فصل تاريخ المجامع النصرانية
في ذكر استنادهم في دينهم إلى أصحاب المجامع الذين كفر بعضهم بعضا، وتلقيهم أصول دينهم عنهم، ونحن نذكر الآن الأمر كيف ابتدأ وتوسط وانتهى، حتى كأنك تراه عيانا.
كان الله سبحانه قد بشر بالمسيح على ألسنة أنبيائه من لدن موسى إلى زمن داود ومن بعده من الأنبياء، وأكثر الأنبياء تبشيرا به داود، وكانت اليهود تنتظره وتصدق به قبل مبعثه فلما بعث كفروا به بغيا وحسدا، وشردوه في البلاد، وطردوه وحبسوه وهموا بقتله مرارا إلى أن أجمعوا على القبض عليه وعلى قتله، فصانه الله وأنقذه من أيديهم ولم يهنه بأيديهم، وشبه لهم بأنهم صلبوه، ولم يصلبوه، كما قال تعالى:
(وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزا حكيما).
وقد اختلف في معنى قوله: (ولكن شبه لهم) فقيل: المعنى ولكن شبه للذين صلبوه بأن ألقى شبهه على غيره فصلبوا الشبه، وقيل: المعنى ولكن شبه النصارى، أي حصلت لهم الشبهة في أمره، وليس لهم علم، بأنه ما قتل، وما صلب.
ولكن لما قال أعداؤه إنهم قتلوه وصلبوه، واتفق رفعه من الأرض، وقعت الشبهة في أمره، وصدقهم النصارى في صلبه لتتم الشناعة عليهم، وكيف ما كان فالمسيح صلوات الله وسلامه عليه لم يقتل ولم يصلب يقينا لا شك فيه.
ثم تفرق الحواريون في البلاد بعد رفعه على دينه ومنهاجه يدعون الأمم إلى توحيد الله ودينه والإيمان بعبده ورسوله ومسيحه، فدخل كثير من الناس في دينه ما بين ظاهر مشهور ومختف مستور، وأعداء الله اليهود في غاية الشدة والأذى لأصحابه وأتباعه، ولقي تلاميذ المسيح وأتباعه من اليهود ومن الروم شدة شديدة من قتل وعذاب وتشريد وحبس وغير ذلك.
وكان اليهود في زمن المسيح في ذمة الروم وكانوا ملوكا عليهم، وكتب نائب الملك ببيت المقدس إلى الملك يعلمه بأمر المسيح وتلاميذه وما يفعل من العجائب الكثيرة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، فهمّ أن يؤمن به ويتبع دينه فلم يتابعه أصحابه، ثم هلك وولى بعده ملك آخر فكان شديدا على تلامذة المسيح.
ثم مات وولي بعده آخر، وفي زمنه كتب مرقس إنجيله بالعبرانية، وفي زمانه صار إلى الإسكندرية فدعا إلى الإيمان بالمسيح، وهو أول شخص جعل بتركا على الإسكندرية، وصير معه اثني عشر قسيسا على عدة نقباء بني إسرائيل في زمن موسى، وأمرهم إذا مات البترك أن يختاروا من الاثني عشر واحدا يجعلونه مكانه، ويضع الاثني عشر أيديهم على رأسه ويبركونه، ثم يختارون رجلا فاضلا قسيسا يصيرونه تمام العدة، ولم يزل أمر القوم كذلك إلى زمن قسطنطين.
ثم انقطع هذا الرسم واصطلحوا على أن ينصبوا البترك من أي بلد كان من أولئك القسيسين أو من غيرهم، ثم سموه بابا ومعناه أبو الآباء، وخرج مرقس إلى برقة يدعو الناس إلى دين المسيح.
ثم ملك آخر، فأهاج على أتباع المسيح الشر والبلاء وأخذهم بأنواع العذاب، وفي عصره كتب بطرس رئيس الحواريين إنجيل مرقس عنه بالرومية ونسبه إلى مرقس.
وفي عصره كتب لوقا إنجيله بالرومية لرجل شريف من عظماء الروم، وكتب له الأبركسيس الذي فيه أخبار التلاميذ.
وفي زمنه صلب بطرس وزعموا أن بطرس قال له: إن أردت أن تصلبني فاصلبني منكسا لئلا أكون مثل سيدي المسيح فإنه صلب قائما، وضرب عنق بولس بالسيف، وأقام بعد صعود المسيح اثنين وعشرين سنة. وأقام مرقس بالإسكندرية وبرقة سبع سنين يدعو الناس إلى الإيمان بالمسيح.
ثم قتل بالإسكندرية وأحرق جسده بالنار، ثم استمرت القياصرة ملوك الروم على هذه السيرة إلى أن ملك مصر قيصر يسمى طيطس فخرب بيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة بعد أن حاصرها وأصاب أهلها جوع عظيم، وقتل من كان بها من ذكر وأنثى حتى كانوا يشقون بطون الحبالى ويضربون بأطفالهن الصخور، وخرب المدينة وأضرم فيها النار وأحصى القتلى على يده فبلغوا ثلاثة آلاف ألف.
ثم ملك ملوك آخرون فكان منهم واحد شديد على اليهود جدا، فبلغوه أن النصارى يقولون إن المسيح ملكهم وإن ملكه يدوم إلى آخر الدهر، فاشتد غضبه وأمر بقتل النصارى وأن لا يبقى في ملكه نصراني، وكان يوحنا صاحب الإنجيل هناك فهرب، ثم أمر الملك بإكرامهم وترك الاعتراض عليهم.
ثم ملك بعده آخر، فأثار على النصارى بلاء عظيما وقتل بترك أنطاكية برومية وقتل أسقف بيت المقدس وصلبه وله يومئذ مائة وعشرون سنة، وأمر باستعباد النصارى فاشتد عليهم البلاء إلى أن رحمتهم الروم، وقال له وزراؤه إن لهم دينا وشريعة وإنه لا يحل استعبادهم، فكف عنهم. وفي عصره كتب يوحنا إنجيله بالرومية، وفي ذلك العصر رجع اليهود إلى بيت المقدس فلما كثروا وامتلأت منهم المدينة عزموا على أن يملكوا منهم ملكا، فبلغ الخبر قيصر فوجه إليهم جيشا فقتل منهم من لا يحصى.
ثم ملك بعده آخر وأخذ الناس بعبادة الأصنام وقتل من النصارى خلقا كثيرا، ثم ملك بعده ابنه وفي زمانه قتل اليهود ببيت المقدس قتلا ذريعا وخرب بيت المقدس، وهرب اليهود إلى مصر وإلى الشام والجبال والأغوار وتقطعوا في الأرض.
وأمر الملك أن لا يسكن بالمدينة يهودي وأن يقتل اليهود ويستأصلوا وأن يسكن المدينة اليونانيون، وامتلأت بيت المقدس من اليونانيين، والنصارى ذمة تحت أيديهم، فرأوهم يأتون إلى مزبلة هناك فيصلون فيها، فمنعوهم من ذلك وبنوا على المزبلة هيكلا باسم الزهرة، فلم يمكن النصارى بعد ذلك قربان ذلك الموضع.
ثم هلك هذا الملك، وقام بعده آخر فنصب يهودا أسقفا على بيت المقدس. قال ابن البطريق: فمن يعقوب أسقف بيت المقدس الأول إلى يهودا أسقفه، هكذا كانت الأساقفة الذين على بيت المقدس كلهم مختونين.
ثم ولي بعده آخر وأثار على النصارى بلاء شديدا وحربا طويلا، ووقع في أيامه قحط شديد كاد الناس أن يهلكوا، فسألوا النصارى أن يبتهلوا إلى إلههم فدعوا وابتهلوا إلى الله، فمطروا وارتفع عنهم القحط والوباء.
قال ابن البطريق: وفي زمانه كتب بترك الإسكندرية إلى أسقف بيت المقدس وبترك أنطاكية وبترك رومية في كتاب فصح النصارى وصومهم، وكيف يستخرج من فصح اليهود، فوضعوا فيها كتبا على ما هي اليوم. قال: وذلك أن النصارى كانوا بعد صعود المسيح إذا عيدوا عيد الغطاس من الغد يصومون أربعين يوما ويفطرون كما فعل المسيح، لأنه لما اعتمد بالأردن خرج إلى البرية فأقام بها أربعين يوما، وكان النصارى إذا أفصح اليهود عيدوا هم الفصح، فوضع هؤلاء البتاركة حسابا للفصح ليكون فطرهم يوم الفصح، وكان المسيح يعيد مع اليهود في عيدهم، واستمر على ذلك أصحابه إلى أن ابتدعوا تغيير الصوم، فلم يصوموا عقيب الغطاس بل نقلوا الصوم إلى وقت لا يكون عيدهم مع اليهود.
ثم مات ذلك الملك وقام بعده آخر، وفي زمنه كان جالينوس وفي زمنه ظهرت الفرس، وغلبت على بابل وآمد وفارس.
وتملك أزدشير بن بابك في أصطخر، وهو أول ملك، ملك على فارس في المدة الثانية. ثم مات قيصر وقام بعده آخر ثم آخر، وكان شديدا على النصارى عذبهم عذابا عظيما وقتل خلقا كثيرا منهم، وقتل كل عالم فيهم، ثم قتل من كان بمصر والإسكندرية من النصارى، وهدم الكنائس وبنى بالإسكندرية هيكلا وسماه هيكل الآلهة.
ثم قام بعده قيصر آخر ثم آخر، وكانت النصارى في زمنه في هدوء وسلامة، وكانت أمه تحب النصارى.
ثم قام بعده آخر فأثار على النصارى بلاء عظيما وقتل منهم خلقا كثيرا، وأخذ الناس بعبادة الأصنام، وقتل من الأساقفة خلقا كثيرا وقتل بترك أنطاكية، فلما سمع بترك بيت المقدس بقتله هرب وترك الكرسي.
ثم هلك وقام بعده آخر ثم آخر.