→ خطبة الكتاب | هداية الحيارى المؤلف: ابن القيم |
مسائل الكتاب ← |
تمهيد
أين يذهب من تولى عن توحيد ربه وطاعته، ولم يرفع رأسا بأمره ودعوته، وكذب رسوله وأعرض عن متابعته، وحاد عن شريعته، ورغب عن ملته، واتبع غير سنته، ولم يستمسك بعهده، ومكن الجهل من نفسه، والهوى والعناد من قلبه، والجحود والكفر من صدره، والعصيان والمخالفة من جوارحه، فقد قابل خبر الله بالتكذيب، وأمره بالعصيان، ونهيه بالارتكاب، يغضب الرب وهو راض، ويرضى وهو غضبان، يحب ما يبغض، ويبغض ما يحب، ويوالي من يعاديه، ويعادي من يواليه، يدعو إلى خلاف ما يرضى، وينهى عبدا إذا صلى قد (اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) فأصمه وأبكمه وأعماه، فهو ميت الدارين، فاقد السعادتين، قد رضي بخزي الدنيا وعذاب الآخرة، وباع التجارة الرابحة بالصفقة الخاسرة، فقلبه عن ربه مصدود، وسبيل الوصول إلى جنته ورضاه وقربه عنه مسدود، فهو ولي الشيطان وعدو الرحمن، وحليف الكفر والفسوق والعصيان.
رضي المسلمون بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، ورضي المخذول بالصليب والوثن إلها، وبالتثليث والكفر دينا، وبسبيل الضلال والغضب سبيلا، أعصى الناس للخالق الذي لا سعادة له إلا في طاعته، وأطوعهم للمخلوق الذي ذهاب دنياه وأخراه في طاعته، فإذا سئل في قبره:
«من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ قال: هاه هاه، لا أدري. فيقال: لا دريت، ولا تليت، وعلى ذلك حييت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ثم يضرم على قبره نارا، ويضيق عليه كالزج في الرمح إلى قيام الساعة».
وإذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، وقام الناس لرب العالمين، ونادى المنادي (وامتازوا اليوم أيها المجرمون)، ثم رفع لكل عابد معبوده الذي كان يعبده ويهواه، وقال الرب تعالى وقد أنصت له الخلائق: «أليس عدلا مني أن أولي كل إنسان منكم ما كان في الدنيا يتولاه»؟ .
فهناك يعلم المشرك حقيقة ما كان عليه، ويتبين له سوء منقلبه وما صار إليه، ويعلم الكفار أنهم لم يكونوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون).
ولما بعث الله محمدا ﷺ كان أهل الأرض صنفين: أهل الكتاب، وزنادقة لا كتاب لهم، وكان أهل الكتاب أفضل الصنفين، وهم نوعان: مغضوب عليهم وضالون.
فأمة اليهود هم: الأمة الغضبية أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قتلة الأنبياء وأكلة السحت -وهو الربا والرشا- أخبث الأمم طوية وأرداهم سجية وأبعدهم من الرحمة وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء وديدنهم العدواة والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولانصفة، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة، بل أخبثهم أعقلهم، وأحذقهم أغشهم، وسليم الناصية -وحاشاه أن يوجد بينهم- ليس بيهودي على الحقيقة، أضيق الخلق صدورا وأظلمهم بيوتا وأنتنهم أفنية وأوحشهم سحية، تحيتهم لعنة ولقاؤهم طيرة، شعارهم الغضب ودثارهم المقت.
والصنف الثاني: المثلثة، أمة الضلال وعباد الصليب، الذين سبوا الله الخالق مسبة ما سبه إياها أحد من البشر، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ولم يجعلوه أكبر من كل شئ، بل قالوا فيه ما "تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هذا" فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتها أن الله ثالث ثلاثة وأن مريم صاحبته وأن المسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة وجرى له ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن، فدينها عبادة الصليب ودعاء الصور المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان، يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا واغفري لنا وارحمينا! فدينهم شرب الخمور وأكل الخنزير وترك الختان والتعبد بالنجاسات واستباحة كل خبيث من الفيل إلى البعوضة، والحلال ما حلله القس والحرام ما حرمه والدين ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم الذنوب وينجيهم من عذاب السعير.
فهذا حال من له كتاب، وأما من لا كتاب له فهو بين عابد أوثان وعابد نيران وعابد شيطان وصابئ حيران، يجمعهم الشرك وتكذيب الرسل وتعطيل الشرائع وإنكار المعاد وحشر الأجساد، لا يدينون للخالق بدين ولا يعبدونه مع العابدين ولا يوحدونه مع الموحدين.
وأمة المجوس منهم تستفرش الأمهات والبنات والأخوات، دع العمات والخالات، دينهم الزمر وطعامهم الميتة وشرابهم الخمر ومعبودهم النار ووليهم الشيطان، فهم أخبث بني آدم نحلة وأرداهم مذهبا وأسوأهم اعتقادا.
وأما زنادقة الصابئة وملاحدة الفلاسفة فلا يؤمنون بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه، ولا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، وليس للعالم عندهم رب فعال بالاختيار لما يريد قادر على كل شيء، عالم بكل شيء، آمر ناه مرسل الرسل ومنزل الكتب ومثيب المحسن ومعاقب المسيء، وليس عند نظارهم إلا تسعة أفلاك وعشرة عقول وأربعة أركان وسلسلة ترتبت فيها الموجودات هي بسلسلة المجانين أشبه منها بمجوزات العقول.
وبالجملة فدين الحنفية الذي لا دين لله غيره بين هذه الأديان الباطلة التي لا دين في الأرض غيرها أخفى من السها تحت السحاب، وقد نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، فاطلع الله شمس الرسالة في حنادس تلك الظلم سراجا منيرا، وأنعم بها على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكورا، وأشرقت الأرض بنورها أكمل الإشراق، وفاض ذلك النور حتى عم النواحي والآفاق، واتسق قمر الهدى أتم الاتساق، وقام دين الله الحنيف على ساق.
فلله الحمد الذي أنقذنا بمحمد ﷺ من تلك الظلمات، وفتح لنا به باب الهدى فلا يغلق إلى يوم الميقات، وأرانا في نوره أهل الضلال وهم في ضلالهم يتخبطون وفي سكرتهم يعمهون وفي جهالتهم يتقلبون وفي ريبهم يترددون، يؤمنون: ولكن بالجبت والطاغوت يؤمنون. ويعدلون:، ولكن بربهم يعدلون. ويعلمون: ولكن ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. ويسجدون: ولكن للصليب والوثن والشمس يسجدون. ويمكرون وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون:
(لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
(كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون).
الحمد لله الذي أغنانا بشريعته التي تدعوا إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمن الأمر بالعدل والإحسان، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، فله المنة والفضل على ما أنعم به علينا وآثرنا به على سائر الأمم، وإليه الرغبة أن يوزعنا شكر هذه النعمة، وأن يفتح لنا أبواب التوبة والمغفرة والرحمة.
فأحب الوسائل إلى المحسن التوسل إليه بإحسانه، والاعتراف له بأن الأمر كله محض فضله وامتنانه، فله علينا النعمة السابغة كما له علينا الحجة البالغة، نبوء له بنعمه علينا، ونبوء بذنوبنا وخطايانا وجهلنا وظلمنا وإسرافنا في أمرنا، فهذه بضاعتنا التي لدينا لم تبق لنا نعمة وحقوقها وذنوبنا حسنة نرجو بها الفوز بالثواب والتخلص من أليم العقاب، بل بعض ذلك يستنفد جميع حسناتنا ويستوعب كل طاعتنا.
هذا لو خلصت من الشوائب، وكانت خالصة لوجهه واقعة على وفق أمره، وما هو والله إلا التعلق بأذيال عفوه وحسن الظن به واللجأ منه إليه والاستعاذة به منه والاستكانة والتذلل بين يديه ومد يد الفاقة والمسكنة إليه بالسؤال والافتقار إليه في جميع الأحوال، فمن أصابته نفحة من نفحات رحمته أو وقعت عليه نظرة من نظرات رأفته انتعش من بين الأموات وأناخت بفنائه وفود الخيرات وترحلت عنه جيوش الهموم والغموم والحسرات:
وإذا نظرت إلي نظرة راحم *** في الدهر يوما إنني لسعيد
ومن بعض حقوق الله على عبده: رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان والسيف والسنان والقلب والجنان. وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان، وكان انتهى إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين فلم يصادف عنده ما يشفيه ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم أنه بضربه بداويه فسطا به ضربا وقال: هذا هو الجواب!
فقال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم إن دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب!
فتفرقا، وهذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب، فشمر المجيب ساعد العزم ونهض على ساق الجد وقام لله قيام مستعين به مفوض إليه متكل عليه في موافقة مرضاته، ولم يقل مقالة العجزة الجهال إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف وإخلاد إلى العجز والضعف. وقد أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة وإزاحة للعذر (ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي عن بينة).
والسيف إنما جاء منفذا للحجة مقوما للمعاند وحدا للجاحد، قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز)
فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي ونفذه السيف الماضي:
فما هو إلا الوحي أوحد مرهف *** يقيم ضباه أخدعي كل مائل
فهذا شفاء الداء من كل عاقل *** وهذا دواء الداء من كل جاهل
وإلى الله الرغبة في التوفيق، فإنه الفاتح من الخير أبوابه والميسر له أسبابه.