المسألة الأولى
فتقول: أما المسألة الأولى وهي قول السائل: «قد اشتهر عندكم بأن أهل الكتابين ما منعهم من الدخول في الإسلام إلا الرياسة والمأكلة لا غير» فكلام جاهل بما عند المسلمين وبما عند الكفار، أما المسلمون فلم يقولوا إنه لم يمنع أهل الكتاب من الدخول في الإسلام إلا الرياسة والمأكلة لا غير. وإن قال هذا بعض عوامهم فلا يلزم جماعتهم، والممتنعون من الدخول في الإسلام من أهل الكتابين وغيرهم، جزء يسير جدا بالإضافة إلى الداخلين فيه منهم، بل أكثر الأمم دخلوا في الإسلام طوعا ورغبة واختيارا، لا كرها ولا اضطرارا، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا ﷺ رسولا إلى أهل الأرض وهم خمسة أصناف قد طبقوا الأرض: يهود، ونصارى، ومجوس، وصابئة، ومشركون.
وهذه الأصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها إلى مغاربها.
فأما اليهود فأكثر ما كانوا باليمن وخيبر والمدينة وما حولها، وكانوا بأطراف الشام مستذلين مع النصارى، وكان منهم بأرض فارس فرقة مستذلة مع المجوس، وكان منهم بأرض العرب فرقة، وأعز ما كانوا بالمدينة وخيبر، وكان الله سبحانه قد قطعهم في الأرض أمما وسلبهم الملك والعز.
وأما النصارى فكانوا طبق الأرض: فكانت الشام كلها نصارى، وأرض المغرب كان الغالب عليهم النصارى، وكذلك أرض مصر والحبشة والنوبة والجزيرة والموصل وأرض نجران وغيرها من البلاد.
وأما المجوس فهم أهل مملكة فارس وما اتصل بها.
وأما الصابئة فأهل حران، وكثير من بلاد الروم.
وأما المشركون فجزيرة العرب جميعها وبلاد الهند وبلاد الترك وما جاورها، وأديان أهل الأرض لا تخرج عن هذه الأديان الخمسة، ودين الحنفاء لا يعرف فيهم البتة، وهذه الأديان الخمسة كلها للشيطان.
كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: الأديان ستة: واحد للرحمن وخمسة للشيطان. وهذه الأديان الستة مذكورة في آية الفصل في قوله تعالى:
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد).
فلما بعث الله رسوله ﷺ استجاب له ولخلفائه بعده أكثر الأديان طوعا واختيارا، ولم يكره أحدا قط على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله.
وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالا لأمر ربه سبحانه حيث يقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).
وهذا نفي في معنى النهي، أي لا تكرهوا أحدا على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام. والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول من يجوز أخذ الجزية من جميع الكفار فلا يكرهون على الدخول في الدين، بل إما أن يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا الجزية. كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة، وإن استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان. ومن تأمل سيرة النبي ﷺ تبين له أنه لم يكره أحدا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله.
وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيما على هدنته لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمنّ على بعضهم وأجلى بعضهم وقتل بعضهم، وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين لم يبدءهم بقتال حتى بدءوا هم بقتاله ونقضوا عهده.
فعند ذلك غزاهم في ديارهم وكانوا هم يغزونه قبل ذلك كما قصدوه يوم أحد ويوم الخندق ويوم بدر أيضا هم جاؤا لقتاله ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم.
والمقصود أنه ﷺ لم يكره أحدا على الدخول في دينه البتة، وإنما دخل الناس في دينه اختيارا وطوعا، فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى وأنه رسول الله حقا.
فهؤلاء أهل اليمن كانوا على دين اليهودية أو أكثرهم كما قال النبي ﷺ لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» وذكر الحديث.
ثم دخلوا في الإسلام من غير رغبة ولا رهبة، وكذلك من أسلم من يهود المدينة، وهم جماعة كثيرون غير عبد الله بن سلام مذكورون في كتب السير والمغازي، لم يسلموا رغبة في الدنيا ولا رهبة من السيف؛ بل أسلموا في حال حاجة المسلمين وكثرة أعدائهم ومحاربة أهل الأرض لهم من غير سوط ولا نوط، بل تحملوا معاداة أقربائهم وحرمانهم نفعهم بالمال والبدن، مع ضعف شوكة المسلمين وقلة ذات أيديهم.
فكان أحدهم يعادي أباه وأمه وأهل بيته وعشيرته، ويخرج من الدنيا رغبة في الإسلام لا لرياسة ولا مال، بل ينخلع من الرياسة والمال ويتحمل أذى الكفار من ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم ولا يصرفه ذلك عن دينه.
فإن كان كثير من الأحبار والرهبان والقسيسين، ومن ذكره هذا السائل قد اختاروا الكفر، فقد أسلم جمهور أهل الأرض من فرق الكفار، ولم يبق إلا الأقل بالنسبة إلى من أسلم.
فهؤلاء نصارى الشام كانوا ملء الشام، ثم صاروا مسلمين إلا النادر، فصاروا في المسلمين كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، وكذلك المجوس كانت أمة لا يحصي عددهم إلا الله فأطبقوا على الإسلام لم يتخلف منهم إلا النادر، وصارت بلادهم بلاد إسلام، وصار من لم يسلم منهم تحت الجزية والذلة.
وكذلك اليهود، أسلم أكثرهم ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة مقطعة في البلاد، فقول هذا الجاهل: «إن هاتين الأمتين لا يحصى عددهم إلا الله كفروا بمحمد ﷺ» كذب ظاهر وبهت مبين، حتى لو كانوا كلهم قد أجمعوا على اختيار الكفر لكانوا في ذلك أسوة قوم نوح، وقد أقام فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله ويريهم من الآيات ما يقيم حجة الله عليهم، وقد أطبقوا على الكفر إلا قليلا منهم، كما قال تعالى:
(وما آمن معه إلا قليل) وهم كانوا أضعاف أضعاف هاتين الأمتين.
وعاد أطبقوا على الكفر، وهم أمة عظيمة عقلاء حتى استؤصلوا بالعذاب، وثمود أطبقوا جميعهم على الكفر بعد رؤية الآية العظيمة التي يؤمن على مثلها البشر، ومع هذا فاختاروا الكفر على الإيمان، كما قال تعالى:
(وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى)
وقال تعالى: (وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين).
فهاتان أمتان عظيمتان من أكبر الأمم قد أطبقتا على الكفر مع البصيرة، فالأمتان إذ أطبقتا على الكفر فليس ذلك ببدع، وهؤلاء قوم فرعون مع كثرتهم قد أطبقوا على جحد نبوة موسى مع تظاهر الآيات الباهرة آية بعد آية فلم يؤمن منهم إلا رجل واحد كان يكتم إيمانه.
وأيضا فيقال للنصارى: هؤلاء اليهود مع كثرتهم في زمن المسيح، حتى كانوا ملأ بلاد الشام، كما قال تعالى:
(وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومضاربها التي باركنا فيها) وكانوا قد أطبقوا على تكذيب المسيح وجحدوا نبوته، وفيهم الأحبار والعباد والعلماء، حتى آمن به الحواريون، فإذا جاز على اليهود وفيهم الأحبار والعباد والزهاد وغيرهم الإطباق على جحد نبوة المسيح والكفر به مع ظهور آيات صدقه كالشمس، جاز عليهم إنكار نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
ومعلوم أن جواز ذلك على أمة الضلال الذين هم أضل من الأنعام وهم النصارى أولى وأحرى، فهذا السؤال الذي أورده هذا السائل وارد بعينه في حق كل نبي كذبته أمة من الأمم، فإن صوب هذا السائل رأى تلك الأمم كلها فقد كفر بجميع الرسل.
وإن قال إن الأنبياء كانوا على الحق، وكانت تلك الأمم مع كثرتها، ووفور عقولها على الباطل، فلأن يكون المكذبون بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهم الأقلون الأذلون الأرذلون من هذه الطوائف على الباطل أولى وأحرى.
وأي أمة من الأمم اعتبرتها وجدت المصدقين بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جمهورها وأقلها وأراذلها هم الجاحدون لنبوته، فرقعة الإسلام قد اتسعت في مشارق الأرض ومغاربها غاية الاتساع بدخول هذه الأمم في دينه وتصديقهم برسالته.
وبقي من لم يدخل منهم في دينه وهم من كل أمة أقلها، وأين يقع النصارى المكذبون برسالته اليوم من أمة النصرانية الذين كانوا قبله؟
وكذلك اليهود والمجوس والصابئة، لا نسبة للمكذبين برسالته بعد بعثه إلى جملة تلك الأمة قبل بعثه، وقد أخبر تعالى عن الأمم التي أطبقت على تكذيب الرسل ودمرها الله تعالى، فقال تعالى:
(ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فاتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون) فأخبر عن هؤلاء الأمم أنهم تطابقوا على تكذيب رسلهم، وأنه عمهم بالإهلاك.
وقال تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم قوم طاغون) ومعلوم قطعا أن الله تعالى لم يهلك هذه الأمم الكثيرة إلا بعد ما تبين لهم الهدى، فاختاروا عليه الكفر، ولو لم يتبين لهم الهدى لم يهلكهم.
كما قال تعالى: (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون).
وقال تعالى: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) أي فلم يكن قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس، ومعلوم قطعا أنه لم يصدق نبي من الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، ولم يتبعه من الأمم ما صدق محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والذين اتبعوه من الأمم أضعاف هاتين الأمتين المكذبتين مما لا يحصيهم إلا الله، ولا يستريب من له مسكة من عقل أن الضلال والجهل والغي وفساد العقل إلى من خالفه وجحد نبوته أقرب منه إلى اتباعه ومن أقر بنبوته، وحينئذ فيقال:
كيف جاز على هؤلاء الأمم التي لا يحصيها إلا الله الذين قد بلغوا مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف طبائعهم وأغراضهم وتباين مقاصدهم الإطباق على اتباع من يكذب على الله وعلى رسله وعلى العقل ويحل ما حرم الله ورسله ويحرم ما أحله الله ورسله.
ومعلوم أن الكاذب على الله في دعوى الرسالة، وهو شر خلق الله وأفجرهم وأظلمهم وأكذبهم.
ولا يشك من له أدنى عقل أن إطباق أكثر الأمم على متابعة هذا النبي محمد ﷺ وخروجهم عن ديارهم وأموالهم ومعاداتهم آباءهم وأبناءهم وعشائرهم في متابعته، وبذلهم نفوسهم بين يديه من أمحل المحال.
فتجويز اختيارهم الكفر بعد تبين الهدى على شرذمة قليلة حقيرة لها أغراض عديدة من هاتين الأمتين أولى من تجويز ذلك على المسلمين الذين طبقوا مشارق الأرض ومغاربها، وهم أعقل الأمم وأكملها في جميع خصال الفضل.
وأين عقول اليهود والنصارى، الذين أضحكوا سائر العقلاء على عقولهم ودلوهم على مبلغها، بما قالوه في معبودهم من عقول المسلمين؟
وإذا جاز اتفاق أمة فيها من قد ذكره هذا السائل على أن رب العالمين وخالق السموات والأرضين نزل عن عرشه وكرسي عظمته ودخل في بطن امرأة في محل الحيض والطمث عدة شهور ثم خرج من فرجها طفلا يمص الثدي ويبكي ويكبر شيئا فشيئا ويأكل ويشرب ويبول ويصح ويمرض ويفرح ويحزن ويلذ ويألم. ثم دبر حيلة على عدوه إبليس بأن مكن أعداءه اليهود من نفسه، فأمسكوه وساقوه إلى خشبتين يصلبونه عليهما، وهم يجرونه إلى الصلب والأوباش الأراذل قدامه وخلفه وعن يمينه وعن يساره، وهو يستغيث ويبكي فقربوه من الخشبتين، ثم توجوه بتاج من الشوك وأوجعوه صفعا، ثم حملوه على الصليب وسمروا يديه ورجليه وجعلوه بين لصين، وهو الذي اختار هذا كله لتتم له الحيلة على إبليس ليخلص آدم وسائر الأنبياء من سجنه ففداهم بنفسه حتى خلصوا من سجن إبليس، وإذا جاز اتفاق هذه الأمة وفيهم الأحبار والرهبان والقسيسون والزهاد والعباد والفقهاء ومن ذكرتم على هذا القول في معبودهم وإلههم، حتى قال قائل منهم وهو من أكابرهم عندهم: اليد التي خلقت آدم هي التي باشرت المسامير ونالت الصلب. فكيف لا يجوز عليهم الاتفاق على تكذيب من جاء بتكفيرهم وتضليلهم، ونادى سرا وجهرا بكذبهم على الله وشتمهم له أقبح شتم، وكذبهم على المسيح وتبديلهم دينه وعاداهم وقاتلهم وبرأهم من المسيح وبرأه منهم وأخبر أنهم وقود النار وحصب جهنم.
فهذا أحد الأسباب التي اختاروا لأجلها الكفر على الإيمان، وهو من أعظم الأسباب، فقولكم: «إن المسلمين يقولون إنهم لم يمنعهم من الدخول في الإسلام إلا الرياسة والمأكلة لا غير» كذب على المسلمين، بل الرياسة والمأكلة من جملة الأسباب المانعة لهم من الدخول في الدين، وقد ناظرنا نحن وغيرنا جماعة منهم، فلما تبين لبعضهم فساد ما هم عليه، قالوا:
لو دخلنا في الإسلام لكنا من أقل المسلمين لا يأبه لنا ونحن متحكمون في أهل ملتنا في أموالهم ومناصبهم ولنا بينهم أعظم الجاه، وهل منع فرعون وقومه من اتباع موسى إلا ذلك؟