→ سرية زيد بن حارثة إلى ذي القردة | البداية والنهاية – الجزء الرابع مقتل كعب بن الأشرف ابن كثير |
غزوة أحد في شوال سنة ثلاث ← |
وكان من بني طيء، ثم أحد بني نبهان، ولكن أمه من بني النضير، هكذا ذكره ابن إسحاق قبل جلاء بني النضير، وذكره البخاري والبيهقي بعد قصة بني النضير، والصحيح ما ذكره ابن إسحاق لما سيأتي: فإن بني النضير إنما كان أمرها بعد وقعة أحد، وفي محاصرتهم حرمت الخمر كما سنبينه بطريقه إن شاء الله.
قال البخاري في صحيحه، باب قتل كعب بن الأشرف: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال عمرو بن دينار: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله ﷺ: «من لكعب بن الأشرف فإنه قد أذى الله ورسوله» فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟
قال: نعم. قال: فأذن لي أن أقول شيئا، قال: قل فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك.
قال: وأيضا، والله لتملنه.
قال: أنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا.
قال: نعم، ارهنوني.
قلت: أي شيء تريد؟
قال: ارهنوني نساءكم.
فقالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟
قال: فارهنوني أبناءكم.
قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا، ولكن نرهنك اللأمة، قال سفيان: يعني السلاح، فواعده أن يأتيه ليلا، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟
وقال غير عمرو: قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم.
قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعى إلى طعنه بليل لأجاب.
قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين، فقال: إذا ما جاء فإني مائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، وقال مرة: ثم أشمكم، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحا أي أطيب.
وقال غير عمر، وقال: عندي أعطر نساء العرب، وأجمل العرب.
قال عمرو: فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك؟
قال: نعم، فشمه، ثم أشَمَّ أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟
قال: نعم، فلما استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه ثم أتوا النبي ﷺ فأخبروه.
وقال محمد ابن إسحاق: كان من حديث كعب بن الأشرف، وكان رجلا من طيء، ثم أحد بني نبهان، وأمه من بني النضير أنه لما بلغه الخبر عن مقتل أهل بدر، حين قدم زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة قال: والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما تيقن عدو الله الخبر، خرج إلى مكة فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي، وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف فأنزلته وأكرمته.
وجعل يحرض على قتال رسول الله ﷺ وينشد الأشعار، ويندب من قتل من المشركين يوم بدر، فذكر ابن إسحاق قصيدته التي أولها:
طحنت رحى بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر تستهل وتدمع
وذكر جوابها من حسان بن ثابت رضي الله عنه ومن غيره، ثم عاد إلى المدينة، فجعل يشبب بنساء المسلمين، ويهجو النبي ﷺ وأصحابه.
وقال موسى بن عقبة: وكان كعب بن الأشرف أحد بني النضير أو فيهم، قد أذى رسول الله ﷺ بالهجاء وركب إلى قريش فاستغواهم، وقال له أبو سفيان وهو بمكة: أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؟ إنا نطعم الجزور الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونطعم ما هبت الشمال.
فقال له كعب بن الأشرف: أنتم أهدى منهم سبيلا.
قال: فأنزل الله على رسوله ﷺ: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا } [النساء: 51-52] وما بعدها.
قال موسى ومحمد بن إسحاق: وقدم للمدينة يعلن بالعداوة ويحرض الناس على الحرب، ولم يخرج من مكة حتى أجمع أمرهم على قتال رسول الله ﷺ، وجعل يشبب بأم الفضل بن الحارث وبغيرها من نساء المسلمين.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله ﷺ - كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة -: «من لابن الأشرف» فقال له محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال: «فافعل إن قدرت على ذلك».
قال: فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل، ولا يشرب، إلا ما يعلق نفسه، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فدعاه فقال له: «لم تركت الطعام والشراب؟» فقال: يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أفي لك به أم لا؟
قال: «إنما عليك الجهد» قال: يا رسول الله إنه لا بد لنا أن نقول. قال: «فقولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك».
قال: فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة، وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش أحد بني عبد الأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ أحد بني عبد الأشهل، أبو عبس بن جبر أخو بني حارثة.
قال: فقدموا بين أيديهم إلى عدو الله كعب سلكان بن سلامة أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة، فتناشدا شعرا - وكان أبو نائلة يقول الشعر - ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني، قال: أفعل.
قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبيل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا.
فقال كعب: أنا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر يصير إلى ما أقول، فقال له سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعاما، ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك.
قال: ترهنوني أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا إن معي أصحابا لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء. وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاؤوا بها.
فقال: إن في الحلقة لوفاء. قال: فرجع سلكان إلى أصحابه فاخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: فحدثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: مشى معهم رسول الله ﷺ إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: «انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم».
ثم رجع رسول الله ﷺ إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، فانطلقوا حتى انتهوا إلى حصنه فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: أنت امرؤ محارب وأن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة.
قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر.
قال: يقول لها كعب: لو دعي الفتى لطعنة أجاب. فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن تتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟
قال: إن شئتم. فخرجوا فمشوا ساعة. ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شم يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط.
ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن.
ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها، فأخذ بفودي رأسه ثم قال: اضربوا عدو الله! فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا.
قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا في سيفي فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة، لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار.
قال: فوضعته في ثنته، ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، فوقع عدو الله وقد أُصيب الحارث بن أوس بجرح في رجله أو في رأسه، أصابه بعض سيوفنا.
قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث، حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس، ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتأنا يتبع آثارنا فاحتملناه، فجئنا به رسول الله ﷺ آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله.
وتفل رسول الله ﷺ على جرح صاحبنا، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو خائف على نفسه.
قال ابن جرير: وزعم الواقدي أنهم جاؤوا برأس كعب بن الأشرف إلى رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: وفي ذلك يقول كعب بن مالك:
فغودر منهم كعب صريعا * فذلت بعد مصرعه النضير
على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور
بأمر محمد إذ دس ليلا * إلى كعب أخا كعب يسير
فماكره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور
قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له في يوم بني النضير ستأتي.
قلت: كان قتل كعب بن الأشرف على يدي الأوس بعد وقعة بدر، ثم إن الخزرج قتلوا أبا رافع ابن أبي الحقيق بعد وقعة أحد، كما سيأتي بيانه إن شاء الله وبه الثقة.
وقد أورد ابن إسحاق شعر حسان بن ثابت:
لله در عصابة لاقيتهم * يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحا كأسد في عرين مغرف
حتى أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفا ببيض ذفف
مستبصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين لكل أمر مجحف
قال محمد بن إسحاق: وقال رسول الله ﷺ: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» فوثب عند ذلك محيصة بن مسعود الأوسي على ابن سنينة - رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم - فقتله.
وكان أخوه حويصة بن مسعود أسن منه، ولم يسلم بعد، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله أقتلته؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله.
قال محيصة: فقلت والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك.
قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة.
وقال: والله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم، والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها.
قال: فوالله إن دينا بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة.
قال ابن إسحاق: حدثني بهذا الحديث مولى لبني حارثة عن ابنة محيصة عن أبيها، وقال في ذلك محيصة:
يلوم ابن أم لو أمرتُ بقتله * لطبقت ذفراه بأبيض قارب
حسام كلون الملح أخلصُ صقله * متى ما أصوبه فليس بكاذب
وما سرني أني قتلتك طائعا * وأن لنا ما بين بصرى ومأرب
وحكى ابن هشام عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو المدني أن هذه القصة كانت بعد مقتل بني قريظة، فإن المقتول كان كعب بن يهوذا، فلما قتله محيصة عن أمر رسول الله ﷺ يوم بني قريظة، قال له أخوه حويصة ما قال، فرد عليه محيصة بما تقدم، فأسلم حويصة يومئذ، فالله أعلم.
تنبيه: ذكر البيهقي، والبخاري قبله خبر بني النضير قبل وقعة أحد، والصواب إيرادها بعد ذلك كما ذكر ذلك محمد بن إسحاق وغيره من أئمة المغازي، وبرهانه أن الخمر حرمت ليالي حصار بني النضير.
وثبت في الصحيح أنه اصطبح الخمر جماعة ممن قتل يوم أحد شهيدا، فدل على أن الخمر كانت إذ ذاك حلالا، وإنما حرمت بعد ذلك، فتبين ما قلناه من أن قصة بني النضير بعد وقعة أحد، والله أعلم.
تنبيه آخر: خبر يهود بني قينقاع بعد وقعة بدر كما تقدم، وكذلك قتل كعب بن الأشرف اليهودي على يدي الأوس، وخبر بني النضير بعد وقعة أحد كما سيأتي، وكذلك مقتل أبي رافع اليهودي تاجر أهل الحجاز على يدي الخزرج، وخبر يهود بني قريظة بعد يوم الأحزاب، وقصة الخندق كما سيأتي.