→ ما قيل من الأشعار في غزوة هوازن | البداية والنهاية – الجزء الرابع غزوة الطائف ابن كثير |
مرجعه عليه السلام من الطائف ← |
قال عروة وموسى بن عقبة عن الزهري: قاتل رسول الله ﷺ يوم حنين وحاصر الطائف في شوال سنة ثمان.
وقال محمد بن إسحاق: ولما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال، ولم يشهد حنينا ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور.
قال ثم سار رسول الله ﷺ إلى الطائف حين فرغ من حنين فقال كعب بن مالك في ذلك:
قضينا من تهامة كل ريب * وخيبر ثم أجممنا السيوفا
نخبرها ولو نطقت لقالت * قواطعهن: دوسا أو ثقيفا
فلست لحاضن إن لم تروها * بساحة داركم منا ألوفا
وننتزع العروش ببطن وجٍ * وتصبح دوركم منكم خلوفا
ويأتيكم لنا سرعان خيل * يغادر خلفه جمعا كثيفا
إذا نزلوا بساحتكم سمعتم * لها مما أناخ بها رجيفا
بأيديهم قواضب مرهفات * يزرن المصطلين بها الحتوفا
كأمثال العقائق أخلصتها * قيون الهند لم تضرب كتيفا
تخال جدية الأبطال فيها * غداة الزحف جاديا مدوفا
أجدهم أليس لهم نصيح * من الأقوام كان بنا عريفا
يخبرهم بأنا قد جمعنا * عتاق الخيل والنجب الطروفا
وأنا قد أتيناهم بزحف * يحيط بسور حصنهم صفوفا
رئيسهم النبي وكان صلبا * نقي القلب مصطبرا عزوفا
رشيد الأمر ذا حكم وعلم * وحلم لم يكن نزقا خفيفا
نطيع نبينا ونطيع ربا * هو الرحمن كان بنا رؤوفا
فإن تلقوا إلينا السلم نقبل * ونجعلكم لنا عضدا وريفا
وإن تأبوا نجاهدكم ونصبر * ولا يك أمرنا رعشا ضعيفا
نجالد ما بقينا أو تنيبوا * إلى الإسلام إذعانا مضيفا
نجاهد لا نبالي ما لقينا * أأهلكنا التلاد أم الطريفا
وكم من معشر ألبوا علينا * صميم الجذم منهم والحليفا
أتونا لا يرون لهم كفاء * فجدعنا المسامع والأنوفا
بكل مهند لين صقيل * نسوقهم بها سوقا عنيفا
لأمر الله والإسلام حتى * يقوم الدين معتدلا حنيفا
وتنسى اللات والعزى وود * ونسلبها القلائد والشنوفا
فأمسوا قد أقروا واطمأنوا * ومن لا يمتنع يقبل خسوفا
وقال ابن إسحاق فأجابه كنانة بن عبد يا ليل بن عمرو بن عمير الثقفي:
قلت: وقد وفد على رسول الله ﷺ بعد ذلك في وفد ثقيف فأسلم معهم.
قاله موسى بن عقبة، وأبو إسحاق، وأبو عمر بن عبد البر، وابن الأثير، وغير واحد، وزعم المدايني أنه لم يسلم بل صار إلى بلاد الروم فتنصر ومات بها:
من كان يبغينا يريد قتالنا * فإنا بدار معلم لا نريمها
وجدنا بها الآباء من قبل ما ترى * وكانت لنا أطواؤها وكرومها
وقد جربتنا قبل عمرو بن عامر * فأخبرها ذو رأيها وحليمها
وقد علمت - إن قالت الحق - أننا * إذا ما أتت صعر الخدود نقيمها
نقومها حتى يلين شريسها * ويعرف للحق المبين ظلومها
علينا دلاص من تراب محرق * كلون السماء زينتها نجومها
نرفعها عنا ببيض صوارم * إذا جردت في غمرة لا نشيمها
قال ابن إسحاق: وقال شداد بن عارض الجشمي في مسير رسول الله ﷺ إلى الطائف:
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها * وكيف ينصر من هو ليس ينتصر
إن التي حرقت بالسد فاشتعلت * ولم تقاتل لدى أحجارها هدر
إن الرسول متى ينزل بلادكم * يظعن وليس بها من أهلها بشر
قال ابن إسحاق: فسلك رسول الله ﷺ - يعني من حنين إلى الطائف - على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من لية فابتنى بها مسجدا فصلى فيه.
قال ابن إسحاق: فحدثني عمرو بن شعيب أنه عليه السلام أقاد يومئذ ببحرة الرغاء، حين نزلها بدم، وهو أول دم أقيد به في الإسلام، رجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل فقتله به وأمر رسول الله ﷺ وهو بلية بحصن مالك بن عوف فهدم.
قال ابن إسحاق: ثم سلك في الطريق يقال لها الضيقة فلما توجه رسول الله ص سأل عن اسمها فقال: «ما اسم هذه الطريق؟» فقيل: الضيقة.
فقال: «بل هي اليسرى» ثم خرج منها على نخب حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة قريبا من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله ﷺ إما أن تخرج إلينا وإما أن نخرب عليك حائطك، فأبى أن يخرج فأمر رسول الله ﷺ بإخرابه.
وقال ابن إسحاق: عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير سمعت عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله ﷺ يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال رسول الله ﷺ:
«هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه».
قال: فابتدره الناس فاستخرجوا معه الغصن.
ورواه أبو داود عن يحيى بن معين، عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه، عن محمد بن إسحاق به.
ورواه البيهقي: من حديث يزيد بن زريع عن روح بن القاسم، عن إسماعيل بن أمية به.
قال ابن إسحاق: ثم مضى رسول الله ﷺ حتى نزل قريبا من الطائف، فضرب به عسكره فقتل ناس من أصحابه بالنبل، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف فتأخروا إلى موضع مسجده عليه السلام اليوم بالطائف الذي بنته ثقيف بعد إسلامها، بناه عمرو بن أمية بن وهب وكانت فيه سارية لا تطلع عليها الشمس صبيحة كل يوم إلا سمع لها نقيض فيما يذكرون.
قال: فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة.
قال ابن هشام ويقال: سبع عشرة ليلة.
وقال عروة وموسى بن عقبة عن الزهري: ثم سار رسول الله ﷺ إلى الطائف وترك السبي بالجعرانة، وملئت عرش مكة منهم، فنزل رسول الله ﷺ بالأكمة عند حصن الطائف بضع عشرة ليلة يقاتلهم ويقاتلونه من وراء حصنهم، ولم يخرج إليه أحد منهم غير أبي بكرة بن مسروح أخي زياد لأمه.
فأعتقه رسول الله ﷺ وكثرت الجراح، وقطعوا طائفة من أعنابهم ليغيظوهم بها، فقالت لهم ثقيف: لا تفسدوا الأموال فإنها لنا أو لكم.
وقال عروة: أمر رسول الله ﷺ كل رجل من المسلمين أن يقطع خمس نخلات وخمس حبلات، وبعث مناديا ينادي من خرج إلينا فهو حر، فاقتحم إليه نفر منهم فيهم أبو بكرة بن مسروح أخو زياد بن أبي سفيان لأمه، فأعتقهم ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يعوله ويحمله.
وقال الإمام أحمد: ثنا يزيد ثنا حجاج، عن الحكم عن مقسم، عن ابن عباس، أن رسول الله ﷺ كان يعتق من جاءه من العبيد قبل مواليهم إذا أسلموا، وقد أعتق يوم الطائف رجلين.
وقال أحمد: ثنا عبد القدوس بن بكر بن خنيس، ثنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: حاصر رسول الله ﷺ أهل الطائف فخرج إليه عبدان فأعتقهما أحدهما أبو بكرة، وكان رسول الله ﷺ يعتق العبيد إذا خرجوا إليه.
وقال أحمد أيضا: ثنا نصر بن رئاب عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله ﷺ يوم الطائف: «من خرج إلينا من العبيد فهو حر».
فخرج عبيد من العبيد فيهم أبو بكرة فأعتقهم رسول الله ﷺ، هذا الحديث تفرد به أحمد ومداره على الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف، لكن ذهب الإمام أحمد إلى هذا فعنده أن كل عبد جاء من دار الحرب إلى دار الإسلام عتق حكما شرعيا مطلقا عاما.
وقال آخرون إنما كان هذا شرطا لا حكما عاما، ولو صح الحديث لكان التشريع العام أظهر كما في قوله عليه السلام: «من قتل قتيلا فله سلبه».
وقد قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن المكرم الثقفي قال: لما حاصر رسول الله ﷺ أهل الطائف، خرج إليه رقيق من رقيقهم أبو بكرة عبدا للحارث بن كلدة، والمنبعث وكان اسمه المضطجع فسماه رسول الله ﷺ المنبعث، ويحنس ووردان في رهط من رقيقهم فأسلموا.
فلما قدم وفد أهل الطائف فأسلموا، قالوا: يا رسول الله رد علينا رقيقنا الذين أتوك؟
قال: «لا أولئك عتقاء الله» ورد على ذلك الرجل ولاء عبده فجعله له.
وقال البخاري: ثنا محمد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن عاصم: سمعت أبا عثمان قال: سمعت سعدا - وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله وأبا بكرة وكان تسور حصن الطائف في أناس فجاء إلى رسول الله ﷺ -قالا: سمعنا رسول الله ﷺ يقول: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه فالجنة عليه حرام».
ورواه مسلم من حديث عاصم به.
قال البخاري: وقال هشام أنبا معمر، عن عاصم، عن أبي العالية أو أبي عثمان النهدي قال: سمعت سعدا وأبا بكرة عن النبي ﷺ قال عاصم: قلت لقد شهد عندك رجلان حسبك بهما.
قال: أجل أما أحدهما فأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأما الآخر فنزل إلى رسول الله ﷺ ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف.
قال محمد بن إسحاق: وكان مع رسول الله ﷺ امرأتان من نسائه، إحداهما أم سلمة، فضرب لهما قبتين فكان يصلي بينهما، فحاصرهم وقاتلهم قتالا شديدا وتراموا بالنبل.
قال ابن هشام: ورماهم بالمنجنيق.
فحدثني من أثق به أن النبي ﷺ أول من رمى في الإسلام بالمنجنيق رمى به أهل الطائف.
وذكر ابن إسحاق أن نفرا من الصحابة دخلوا تحت دبابة، ثم زحفوا ليحرقوا جدار أهل الطائف فأرسلت عليهم سكك الحديد محماة، فخرجوا من تحتها فرمتهم ثقيف بالنبل، فقتلوا منهم رجالا، فحينئذ أمر رسول الله ﷺ بقطع أعناب ثقيف فوقع الناس فيها يقطعون.
قال: وتقدم أبو سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة مناديا ثقيفا بالأمان حتى يكلموهم، فأمنوهم فدعوا نساء من قريش وبني كنانة ليخرجن إليهم وهما يخافان عليهن السباء إذا فتح الحصن، فأبين.
فقال لهما أبو الأسود بن مسعود: ألا أدلكما على خير مما جئتما له؟ إن مال أبي الأسود حيث قد علمتما، وكان رسول الله ﷺ نازلا بوادٍ يقال له: العقيق وهو بين مال بني الأسود، وبين الطائف، وليس بالطائف مال أبعد رشاء، ولا أشد مؤونة ولا أبعد عمارة منه، وإن محمدا إن قطعه لم يعمر أبدا فكلماه فليأخذه لنفسه أو ليدعه لله وللرحم.
فزعموا أن رسول الله ﷺ تركه لهم.
وقد روى الواقدي عن شيوخه نحو هذا وعنده أن سلمان الفارسي هو الذي أشار بالمنجنيق، وعمله بيده.
وقيل: قدم به وبدبابتين فالله أعلم.
وقد أورد البيهقي من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود عن عروة: أن عيينة بن حصن استأذن رسول الله ﷺ في أن يأتي أهل الطائف فيدعوهم إلى الإسلام فأذن له، فجاءهم فأمرهم بالثبات في حصنهم وقال: لا يهولنكم قطع ما قطع من الأشجار في كلام طويل، فلما رجع قال له رسول الله ﷺ: «ما قلت لهم؟».
قال: دعوتهم إلى الإسلام وأنذرتهم النار وذكرتهم بالجنة.
فقال: «كذبت بل قلت لهم كذا وكذا».
فقال: صدقت يا رسول الله أتوب إلى الله وإليك من ذلك.
وقد روى البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن سعدان بن أبي طلحة عن ابن أبي نجيح السلمي - وهو عمرو بن عبسة رضي الله عنه -قال:
حاصرنا مع رسول الله ﷺ قصر الطائف فسمعت رسول الله ﷺ يقول: «من بلغ بسهم فله درجة في الجنة» فبلغت يومئذ ستة عشر سهما، وسمعته يقول:
«من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة وأيما رجل أعتق رجلا مسلما فإن الله جاعل كل عظم من عظامه وقاء كل عظم بعظم، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل كل عظم من عظامها وقاء كل عظم من عظامها من النار».
ورواه أبو داود، والترمذي، وصححه النسائي من حديث قتادة به.
وقال البخاري: ثنا الحميدي، سمع سفيان، ثنا هشام، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله ﷺ وعندي مخنث فسمعه يقول لعبد الله بن أبي أمية: أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان.
فقال رسول الله ﷺ: «لا يدخلن هؤلاء عليكن».
قال ابن عيينة وقال ابن جريج: المخنث هيت.
وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم من طرق، عن هشام بن عروة، عن أبيه به وفي لفظ وكانوا يرونه من غير أولي الإربة من الرجال.
وفي لفظ قال رسول الله ﷺ: «ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكن هؤلاء» يعني إذا كان ممن يفهم ذلك فهو داخل في قوله تعالى: { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } .
والمراد بالمخنث في عرف السلف الذي لا همة له إلى النساء وليس المراد به الذي يؤتى إذ لو كان كذلك لوجب قتله حتما كما دل عليه الحديث، وكما قتله أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومعنى قوله: تقبل بأربع وتدبر بثمان يعني: بذلك عكن بطنها فإنها تكون أربعا إذا أقبلت، ثم تصير كل واحدة اثنتين إذا أدبرت.
وهذه المرأة هي بادية بنت غيلان بن سلمة من سادات ثقيف، وهذا المخنث قد ذكر البخاري عن ابن جريج أن اسمه هيت وهذا هو المشهور.
لكن قال يونس عن ابن إسحاق قال: وكان مع رسول الله ﷺ مولى لخالته بنت عمرو بن عايد مخنث يقال له: مانع، يدخل على نساء رسول الله ﷺ في بيته، ولا نرى أنه يفطن لشيء من أمور النساء مما يفطن إليه رجال، ولا يرى أن له في ذلك إربا فسمعه وهو يقول لخالد بن الوليد:
يا خالد إن افتتح رسول الله ﷺ الطائف فلا تنفلتن منكم بادية بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان.
فقال رسول الله ﷺ حين سمع هذا منه: «ألا أرى هذا يفطن لهذا» الحديث ثم قال لنسائه: «لا يدخلن عليكم» فحجب عن بيت رسول الله ﷺ.
وقال البخاري: ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي العباس الشاعر الأعمى، عن عبد الله بن عمرو قال: لما حاصر رسول الله ﷺ الطائف فلم ينل منهم شيئا قال: «إنا قافلون غدا إن شاء الله» فنقل عليهم وقالوا نذهب ولا نفتح؟
فقال: «اغدوا على القتال» فغدوا فأصابهم جراح فقال: «إنا قافلون غدا إن شاء الله» فأعجبهم فضحك النبي ﷺ، وقال سفيان: مرة فتبسم.
ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به وعنده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب واختلف في نسخ البخاري ففي نسخة كذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والله أعلم.
وقال الواقدي: حدثني كثير بن زيد بن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة قال: لما مضت خمس عشرة من حصار الطائف استشار رسول الله ﷺ نوفل بن معاوية الدئلي فقال: «يا نوفل ما ترى في المقام عليهم؟».
قال: يا رسول الله ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.
قال ابن إسحاق: وقد بلغني أن رسول الله ﷺ قال لأبي بكر وهو محاصر ثقيفا: «يا أبا بكر إني رأيت أني أهديت لي قبعة مملوءة زبدا فنقرها ديك فهراق ما فيها».
فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد.
فقال رسول الله ﷺ: «وأنا لا أرى ذلك»، قال: ثم إن خولة بنت حكيم السلمية وهي امرأة عثمان بن مظعون قالت: يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك حلي بادية بنت غيلان بن سلمة أو حلي الفارعة بنت عقيل - وكانت من أحلى نساء ثقيف - فذكر أن رسول الله ﷺ قال لها: «وإن كان لم يؤذن في ثقيف يا خويلة».
فخرجت خولة فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب، فدخل على رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خولة زعمت أنك قلته؟
قال: «قد قلته».
قال أو ما أذن فيهم؟
قال: لا.
قال: أفلا أؤذن بالرحيل؟
قال: بلى، فأذن عمر بالرحيل.
فلما استقبل الناس نادى سعيد بن عبيد بن أسيد بن أبي عمرو بن علاج ألا إن الحي مقيم. قال: يقول عيينة بن حصن أجل والله مجدة كراما، فقال له رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة، أتمدح المشركين بالامتناع من رسول الله ﷺ وقد جئت تنصره؟
فقال: إني والله ما جئت لأقاتل ثقيفا معكم ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف، فأصيب من ثقيف جارية أطؤها لعلها تلد لي رجلا فإن ثقيفا مناكير.
وقد روى ابن لهيعة: عن أبي الأسود، عن عروة قصة خولة بنت حكيم وقول رسول الله ﷺ ما قال.
وتأذين عمر بالرحيل، قال: وأمر رسول الله ﷺ الناس أن لا يسرحوا ظهرهم، فلما أصبحوا ارتحل رسول الله ﷺ وأصحابه ودعا حين ركب قافلا فقال: «اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم».
وروى الترمذي من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قالوا يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم.
فقال: «اللهم اهد ثقيفا» ثم قال هذا حديث حسن غريب.
وروى يونس عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، وعبد الله بن المكرم عمن أدركوا من أهل العلم قالوا: حاصر رسول الله ﷺ أهل الطائف ثلاثين ليلة أو قريبا من ذلك، ثم انصرفوا عنهم ولم يؤذن فيهم، فقدم المدينة فجاءه وفدهم في رمضان فأسلموا.
وسيأتي ذلك مفصلا في رمضان من سنة تسع إن شاء الله.
وهذه تسمية من استشهد من المسلمين بالطائف فيما قاله ابن إسحاق فمن قريش؛ سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية، وعرفطة بن حباب حليف لبني أمية بن الأسد بن الغوث، وعبد الله بن أبي بكر الصديق رمي بسهم فتوفي منه بالمدينة بعد وفاة رسول الله ﷺ.
وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي من رمية رميها يومئذ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة حليف لبني عدي، والسائب بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي وأخوه عبد الله، وجليحة بن عبد الله من بني سعد بن ليث ومن الأنصار.
ثم من الخزرج: ثابت بن الجذع الأسلمي، والحارث بن سهل بن أبي صعصعة المازني، والمنذر بن عبد الله من بني ساعدة.
ومن الأوس: رقيم بن ثابت بن ثعلبة بن زيد بن لوذان بن معاوية فقط، فجميع من استشهد يومئذ اثنا عشر رجلا سبعة من قريش، وأربعة من الأنصار، ورجل من بني ليث رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن إسحاق: ولما انصرف رسول الله ﷺ راجعا عن الطائف قال بجير بن زهير بن أبي سلمى يذكر حنينا والطائف:
كانت علالة يوم بطن حنينٍ * وغداة أوطاس ويوم الأبرق
جمعت بإغواء هوازن جمعها * فتبددوا كالطائر المتمزق
لم يمنعوا منا مقاما واحدا * إلا جدارهم وبطن الخندق
ولقد تعرضنا لكيما يخرجوا * فاستحصنوا منا بباب مغلق
ترتد حسرانا إلى رجراجةٍ * شهباء تلمع بالمنايا فيلق
ملمومة خضراء لو قذفوا بها * حصنا لظل كأنه لم يخلق
مشي الضراء على الهراس كأننا * قدر تفرق في القياد ويلتقي
في كل سابغةٍ إذا ما استحصنت * كالنهي هبت ريحه المترقرق
جدلٍ تمس فضولهن نعالنا * من نسج داود وآل محرق
وقال أبو داود: ثنا عمر بن الخطاب أبو حفص، ثنا الفريابي، ثنا أبان ثنا عمرو - هو بن عبد الله بن أبي حازم - ثنا عثمان بن أبي حازم، عن أبيه، عن جده صخر - هو أبي العيلة الأحمسي - أن رسول الله ﷺ غزا ثقيفا، فلما أن سمع ذلك صخر ركب في خيل يمد النبي ﷺ فوجده قد انصرف ولم يفتح.
فجعل صخر حينئذ عهد وذمة لا أفارق هذا القصر حتى ينزلوا على حكم رسول الله ﷺ، ولم يفارقهم حتى نزلوا على حكم رسول الله ﷺ وكتب إليه صخر؛ أما بعد فإن ثقيفا قد نزلت على حكمك يا رسول الله وأنا مقبل بهم وهم في خيلي.
فأمر رسول الله ﷺ بالصلاة جامعة فدعا لأحمس عشر دعوات: «اللهم بارك لأحمس في خيلها ورجالها».
وأتى القوم فتكلم المغيرة بن شعبة فقال: يا رسول الله إن صخرا أخذ عمتي ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، فدعاه فقال: «يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم فادفع إلى المغيرة عمته».
فدفعها إليه وسأل رسول الله ﷺ ماء لبني سليم قد هربوا عن الإسلام وتركوا ذلك الماء فقال: يا رسول الله أنزلنيه أنا وقومي؟
قال: «نعم» فأنزله وأسلم - يعني: الأسلميين، فأتوا صخرا فسألوه أن يدفع إليهم الماء فأبى فأتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله أسلمنا وأتينا صخرا ليدفع إلينا ماءنا فأبى علينا، فقال: «يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم فادفع إليهم ماءهم».
قال: نعم يا نبي الله فرأيت وجه رسول الله ﷺ يتغير عند ذلك حمرة حياء من أخذه الجارية وأخذه الماء.
تفرد به أبو داود وفي إسناده اختلاف.
قلت: وكانت الحكمة الإلهية تقتضي أن يؤخر الفتح عامئذ ليلا يستأصلوا قتلا لأنه قد تقدم أنه عليه السلام لما كان خرج إلى الطائف فدعاهم إلى الله تعالى وإلى أن يؤووه حتى يبلغ رسالة ربه عز وجل وذلك بعد موت عمه أبي طالب، فردوا عليه قوله وكذبوه، فرجع مهموما فلم يستفق إلا عند قرن الثعالب.
فإذا هو بغمامة وإذا فيها جبريل فناداه ملك الجبال فقال: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام وقد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟
فقال رسول الله ﷺ: «بل أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده وحده لا يشرك به شيئا» فناسب قوله: بل استأني بهم أن لا يفتح حصنهم لئلا يقتلوا عن آخرهم وأن يؤخر الفتح ليقدموا بعد ذلك مسلمين في رمضان من العام المقبل كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.