→ الفصل الخامس: النصارى آمنوا بمسيح لا وجود له واليهود ينتظرون المسيح الدجال | هداية الحيارى المؤلف: ابن القيم |
أدلة من التوراة على نبوة محمد ← |
ما عوض به إبليس والنصارى وكل مستكبر عن حق
وأصل هذا أن إبليس لما أعرض عن السجود لآدم كبرا أن يخضع له تعوض بذلك ذل القيادة لكل فاسق ومجرم من بنيه، فلا بتلك النخوة ولا بهذه الحرفة، والنصارى لما أنفوا أن يكون المسيح عبدا لله تعوضوا من هذه الأنفة بأن رضوا بجعله مصفعة اليهود ومصلوبهم الذي يسخرون منه ويهزؤن به، ثم عقدوا له تاجا من الشوك بدل تاج الملك، وساقوه في حبل إلى خشبة الصلب، يصفقون حوله ويرقصون.
فلا بتلك الأنفة له من عبودية الله، ولا بهذه النسبة له إلى أعظم الذل والضيق والقهر، وكذلك أنفوا أن يكون للبترك والراهب زوجة أو ولد، وجعلوا لله رب العالمين الولد، وكذلك أنفوا أن يعبدوا الله وحده لا شريك له ويطيعوا عبده ورسوله.
ثم رضوا بعبادة الصليب والصور المصنوعة بالأيدي في الحيطان، وطاعة كل من يحرم عليهم ما شاء، ويحلل لهم ما شاء، ويشرع لهم من الدين ما شاء من تلقاء نفسه.
ونظير هذا التعويض أنفة الجهمية أن يكون الله سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائنا من خلقه، حتى لا يكون محصورا بزعمهم في جهة معينة، ثم قالوا: هو في مكان بذاته.
فحصروه في الآبار والسجون والأنجاس والأخباث، وعوضوه بهذه الأمكنة عن عرشه المجيد.
فليتأمل العاقل لعب الشيطان بعقول هذا الخلق، وضحكه عليهم واستهزاءه بهم.
قول المسيح: «إذا انطلقت أرسلته إليكم» معناه: أني أرسله بدعاء ربي وطلبي منه أن يرسله، كما يطلب الطالب من ولي الأمر أن يرسل رسولا أو أن يولي نائبا أو يعطي أحدا، فيقول: أنا أرسلت هذا ووليته وأعطيته. يعني أني كنت سببا في ذلك؛ فإن الله سبحانه إذا قضى أن يكون الشيء فإنه يقدر له أسبابا يكون بها، ومن تلك الأسباب دعاء بعض عباده بأن يفعل ذلك، فيكون في ذلك من النعمة إجابة دعائه مضافا إلى نعمته بإيجاد ما قضى كونه، ومحمد ﷺ قد دعا به الخليل أبوه، فقال:
(ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم).
مع أن الله سبحانه قد قضى بإرساله، وأعلن باسمه قبل ذلك، كما قيل له: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ فقال: «وآدم بين الروح والجسد»، وقال: «إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته».
وهذا كما قضى الله سبحانه نصره يوم بدر، ومن أسباب ذلك استعانته بربه ودعاؤه وابتهاله بالنصر، وكذلك ما يقضيه من إنزال الغيث قد يجعله بسبب ابتهال عباده ودعائهم وتضرعهم إليه، وكذلك ما يقضيه من مغفرة ورحمة وهداية ونصر قد يسبب له أدعية يحصل بها ممن ينال ذلك، أو من غيره، فلا يمتنع أن يكون المسيح سأل ربه بعد صعوده أن يرسل أخاه محمدا إلى العالم، ويكون ذلك من أسباب الرسالة المضافة إلى دعوة أبيه إبراهيم، لكن إبراهيم سأل ربه أن يرسله في الدنيا فلذلك ذكره الله سبحانه، وأما المسيح فإنما سأله بعد رفعه وصعوده إلى السماء.
وتأمل قول المسيح: «إني لست أدعكم أيتاما لأني سآتيكم عن قريب» كيف هو مطابق لقول أخيه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليهما، «ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، وإماما مقسطا، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية» وأوصى أمته بأن «يقرئه السلام منه من لقيه منهم» وفي حديث آخر: «كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها.