→ فصل مبايعة رسول الله الناس يوم الفتح على الإسلام والشهادة | البداية والنهاية – الجزء الرابع غزوة هوازن يوم حنين ابن كثير |
الوقعة وما كان أول الأمر من الفرار ثم العاقبة للمتقين ← |
قال الله تعالى: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 25-27] .
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه: أن خروج رسول الله ﷺ إلى هوازن بعد الفتح في خامس شوال سنة ثمان، وزعم أن الفتح كان لعشر بقين من شهر رمضان قبل خروجه إليهم خمس عشرة ليلة.
وهكذا روي عن ابن مسعود، وبه قال عروة بن الزبير، واختاره أحمد، وابن جرير في (تاريخه)
وقال الواقدي: خرج رسول الله ﷺ إلى هوازن لست خلون من شوال، فانتهى إلى حنين في عاشره. وقال أبو بكر الصديق: لن نغلب اليوم من قلة، فانهزموا فكان أول من انهزم بنو سليم،
ثم أهل مكة، ثم بقية الناس.
قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن برسول الله ﷺ وما فتح الله عليه من مكة، جمعها ملكها مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت نصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء.
وغاب عنها ولم يحضرها من هوازن: كعب وكلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم، وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه، ومعرفته بالحرب، وكان شيخا مجربا، وفي ثقيف سيدان لهم، وفي الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وأخوه أحمر بن الحارث، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري.
فلما أجمع السير إلى رسول الله ﷺ أحضر مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به، فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟
قالوا: بأوطاس.
قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟
قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم.
قال: أين مالك؟
قالوا: هذا مالك، ودُعي له.
قال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟
قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم.
قال: ولـمَ؟
قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم.
قال: فانقض به، ثم قال: راعي ضأن والله، هل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟
قال: لم يشهدها منهم أحد.
قال: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاة ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟
قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر.
قال: ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران، ثم قال: يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة - بيضة هوازن - إلى نحور الخيل شيئا.
ثم قال دريد لمالك بن عوف: ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثم ألق الصبا على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من ورائك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك.
قال: والله لا أفعل إنك قد كبرت وكبر عقلك، ثم قال مالك: والله لتطيعنني يا معشر هوازن، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي.
فقالوا: أطعناك.
فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني:
يا ليتني فيها جذع * أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع * كأنها شاة صدع
ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد.
قال ابن إسحاق: وحدثني أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أنه حدث: أن مالك بن عوف بعث عيونا من رجاله فأتوه، وقد تفرقت أوصالهم فقال: ويلكم ما شأنكم؟
قالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.
قال ابن إسحاق: ولما سمع بهم نبي الله ﷺ بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله ﷺ، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسول الله ﷺ فأخبره الخبر.
فلما أجمع رسول الله ﷺ السير إلى هوازن، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا له سلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال: «يا أبا أمية أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدونا غدا».
فقال صفوان: أغصبا يا محمد؟
قال: «بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك».
قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله ﷺ سأله أن يكفيهم حملها ففعل.
هكذا أورد هذا ابن إسحاق من غير إسناد.
وقد روى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه، وعن عمرو بن شعيب، والزهري، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم وغيرهم قصة حنين فذكر نحو ما تقدم، وقصة الأدراع كما تقدم.
وفيه أن ابن أبي حدرد لما رجع فأخبر رسول الله ﷺ خبر هوازن كذبه عمر بن الخطاب، فقال له ابن أبي حدرد: لئن كذبتني يا عمر فربما كذبت بالحق.
فقال عمر: ألا تسمع ما يقول يا رسول الله؟
فقال: «قد كنت ضالا فهداك الله».
وقد قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون، أنبا شريك بن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه: أن رسول الله ﷺ استعار من أمية يوم حنين أدراعا فقال: أغصبا يا محمد؟
فقال: «بل عارية مضمونة».
قال: فضاع بعضها، فعرض عليه رسول الله ﷺ أن يضمنها له، فقال: أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب.
ورواه أبو داود، والنسائي من حديث يزيد بن هارون به.
وأخرجه النسائي من رواية إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة عبد الرحمن بن صفوان بن أمية: أن رسول الله ﷺ استعار من صفوان دروعا فذكره.
ورواه من حديث هشيم، عن حجاج، عن عطاء: أن رسول الله ﷺ استعار من صفوان أدراعا وأفراسا، وساق الحديث.
وقال أبو داود: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أناس من آل عبد الله بن صفوان: أن رسول الله ﷺ قال: «يا صفوان هل عندك من سلاح؟».
قال: عارية أم غصبا؟
قال: «بل عارية»، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعا، وغزا رسول الله ﷺ حنينا، فلما هزم المشركون جمعت دروع صفوان ففقد منها أدراعا، فقال رسول الله ﷺ لصفوان: «قد فقدنا من أدراعك أدراعا فهل نغرم لك؟».
قال: لا يا رسول الله إن في قلبي اليوم ما لم يكن فيه يومئذ، وهذا مرسل أيضا.
قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله ﷺ معه ألفان من أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، ففتح الله بهم مكة فكانوا اثني عشر ألفا.
قلت: وعلى قول عروة، والزهري، وموسى بن عقبة يكون مجموع الجيشين الذين سار بهما إلى هوازن أربعة عشر ألفا، لأنه قدم باثني عشر ألفا إلى مكة على قولهم، وأضيف ألفان من الطلقاء.
وذكر ابن إسحاق: أنه خرج من مكة في خامس شوال، قال: واستخلف على أهل مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس الأموي.
قلت: وكان عمره إذ ذاك قريبا من عشرين سنة.
قال: ومضى رسول الله ﷺ يريد لقاء هوازن، وذكر قصيدة العباس بن مرداس السلمي في ذلك منها قوله:
أبلغ هوازن أعلاها وأسفلها * مني رسالة نصح فيه تبيان
إني أظن رسول الله صابحكم * جيشا له في فضاء الأرض أركان
فيهم سليم أخوكم غير تارككم * والمسلمون عباد الله غسان
وفي عضادته اليمنى بنو أسد * والأجربان بنو عبس وذبيان
تكاد ترجف منه الأرض رهبته * وفي مقدمه أوس وعثمان
قال ابن إسحاق: أوس وعثمان قبيلا مزينة.
قال: وحدثني الزهري، عن سنان بن أبي سنان الدئلي، عن أبي واقد الليثي وهو الحارث بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية.
قال فسرنا معه إلى حنين، قال: وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط، يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما.
قال: فرأينا ونحن نسير مع رسول الله ﷺ سدرة خضراء عظيمة، قال: فتنادينا من جنبات الطريق يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟
فقال رسول الله ﷺ: «الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة» قال: «إنكم قوم تجهلون، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم».
وقد روى هذا الحديث الترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان. والنسائي عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر كلاهما، عن الزهري. كما رواه ابن إسحاق عنه. وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه ابن أبي حاتم في (تفسيره) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده مرفوعا.
وقال أبو داود: ثنا أبو توبة، ثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام عن السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله ﷺ يوم حنين، فأطنبوا السير حتى كان العشية، فحضرت صلاة الظهر عند رسول الله ﷺ.
فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم وبنعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: «تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله».
ثم قال: «من يحرسنا الليلة؟».
قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله.
قال: «فاركب».
فركب فرسا له وجاء إلى رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ: «استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة».
فلما أصبحنا خرج رسول الله ﷺ إلى مصلاه فركع ركعتين، ثم قال: «هل أحسستم فارسكم؟».
قالوا: يا رسول الله ما أحسسنا، فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله ﷺ يصلي ويلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال: «أبشروا فقد جاءكم فارسكم».
فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشعب، وإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله ﷺ فقال: إني انطلقت حتى إذا كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله ﷺ، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحدا.
فقال له رسول الله ﷺ: «هل نزلت الليلة؟».
قال: لا، إلا مصليا أو قاضي حاجة.
فقال له رسول الله ﷺ: «قد أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعدها».
وهكذا رواه النسائي عن محمد بن يحيى، عن محمد بن كثير الحراني، عن أبي توبة الربيع بن نافع به.