→ ما عوض به إبليس والنصارى وكل مستكبر عن حق | هداية الحيارى المؤلف: ابن القيم |
نطق التوراة صراحة بنبوة محمد ← |
أدلة من التوراة على نبوة محمد
وقد تقدم نص التوراة: «تجلى الله من طور سينا وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران» قال علماء الإسلام - وهذا لفظ أبي محمد بن قتيبية - ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض، لأن مجيء الله من طور سينا إنزاله التوراة على موسى من طور سينا، كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا.
وكذلك يجب أن يكون «إشراقه من ساعير» إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من ساعير أرض الخليل، بقرية تدعى ناصرة، وباسمها تسمى من اتبع: نصارى، وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح فكذلك يجب أن يكون «استعلانه من جبال فاران» إنزاله القرآن على محمد ﷺ، وجبال فاران هي: جبال مكة. قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، فإن ادعوا أنها غير مكة فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم، قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟ وقلنا: دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح؟ أوليس استعلن وعلن بمعنى واحد، وهما ظهر وانكشف، فهل تعلمون دينا ظهر ظهور دين الإسلام، وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه؟
قال علماء الإسلام وساعير جبال بالشام منه ظهور نبوة المسيح، وإلى جانبه قرية بيت لحم، القرية التي ولد فيها المسيح، تسمى اليوم ساعير ولها جبال تسمى: ساعير، وفي التوراة أن نسل العيص كانوا سكانا بساعير، وأمر الله موسى أن لا يؤذيهم.
قال شيخ الإسلام: وعلى هذا فيكون قد ذكر الجبال الثلاثة حراء الذي ليس حول مكة أعلى منه، وفيه ابتدئ رسول الله ﷺ بنزول الوحي عليه، وحوله جبال كثيرة وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم.
والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران، ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي، فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد ﷺ، وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على ترتيب الزمان، فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل، ثم القرآن، وهذه الكتب نور الله وهداه.
وقال في الأول: «جاء وظهر». وفي الثاني: «أشرق». وفي الثالث: «استعلن» فكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر، ونزول الإنجيل مثل: إشراق الشمس، ونزول القرآن بمنزلة ظهور الشمس في السماء؛ ولهذا قال: «واستعلن من جبال فارن».
فإن محمدا ﷺ ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها، أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين، كما يظهر نور الشمس في مشارق الأرض ومغاربها، إذا استعلنت وتوسطت السماء؛ ولهذا سماه الله سراجا منيرا وسمى الشمس سراجا وهاجا و الخلق يحتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج؛ فإن هذا يحتاجون إليه في وقت دون وقت، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت، وفي كل مكان ليلا ونهارا سرا وعلانية.
وقد ذكر الله تعالى هذه الأماكن الثلاثة في قوله: (والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين) فالتين والزيتون: هو في الأرض المقدسة التي بعث منها المسيح، وأنزل عليه فيها الإنجيل.
وطور سنين: وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى تكليما، وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة التي فيه، وأقسم بالبلد الأمين وهو مكة التي أسكن إبراهيم وإسماعيل وأمه فيه، وهو فاران كما تقدم.
ولما كان ما في التوراة خبرا عن ذلك أخبر به على الترتيب الزماني، فقدم الأسبق، ثم الذي يليه، وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيما لشأنها، وإظهارا لقدرته، وآياته وكتبه ورسله، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة، فبدأ بالعالي ثم انتقل إلى أعلا منه، ثم أعلا منهما فإن أشرف الكتب القرآن، ثم التوراة، ثم الإنجيل، وكذلك الأنبياء.