→ قصة الإفك | البداية والنهاية – الجزء الرابع غزوة الحديبية ابن كثير |
سياق البخاري لعمرة الحديبية ← |
وقد كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف، وممن نصَّ على ذلك الزهري، ونافع مولى ابن عمر، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق بن يسار وغيرهم.
وهو الذي رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة أنها كانت في ذي القعدة سنة ست.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا إسماعيل بن الخليل عن علي بن مسهر، أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال: خرج رسول الله ﷺ إلى الحديبية في رمضان، وكانت الحديبية في شوال، وهذا غريب جدا عن عروة.
وقد روى البخاري ومسلم جميعا: عن هدبة، عن همام، عن قتادة أن أنس بن مالك أخبره أن رسول الله ﷺ اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا العمرة التي مع حجته عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، ومن الجعرانة في ذي القعدة، حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته.
وهذا لفظ البخاري.
وقال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة رمضان وشوال، وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي.
قال ابن إسحاق: واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول الله ﷺ بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا: خرج رسول الله ﷺ عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا، وساق معه الهدي سبعين بدنة.
وكان الناس سبعمائة رجل، وكانت كل بدنة عن عشرة نفر، وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.
قال الزهري: وخرج رسول الله ﷺ حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم.
قال: فقال رسول الله ﷺ: «يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش فوالله، لا أزال أجاهد على هذا الذي بعثني الله به حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة».
ثم قال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟».
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق ذلك على المسلمين فأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله للناس: «قولوا نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك.
فقال: «والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها».
قال ابن شهاب: فأمر رسول الله ﷺ الناس فقال: «اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض في طريق يخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة».
قال: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش، وخرج رسول الله ﷺ حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته، فقال الناس: خلأت.
فقال: «ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطه يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها».
ثم قال للناس: «انزلوا».
قيل له: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه، فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل به في قليب من تلك القلب، فغرزه في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم: أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله ﷺ ناجية بن جندب سائق بدن رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: وقد زعم بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الذي نزلت بسهم رسول الله ﷺ، فالله أعلم أي ذلك كان.
ثم استدل ابن إسحاق للأول أن جارية من الأنصار جاءت البئر وناجية أسفله يميح فقالت:
يا أيها المائح دلوي دونكا * إني رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيرا ويمجدونكا
فأجابها فقال:
قد علمت جارية يمانيه * أني أنا المائح واسمي ناجية
وطعنة ذات رشاش واهيه * طعنتها عند صدور العادية
قال الزهري في حديثه: فلما اطمأن رسول الله ﷺ أتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته.
ثم قال لهم نحو ما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، وإن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم وقالوا: وإن جاء ولا يريد قتالا فوالله لا يدخلها علينا عنوة، ولا تحدث بذلك عنا العرب.
قال الزهري: وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله ﷺ مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئا كان بمكة، قال: ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله ﷺ مقبلا قال: «هذا رجل غادر».
فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ وكلمه، قال له رسول الله ﷺ نحوا مما قال لبديل وأصحابه.
فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله ﷺ، ثم بعثوا بحليس بن علقمة أو ابن زبان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة.
فلما رآه رسول الله ﷺ قال: «إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله ﷺ إعظاما لما رأى، فقال لهم ذلك.
قال: فقالوا له اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن الحليس غضب عند ذلك وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاهدناكم، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد.
قالوا: مه كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
قال الزهري في حديثه: ثم بعثوا إلى رسول الله ﷺ عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي.
قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم.
فخرج حتى أتى رسول الله ﷺ فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.
قال: وأبو بكر الصديق رضي الله عنه خلف رسول الله ﷺ فقال: امصص بظر اللات أنحن ننكشف عنه.
قال: من هذا يا محمد؟
قال: «هذا ابن أبي قحافة».
قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ولكن هذه بهذه.
قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله ﷺ وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله ﷺ في الحديد.
قال: فجعل يقرع يده إذ يتناول لحية رسول الله ﷺ ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله ﷺ قبل أن لا تصل إليك.
قال: فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك.
قال: فتبسم رسول الله ﷺ فقال له عروة: من هذا يا محمد؟
قال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة».
قال: أي غدر وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس؟
قال الزهري: فكلمه رسول الله ﷺ بنحو ما كلم به أصحابه وأخبره أنه لم يأت يريد حربا، فقام من عند رسول الله ﷺ وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه.
فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله ﷺ دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله ﷺ وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، أمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله ﷺ ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا.
فأخذوا فأتى بهم رسول الله ﷺ فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله ﷺ بالحجارة والنبل.
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال يا رسول الله: إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان.
فدعا رسول الله ﷺ عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته.
فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله ﷺ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله ﷺ ما أرسله به.
فقالوا لعثمان حين بلغ رسالة رسول الله ﷺ: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف.
قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله ﷺ، واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله ﷺ والمسلمين أن عثمان قد قتل.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله ﷺ قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا رسول الله ﷺ إلى البيعة، وكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله ﷺ على الموت.
وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله ﷺ لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر، فبايع رسول الله ﷺ الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين إلا حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، وكان جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بأبط ناقته قد ضبأ إليها يستر من الناس.
ثم أتى رسول الله ﷺ أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.
قال ابن هشام: وذكر وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: أن أول من بايع رسول الله ﷺ بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ بايع لعثمان فضرب بإحدى يديه على الأخرى.
وهذا الحديث الذي ذكره ابن هشام بهذا الإسناد ضعيف لكنه ثابت في الصحيحين.
قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله ﷺ وقالوا: آت محمدا وصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوة أبدا.
فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله ﷺ مقبلا قال: «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل».
فلما انتهى سهيل إلى رسول الله ﷺ تكلم فأطال الكلام، تراجعا ثم جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله ﷺ؟
قال: بلى.
قال: أولسنا بالمسلمين؟
قال: بلى.
قال: أوليسوا بالمشركين؟
قال: بلى.
قال: فعلام نعطي الدينة في ديننا؟
قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله.
قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله ألست برسول الله؟
قال: «بلى».
قال: أولسنا بالمسلمين؟
قال: «بلى».
قال: أوليسوا بالمشركين؟
قال: «بلى».
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا قال أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني، وكان عمر رضي الله عنه يقول ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيرا.
قال: ثم دعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم».
قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا ولكن أكتب باسمك اللهم.
قال: فقال رسول الله ﷺ: «اكتب باسمك اللهم» فكتبها.
ثم قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو».
قال: فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
قال: فقال رسول الله ﷺ: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا أسلال ولا أغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه».
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت فيها ثلاثا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.
قال: فبينا رسول الله ﷺ يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله ﷺ، وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ قد خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ﷺ.
فلما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل عليه رسول الله ﷺ في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم، حتى كادوا يهلكون، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا.
قال: «صدقت» فجعل ينتره بتلبيبه ويجره يعني يرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني! فزاد ذلك الناس إلى ما بهم.
فقال رسول الله ﷺ: «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، أنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وأنا لا نغدر بهم».
قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب، قال: ويدني قائم السيف منه.
قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه.
قال: فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية.
فلما فرغ رسول الله ﷺ من الكتاب أشهد على الصلح رجالا من المسلمين، ورجالا من المشركين أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص، وهو يومئذ مشرك، وعلي بن أبي طالب، وكتب وكان هو كاتب الصحيفة.
وكان رسول الله ﷺ مضطربا في الحل وكان يصلي في الحرم، فلما فرغ من الصلح قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فلما رأى الناس أن رسول الله ﷺ قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله ﷺ: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟
قال: «يرحم الله المحلقين».
قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟
قال: «يرحم الله المحلقين».
قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟
قال: «والمقصرين».
قالوا يا رسول الله: فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟
قال: «لم يشكو».
وقال عبد الله بن أبي نجيح: حدثني مجاهد، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ بذلك المشركين.
هذا سياق محمد بن إسحاق رحمه الله لهذه القصة، وفي سياق البخاري كما سيأتي مخالفة في بعض الأماكن لهذا السياق كما ستراها إن شاء الله وبه الثقة، ولنوردها بتمامها ونذكر في الأحاديث الصحاح والحسان ما فيه.... إن شاء الله تعالى، وعليه التكلان وهو المستعان.
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله، عن زيد بن خالد قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ عام الحديبية فأصابنا مطر ذات ليلة، فصلى بنا رسول الله ﷺ الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: «أتدرون ماذا قال ربكم؟».
فقلنا: الله ورسوله أعلم.
فقال: «قال الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنجم كذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي».
وهكذا رواه في غير موضع من صحيحه، ومسلم من طرق عن الزهري.
وقد روي عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة.
وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: تعدون الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية.
كنا مع النبي ﷺ أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي ﷺ فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا.
انفرد به البخاري.
وقال ابن إسحاق في قوله تعالى: { فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحا قَرِيبا } [الفتح: 27] صلح الحديبية.
قال الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس كلم بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
قال ابن هشام: والدليل على ما قاله الزهري: أن رسول الله ﷺ خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة رجل في قول جابر، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.
وقال البخاري: حدثنا يوسف بن عيسى، حدثنا ابن فضيل، حدثنا حصين، عن سالم، عن جابر قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله ﷺ بين يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، فقال رسول الله ﷺ: «ما لكم؟»
قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا ما نشرب إلا ما في ركوتك، فوضع النبي ﷺ يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون.
قال: فشربنا وتوضأنا.
فقلنا لجابر: كم كنتم يومئذ؟
قال: لو كنا مائة ألف لكفأنا، كنا خمس عشرة مائة.
وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم من طرق: عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد عن جابر به.
وقال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قلت لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة.
فقال لي سعيد: حدثني جابر كانوا خمس عشرة مائة، الذين بايعوا النبي ﷺ يوم الحديبية.
تابعه أبو داود: حدثنا قرة، عن قتادة، تفرد به البخاري.
ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابرا قال: قال لنا رسول الله ﷺ يوم الحديبية: «أنتم خير أهل الأرض» وكنا ألفا وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة.
وقد روى البخاري أيضا، ومسلم من طرق: عن سفيان بن عيينة به.
وهكذا رواه الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر قال: إن عبدا لحاطب جاء يشكوه فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار.
فقال رسول الله ﷺ: «كذبت لا يدخلها شهد بدرا والحديبية» رواه مسلم.
وعند مسلم أيضا من طرق ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: أخبرتني أم ميسر أنها سمعت الله رسول الله صلى عليه وسلم يقول عند حفصة: «لا يدخل أحد النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها».
فقالت حفصة: بلى يا رسول الله، فانتهرها فقالت حفصة: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } [مريم: 71]
فقال رسول الله ﷺ: قد قال تعالى: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّا } [مريم: 72] .
قال البخاري: وقال عبيد الله بن معاذ: حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، حدثني عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين.
تابعه محمد بن بشار: حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، هكذا رواه البخاري معلقا عن عبد الله.
وقد رواه مسلم عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة به.
وعن محمد بن المثنى، عن أبي داود، عن إسحاق بن إبراهيم، عن النضر بن شميل كلاهما عن شعبة به.
ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن مروان والمسور بن مخرمة قالا: خرج النبي ﷺ عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعر وأحرم منها.
تفرد به البخاري، وسيأتي هذا السياق بتمامه، والمقصود أن هذه الروايات كلها مخالفة لما ذهب إليه ابن إسحاق من أن أصحاب الحديبية كانوا سبع مائة، وهو والله أعلم إنما قال ذلك تفقها من تلقاء نفسه، من حيث أن البدن كن سبعين بدنة، وكل منها عن عشرة على اختياره، فيكون المهلون سبع مائة، ولا يلزم أن يهدي كلهم، ولا أن يحرم كلهم أيضا.
فقد ثبت أن رسول الله ﷺ بعث طائفة منهم فيهم أبو قتادة ولم يحرم أبو قتادة حتى قتل ذلك الحمار الوحشي فأكل منه هو وأصحابه، وحملوا منه إلى رسول الله ﷺ في أثناء الطريق فقال: «هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها».
قالوا: لا.
قال: «فكلوا ما بقي من الحمار».
وقد قال البخاري: حدثنا شعبة بن الربيع، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة: أن أباه حدثه قال: انطلقنا مع النبي ﷺ عام الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا شبابة بن سوار الفزاري، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد، فلم أعرفها.
حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، حدثنا طارق، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه: أنه كان فيمن بايع تحت الشجرة فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا.
وقال البخاري أيضا: حدثنا محمود، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون فقلت: ما هذا المسجد؟
قالوا: هذه الشجرة حيث بايع النبي ﷺ بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله ﷺ تحت الشجرة قال: فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها.
ثم قال سعيد: إن أصحاب محمد لم يعلموها وعلمتموها أنتم! فأنتم أعلم.
ورواه البخاري، ومسلم من حديث الثوري، وأبي عوانة، وشبابة عن طارق.
وقال البخاري: حدثنا سعيد، حدثني أخي، عن سليمان، عن عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم قال: لما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة، فقال ابن زيد: على ما يبايع ابن حنظلة الناس؟
قيل له: على الموت.
فقال: لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله ﷺ، وكان شهد معه الحديبية.
وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم من طرق، عن عمرو بن يحيى به.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله ﷺ يوم الحديبية؟
قال: على الموت.
ورواه مسلم من حديث يزيد بن أبي عبيد. وفي صحيح مسلم عن سلمة أنه بايع ثلاث مرات: في أوائل الناس، ووسطهم، وأواخرهم.
وفي الصحيح عن معقل بن يسار أنه كان آخذا بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله ﷺ وهو يبايع الناس، وكان أول من بايع رسول الله ﷺ يومئذ: أبو سنان، وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن، وقيل: سنان بن أبي سنان.
وقال البخاري: حدثني شُجاع بن الوليد، سمع النضر بن محمد، حدثنا صخر بن الربيع، عن نافع قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر وليس كذلك.
ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ورسول الله ﷺ يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله فانطلق، فذهب معه حتى بايع رسول الله ﷺ، وهي التي تحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر.
وقال هشام بن عمار: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عمر بن محمد العمري، أخبرني نافع عن ابن عمر أن الناس كانوا مع النبي ﷺ يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجرة، فإذا الناس محدِّقون بالنبي ﷺ.
فقال: يا عبد الله أنظر ما شأن الناس، قد أحدقوا برسول الله ﷺ، فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع.
تفرد به البخاري من هذين الوجهين.