فيها المسامير وهو يستغيث وتعلق ثم فاضت نفسه، وأودع ضريحه؛ فما أصحه من استدلال عند أمثالكم ممن هم أضل من الأنعام؟ وهم عار على جميع الأنام!
وإن قلتم: إنما استدللنا على كونه إلها، بأنه لم يولد من البشر، ولو كان مخلوقا لكان مولودا من البشر، فإن كان هذا الاستدلال صحيحا، فآدم إله المسيح، وهو أحق بأن يكون إلها منه، لأنه لا أم له، ولا أب، والمسيح له أم، وحواء أيضا اجعلوها إلها خامسا، لأنها لا أم لها، وهي أعجب من خلق المسيح؟
والله سبحانه قد نوع خلق آدم وبينه، إظهارا لقدرته، وإنه يفعل ما يشاء، فخلق آدم لا من ذكر، ولا من أنثى، وخلق زوجه حوى من ذكر، لا من أنثى، وخلق عبده المسيح من أنثى لا من ذكر، وخلق سائر النوع من ذكر وأنثى.
وإن قلتم: استدللنا على كونه إلها، بأنه أحيا الموتى، ولا يحييهم إلا الله. فاجعلوا موسى إلها آخر، فإنه أتى من ذلك بشيء، لم يأت المسيح بنظيره ولا ما يقاربه، وهو جعل الخشبة حيوانا عظيما ثعبانا، فهذا أبلغ وأعجب من إعادة الحياة إلى جسم كانت فيه أولا.
فإن قلتم: هذا غير إحياء الموتى.
فهذا اليسع النبي أتى بإحياء الموتى، وهم يقرون بذلك.
وكذلك إيليا النبي أيضا أحيا صبيا بإذن الله.
وهذا موسى قد أحيا بإذن الله السبعين الذين ماتوا من قومه.
وفي كتبكم من ذلك كثير عن الأنبياء والحواريين، فهل صار أحد منهم إلها بذلك؟
وإن قلتم: جعلناه إلها للعجائب التي ظهرت على يديه، فعجائب موسى أعجب وأعجب، وهذا إيليا النبي بارك على دقيق العجوز ودهنها، فلم ينفد ما في جرابها من الدقيق وما في قارورتها من الدهن سبع سنين.
وإن جعلتموه إلها لكونه أطعم من الأرغفة اليسيرة آلافا من الناس، فهذا موسى قد أطعم أمته أربعين سنة من المن والسلوى.
وهذا محمد بن عبد الله قد أطعم العسكر كله من زاد يسير جدا، حتى شبعوا، وملؤا أوعيتهم، وسقاهم كلهم من ماء يسير، لا يملأ اليد حتى ملؤا كل سقاء في العسكر، وهذا منقول عنه بالتواتر.
وإن قلتم: جعلناه إلها، لأنه صاح بالبحر فسكنت أمواجه، فقد ضرب موسى البحر بعصاه، فانفلق اثني عشر طريقا، وقام الماء بين الطرق كالحيطان، وفجر من الحجر الصلد اثني عشر عينا سارحة.
وإن جعلتموه إلها لأنه أبرأ الأكمه والأبرص، فإحياء الموتى أعجب من ذلك، وآيات موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أعجب من ذلك.
وإن جعلتموه إلها لأنه ادعى ذلك، فلا يخلو إما أن يكون الأمر كما تقولون عنه، أو يكون إنما ادعى العبودية والافتقار، وأنه مربوب، مصنوع، مخلوق، فإن كان كما ادعيتم عليه فهو أخو المسيح الدجال، وليس بمؤمن، ولا صادق فضلا عن أن يكون نبيا كريما، وجزاؤه جهنم وبئس المصير، كما قال تعالى:
(ومن يقل منهم إني إله من دونه، فذلك نجزيه جهنم) وكل من ادعى الإلهية من دون الله، فهو من أعظم أعداء الله كفرعون، ونمرود، وأمثالهما من أعداء الله، فأخرجتم المسيح عن كرامة الله، ونبوته، ورسالته، وجعلتموه من أعظم أعداء الله، ولهذا كنتم أشد الناس عداوة للمسيح في صورة محب موال.
ومن أعظم ما يعرف به كذب المسيح الدجال أنه يدعي الإلهية، فيبعث الله عبده ورسوله مسيح الهدى ابن مريم، فيقتله، ويطهر للخلائق أنه كان كاذبا مفتريا، ولو كان إلها لم يقتل، فضلا عن أن يصلب ويسمر ويبصق في وجهه!
وإن كان المسيح إنما ادعى أنه عبد ونبي ورسول كما شهدت به الأناجيل كلها، ودل عليه العقل والفطرة، وشهدتم أنتم له بالإلهية - وهذا هو الواقع - فلِم تأتوا على إلهيته ببينة غير تكذيبه في دعواه، وقد ذكرتم عنه في أناجيلكم في مواضع عديدة ما يصرح بعبوديته، وأنه مربوب مخلوق وأنه ابن البشر وأنه لم يدع غير النبوة والرسالة، فكذبتموه في ذلك كله وصدقتم من كذب على الله وعليه!
وإن قلتم: إنما جعلناه إلها لأنه أخبر بما يكون بعده من الأمور، فكذلك عامة الأنبياء، وكثير من الناس يخبر عن حوادث في المستقبل جزئية، ويكون ذلك كما أخبر به، ويقع من ذلك كثير للكهان والمنجمين والسحرة!
وإن قلتم: إنما جعلناه إلها، لأنه سمى نفسه ابن الله في غير موضع من الإنجيل كقوله: «إني ذاهب إلى أبي» «وإني سائل أبي» ونحو ذلك، وابن الإله إله، قيل: فاجعلوا أنفسكم كلكم آلهة، في غير موضع إنه سماه «أباه وأباهم». كقوله: «اذهب إلى أبي وأبيكم».
وفيه: «ولا تسبوا أباكم على الأرض، فإن أباكم الذي في السماء وحده» وهذا كثير في الإنجيل، وهو يدل على أن الأب عندهم الرب.
وإن جعلتموه إلها، لأن تلاميذه ادعوا ذلك له وهم أعلم الناس به، كذبتم أناجيلكم التي بأيديكم فكلها صريحة أظهر صراحة بأنهم ما ادعوا له إلا ما ادعاه لنفسه من أنه عبد.
فهذا متى يقول في الفصل التاسع من إنجيله محتجا بنبوة شعيا في المسيح عن الله عز وجل: «هذا عبدي الذي اصطفيته وحبيبي الذي ارتاحت نفسي له».
وفي الفصل الثامن من إنجيله: «إني أشكرك يا رب» «ويا رب السموات والأرض».
وهذا لوقا يقول في آخر إنجيله: «أن المسيح عرض له، ولآخر من تلاميذه في الطريق ملك وهما محزونان فقال لهما وهما لا يعرفانه: ما بالكما محزونين؟ فقالا: كأنك غريب في بيت المقدس إذ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر الناصري، فإنه كان رجلا نبيا قويا تقيا في قوله وفعله عند الله وعند الأمة، أخذوه وقتلوه».
وهذا كثير جدا في الإنجيل.
وإن قلتم: إنما جعلناه إلها لأنه صعد إلى السماء، فهذا أخنوخ وإلياس قد صعدا إلى السماء، وهما حيان مكرمان، لم تشكهما شوكة ولا طمع فيهما طامع، والمسلمون مجمعون على أن محمدا ﷺ صعد إلى السماء، وهو عبد محض، وهذه الملائكة تصعد إلى السماء، وهذه أرواح المؤمنين تصعد إلى السماء بعد مفارقتها الأبدان ولا تخرج بذلك عن العبودية، وهل كان الصعود إلى السماء مخرج عن العبودية بوجه من الوجوه؟
وإن جعلتموه إلها لأن الأنبياء سمته إلها وربا وسيدا ونحو ذلك، فلم يزل كثير من أسماء إله عز وجل تقع على غيره عند جميع الأمم وفي سائر الكتب، وما زالت الروم والفرس والهند والسريانيون والعبرانيون والقبط وغيرهم يسمون ملوكهم آلهة وأربابا.
وفي السفر الأول من التوراة: «أن بني الله دخلوا على بنات الناس ورأوهن بارعات الجمال، فتزوجوا منهن».
وفي السفر الثاني من التوراة في قصة المخرج من مصر: «إني جعلتك إلها لفرعون».
وفي المزمور الثاني والثمانين لداود «قام الله لجميع الآلهة» هكذا في العبرانية، وأما من نقله إلى السريانية فإنه حرفه فقال: «قام الله في جماعة الملائكة».
وقال في هذا المزمور وهو يخاطب قوما بالروح: «لقد ظننت أنكم آلهة، وأنكم أبناء الله كلكم».
وقد سمى الله سبحانه عبده بالملك، كما سمى نفسه بذلك، وسماه بالرؤوف الرحيم، كما سمى نفسه بذلك، وسماه بالعزيز، وسمى نفسه بذلك.
واسم الرب واقع على غير الله تعالى في لغة أمة التوحيد، كما يقال: هذا رب المنزل، ورب الإبل، ورب هذا المتاع.
وقد قال شعيا: «عرف الثور من اقتناه، والحمار مربط ربه، ولم يعرف بنو إسرائيل».
وإن جعلتموه إلها لأنه صنع من الطين صورة طائر، ثم نفخ فيها، فصارت لحما، ودما، وطائرا حقيقة، ولا يفعل هذا إلا الله، قيل: فاجعلوا موسى بن عمران إله الآلهة، فإنه ألقى عصا فصارت ثعبانا عظيما، ثم أمسكها بيده، فصارت عصا كما كانت!
وإن قلتم: جعلناه إلها لشهادة الأنبياء والرسل له بذلك، قال عزرا حيث سباهم بختنصر إلى أرض بابل إلى أربعمائة واثنين وثمانين سنة: «يأتي المسيح ويخلّص الشعوب والأمم».
وعند انتهاء هذه المدة أتى المسيح، ومن يطيق تخليص الأمم غير الإله التام، قيل لكم: فاجعلوا جميع الرسل إلهة، فإنهم خلّصوا الأمم من الكفر والشرك، وأخلصوهم من النار بإذن الله وحده، ولا شك أن المسيح خلّص من آمن به واتبعه من ذل الدنيا وعذاب الآخرة.
كما خلص موسى بني إسرائيل من فرعون وقومه، وخلّصهم بالإيمان بالله واليوم الآخر من عذاب الآخرة، وخلّص الله سبحانه بمحمد بن عبد الله ﷺ عبده، ورسوله من الأمم والشعوب ما لم يخلصه نبي سواه، فإن وجبت بذلك الإلهية لعيسى، فموسى، ومحمد أحق بها منه.
وإن قلتم: أوجبنا له بذلك الإلهية، لقول أرمياء النبي عن ولادته: «وفي ذلك الزمان يقوم لداود ابن، وهو ضوء النور، يملك الملك ويقيم الحق والعدل في الأرض ويخلص من آمن به من اليهود ومن بني إسرائيل ومن غيرهم، ويبقى بيت المقدس من غير مقاتل، ويسمى الإله».
فقد تقدم أن اسم الإله في الكتب المتقدمة وغيرها، قد أطلق على غيره، وهو بمنزلة الرب والسيد والأب، ولو كان عيسى هو الله لكان أجل من أن يقال ويسمى الإله، وكان يقول: وهو الله، فإن الله سبحانه لا يعرف بمثل هذا، وفي هذا الدليل الذي جعلتموه به إلها أعظم الأدلة على أنه عبد وأنه ابن البشر، فإنه قال: «يقوم لداود ابن» فهذا الذي قام لداود هو الذي سمى بالإله، فعلم أن هذا الاسم لمخلوق مصنوع مولود، لا لرب العالمين وخالق السموات والأرضين.
وإن قلتم: إنما جعلناه إلها من جهة، قول شعيا النبي: قل لصهيون يفرح ويتهلل فإن الله يأتي ويخلّص الشعوب ويخلّص من آمن به ويخلص مدينة بيت المقدس، ويظهر الله ذراعه الطاهر فيها لجميع الأمم المتبددين ويجعلهم أمة واحدة، ويصرّ جميع أهل الأرض خلاص الله، لأنه يمشي معهم وبين أيديهم ويجمعهم إله إسرائيل».
قيل لهم: هذا يحتاج:
أولا: إلى أن يعلم أن ذلك في نبوة أشعيا بهذا اللفظ، بغير تحريف للفظه، ولا غلط في الترجمة، وهذا غير معلوم، وإن ثبت ذلك لم يكن فيه دليل على أنه إله تام، وأنه غير مصنوع، ولا مخلوق، فإنه نظير ما في التوراة: «جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران» وليس في هذا ما يدل على أن موسى ومحمدا إلهان، والمراد بهذا مجيء دينه وكتابه وشرعه وهداه ونوره.
وأما قوله: «ويظهر ذراعه الطاهر لجميع الأمم المبددين» ففي التوارة مثل هذا، وأبلغ منه في غير موضع، وأما قوله: «ويصرّ جميع أهل الأرض خلاص الله لأنه يمشي معهم ومن بين أيديهم».
فقد قال في التوراة في السفر الخامس لبني إسرائيل: «لا تهابوهم ولا تخافوهم لأن الله ربكم السائر بين أيديكم وهو محارب عنكم» وفي موضع آخر قال موسى: «إن الشعب هو شعبك، فقال: أنا أمضي أمامك، فقال: إن لم تمض أنت أمامنا وإلا فلا تصعدنا من ههنا، فكيف أعلم أنا؟ وهذا الشعب أني وجدت نعمة كذا إلا بسيرك معنا».
وفي السفر الرابع: «إني أصعدت هؤلاء بقدرتك، فيقولان لأهل هذه الأرض: الذي سمعوا منك الله، فيما بين هؤلاء القوم يرونه عينا بعين، وغمامك تغيم عليهم، ويعود عماما يسير بين أيديهم نهارا، ويعود نارا ليلا».
وفي التوراة أيضا: «يقول الله لموسى: إني آتٍ إليك في غلظ الغمام، لكي يسمع القوم مخاطبتي لك». وفي الكتب الإلهية، وكلام الأنبياء من هذا كثير.
وفيما حكى خاتم الأنبياء عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: «ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي».
وإن قلتم: جعلناه إلها، لقول زكريا في نبوته لصهيون: «لأني آتيك وأحل فيك، واترائي، وتؤمن بالله في ذلك اليوم الأمم الكثيرة، ويكونون له شعبا واحدا، ويحل هو فيهم، ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك، ويأخذ الله في ذلك اليوم الملك من يهوذا، ويملك عليهم إلى الأبد».
قيل لكم: إن أوجبتم له الإلهية بهذا، فلتجب لإبراهيم وغيره من الأنبياء؛ فإن عند أهل الكتاب وأنتم معهم «أن الله تجلى لإبراهيم واستعلن له وترائى له».
وأما قوله: «وأحل فيك» لم يرد سبحانه بهذا حلول ذاته، التي لا تسعها السموات والأرض في بيت المقدس، وكيف تحل ذاته في مكان يكون فيه مقهورا مغلوبا، مع شرار الخلق؟ كيف وقد قال: «ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك». أفترى عرفوا قوته بالقبض عليه وشد يديه بالحبال وربطه على خشبة الصليب ودق المسامير في يديه ورجليه ووضع تاج الشوك على رأسه وهو يستغيث ولا يغاث، وما كان المسيح يدخل بيت المقدس إلا وهو مغلوب مقهور مستخف في غالب أحواله.
ولو صح مجيء هذه الألفاظ صحة لا تدفع وصحت ترجمتها كما ذكروه، لكان معناها أن معرفة الله والإيمان به وذكره ودينه وشرعه حل في تلك البقعة وبيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح بعد دفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته ما لم يكن قبل ذلك.
وجماع الأمر: أن النبوات المتقدمة، والكتب الإلهية، لم تنطق بحرف واحد يقتضي أن يكون ابن البشر إلها تاما: إله حق من إله حق وأنه غير مصنوع ولا مربوب، بل بِمَ يخصه إلا بما خص به أخوه وأولى الناس به محمد بن عبد الله، في قوله: «أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه».
وكتب الأنبياء المتقدمة، وسائر النبوات موافقة لما أخبر به محمد ﷺ، وذلك كله يصدّق بعضه بعضا، وجميع ما تستدل به النصارى على إلهية المسيح من ألفاظ وكلمات في الكتب، فإنها مشتركة بين المسيح وغيره، كتسميته أبا وكلمة وروح حق، وإلها، وكذلك ما أطلق من حلول روح القدس فيه وظهور الرب فيه أو في مكانه.
وقد وقع في نظير شركهم وكفرهم طوائف من المنتسبين إلى الإسلام، واشتبه عليهم ما يحل في قلوب العارفين من الإيمان به ومعرفته ونوره وهداه فظنوا أن ذلك نفس ذات الرب.
وقد قال تعالى: (المثل الأعلى).
وقال: (وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم)، وهو ما في قلوب ملائكته وأنبيائه وعباده المؤمنين من الإيمان به ومعرفته ومحبته وإجلاله وتعظيمه.
وهو نظير قوله: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به، فقد اهتدوا).
وقوله: (وهو الله في السموات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم، ويعلم ما تكسبون).
وقوله: (وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الحكيم العليم). فأولياء الله يعرفونه ويحبونه ويجلّونه.
ويقال: هو في قلوبهم، والمراد: محبته ومعرفته، والمثل الأعلى في قلوبهم، لا نفس ذاته وهذا أمر يعتاده الناس في مخاطباتهم ومحاوراتهم، يقول الإنسان لغيره: أنت في قلبي، ولا زلت في عيني، كما قال القائل:
ومن عجب أني أحن إليهم *** وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها *** ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
وقال آخر:
خيالك في عيني وذكرك في فمي*** ومثواك في قلبي فأين تغيب
وقال آخر:
ساكن في القلب يعمره*** لست أنساه فأذكره
وقال آخر:
إن قلت غبت فقلبي لا يصدقني **** إذ أنت فيه لم تغب
أو قلت ما غبت قال الطرف ذا كذب *** فقد تحيرت بين الصدق والكذب
وقال الآخر:
أحن إليه وهو في القلب ساكن *** فيا عجبا لمن يحن لقلبه
ومن غلظ طبعه، وكشف فهمه عن فهم مثل هذا لم يكثر عليه أن يفهم من ألفاظ الكتب، أن ذات الله سبحانه تحل في الصورة البشرية، وتتحد بها، وتمتزج بها (تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا).
وإن قلتم أوجبنا له الإلهية من قول شعيا: «من أعجب الأعاجيب أن رب الملائكة سيولد من البشر».
قيل لكم: هذا مع أنه يحتاج إلى صحة هذا الكلام عن شعيا، وأنه لم يحرف بالنقل من ترجمة إلى ترجمة، وأنه كلام منقطع عما قبله وبعده ببينة، فهو دليل على أنه مخلوق مصنوع وأنه ابن البشر مولود منه؛ لا من الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
وإن قلتم: جعلناه إلها، من قول متى في إنجيله: «أن ابن الإنسان يرسل ملائكته، ويجمعون كل الملوك، فيلقونهم في أتون النار»
قيل: هذا كالذي قبله سواء، ولم يرد أن المسيح هو رب الأرباب ولا أنه خالق الملائكة، وحاش لله أن يطلق عليه أنه رب الملائكة، بل هذا من أقبح الكذب والافتراء؛ بل رب الملائكة أوصى الملائكة بحفظ المسيح وتأييده ونصره بشهادة لوقا النبي القائل عندهم: «أن الله يوصي ملائكته بك ليحفظوك».
ثم بشهادة لوقا: «أن الله أرسل له ملكا من السماء ليقويه» هذا الذي نطقت به الكتب، فحرف الكذّابون على الله وعلى مسيحه ذلك ونسبوا إلى الأنبياء أنهم قالوا: هو رب الملائكة.
وإذا شهد الإنجيل واتفاق الأنبياء والرسل أن الله يوصي ملائكته بالمسيح ليحفظوه، علم أن الملائكة والمسيح عبيد الله منفذون لأمره ليسوا أربابا ولا آلهة وقال المسيح لتلامذته: «من قبلكم فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل من أرسلني».
وقال المسيح لتلامذته أيضا: «من أنكرني قدام الناس، أنكرته قدام ملائكة الله».
وقال للذي ضرب عبد رئيس الكهنة: «أغمد سيفك، ولا تظن أني أستطيع أن أدعو الله الأب فيقيم لي أكثر من اثني عشر من الملائكة» فهل يقول هذا من هو رب الملائكة وإلههم وخالقهم؟
وإن أوجبتم له الإلهية بما نقلتموه عن شعيا: «تخرج عصا من بيت نبي، وينبت منها نور، ويحلّ فيه روح القدس، روح الله، روح الكلمة والفهم، روح الحيل والقوة، روح العلم وخوف الله، وبه يؤمنون، وعليه يتوكلون، ويكون لهم التاج والكرامة إلى دهر الداهرين»
قيل لكم: هذا الكلام بعد المطالبة بصحة نقله عن شعيا، وصحة الترجمة له باللسان العربي، وأنه لم يحرفه المترجم، هو حجة على لا لهم؛ فإنه لا يدل على أن المسيح خالق السموات والأرض؛ بل يدل على مثل ما دل عليه القرآن، وأن المسيح أيد بروح القدس؛ فإنه قال:
«ويحل فيه روح القدس، روح الله، روح الكلمة والفهم، روح الحيل والقوة، روح العلم وخوف الله» ولم يقل تحل فيه حياة الله، فضلا عن أن يحلّ الله فيه ويتحد به ويتخذ حجابا من ناسوته، وهذه روح تكون مع الأنبياء والصديقين.
وعندهم في التوراة: «أن الذين كانوا يعملون في قبة الزمان، حلّت فيهم روح الحكمة» وروح الفهم والعلم هي ما يحصل به الهدى، والنصر، والتأييد، وقوله: «هي روح الله» لا تدل على أنها صفة فضلا عن أن يكون هو الله!
وجبريل يسمى روح الله، والمسيح اسمه روح الله.
والمضاف إذا كان ذاتا قائمة بنفسها فهو إضافة مملوك إلى مالك كبيت الله وناقة الله وروح الله؛ ليس المراد به بيت يسكنه ولا ناقة يركبها ولا روح قائمة به، وقد قال تعالى: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه).
وقال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) فهذه الروح أيد بها عباده المؤمنين.
أما قوله: «وبه يؤمنون وعليه يتوكلون» فهو عائد إلى الله لا إلى العصا التي تبت من بيت النبوة، وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في قوله: (قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) وقال موسى لقومه: (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين).
وهو كثير في القرآن، وقد أخبر أنه أيده بروح العلم وخوف الله فجمع بين العلم والخشية، وهما الأصلان اللذان جمع القرآن بينهما، في قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
وفي قول النبي ﷺ: «إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية» وهذا شأن العبد المحض.
وأما الإله الحق ورب العالمين فلا يلحقه خوف ولا خشية ولا يعبد غيره، والمسيح كان قائما بأوراد العبادات لله أتم القيام.
وإن أوجبتم له الإلهية بقول شعيا: «أن غلاما ولد لنا، وإننا أعطيناه كذا وكذا، ورياسته على عاتقيه، وبين منكبيه، ويدعي اسمه ملكا عظيما عجيبا إلها قويا مسلّطا رئيسا، قوي السلامة، في كل الدهور وسلطانه، كامل ليس له فناء»
قيل لكم: ليس في هذه البشارة ما يدل على أن المراد بها المسيح بوجه من الوجوه، ولو كان المراد بها المسيح، لم يدل على مطلوبهم.
أما «المقام الأول»: فدلالتها على محمد بن عبد الله، ظهر من دلالتها على المسيح، فإنه هو الذي رياسته على عاتقيه، وبين منكبيه، من جهتين:
من جهة أن خاتم النبوة علا نغض كتفيه، وهو من أعلام النبوة التي أخبرت به الأنبياء وعلامة ختم ديوانهم ولذلك كان في ظهوره.
ومن جهة أنه بعث بالسيف الذي يتقلد به على عاتقه ويرفعه إذا ضرب به على عاتقه، ويدل عليه قوله: «رئيس مسلط، قوي السلامة»، وهذه صفة محمد ﷺ المؤيد المنصور رئيس السلامة، فإن دينه الإسلام، ومن اتبعه سلم من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة ومن استيلاء عدوه عليه، والمسيح لم يسلط على أعدائه كما سلط محمد ﷺ؛ بل كان أعداؤه مسلطين عليه قاهرين له حتى عملوا به ما عملوا عند النصارى، فأين مطابقة هذه الصفات للمسيح بوجه من الوجوه؟ وهي مطابقة لمحمد بن عبد الله ﷺ من كل وجه، وهو الذي سلطانه كامل ليس له فناء إلى آخر الدهور.
فإن قيل: إنكم لا تدعون محمد إلها، بل هو عندكم عبد محض؟ قيل: نعم، والله إنه لكذلك عبد محض لله، والعبودية أجَل مراتبه، واسم «الإله» من جهة التراجم جاء، والمراد به السيد المطاع لا الإله المعبود الخالق الرازق.
وإن أوجبتم له الإلهية من قول شعيا فيما زعمتم: «ها هي العذراء تحبل وتلد ابنا يدعى اسمه عمانويل» وعمانويل كلمة عبرانية تفسيرها بالعربية: (إلهنا معنا)، فقد شهد له النبي أنه إله
قيل لكم: بعد ثبوت هذا الكلام وتفسيره، لا يدل على أن العذراء ولدت رب العالمين وخالق السموات والأرضين؛ فإنه قال تلد ابنا، وهذا دليل على أنه ابن من جملة البنين ليس هو رب العالمين.
وقوله: «ويدعى اسمه عمانويل» فإنما يدل على أنه يسمى بهذا الاسم، كما يسمي الناس أبناءهم بأنواع من الصفات والأسماء والأفعال، والجمل المركبة من اسمين أو اسم وفعل.
وكثير من أهل الكتاب يسمون أولادهم عمانويل، ومن علمائكم من يقول: المراد بالعذراء ههنا غير مريم، ويذكر في ذلك قصة، ويدل على هذا أن المسيح لا يعرف اسمه «عمانويل» وإن كان ذلك اسمه فكونه يسمى إلهنا معنا أو بالله حسبي أو الله وحده ونحو ذلك.
وقد حرف بعض النصارى هذه الكلمة وقال: معناها: «الله معنا»، ورد عليهم بعض من أنصف من علمائهم وحكم رشده على هواه وهداه الله للحق وبصره من عماه، وقال: أهذا هو القائل «أنا الرب ولا إله غيري وأنا أحيي وأميت وأخلق وأرزق؟»
أم هو القائل لله: «إنك أنت الإله الحق وحدك، الذي أرسلت اليسوع المسيح؟ !»
قال: والأول باطل قطعا.
والثاني: هو الذي شهد به الإنجيل.
ويجب تصديق الإنجيل، وتكذيب من زعم أن المسيح إله معبود.
قال: وليس المسيح مخصوصا بهذا الاسم، فإن «عمانويل» اسم تسمي به النصارى واليهود أولادهما، قال: وهذا موجود في عصرنا هذا، ومعنى هذه التسمية بينهم شريف القدر.
قال: وكذلك السريان يسمون أولادهم «عمانويل». والمسلمون وغيرهم يقولون للرجل: الله معك فإذا سمي الرجل بقوله: الله معك، كان هذا تبركا بمعنى هذا الاسم.
وإن أوجبتم له الإلهية بقول حنقوق فيما حكيتموه عن: «أن الله في الأرض يترائى، ويختلط مع الناس، ويمشي معهم». ويقول أرميا أيضا: «بعد هذا، الله يظهر في الأرض، وينقلب مع البشر»
قيل لكم: هذا بعد احتياجه إلى ثبوت نبوة هذين الشخصين أولا وإلى ثبوت هذا النقل عنهما وإلى مطابقة الترجمة من غير تحريف - وهذه «ثلاث مقامات» يعز عليكم إثباتها - لا يدل على أن المسيح هو خالق السموات والأرض وأنه إله حق ليس بمخلوق ولا مصنوع، ففي التوراة ما هو من هذا الجنس وأبلغ ولم يدل ذلك على أن موسى إله ولا أنه خارج عن جملة العبيد.
وقوله: «يترائى» مثل: تجلّى وظهر واستعلن ونحو ذلك من ألفاظ التوراة وغيرها من الكتب الإلهية.
وقد ذكر في التوراة: «أن الله تجلّى وترائى لإبراهيم وغيره من الأنبياء» ولم يدل ذلك على الإلهية لأحد منه، ولم يزل في عرف الناس ومخاطبتهم أن يقولوا: فلان معنا وهو بين أظهرنا، ولم يمت إذا كان عمله وسنته وسيرته بينهم ووصاياه يعمل بها بينهم.
وكذلك يقول القائل لمن مات والده: ما مات من خلف مثلك، وأنا والدك، وإذا رأوا تلميذا لعالم تعلم علمه، قالوا: هذا فلان باسم أستاذه. كما كان يقال عن عكرمة: هذا ابن عباس، وعن أبي حامد: هذا الشافعي.
وإذا بعث الملك نائبا يقوم مقامه في بلد، يقول الناس: جاء الملك، وحكم الملك، ورسم الملك.
وفي الحديث الصحيح الإلهي يقول الله عز وجل يوم القيامة: «عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب، كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ قال: أما إن عبدي فلانا مرض، فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده. عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا استطعمك فلم تطعمه، أما لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. عبدي استسقيتك فلم تسقني، فيقول: رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما أن عبدي فلانا عطش فاستسقاك فلم تسقه، أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي».
وأبلغ من هذا قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم).
ومن هذا قوله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) فلو استحل المسلمون ما استحللتم لكان استدلالهم بذلك على أن محمدا إله من جنس استدلالكم لا فرق بينهما.
وإن أوجبتم له الإلهية بقوله في السفر الثالث من أسفار الملوك: «والآن يا رب إله إسرائيل، يتحقق كلامك لداود، لأنه حق، إن يكون أنه سيسكن الله مع الناس على الأرض، اسمعوا أيتها الشعوب كلكم، ولتنصت الأرض، وكل من فيها، فيكون الرب عليها شاهدا، ويخرج من موضعه، وينزل ويطأ على مشارق الأرض في شأن خطيئة بني يعقوب».
قيل لكم: هذا السفر يحتاج أولا إلى أن يثبت أن الذي تكلم به نبي، وأن هذا لفظه، وأن الترجمة مطابقة له، وليس ذلك بمعلوم، وبعد ذلك فالقول في هذا الكلام كالقول في نظائره مما ذكرتموه، وما لم تذكروه، وليس في هذا الكلام ما يدل على أن المسيح خالق السموات والأرض، وأنه إله حق غير مصنوع، ولا مخلوق، فإن قوله: «إن الله سيسكن مع الناس في الأرض» هو مثل كونه معهم، وإذا صار في الأرض نوره، وهداه، ودينه، ونبيه، كانت هذه سكناه، لا أنه بذاته المقدسة نزل عن عرشه، وسكن مع أهل الأرض، ولو قدر تقدير المحالات أن ذلك واقع، لم يلزم أن يكون هو المسيح، فقد سكن الرسل والأنبياء قبله وبعده، فما الموجب لأن يكون المسيح هو الإله دون إخوانه من المرسلين؟
أترى ذلك للقوة والسلطان الذي كان له، وهو في الأرض، وقد قلتم: أنه قبض عليه، وفعل به ما فعل، من غاية الإهانة، والإذلال، والقهر، فهذا ثمرة سكناه في الأرض مع خلقه.
فإن قلتم: سكناه، وفي الأرض هو ظهوره في ناسوت المسيح. قيل لكم: أما الظهور الممكن المعقول، وهو ظهور محبته، ومعرفته، ودينه، وكلامه، فهذا لا فرق فيه بين ناسوت المسيح وناسوت سائر الأنبياء والمرسلين، وليس في اللفظ على هذا التقدير ما يدل على اختصاصه بناسوت المسيح.
وأما الظهور المستحيل الذي تأباه العقول، والفطر، والشرائع، وجميع النبوات، وهو ظهور ذات الرب في ناسوت مخلوق من مخلوقاته، واتحاده به، وامتزاجه، واختلاطه، فهذا محال عقلا وشرعا، فلا يمكن أن تنطق به نبوة أصلا؛ بل جميع النبوات من أولها إلى آخرها متفقة على أصول: أحدها: أن الله سبحانه وتعالى قديم واحد لا شريك له في ملكه ولا ند ولا ضد ولا وزير ولا مشير ولا ظهير ولا شافع إلا من بعد إذنه.
الثاني: أنه لا والد له ولا ولد ولا كفؤ ولا نسيب بوجه من الوجوه ولا زوجة.
الثالث: أنه غني بذاته فلا يأكل ولا يشرب ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خلقه بوجه من الوجوه.
الرابع: أنه لا يتغير ولا تعرض له الآفات من الهرم والمرض والسنة والنوم والنسيان والندم والخوف والهم والحزن ونحو ذلك.
الخامس: أنه لا يماثل شيئا من مخلوقاته، بل ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
السادس: أنه لا يحل في شيء من مخلوقاته ولا يحل في ذاته شيء منها، بل هو بائن عن خلقه بذاته، والخلق بائنون عنه.
السابع: أنه أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء وفوق كل شيء وعال على كل شيء وليس فوقه شيء البتة.
الثامن: أنه قادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء يريده، بل هو الفعال لما يريد.
التاسع: أنه عالم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، (وما تسقط من ورقة إلا بعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولارطب ولا يابس) ولا متحرك إلا وهو يعلمه على حقيقته.
العاشر: أنه سميع بصير يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فقد أحاط سمعه بجميع المسموعات وبصره بجميع المبصرات وعلمه بجميع المعلومات وقدرته بجميع المقدورات ونفذت مشيئته في جميع البريات وعمت رحمته جميع المخلوقات ووسع كرسيه الأرض والسموات.
الحادي عشر: أنه الشاهد الذي لا يغيب ولا يستخلف أحدا على تدبير ملكه ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه عليها أو يستعطفه عليهم ويسترحمه لهم.
الثاني عشر: أنه الأبدي، الباقي الذي لا يضمحل ولا يتلاشى ولا يعدم ولا يموت.
الثالث عشر: أنه المتكلم الآمر الناهي قائل الحق وهادي السبيل ومرسل الرسل ومنزل الكتب والقائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر، ومجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
الرابع عشر: أنه الصادق في وعده وخبره، فلا أصدق منه قيلا وإلا أصدق منه حديثا، وهو لا يخلف الميعاد.
الخامس عشر: أنه تعالى صمد بجميع الصمدية، فيستحيل عليه ما يناقض صمديته.
السادس عشر: أنه قدوس سلام، فهو المبرأ من كل عيب وآفة ونقص.
السابع عشر: أنه الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه.
الثامن عشر: أنه العدل الذي لا يجور ولا يظلم ولا يخاف عباده منه ظلما.
فهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه ولا يخبر نبي بخلافه أصلا، فترك النصارى هذه كله وتمسكوا بالمتشابه من المعاني والمجمل من الألفاظ وأقوال من ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل، وأصول المثلثة ومقالتهم في رب العالمين تخالف هذا كله أشد المخالفة وتباينه أعظم المباينة.