خبر بحيرا الراهب
وذكر الترمذي وغيره من حديث عبد الرحمن بن غزوان، وهو ثقة: أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال:
خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي ﷺ في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب حطوا عن رحالهم، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى إذا جاء فأخذ بيد رسول الله ﷺ فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفيه مثل التفاحة.
ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل قال: أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنى من القوم وجد هم قد سبقوه إلى في الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، قال: فينا هو قائم عليهم، وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه.
وإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم، وقال: ما جاء بكم؟ قالوا: بلغنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد أخبرنا خبره فبعثنا إلى طريقك هذا، فقال: لعل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه فهل يستطيع أحد من الناس رده، قالوا: لا، قال: فبايعوه وأقاموا معه، قال: أنشدكم الله أيكم وليه، قالوا: أبو طالب فلم يزل يناشدهم حتى رده، وقد روى محمد بن سعد هذه القصة مطولة.
قال ابن سعد: حدثنا محمد بن عمر بن واقد، حدثنا محمد بن صالح، وعبد الله بن جعفر الزبيري، قال محمد بن عمر: وحدثنا ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، قال: لما خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه رسول الله ﷺ في المرة الأولى، وهو ابن ثنتي عشرة سنة، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له: بحيرا في صومعة له، وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة، يتوارثونها عن كتاب يدرسونه.
فلما نزلوا على بحيرا وكانوا كثيرا ما يمرون به ولا يكلمهم، حتى إذا كان ذلك العام ونزلوا منزلا قريبا من صومعته قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا، فصنع لهم طعاما، ثم دعاهم، وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله ﷺ من دونهم حتى نزلوا تحت الشجرة. ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة، فأخضلت أغصان الشجرة على رسول الله ﷺ حتى استظل تحتها، فلما رأى بحيرا ذلك، نزل من صومعته، وأمر بذلك الطعام فأتي به، وأرسل إليهم وقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضوره كلكم، ولا تخلفوا أحدا منكم كبيرا ولا صغيرا حرا ولا عبدا فإن هذا شيء تكرموني به، فقال رجل: إن لك لشأنا يا بحيرا، ما كنت تصنع هذا، فما شأنك اليوم؟
قال: إني أحب أن أكرمكم، ولكم حق فاجتمع، القوم إليه وتخلف رسول الله ﷺ من بين القوم لحداثة سنه في رحالهم تحت الشجرة.
فلما نظر بحيرا إلى القوم فلم ير الصفة التي يعرفها ويجدها عنده وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم ويراها على رسول الله ﷺ، فقال بحيرا يا معشر قريش، لا يتخلفن منكم أحد عن طعامي، قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا في رحالهم.
فقال: ادعوه ليحضر طعامي، فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد مع أني أراه من أنفسكم، فقال القوم: هو والله أوسطنا، نسبا وهو ابن أخي هذا الرجل - يعنون أبا طالب - وهو من ولد عبد المطلب، فقال الحارث بن عبد المطلب: والله إن كان بنا للؤم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه، وأقبل به حتى أجلسه على الطعام والغمامة تسير على رأسه، وجعل بحيرا يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء في جسده قد كان يجدها عنده في صفته، فلما تفرقوا عن الطعام قام إليه الراهب فقال: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك؟
فقال رسول الله ﷺ: لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما، قال: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه.
قال: سلني عما بدا لك، فجعل رسول الله ﷺ يخبره فيوافق ذلك ما عنده، ثم جعل ينظر بين عينيه، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الصفة التي عنده فقبل موضع الخاتم، وقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا.
وجعل أبو طالب لما يرى من الراهب يخاف على ابن أخيه، فقال الراهب لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: هو ابني، قال: ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا؟ قال: فابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: هلك وأمه حبلى به، قال: فما فعلت أمه؟ قال: توفيت قريبا.
قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فوالله لئن عرفوا منه ما أعرف ليبغنه عنتا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، نجده في كتابنا، واعلم أني قد أديت إليك النصيحة.
فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعا، وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله ﷺ، وعرفوا صفته، فأرادوا أن يغتالوه، فذهبوا إلى بحيرا فذكروا له أمره فنهاهم أشد النهي، وقال لهم: أتجدون صفته؟ قالوا: نعم، قال: فما لكم إليه سبيل، فصدقوه وتركوه، ورجع أبو طالب، فما خرج به سفرا بعد ذلك خوفا عليه.