→ نطق التوراة صراحة بنبوة محمد | هداية الحيارى المؤلف: ابن القيم |
الفصل السادس: مناظرة المؤلف لأحد كبار اليهود ← |
ما ذكر في نبوة حبقوق
ونظير هذا ما نقلوه ورضوا ترجمته في نبوة حبقوق: «جاء الله من التين، وظهر القدس على جبال فاران، وامتلأت الأرض من تحميد أحمد، وملك بيمينه رقاب الأمم، وأنارت الأرض لنوره، وحملت خيله في البحر».
قال ابن قتيبية وزاد فيه بعض أهل الكتاب «وستنزع في قسيك أعراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء» وهذا إفصاح باسمه وصفاته، فإن ادعوا أنه غيره، فمن أحمد هذا الذي امتلأت من تحميده، الذي جاء من جبال فاران فملك رقاب الأمم؟
الوجه السادس: قوله في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة: «إن هاجر لما فارقت سارة وخاطبها الملك، فقال: يا هاجر، من أين أقبلت؟ وإلى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال، قال: ارجعي فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا اسمه إسماعيل؛ لأن الله قد سمع ذُلَّك وخضوعك، وولدك يكون وحش الناس، يده فوق يد الجميع، ويد الكل به، ويكون مسكنه على تخوم جميع أخوته».
قال المستخرجون لهذه البشارة: معلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث محمد ﷺ لم تكن فوق أيدي بني إسحاق؛ بل كان في أيدي بني إسحاق النبوة والكتاب، وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد.
ثم خرجوا منها لما بعث موسى وكانوا مع موسى من أعز أهل الأرض، ولم يكن لأحد عليهم يد؛ ولذلك كانوا مع يوشع إلى زمن داود، وملك سليمان الملك الذي لم يؤت أحدا مثله فلم يكن يد بني إسماعيل عليهم.
ثم بعث الله المسيح فكفروا به، وكذبوه، فدمر عليهم تكذيبهم إياه، وزال ملكهم، ولم يقم لهم بعده قائمة، وقطعهم الله في الأرض أمما، وكانوا تحت حكم الروم والفرس وقهرهم، ولم يكن يد ولد إسماعيل عليهم في هذا الحال، ولا كانت فوق يد الجميع. إلى أن بعث الله محمدا ﷺ برسالته، وأكرمه الله بنبوته فصارت بمبعثه يد بني إسماعيل فوق يد الجميع، فلم يبق في الأرض سلطان أعز من سلطانهم، بحيث قهروا سلطان فارس والروم والترك والديلم، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وعباد الأصنام، فظهر بذلك تأويل قوله في التوارة: «ويكون يده فوق يد الجميع، ويد الكل» وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر.
قالت اليهود: نحن لا ننكر هذا؛ ولكن إن هذه بشارة بملكه وظهوره وقهره لا برسالته ونبوته.
قال المسلمون: الملك ملكان: ملك ليس معه نبوة، بل ملك جبار متسلط، وملك نفسه نبوة؛ والبشارة لم تقع بالملك الأول؛ ولا سيما إن ادعى صاحبه النبوة والرسالة، وهو كاذب مفتر على الله فهو من شر الخلق وأفجرهم وأكفرهم، فهذا لا تقع البشارة بملكه وإنما يقع التحذير من فتنته كما وقع التحذير من فتنة الدجال، بل هذا شر من سنجاريب، وبخت نصر، والملوك الظلمة الفجرة الذين يكذبون على الله.
فالأخبار لا تكون بشارة، ولا تفرح به هاجر وإبراهيم، ولا بشر أحد بذلك، ولا يكون ذلك إثابة لها من خضوعها وذلها، وأن الله قد سمع ذلك ويعظم هذا المولود ويجعله لأمة عظيمة، وهذا عند الجاحدين بمنزلة أن يقال: أنك ستلدين جبارا ظالما طاغيا يقهر الناس بالباطل، ويقتل أولياء الله، ويسبي حريمهم، ويأخذ أموالهم بالباطل، ويبدل أديان الأنبياء، ويكذب على الله، ونحو ذلك.
فمن حمل هذه البشارة على هذا فهو من أعظم الخلق بهتانا وفرية على الله؛ وليس هذا بمستنكر لأمة اليهود.
الوجه السابع: قول داود في الزبور: «سبحوا الله تسبيحا جديدا، وليفرح إسرائيل بخالقه، وبيوت صهيون من أجل أن الله اصطفى له أمته وأعطاه النصر، وسدد الصالحين بالكرامة يسبحون على مضاجعهم، ويكبرون الله بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذات شفرتين، ولينتقم بهم من الأمم الذين لا يعبدونه، يوثقون ملوكهم بالقيود، وأشرافهم بالأغلال».
وهذه الصفات إنما تنطبق على سيدنا محمد وأمته، فهم الذين يكبرون الله بأصواتهم مرتفعة في أذانهم للصلوات الخمس، وعلى الأماكن العالية.
قال جابر: «كنا مع النبي ﷺ إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا، فوضعت الصلاة على ذلك» وهم يكبرون الله بأصوات عالية مرتفعة في الأذان، وفي عيد الفطر، وعيد النحر، وفي عشر ذي الحجة، وعقيب الصلوات في أيام منى.
وذكر البخاري عن عمر بن الخطاب أنه كان يكبر بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون بتكبيره، فيسمعهم أهل الأسواق فيكبرون، حتى ترتج منى تكبيرا.
وكان أبو هريرة وابن عمر يخرجان إلى السوق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، ويكبرون أيضا على قرابينهم وضحاياهم، وعند رمي الجمار، وعلى الصفا والمروة، وعند محاذاة الحجر الأسود، وفي أدبار الصلوات الخمس؛وليس هذا لأحد من الأمم لا أهل الكتاب ولا غيرهم سواهم؛ فإن اليهود يجمعون الناس بالبوق، والنصارى بالناقوس.
وأما تكبير الله بأصوات مرتفعة فشعار محمد بن عبد الله وأمته وقوله: «بأيديهم سيوف ذات شفرتين» فهي السيوف العربية التي فتح الصحابة بها البلاد، وهي إلى اليوم معروفة لهم، وقوله «يسبحون على مضاجعهم» هو نعت للمؤمنين (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم).
ومعلوم قطعا أن هذه البشارة لا تنطبق على النصارى ولا تناسبهم؛ فإنهم لا يكبرون الله بأصوات مرتفعة، ولا بأيديهم سيوف ذات شفرتين ينتقم الله بهم من الأمم، والنصارى تعيب من يقاتل الكفار بالسيف؛وفيهم من يجعل هذا من أسباب التنفير عن محمد ﷺ، ولجهلهم وضلالهم لا يعلمون أن موسى قاتل الكفار، وبعده يوشع بن نون، وبعده داود وسليمان وغيرهم من الأنبياء، وقبلهم إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
الوجه الثامن: قول داود: «ومن أجل هذا بارك الله عليك إلى الأبد فتقلد أيها الجبار السيف، لأن البهاء لوجهك، والحمد الغالب عليك، أركب كلمة الحق، وسبحت التأله؛ فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، والأمم يخرون تحتك» وليس متقلد السيف بعد داود من الأنبياء سوى محمد ﷺ، وهو الذي خرت الأمم تحته، وقرنت شرائعه بالهيبة: إما القبول، وإما الجزية، وإما السيف.
وهذا مطابق لقوله ﷺ: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» وقد أخبر داود أن له ناموسا وشرائع، وخاطبه بلفظ الجبار إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله؛بخلاف المستضعف المقهور، وهو ﷺ نبي الرحمة، ونبي الملحمة، وأمته أشداء على الكفار رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، بخلاف الأذلاء المقهورين المستكبرين، الذين يذلون لأعداء الله، ويتكبرون عن قبول الحق.
الوجه التاسع: قول داود في مزمور آخر: «أن الله سبحانه أظهر من صهيون أكليلا محمودا وضرب الأكليل مثلا للرياسة والإمامة، ومحمود: هو محمد ﷺ، وقال في «صفته»: ويحوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، وأنه لتخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم، وتلحس أعداؤه التراب، تأتيه ملوك الفرس وتسجد له، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، ويخلص المضطهد البائس، ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالمساكين والضعفاء، ويصلى عليه في كل وقت ويبارك».
ولا شك عاقل تدبر أمور الممالك والنبوات وعرف سيرة محمد ﷺ وسيرة أمته من بعده أن هذه الأوصاف لا تنطبق إلا عليه، وعلى أمته، لا على المسيح ولا على نبي غيره، فإنه حاز من البحر الرومي إلى البحر الفارسي، ومن لدن الأنهار جيحون وسيحون والفرات إلى منقطع الأرض بالغرب، وهذا مطابق لقوله ﷺ: «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها». وهو الذي يصلى عليه ويبارك في كل حين، وفي كل صلاة من الصلوات الخمس وغيرها، وهو الذي خرت أهل الجزائر بين يديه: أهل جزيرة العرب، وأهل الجزيرة التي بين الفرات ودجلة، وأهل جزيرة الأندلس، وأهل جزيرة قبرص، وخضعت له ملوك الفرس فلم يبق فيهم إلا من أسلم أو أدى الجزية عن يد وهم صاغرون؛بخلاف ملوك الروم فإن فيهم من لم يسلم ولم يؤد الجزية؛ فلهذا ذكر في البشارة ملوك الفرس خاصة، ودانت له الأمم التي سمعت به وبأمته، فهم بين مؤمن به، ومسالم له، ومنافق معه، وخائف منه، وأنقذ الضعفاء من الجبارين.
وهذا بخلاف المسيح فإنه لم يتمكن هذا التمكن في حياته، ولا من اتبعه بعد رفعه إلى السماء، ولا حازوا ما ذكر، ولا يصلون عليه ويباركون في اليوم والليلة؛ فإن القوم يدعون إلاهيته سدس ويصلون له.
الوجه العاشر: قوله في مزمور آخر: «لترتاح البوادي وقراها ولتصير أرض قيذار مروجا، ولتسبح سكان الكهوف، ويهتفوا من قلل الجبال بحمد الرب، ويذيعوا تسابيحه في الجو» فمن أهل البوادي من الأمم سوى أمة محمد، ومن «قيذار» غير ولدا إسماعيل أحد أجداده ﷺ؟ ومن سكان الكهوف وقلل الجبال سوى العرب؟ ومن هذا الذي دام ذكره إلى الأبد غيره؟
الوجه الحادي عشر: قوله في مزمور آخر: «إن ربنا عظم محمودا» وفي مكان آخر «إلهنا قدوس ومحمد قد عم الأرض كلها فرحا» فقد نص داود على اسم محمد وبلده وأن كلمته قد عمت الأرض.
الوجه الثاني عشر: قوله في الزبور لداود: «سيولد لك ولد أدعى له أبا ويدعى لي ابنا، اللهم ابعث جاعل السنة كي يعلم الناس أنه بشر» وهذه أخبار عن المسيح ومحمد ﷺ قبل ظهورهما بزمن طويل، يريد أبعث محمدا حتى يعلم الناس أن المسيح بشر ليس إلها، وأنه ابن البشر لا ابن خالق البشر، فبعث الله هادي الأمة، وكاشف الغمة، فبين للأمم حقيقة أمر المسيح وأنه عبد كريم ونبي مرسل؛لا كما ادعته فيه النصارى ولا كما رمته به اليهود.
الوجه الثالث عشر: قوله في نبوة شعيا: «قيل لي قم نظارا فانظر ما ترى تخبر به، قلت: أرى راكبين مقبلين أحدهما على حمار والآخر على جمل، يقول أحدهما لصاحبه: سقطت بابل وأصنامها للبحر» وصاحب الحمار عندنا وعند النصارى هو المسيح، وراكب الجمل هو محمد صلوات الله وسلامه عليهما، وهو أشهر بركوب الجمل من المسيح بركوب الحمار، وبمحمد ﷺ سقطت أصنام بابل لا بالمسيح، ولم يزل في إقليم بابل من يعبد الأوثان من عهد إبراهيم الخليل إلى أن سقطت بمحمد ﷺ.
الوجه الرابع عشر: قوله في نبوة شعيا أنه قال عن مكة: «ارفعي إلى ما حولك بصرك، فستبهجين وتفرحين من أجل أن الله تعالى يُصيّر إليك ذخائر البحر، وتحج إليك عساكر الأمم، حتى تعم بك قطر الإبل المؤبلة، وتضيق أرضك عن المقطرات التي تجتمع إليك، وتساق إليك كباش مدين، ويأتيك أهل سبأ، وتسير إليك أغنام فاران، وتخدمك رجل نباوت» يريد سدنة الكعبة وهم: أولاد نبت ابن إسماعيل، قالوا: فهذه الصفات كلها حصلت لمكة: فإنها حملت إليها ذخائر البحر، وحج إليها عساكر الأمم، وسيق إليها أغنام فاران هدايا وأضاحي وقرابين، وضاقت الأرض عن قطرات الإبل المؤبلة الحاملة للناس وأزوادهم، وأتاها أهل سبأ وهم أهل اليمن.
الوجه الخامس عشر: قول أشعيا في مكة أيضا: «وقد أقسمت بنفسي كقسمي أيام نوح أني أغرق الأرض بالطوفان أني لا أسخط عليك ولا أرفضك، وأن الجبال تزول وأن التلاع تنحط، ورحمتي عليك لا تزول.
ثم قال: يا مسكينة يا مضطهدة! ها أنا ذا بانٍ بالحسن حجارتك، ومزاينك بالجواهر، ومكلل باللؤلؤ سقفك، وبالزبرجد أبوابك، وتبعدين من الظلم فلا تخافي، ومن الضعف فلا تضعفي، وكل سلاح يصنعه صانع فلا يعمل فيك، وكل لسان ولغة تقوم معك بالخصومة تفلحين معها، ويسميك الله اسما جديدا -يريد أنه سماها المسجد الحرام -فقومي فأشرقي فإنه قد دنا نورك وقار الله عليك، انظري بعينيك حولك، فإنهم مجتمعون يأتونك بنوك وبناتك عدوا، فحينئذ تسرين وتزوهين، ويخاف عدوك، وليتسع قلبك، وكل غنم قيذار تجتمع إليك، وسادات نباوت يخدمونك».
ونباوت هم أولاد نبت بن إسماعيل.
وقيذار جد النبي ﷺ، وهو أخو نبت ابن إسماعيل.
ثم قال: «وتفتح أبوابك الليل والنهار لا تغلق، ويتخذونك قبلة، وتدعين بعد ذلك مدينة الرب».
الوجه السادس عشر: قوله أيضا في مكة: «سري واهتزي أيتها العاقر التي لم تلد وانطقي بالتسبيح، وافرحي ولم تحبلي، فإن أهلك يكونون أكثر من أهلي» يعني بأهله بيت المقدس، ويعني بالعاقر مكة لأنها لم تلد قبل محمد النبي ﷺ نبيا، ولا يجوز أن يريد بالعاقر بيت المقدس لأنه بيت الأنبياء ومعدن الوحي، وقد ولد أنبياء كثيرا.
الوجه السابع عشر: قول أشعيا أيضا لمكة شرفها الله: «إني أعطي البادية كرامة لبنان وبهاء الكترمال» وهما الشام وبيت المقدس؛ يريد: أجعل الكرامة التي كانت هناك بالوحي في ظهور الأنبياء للبادية بالنبي ﷺ وبالحج.
ثم قال: «ويشق البادية مياه وسواق في الأرض الفلاة، ويكون بالفيافي والأماكن العطاش ينابيع ومياه، ويصير هناك محجة وطريق الحرم، لا يمر به أنجاس الأمم، والجاهل به لا يصل هناك، ولا يكون بها سباع ولا أسد، ويكون هناك ممر المخلصين.
الوجه الثامن عشر: قول أشعيا أيضا في كتابه عن الحرم: «إن الذئب والجمل فيه يرتعان معا» إشارة إلى أمنه الذي خصه الله به دون بقاع الأرض، ولذلك سماه «البلد الأمين» وقال: (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) وقال يعدد نعمة على أهله: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
الوجه التاسع عشر: قول أشعيا أيضا باسم رسول الله ﷺ: «إني جعلت أمرك يا محمد بالحمد يا قدوس الرب اسمك موجود من الأبد» فهل بقي بعد ذلك لزايغ مقال أو لطاعن مجال؟ !وقوله: «يا قدوس الرب» معناه: يا من طهره الرب وخلصه واصطفاه، وقوله: «اسمك موجود من الأبد» مطابق لقول داود في مزمور له: «اسمك موجود قبل الشمس».
الوجه العشرون: قول أشعيا في ذكر الحجر الأسود قال: «الرب والسيد ها أنذا مؤسس بصهيون حجرا في زاوية ركن منه. فمن كان مؤمنا فلا يستعجلنا. وأجعل العدل مثل الشاقول، والصدق مثل الميزان، فيهلك الذين ولعوا بالكذب» فصهيون: هي مكة عند أهل الكتاب، وهذا الحجر الأسود الذي يقبله الملوك فمن دونهم، وهو مما اختص به محمد وأمته.
الوجه الحادي والعشرون: قول شعيا في موضع آخر: «أنه ستملأ البادية والمدن قصورا إلى قيذار ومن رؤوس الجبال، وينادونهم الذين يجعلون لله الكرامة ويثنون بتسبيحه في البر والبحر» وقال: «ارفع علما لجميع الأمم من بعيد، فيصفر بهم من أقصى الأرض فإذا هم سراع يأتون».
وبنو قيذار: هم العرب لأن قيذار هو ابن إسماعيل بإجماع الناس، والعلم الذي يرفع هو النبوة، والصفير بهم دعائهم من أقاصي الأرض إلى الحج فإذا هم سراع يأتون، وهذا مطابق لقوله عز وجل: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رِجالا، وعلى كل ضَامِرٍ يأتين من كُلِّ فجٍ عميق).
الوجه الثاني والعشرون: قول أشعيا في موضع آخر: «سأبعث من الصبا قوما يأتون من المشرق مجيبين أفواجا كالصعيد كثرة، ومثل الطيان الذي يدوس برجله الطين» «والصبا» يأتي من نحو مطلع الشمس، بعث الله سبحانه من هناك قوما من أهل المشرق مجيبين بالتلبية كالتراب كثرة.
وقوله: «ومثل الطيان الذي يدوس برجله الطين» إما أن يراد به الهرولة بالطواف والسعي، وإما أن يراد به رجال قد كلت أرجلهم من المشي.
الوجه الثالث والعشرون: قول في كتاب أشعيا أيضا: «عبدي وخيرتي ورضا نفسي، أفيض عليه روحي» أو قال: «أنزل عليه روحي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصي الأمم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته، يفتح العيون العمي العور، ويسمع الآذان الصم، ويحي القلوب الغلف. وما أعطيه لا أعطي غيره، لا يضعف، ولا يغلب، ولا يميل إلى اللهو، ولا يسمع في الأسواق صوته، ركن للمتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفى ولا يخصم، حتى يثبت في الأرض حجتي، وينقطع به المعذرة».
فمن وجد بهذا الوصف غير محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه؟
فلو اجتمع أهل الأرض لم يقدروا أن يذكروا نبيا جمع هذه الأوصاف كلها -وهي باقية في أمته إلى يوم القيامة -غيره لم يجدوا إلى ذلك سبيلا، فقوله: (عبدي) موافق لقوله في القرآن: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا).
وقوله: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا).
وقوله: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه).
وقوله: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا).
وقوله: (وخيرتي ورضا نفسي» مطابق لقوله ﷺ: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم».
وقوله: «لا يضحك» مطابق لوصفه الذي كان عليه ﷺ قالت عائشة: «ما رؤي رسول الله ﷺ ضاحكا حتى تبدو لهواته؛ إنما كان يتبسم تبسما» وهذا لأن كثرة الضحك من خفة الروح ونقصان العقل؛ بخلاف التبسم فإنه من حسن الخلق وكمال الإدراك.
وأما صفته ﷺ في بعض الكتب المتقدمة بأنه «الضحوك القتال» فالمراد به: أنه لا يمنعه ضحكه وحسن خلقه إذا كان حدا لله وحقا له، ولا يمنعه ذلك عن تبسمه في موضعه، فيعطي كل حال ما يليق بتلك الحال، فترك الضحك بالكلية من الكبر والتجبر وسوء الخلق، وكثرته من الخفة والطيش، والاعتدال بين ذلك.
وقوله: «أنزل عليه روحي» مطابق لقوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا).
وقوله: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون).
وقوله: (يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق) فسمي الوحي روحا لأن حياة القلوب والأرواح به، كما أن حياة الأبدان بالأرواح.
وقوله: «فيظهر في الأمم عدلي» مطابق قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهوائهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم).
وقوله عن أهل الكتاب: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط).
وقوله: «يوصي الأمم بالوصايا» مطابق لقوله تعالى: (شرع لكم من الذين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) وقوله في سورة الأنعام: (قل تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) إلى قوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون).
ثم قال: (ولا تقربوا ما اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) إلى قوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون)ثم قال: (وإن صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).
ووصاياه ﷺ هي عهوده إلى الأمة بتقوى الله وعبادته وحده لا شريك له، والتمسك بما بعثه الله به من الهدى ودين الحق، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه.
وقوله: «ولا تسمع صوته» يعني: ليس بصخاب له فديد كحال من ليس له حلم ولا وقار، وقوله: «يفتح العيون العمي والآذان الصم والقلوب الغلف» إشارة إلى تكميل مراتب العلم والهدي الحاصل بدعوته في القلوب والأبصار والأسماع، فباينوا بذلك أحوال الصم البكم العمي الذين لهم قلوب لا يعقلون بها.
فإن الهدي يصل إلى العبد من هذه الأبواب الثلاثة، وهي مغلقة عن كل أحد لا تفتح إلا على أيدي الرسل، ففتح الله بمحمد ﷺ الأعين العمى فأبصرت بالله، والآذان الصم فسمعت عن الله، والقلوب الغلف فعقلت عن الله، فانقادت لطاعته عقلا وقولا وعملا، وسلكت سبل مرضاته ذللا.
وقوله: «وما أعطيه فلا أعطي غيره» مطابق لقوله ﷺ: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء قبلي» ولقول الملائكة لما ضربوا له المثل: «لقد أعطي هذا النبي ما لم يعط نبي قبله إن عينيه تنامان وقلبه يقظان».
فمن ذلك أنه بعث إلى الخلق عامة، وختم به ديوان الأنبياء، وأنزل عليه القرآن الذي لم ينزل من السماء كتاب يشبهه ولا يقاربه، وأنزل على قلبه محفوظا متلوا، وضمن له حفظه إلى أن يأتي الله بأمره وأوتي جوامع الكلم، ونصر بالرعب في قلوب أعدائه وبينهما مسيرة شهر، وجعلت صفوف أمته في الصلاة على مثال صفوف الملائكة في السماء.
وجعلت الأرض له ولأمته مسجدا وطهورا، وأسري به إلى أن جاوز السموات السبع، ورأى ما لم يره بشر قبله، ورفع على سائر النبيين، وجعل سيد ولد آدم، وانتشرت دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، واتبعه على دينه أتباع أكثر من أتباع سائر النبيين من عهد نوح إلى المسيح.
فأمته ثلثا أهل الجنة، وخصه بالوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة، وبالمقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وبالشفاعة العظمى التي يتأخر عنها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأعز الله به الحق وأهله عزا لم يعزه بأحد قبله، وأذل به الباطل وحزبه ذلا لم يحصل بأحد قبله.
وآتاه من العلم والشجاعة والصبر والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والعبادات القلبية والمعارف الآلهية ما لم يؤته نبي قبله، وجعلت الحسنة منه ومن أمته بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وتجاوز له عن أمته الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وصلى عليه هو وجميع ملائكته عليهم صلوات الله وسلامه، وأمر عباده المؤمنين كلهم أن يصلوا عليه ويسلموا تسليما، وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر الله ذكر معه، كما في الخطبة والتشهد والأذان فلا يصح لأحد أذان ولا خطبة ولا صلاة، حتى يشهد أنه عبده ورسوله.
ولم يجعل لأحد معه أمرا يطاع لا ممن قبله ولا ممن هو كائن بعده إلى أن تطوى الدنيا ومن عليها، وأغلق أبواب الجنة إلا عمن سلك خلفه واقتدى به، وجعل لواء الحمد بيده فآدم وجميع الأنبياء تحت لوائه يوم القيامة، وجعله أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع، وأول من يقرع باب الجنة، وأول من يدخلها فلا يدخلها أحد من الأولين والآخرين إلا بشفاعته.
وأعطي من اليقين والإيمان والصبر والثبات والقوة في أمر الله، والعزيمة على تنفيذ أوامره، والرضا عنه، والشكر له، والقنوع في مرضاته، وطاعته ظاهرا وباطنا سرا وعلانية في نفسه، وفي الخلق ما لم يعطه نبي قبله، ومن عرف أحوال العالم وسير الأنبياء وأممهم تبين له أن الأمر فوق ذلك، فإذا كان يوم القيامة ظهر للخلائق من ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر أنه يكون أبدا قوله: «ولا يضعف ولا يغلب» هكذا كان حاله صلوات الله وسلامه عليه ما ضعف في ذات الله قط، ولا في حال انفراده وقلة أتباعه وكثرة أعدائه، واجتماع أهل الأرض على حربه؛بل هو أقوى الخلق وأثبتهم جأشا وأشجعهم قلبا، حتى أنه يوم أحد قتل أصحابه وجرحوا وما ضعف ولا استكان؛بل خرج من الغد في طلب عدوه على شدة القرح حتى أرعب منه العدو وكر خاسئا على كثرة عددهم وعُددهم وضعف أصحابه.
وكذلك يوم حنين أفرد عن الناس في نفر يسير دون العشرة والعدو قد أحاطوا به، وهم ألوف مؤلفة، فجعل يثب في العدو، ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) ويتقدم إليهم، ثم أخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فولوا منهزمين.
ومن تأمل سيرته وحروبه علم أنه لم يطرق العالم أشجع منه ولا أثبت ولا أصبر، وكان أصحابه مع أنهم أشجع الأمم إذا حمى البأس واشتد الحرب اتقوا به وتترسوا به، فكان أقربهم إلى العدو، وأشجعهم هو الذي يكون قريبا منه.
وقوله: «ولا يميل إلى اللهو» هكذا كانت سيرته كان أبعد الناس من اللهو واللعب؛بل أمره كله جد وحزم وعزم، مجلسه مجلس حياء وكرم وعلم وإيمان ووقار وسكينة.
وقوله: «ولا يسمع في الأسواق صوته» أي ليس من الصاخبين في الأسواق في طلب الدنيا والحرص عليها كحال أهلها الطالبين لها.
وقوله: «ركن للمتواضعين فإن من تأمل سيرته وجده أعظم الناس تواضعا للصغير والكبير والمسكين والأرملة والحر والعبد: يجلس معهم على التراب، ويجيب دعوتهم، ويسمع كلامهم، وينطلق مع أحدهم في حاجته، ويأخذ له حقه ممن لا يستطيع أن يطالبه به، ويخصف نعله، ويخيط ثوبه.
وقوله: «وهو نور الله الذي لا يطفئ ولا يخصم حتى يثبت في الأرض حجته وينقطع به العذر» وهذا مطابق لحاله وأمره، ولما شهد به القرآن في غير موضع كقوله تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).
وقوله: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا).
وقوله: (يا أيها الناس قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام).
وقوله: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا). وقوله: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) ونظائره في القرآن كثيرة.
وقوله: «حتى ينقطع به العذر وتثبت به الحجة» مطابق لقوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل).
وقوله: (والمرسلات عرفا) إلى قوله (فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا) وقوله: (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين).
وقوله: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين. أو تقولوا لو أنا أنزلنا علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة).
فالحجة إنما قامت على الخلق بالرسل، وبهم انقطعت المعذرة، فلا يمكن من بلغته دعوتهم وخالفها أن يعتذر إلى الله يوم القيامة إذ ليس له عذر يقبل منه. وهذه البشارة مطابقة لما في صحيح البخاري أنه قيل لعبد الله بن عمرو، أخبرنا ببعض صفات رسول الله ﷺ في التوراة، فقال: «إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا)، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فافتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، بأن يقولوا لا إله إلا الله».
وقوله: «إن هذا في التوراة» لا يريد به التوراة المعينة التي هي كتاب موسى؛ فإن لفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور يراد به الكتب المعينة تارة، ويراد به الجنس تارة.
فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور، وبلفظ التوراة عن القرآن، وبلفظ الإنجيل عن القرآن أيضا.
وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: «خفف على داود القرآن فكان ما بين أن تسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن» فالمراد به قرآنه: وهو الزبور. وكذلك قوله في البشارة التي في التوراة: «نبيا أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم، أنزل عليه توراة مثل توراة موسى» وكذلك في صفة أمته ﷺ في الكتب المتقدمة، «أناجيلهم في صدورهم»، فقوله: «أخبرني بصفة رسول الله ﷺ في التوراة» إما أن يريد التوراة المعينة، أو جنس الكتب المتقدمة.
وعلى التقديرين فإجابة عبد الله بن عمرو بما هو في التوراة، أي: التي هي أعم من الكتاب المعين، فإن هذا الذي ذكره ليس في التوراة المعينة، بل هو في كتاب أشعيا كما حكيناه عنه.
وقد ترجموه أيضا بترجمة أخرى فيها بعض الزيادة: «عبدي ورسولي الذي سرت به نفسي، أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي، ويوصيهم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته في الأسواق، يفتح العيون العور، والآذان الصم، ويحي القلوب الغلف، وما أعطيه لا أعطيه أحدا، يحمد الله حمدا جديدا، يأتي به من أقطار الأرض، وتفرح بالبرية وسكانها، يهللون الله على كل شرف، ويكبرونه على كل رابية، لا يضعف، ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى، مشفح، ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوى الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفى، أثر سلطانه على كتفيه».
وقوله «مشفح» بالشين المعجمة والفاء المشددة. بوزن مكرم، وهي لفظة عبرانية مطابقة لاسم محمد معنى ولفظا مقاربا كمطابقة موذ موذ بل أشد مطابقة، ولا يمكن العرب أن يتلفظوا بها بلفظ العبرانية فإنها بين الحاء والهاء، وفتحة الفاء بين الضمة والفتحة، ولا يستريب عالم من علمائهم منصف أنها مطابقة لاسم محمد.
قال أبو محمد ابن قتيبية: «مشفح» محمد بغير شك، واعتباره أنهم يقولون: شفحالاها إذا أرادوا أن يقولوا: الحمد لله، وإذا كان الحمد شفحا فمشفح محمد بغير شك، وقد قال لي ولغيري بعض من أسلم من علمائهم: إن "مئذ مئذ" هو محمد، وهو بكسر الميم والهمزة، وبعضهم يفتح الميم ويدنيها من الضمة، قال: ولا يشك العلماء منهم بأنه محمد وإن سكتنا عن إيراد ذلك وإذا ضربنا عن هذا صفحا فمن هذا الذي انطبقت عليه وعلى أمته هذه الصفات سواه؟ ومن هذا الذي أثر سلطانه وهو خاتم النبوة على كتفيه رآه الناس عيانا مثل زر الحجلة؟
فماذا بعد الحق إلا الضلال، وبعد البصيرة إلا العمى (ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور) فصفات هذا النبي ومخرجه ومبعثه وعلاماته وصفات أمته في كتبهم، يقرؤنها في كنائسهم ويدرسونها في مجالسهم لا ينكرها منهم عالم ولا يأباها جاهل؛ ولكنهم يقولون لم يظهر بعد، وسيظهر ونتبعه.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد. عن عكرمة. وعن سعيد بن جبير. عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ﷺ قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال معاذ بن جبل، وبشر بن البراء معرور، وداود بن سلمة:
يا معشر، يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ﷺ ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه نبي مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مسلم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله عز وجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
وقال أبو العالية: كان اليهود إذا استنصروا بمحمد على مشركي العرب يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا، حتى يعذب المشركين ويقتلهم، وهم يعلمون أنه رسول الله ﷺ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
وقال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن رجال من قومه، قالوا: ومما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه ما كنا نسمع من رجال اليهود، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله ﷺ أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدونا به، فبادرناهم إليه فآمنا به، وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآيات التي في البقرة:
(ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
الوجه الرابع والعشرون: قوله في كتاب شعيا أشكر: «حبيبي وابني أحمد فلهذا» جاء ذكره في نبوة شعيا أكثر من غيرها من النبوات، وأعلن شعيا بذكره ووصفه ووصف أمته، ونادى بها في نبوته سرا وجهرا لمعرفته بقدره ومنزلته عند الله.
وقال شعيا أيضا: «إنا سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد» وهذا إفصاح باسمه ﷺ، فليرنا أهل الكتاب نبيا نصت الأنبياء على اسمه وصفته ونعته وسيرته وصفة أمته وأحوالهم سوى رسول الله ﷺ؟
الوجه الخامس والعشرون: قول حبقوق في كتابه: «إن الله جاء من اليمن، والقدوس من جبال فاران، لقد أضاءت السماء من بهاء محمد، وامتلأت الأرض من حمده، وشاع منظره مثل النور، يحوط بلاده بعزة تسير المنايا أمامه، وتصحب سباع الطير أجناده، قام يمسح الأرض فتضعضعت له الجبال القديمة، وانخفضت الروابي، فتزعزعت أسوار مدين، ولقد حاز المساعي القديمة».
ثم قال: «زجرك في الأنهار، واحتدام صوتك في البحار، ركبت الخيول، وعلوت مراكب الأتقياء، وستنزع قسيك أعراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء، ولقد رأتك الجبال فارتاعت، وانحرف عنك شؤبوب السيل، وتغيرت المهاري تغييرا رفعت أيديها وجلا وخوفا، وسارت العساكر في بريق سهامك ولمعان نيازكك تدوخ الأرض وتدوس الأمم، لأنك ظهرت لخلاص أمتك، وإنقاذ تراث آبائك».
فمن رام صرف هذه البشارة عن محمد فقد رام ستر الشمس بالنهار وتغطية البحار، وأنى يقدر على ذلك وقد وصفه بصفات عينت شخصه وأزالت عن الحيران لبسه؟ بل قد صرح باسمه مرتين حتى، انكشف الصبح لمن كان ذا عينين، وأخبر بقوة أمته وسير المنايا أمامهم، واتباع جوارح الطير آثارهم، وهذه النبوة لا تليق إلا بمحمد ﷺ، ولا تصلح إلا له، ولا تنزل إلا عليه.
فمن حاول صرفها عنه فقد حاول صرف الأنهار العظيمة عن مجراها، وحبسها عن غايتها ومنتهاها، وهيهات ما يروم المبطلون والجاحدون، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فمن الذي امتلأت الأرض من حمده وحمد أمته لله في صلواتهم وخطبهم وأدبار صلواتهم، وعلى السراء والضراء، وجميع الأحوال سواء؟
حتى سماهم الله قبل ظهورهم الحمادين! ومن الذي كان وجهه كأن الشمس والقمر يجريان فيه في ضيائه ونوره؟
قد عود الطير عادات وثقن بها شاهده في وجهه ينطق لو لم يقل إني رسول أما فهن يتعبنه في كل مرتحل
ومن الذي سارت المنايا أمامه، وصحبت سباع الطير جنوده، لعلمها بما يقرب من ذبح الكفار لله الواحد القهار؟
يتطايرون بقربه قربانهم بدماء من علقوا من الكفار
ومن الذي تضعضعت له الجبال وانخفضت له الروابي، وداس الأمم، ودوخ العالم، انتفضت بنبوته الممالك، وخلص الأمة من الشرك والكفر والجهل والظلم سواه؟
الوجه السادس والعشرون: قوله في كتاب حزقيل يهدد اليهود، ويصف لهم أمة محمد ﷺ: «وأن الله مظهرهم عليكم، وباعث فيهم نبيا، ينزل عليه كتابا، ويملكهم رقابكم فيقهرونكم ويذلونكم بالحق، ويخرج رجال بني قيدار في جماعات الشعوب معهم ملائكة على خيل بيض متسلحين يوقعون بكم، وتكون عاقبتكم إلى النار».
فمن الذي أظهره الله على اليهود حتى قهرهم وأذلهم وأوقع بهم وأنزل عليه كتابا؟
ومن هم بنو قيدار غير بني إسماعيل اللذين خرجوا معه ومعهم جماعات الشعوب؟
ومن الذي نزلت عليه الملائكة على خيل بيض يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، حتى عاينوها عيانا تقاتل بين يديه، وعن يمينه وعن شماله، حتى غلب ثلاثمائة وثلاث عشر رجلا ليس معهم غير فرسين ألف رجل مقنعين في الحديد، معدودين من فرسان العرب، فأصبحوا بين قتيل وأسير ومنهزم.
الوجه السابع والعشرون: قول دانيال وذكره باسمه الصريح، من غير تعريض ولا تلويح، وقال: «سينزع في قسيك أعراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء».
وقال دانيال النبي أيضا حين سأل بخت نصر عن تأويل رؤيا رآها ثم أنسيها: «رأيت أيها الملك صنما عظيما قائما بين يديك، رأسه من ذهب، وساعداه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من حديد، ورجلاه من الخزف، فبينا أنت متعجب منه إذ أقبلت صخرة فدقت ذلك الصنم، فتفتت وتلاشى وعاد رفاتا ثم نسفته الرياح وذهب، وتحول ذلك الحجر إنسانا عظيما ملأ الأرض فهذا ما رأيت أيها الملك»، فقال بخت نصر: صدقت فما تأويلها؟ قال: أنت الرأس الذي رأيته من الذهب، ويقوم بعدك ولدك وهو الذي رأيته من الفضة وهو دونك، وتقوم بعده مملكة أخرى هي دونه وهي تشبه النحاس، وبعدها مملكة قوية مثل الحديد.
وأما الرجلان اللذان رأيت من خزف فمملكة ضعيفة، وأما الحجر العظيم الذي رأيته دق الصنم ففتته فهو نبي يقيمه إله الأرض والسماء بشريعة قوية فيدق جميع ملوك الأرض وأممها حتى تمتلئ الأرض منه ومن أمته، ويدوم سلطان ذلك النبي إلى انقضاء الدنيا فهذا تعبير رؤياك أيها الملك.
ومعلوم أن هذا منطبق على محمد بن عبد الله حذو القذة بالقذة؛ لا على المسيح ولا على نبي سواه، فهو الذي بعث بشريعة قوية، ودق جميع ملوك الأرض وأممها حتى امتلأت الأرض من أمته، وسلطانه دائم إلى آخر الدهر، لا يقدر أحد أن يزيله كما أزال سلطان اليهود من الأرض، وأزال سلطان النصارى عن خيار الأرض ووسطها فصار في بعض أطرافها، وزال سلطان المجوس وعباد الأصنام وسلطان الصابئين.
الوجه الثامن والعشرون: قول دانيال أيضا: «سألت الله وتضرعت إليه أن يبين لي ما يكون من بني إسرائيل، وهل يتوب عليهم ويرد إليهم ملكهم ويبعث فيهم الأنبياء، أو يجعل ذلك في غيرهم، فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه، فقال: السلام عليك يا دانيال، إن الله يقول: إن بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي، وعبدوا من دوني آلهة أخرى، وصاروا من بعد العلم إلى الجهل، ومن بعد الصدق إلى الكذب، فسلطت عليهم بختنصر، فقتل رجالهم، وسبي ذراريهم، وهدم مسجدهم، وحرق كتبهم، وكذلك يفعل من بعده بهم. وأنا غير راضٍ عنهم، ولا مقيلهم عثراتهم، فلا يزالون في سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول فأختم عليهم عند ذلك باللعن والسخط، فلا يزالون ملعونين عليهم الذلة والمسكنة حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر، وأرسلت إليها ملاكي فبشرها. فأوحى إلى ذلك النبي، وأعلمه الأسماء، وأزينه بالتقوى، وأجعل البر شعاره، والتقوى ضميره، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد سيرته، والرشد سنته، أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب، وناسخ لبعض ما فيها. أسري به إليّ، وأرقيه من سماء إلى السماء حتى يعلو فأدينه وأسلم عليه، وأوحى إليه وأرقيه، ثم أرده إلى عبادي بالسرور والغبطة، حافظا لما استودع، صادقا بما أمر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب بالسواق، رؤف بمن والاه، رحيم بمن آمن به، خشن على من عاداه، فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي، ويخبرهم بما رأى من آياتي، فيكذبونه ويؤذونه».
ثم سرد دانيال قضية رسول الله ﷺ مما أملاه عليه الملك حتى وصل آخر أيام أمته بالنفخة وانقضاء الدنيا.
وهذه البشارة أيضا عند اليهود والنصارى يقرؤنها ويقرون بها، ويقولون: لم يظهر صاحبها بعد.
قال أبو العالية: لما فتح المسلمون تستر، وجدوا دانيال ميتا، ووجدوا عنده مصحفا، قال أبو العالية: أنا قرأت ذلك المصحف وفيه صفتكم، وأخباركم، وسيرتكم، ولحون كلامكم، وكان أهل الناحية إذا أجدبوا كشفوا عن قبره فيسقون، فكتب أبو موسى الأشعري في ذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: أن احفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا وادفنه بالليل في واحد منها لئلا يفتتن الناس به.
الوجه التاسع والعشرون: قال كعب: وذكر صفة رسول الله ﷺ في التوراة، ويريد بها التوراة التي هي أعم من التوراة المعينة: «أحمد عبدي المختار، لافظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، يعفو ويغفر.
مولده بكاء، وهجرته طابا، وملكه بالشام، وأمته الحمادون يحمدون الله على كل نجد، ويسبحونه في كل منزلة، ويوضؤن أطرافهم، ويأتزرون على أنصافهم، وهم رعاة الشمس، ومؤذنهم في جو السماء، وصفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء، رهبان بالليل، أسد بالنهار، ولهم دوي كدوي النحل، يصلون الصلاة حيث ما أدركتهم ولو على كناسة».
الوجه الثلاثون: قال ابن أبي الزناد: حدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عمر بن حفص، وكان من خيار الناس، قال: كان عند أبي وجدي ورقة يتوارثونها قبل الإسلام فيها: «اسم الله وقوله الحق، وقول الظالمين في تبار، هذا الذكر لأمة تأتي في آخر الزمان يتزرون على أوساطهم، ويغسلون أطرافهم، ويخوضون البحور إلى أعدائهم، فيهم صلاة لو كانت في قوم نوح ما هلكوا بالطوفان، وفي ثمود ما هلكوا بالصيحة». الوجه الحادي والثلاثون
قال شعيا وذكر قصة العرب فقال: «ويدوسون الأمم دياس البيادر، وينزل البلاء بمشركي العرب، وينهزمون بين يدي سيوف مسلولة، وقسي مؤترة من شدة الملحمة» وهذا إخبار عما حل بعبدة الأوثان من رسول الله ﷺ وأصحابه يوم بدر، ويوم حنين، وفي غيرهما من الوقائع.
الوجه الثاني والثلاثون: قوله في الإنجيل الذي بأيدي النصارى عن يوحنا: «أن المسيح قال للحواريين: من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا إني صنعت لهم صنائع لم يصنعها أحد لم يكن لهم ذنب، ولكن من الآن بطروا فلا بد أن تتم الكلمة التي في الناموس لأنهم أبغضوني مجافا.
فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القسط فهو شهيد عليّ وأنتم أيضا لأنكم قديما كنتم معي، هذا قولي لكم لكيلا تشكوا إذا جاء».
«والمنحمنا» بالسريانية، وتفسيره بالرومية: بالبارقليط، وهو بالعبرانية: الحماد والمحمود والحمد كما تقدم.
الوجه الثالث والثلاثون: قوله في الإنجيل أيضا: «إن المسيح قال لليهود: وتقولون كنا في أيام آبائنا لم نساعدهم على قتل الأنبياء، فأتموا كيل آبائكم يا ثعابين بني الأفاعي، كيف لكم النجاة من عذاب النار».
«وسأبعث إليكم أنبياء وعلماء، تقتلون منهم، وتصلبون، وتجلدون، وتطلبونهم من مدينة إلى أخرى، لتتكامل عليكم دماء لمؤمنين المهرقة على الأرض من دم هابيل، والصالح إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه عند المذبح، إنه سيأتي جميع ما وصفت على هذه الأمة يا أورشليم التي تقتل الأنبياء وترجم من بعث إليك، قد أردت أن أجمع بنيك كجمع الدجاجة فراريخها تحت جناحها وكرهت أنت ذلك، سأقفر عليكم بيتكم، وأنا أقول لا تروني الآن حتى يأتي من يقولون له مبارك، يأتي على اسم الله».
فأخبرهم المسيح أنهم لابد أن يستوفوا الصاع الذي قدر لهم، وأنه سيقفر عليهم بيتهم أي يخليه منهم، وأنه يذهب عنهم فلا يرونه حتى يأتي المبارك الذي يأتي على اسم الله، فهو الذي انتقم بعده لدماء المؤمنين.
وهذا نظير قوله في الموضع الآخر: «إن خيرا لكم أن أذهب عنكم حتى يأتيكم الفارقليط، فإنه لا يجيء ما لم أذهب».
وقوله أيضا: «ابن البشر ذاهب، والفارقليط من بعده». وفي موضع آخر: «أنا أذهب وسيأتيك الفارقليط» والفارقليط والمبارك الذي جاء بعد المسيح هو محمد ﷺ كما تقدم تقريره.
الوجه الرابع والثلاثون: قوله في إنجيل متى: «أنه لما حبس يحيى بن زكريا بعث بتلاميذه إلى المسيح وقال لهم: قولوا له أنت أيل أم نتوقع غيرك؟ فقال: المسيح الحق اليقين أقول لكم: إنه لم تقم النساء عن أفضل من يحيى بن زكريا، وإن التوراة وكتب الأنبياء تتلو بعضها بالنبوة والوحي حتى جاء يحيى، وأما الآن فإن شئتم فأقبلوا، فإن أيل مزمع أن يأتي، فمن كانت له أذنان سامعتان فليستمع».
وهذه بشارة بمجيء الله سبحانه الذي هو «أيل» بالعبرانية، ومجيئه هو مجيء رسوله وكتابه ودينه، كما في التوراة: «جاء الله من طور سيناء».
قال بعض النصارى: إنما بشر بإلياس النبي؛ وهذا لا ينكر من جهل أمة الضلال، وعباد خشبة الصليب التي نحتتها أيدي اليهود؛ فإن إلياس قد تقدم إرساله على المسيح بدهور متطاولة.
الوجه الخامس والثلاثون: قوله في نبوة أرميا: «قبل أن أخلقك قد عظمتك من قبل أن أصورك في البطن، وأرسلتك وجعلتك نبيا للأجناس كلهم»، فهذه بشارة على لسان أرميا لمن بعده، وهو إما المسيح وأما محمد صلوات الله وسلامه عليهما، لا يعدوهما إلى غيرهما، ومحمد أولى بها، لأن المسيح إنما كان نبيا لبني إسرائيل، كما قال تعالى: (ورسولا إلى بني إسرائيل) والنصارى تقر بهذا.
ولم يدع المسيح أنه رسول إلى جميع أجناس أهل الأرض؛ فإن الأنبياء من عهد موسى إلى المسيح إنما كانوا يبعثون إلى قومهم؛ بل عندهم في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين:
«لا تسلكوا إلى سبيل الأجناس، ولكن اختصروا على الغنم الرابضة من نسل إسرائيل»، وأما محمد بن عبد الله فهو الذي بعثه الله إلى جميع أجناس الأرض، وطوائف بني آدم، وهذه البشارة مطابقة لقوله تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا).
ولقوله ﷺ: «بعثت إلى الأسود والأحمر».
وقوله ﷺ: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة».
وقد اعترف النصارى بهذه البشارة ولم ينكروها؛ لكن قال بعض زعمائهم إنها بشارة لموسى بن عمران وإلياس واليسع، وأنهم سيأتون في آخر الزمان، وهذا من أعظم البهت والجرأة على الله والافتراء عليه؛ فإنه لا يأتي من قد مات إلى يوم الميقات المعلوم.
الوجه السادس والثلاثون: قول المسيح في الإنجيل الذي بأيديهم وقد ضرب مثل الدنيا فقال: «كرجل اغترس كرما وسيج حوله، وجعل فيه معصرة، وشيد فيه قصرا، ووكل به أعوانا، وتغرب عنه، فلما دنى أوان قطافه بعث عبده إلى أعوانه الموكلين بالكرم»، ثم ضرب مثلا للأنبياء ولنفسه، ثم للنبي الموكل آخرا بالكرم، ثم أفصح عن أمته فقال: «وأقول لكم سيزاح عنكم ملك الله، وتعطاه الأمة المطيعة العاملة»، ثم ضرب لنبي هذه الأمة مثلا بصخرة وقال: «من سقط على هذه الصخرة سينكسر، ومن سقطت عليه ينهشم».
وهذه صفة محمد ومن ناوأه وحاربه من الناس لا تنطبق على أحد بعد المسيح سواه.
الوجه السابع والثلاثون: قول شعيا في صحفة: «لتفرح أرض البادية العطشى ولتبتهج البراري والفلوات، لأنها ستعطي بأحمد محاسن لبنان ومثل حسن الدساكير» وتالله ما بعد هذا إلا المكابرة، وجحد الحق بعد ما تبين.
الوجه الثامن والثلاثون: قول حزقيل في صحفه التي بأيديهم: «يقول الله عز وجل -بعد ما ذكر معاصي بني إسرائيل وشبههم بكرمة غذاها وقال لم -تلبث الكرمة أن قلعت بالسخطة، ورمي بها على الأرض، و أحرقت السمائم ثمارها، فعند ذلك غرس في البدو وفي الأرض المهملة العطشى، وخرجت من أغصانها الفاضلة نار أكلت تلك الكرمة، حتى لم يوجد فيها غصن قوي ولا قضيب».
وهذا تصريح لا تلويح به ﷺ، وببلده وهي مكة العطشى المهملة من النبوة قبله من عهد إسماعيل.
الوجه التاسع والثلاثون: ما في صحف دانيال وقد نعت الكشدانين الكذابين فقال: «لا تمتد دعوتهم ولا يتم قربانهم، وأقسم الرب بساعده أن لا يظهر الباطل ولا يقوم لمدع كاذب دعوة، أكثر من ثلاثين سنة»
وفي التوراة ما يشبه هذا.
وهذا تصريح بصحة نبوة محمد ﷺ، فإن الذين اتبعوه بعد موته أضعاف أضعاف الذين اتبعوه في حياته، وهذه دعوته قد مرت عليها القرون من السنين، وهي باقية مستمرة وكذلك إلى آخر الدهر، ولم يقع هذا لملك قط فضلا عن كذاب مفتر على الله وأنبيائه، مفسد للعالم، مغير لدعوة الرسل، ومن ظن هذا بالله فقد ظن به أسوأ الظن، وقدح في علمه، وقدرته وحكمته.