أول من ابتدع شارة الصليب قسطنطين
فلما سمع أهل رومية بقسطنطين وأنه مبغض للشر محب للخير وأن أهل مملكته معه في هدو، وسلامة، كتب رؤساءهم إليه يسألونه أن يخلصهم من عبودية ملكهم، فلما قرأ كتبهم اغتم غما شديدا وبقي متحيرا لا يدري كيف يصنع.
قال سعيد بن البطريق: فظهر له على ما يزعم النصارى نصف النهار في السماء صليب من كوكب مكتوبا حوله: بهذا تغلب. فقال لأصحابه: رأيتم ما رأيت؟ قالوا: نعم. فآمن حينئذ بالنصرانية، فتجهز لمحاربة قيصر المذكور وصنع صليبا كبيرا من ذهب وصيره على رأس البند، وخرج بأصحابه فأعطي النصر على قيصر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة.
وهرب الملك ومن بقي من أصحابه، فخرج أهل رومية إلى قسطنطين بالأكليل الذهب، وبكل أنواع اللهو واللعب فتلقوه وفرحوا به فرحا عظيما، فلما دخل المدينة أكرم النصارى وردهم إلى بلادهم بعد النفي والتشريد، وأقام أهل رومية سبعة أيام يعيدون للملك وللصليب.
فلما سمع عليانوس جمع جموعه وتجهز للقتال مع قسطنطين، فلما وقعت العين في العين انهزموا وأخذتهم السيوف، وأفلت عليانوس فلم يزل من قرية إلى قرية حتى وصل إلى بلده، فجمع السحرة والكهنة والعرافين الذين كان يحبهم ويقبل منهم فضرب أعناقهم لئلا يقعوا في يد قسطنطين، وأمر ببناء الكنائس.
وأقام في كل بلد من بيت المال الخراج فيما تعمل به أبنية الكنائس، وقام بدين النصرانية حتى ضرب بجرانه في زمانه فلما تم له خمس عشر سنة من ملكه حاج النصارى في أمر المسيح واضطربوا.
فأمر بالمجمع في مدينة نيقية، وهي التي رتبت فيها "الأمانة" بعد هذا المجمع كما سيأتي، فأراد أريوس أن يدخل معهم فمنعه بترك الإسكندرية وقال على أن بطرسا قال لهم: إن الله لعن أريوس فلا تقبلوه ولا تدخلوه الكنيسة، وكان على مدينة أسيوط من عمل مصر أسقف يقول بقول أريوس، فلعنه أيضا، وكان بالإسكندرية هيكل عظيم على اسم زحل وكان فيه صنم من نحاس يسمى ميكائيل.
وكان أهل مصر والإسكندرية في اثني عشر يوما من شهر هتور، وهو تشرين الثاني، يعيدون لذلك الصنم عيدا عظيما ويذبحون له الذبائح الكثيرة، فلما ظهرت النصرانية بالإسكندرية أراد بتركها أن يكسر الصنم ويبطل الذبائح له فامتنع عليه أهلها، فاحتال عليهم بحيلة وقال: لو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله لكان أولى، فإن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر. فأجابوه إلى ذلك، فكسر الصنم وجعل منه صليبا وسمى الهيكل كنيسة ميكائيل، فلما منع بترك الإسكندرية أريوس من دخول الكنيسة ولعنه خرج أريوس مستعديا عليه ومعه أسقفان فاستغاثوا إلى قسطنطين، وقال أريوس إنه تعدى علي وأخرجني من الكنيسة ظلما، وسئل الملك أن يشخص بترك الإسكندرية يناظره قدام الملك، فوجه قسطنطين برسول إلى الإسكندرية، فأشخص البترك وجمع بينه وبين أريوس ليناظره.
فقال قسطنطين لأريوس: اشرح مقالتك. قال أريوس: أقول إن الأب كان إذا لم يكن الابن، ثم إنه أحدث الابن فكان كلمة له، إلا أنه محدث مخلوق، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة، فكان هو خالق السموات والأرض وما بينهما، كما قال ففي إنجيله إن يقول: «وهب لي سلطانا على السماء، والأرض» فكان هو الخالق لهما بما أعطي من ذلك، ثم إن الكلمة تجسدت من مريم العذراء ومن روح القدس، فصار ذلك مسيحا واحدا، فالمسيح الآن معنيان: كلمة وجسد، إلا أنهما جميعا مخلوقان.
فأجابه عند ذلك بترك الإسكندرية وقال: تخبرنا الآن، أيما أوجب علينا عندك عبادة من خلقنا أو عبادة من لم يخلقنا؟ قال أريوس: بل عبادة من خلقنا، فقال له البترك: فإن كان خالقنا الابن كما وصفت، وكان الابن مخلوقا، فعبادة الابن المخلوق أوجب من عبادة الأب الذي ليس بخالق بل تصير عبادة الأب الذي خلق الابن كفرا، وعبادة الابن المخلوق إيمانا، وذلك من أقبح الأقاويل. فاستحسن الملك وكل من حضر مقالة البترك وشنع عندهم مقالة أريوس، ودارت بينهما أيضا مسائل كثيرة، فأمر قسطنطين البترك أن يكفر أريوس وكل من قال بمقالته، فقال له: بل يوجه الملك بشخص للبتاركة والأساقفة حتى يكون لنا مجمع ونصنع فيه قضية، ويكفر أريوس ويشرح الدين ويوضحه للناس.