الرد على من قال بعدم كفر هاتين الأمتين
قال السائل: «إنكم نسبتم الأمتين العظيمتين المذكورتين إلى اختيار الكفر على الإيمان للغرض المذكور، فابن سلام وأصحابه أولى بذلك الغرض، لأنهم قليلون جدا، وأضداده كثيرون لا يحصيهم عدد»
والجواب من وجوه:
أحدها: إنا قد بينا أن جمهور هاتين الأمتين المذكورتين آمن به، وصدقه، وقد كانوا ملء الأرض وهذه الشام ومصر وما جاورهما، واتصل بهما من أعمالها، والجزيرة والموصل وأعمالهما، وأكثر بلاد المغرب، وكثير من بلاد المشرق، كانوا كلهم نصارى. فأصبحت هذه البلاد كلها مسلمين، فالمتخلف من هاتين الأمتين عن الإيمان به أقل القليل بالإضافة إلى من آمن به وصدقه، وهؤلاء عباد الأوثان كلهم أطبقوا على الإسلام، إلا من كان منهم في أطراف الأرض بحيث لم تصل إليه الدعوة، وهذه أمة المجوس توازي هاتين الأمتين كثرة، وشوكة، وعددا، دخلوا في دينه، وبقي من بقي منهم كما بقيتم أنتم تحت الذلة والجزية.
الثاني: إنا قد بينا أن الغرض الحامل لهم على الكفر ليس هو مجرد المأكلة ولا رياسة فقط، وإن كان من جملة الأغراض؛ بل منهم من حمله ذلك.
ومنهم من حله الحسد.
ومنهم من حمله الكبر.
ومنهم من حمله الهوى.
ومنهم من حمله محبة الآباء، والأسلاف وحسن الظن بهم.
ومنهم من حمله ألفه للدين الذي نشأ عليه، وجبل بطبعه، فصار انتقاله عنه كمفارقة الإنسان ما طبع عليه.
وأنت ترى هذه السبب كيف هو الغالب المستولي على أكثر بني آدم في إثارهم ما اعتادوه من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمساكن، والديانات، على ما هو خير منه وأوفق بكثير.
منهم من حمله التقليد والجهل، وهم الأتباع الذين ليس لهم علم.
ومنهم من حمله الخوف من فوات محبوب أو حصول مرهوب، فلم تنسب هاتين الأمتين إلى الغرض المذكور وحده.
الثالث: إنا قد بينا أن الأمم الذين كانوا قبلهم كانوا أكثر عددا، وأغزر عقولا منهم، وكلهم اختاروا العمى على الهدى، والكفر على الإيمان بعد البصيرة، فلهاتين الأمتين سلف كثير وهم أكثر الخلق.
الرابع: أن عبد الله بن سلام، وذويه، إنما أسلموا في وقت شدة من الأمر، وقلة من المسلمين وضعف، وحاجة، وأهل الأرض مطبقون على عداوتهم، واليهود والمشركين هم أهل الشوكة، والعدة، والحلقة، والسلاح، ورسول الله ﷺ وأصحابه إذ ذاك قد أووا إلى المدينة، وأعداؤهم يتطلبونهم في كل وجه، وقد بذلوا الرغائب لمن جاءهم بهم. فخرج رسول الله ﷺ، وصاحبه، وخادمهما، فاستخفوا ثلاثا في غار تحت الأرض.
ثم خرجوا بعد ثلاث على غير الطريق إلى أن قدموا المدينة، والشوكة، والعدد، والعدة فيها لليهود والمشركين. فأسلم عبد الله بن سلام حين مقدم النبي ﷺ المدينة، لما رأى أعلام النبوة التي كان يعرفها وشاهدها فيه، وترك الأغراض التي منعت المغضوب عليهم من الإسلام، من الرياسة، والمال، والجاه بينهم، وقد شهدوا له كلهم عند رسول الله ﷺ أنه رئيسهم، وخيرهم، وسيدهم، فعلم أنهم إن علموا بإسلامه أخرجوه من تلك الرياسة والسيادة، فأحب أن يعلم رسول الله ﷺ بذلك، فقال: أدخلني بعض بيوتك، وسلهم عني، ففعل، وسألهم عنه، فأخبروه أنه: سيدهم، ورئيسهم، وعالمهم، فخرج عليهم وذكرهم، وأوقفهم على أنهم يعلمون أنه رسول الله، وقابلهم بذلك، فسبوه، وقدحوا فيه، وأنكروا رياسته، وسيادته، وعلمه.
فلو كان عبد الله بن سلام ممن يؤثر عرض الدنيا، والرياسة، لفعل كما فعله اليهود، وهكذا شأن من أسلم من اليهود حينئذ، وأما المتخلفون فكثير منهم صرح بغرضه لخاصته وعامته، وقال: إن هؤلاء القوم قد عظمونا ورأسونا، ومولونا فلو اتبعناه لنزعوا ذلك كله منا، وهذا قد رأيناه نحن في زماننا، وشاهدناه عيانا، ولقد ناظرت بعض علماء النصارى معظم يوم، فلما تبين له الحق بهت، فقلت له وأنا وهو خاليين: ما يمنعك الآن من اتباع الحق؟
فقال لي: إذا قدمت على هؤلاء الحمير - هكذا لفظه - فرشوا لنا الشقاق تحت حوافر دابتي، وحكموني في أموالهم، ونسائهم، ولم يعصموني فيما آمرهم به، وأنا لا أعرف صنعه، ولا أحفظ قرآنا، ولا نحوا، ولا فقها، فلو أسلمت لدرت في الأسواق أتكفف الناس، فمن الذي يطيب نفسا بهذا؟
فقلت: هذا لا يكون، وكيف تظن بالله أنك إذا آثرت رضاه على هواك يخزيك، ويذلك، ويحوجك؟
ولو فرضنا أن ذلك أصابك فما ظفرت به من الحق، والنجاة من النار، ومن سخط الله وغضبه، فيه أتم العوض عما فاتك! فقال: حتى يأذن الله، فقلت: القدر لا يحتج به، ولو كان القدر حجة لكان حجة لليهود على تكذيب المسيح، وحجة للمشركين على تكذيب الرسل، ولا سيما أنتم تكذبون بالقدر، فكيف تحتج به؟ فقال: دعنا الآن من هذا وأمسك.
الخامس: أن جوابك في نفس سؤالك، فإنك اعترفت أن عبد الله بن سلام وذويه كانوا قليلين جدا، وأضدادهم لا يحصون كثرة، ومعلوم أن الغرض الداعي لموافقة الجمهور الذين لا يحصون كثرة، وهم أولو القوة، والشوكة، أقوى من الغرض الداعي لموافقة الأقلين المستضعفين والله الموفق.