→ غزوة مؤتة | البداية والنهاية – الجزء الرابع فصل إصابة جعفر وأصحابه ابن كثير |
فصل عطف رسول الله عليه السلام على ابن جعفر عند إصابة أبيه ← |
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن أم عيسى الخزاعية، عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل علي رسول الله ﷺ، وقد دبغت أربعين مناء، وعجنت عجيني، وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم.
فقال رسول الله ﷺ: «ائتني بابني جعفر» فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه.
فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟
قال: «نعم أصيبوا هذا اليوم».
قالت: فقمت أصيح واجتمع إلي النساء، وخرج رسول الله ﷺ إلى أهله فقال: «لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم».
وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث ابن إسحاق.
ورواه ابن إسحاق من طريق عبد الله بن أبي بكر، عن أم عيسى، عن أم عون بنت محمد بن جعفر، عن أسماء فذكر الأمر بعمل الطعام، والصواب أنها أم جعفر وأم عون.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، ثنا جعفر بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي ﷺ: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم أمر يشغلهم أو أتاهم ما يشغلهم».
وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة، عن جعفر بن خالد بن سارة المخزومي المكي، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر.
وقال الترمذي: حسن.
ثم قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله ﷺ الحزن.
قالت: فدخل عليه رجل فقال: يا رسول الله إن النساء عييننا وفتننا.
قال: «ارجع إليهن فأسكتهن».
قالت: فذهب، ثم رجع فقال له مثل ذلك.
قالت: يقول: وربما ضر التكلف - يعني أهله -
قالت: قال: «فاذهب فأسكتهن فإن أبين فاحثوا في أفواههن التراب».
قالت: وقلت في نفسي: أبعدك الله! فوالله ما تركت نفسك وما أنت بمطيع رسول الله ﷺ.
قالت: وعرفت أنه لا يقدر يحثي في أفواههن التراب.
انفرد به ابن إسحاق من هذا الوجه، وليس في شيء من الكتب.
وقال البخاري: ثنا قتيبة، ثنا عبد الوهاب، سمعت يحيى بن سعيد قال: أخبرتني عمرة قالت: سمعت عائشة تقول: لما قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة جلس رسول الله ﷺ يعرف في وجهه الحزن.
قالت عائشة: وأنا أطلع من صاير الباب - شق - فأتاه رجل فقال: أي رسول الله إن نساء جعفر وذكر بكاءهن، فأمره أن ينهاهن.
قالت: فذهب الرجل ثم أتى فقال: قد نهيتهن وذكر أنه لم يطعنه، قال فأمر أيضا فذهب ثم أتى فقال: والله لقد غلبننا فزعمت أن رسول الله ﷺ قال: «فاحث في أفواههن من التراب».
قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: أرغم الله أنفك فوالله ما أنت تفعل ذلك، وما تركت رسول الله ﷺ من العناء.
وهكذا رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، من طرق، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة عنها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، سمعت محمد بن أبي يعقوب يحدث عن الحسن بن سعيد، عن عبد الله بن جعفر قال: بعث رسول الله ﷺ جيشا استعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: «إن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة».
فلقوا العدو فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه.
وأتى خبرهم النبي ﷺ، فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إن إخوانكم لقوا العدو، وإن زيدا أخذ الراية فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية سيفا من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه».
قال: ثم أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتهم، ثم أتاهم فقال: «لا تبكوا على أخي بعد اليوم ادعوا لي بني أخي».
قال: فجيء بنا كأننا أفراخ.
فقال: «ادعوا لي الحلاق».
فجيء بالحلاق فحلق رؤسنا، ثم قال: «أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي».
ثم أخذ بيدي فأشألها وقال: «اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه» قالها ثلاث مرات.
قال: فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا وجعلت تفرح له فقال: «العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة».
ورواه أبو داود ببعضه، والنسائي في السير بتمامه من حديث وهب بن جرير به، وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام أرخص لهم في البكاء ثلاثة أيام، ثم نهاهم عنه بعدها.
ولعله معنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد من حديث الحكم بن عبد الله بن شداد، عن أسماء أن رسول الله ﷺ قال لها لما أصيب جعفر: «تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت».
تفرد به أحمد، فيحتمل أنه أذن لها في التسلب وهو المبالغة في البكاء وشق الثياب، ويكون هذا من باب التخصيص لها بهذا لشدة حزنها على جعفر أبي أولادها، وقد يحتمل أن يكون أمرا لها بالتسلب وهو المبالغة في الإحداد ثلاثة أيام، ثم تصنع ما شاءت مما يفعله المعتدات على أزواجهن من الإحداد المعتاد، والله أعلم.
ويروى: «تسلي ثلاثا» أي: تصبري ثلاثا وهذا بخلاف الرواية الأخرى، والله أعلم.
فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا محمد بن طلحة، ثنا الحكم بن عيينة، عن عبد الله بن شداد، عن أسماء بنت عميس قالت: دخل رسول الله ﷺ اليوم الثالث من قتل جعفر فقال:
«لا تحدي بعد يومك هذا» فإنه من إفراد أحمد أيضا، وإسناده لا بأس به، ولكنه مشكل إن حمل على ظاهره لأنه قد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميتها أكثر من ثلاثة أيام، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرة».
فإن كان ما رواه الإمام أحمد محفوظا فتكون مخصوصة بذلك، أو هو أمر بالمبالغة في الإحداد هذه الثلاثة أيام كما تقدم، والله أعلم.
قلت: ورثت أسماء بنت عميس زوجها بقصيدة تقول فيها:
فآليت لا تنفك نفسي حزينة * عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
فلله عينا من رأى مثله فتى * أكر وأحمى في الهياج وأصبرا
ثم لم تنشب أن انقضت عدتها فخطبها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فتزوجها، فأولم وجاء الناس للوليمة، فكان فيهم علي بن أبي طالب، فلما ذهب الناس استأذن علي أبا بكر رضي الله عنهما في أن يكلم أسماء من وراء الستر، فأذن له، فلما اقترب من الستر نفحه ريح طيبها فقال لها علي: على وجه البسط من القائلة في شعرها:
فآليت لا تنفك نفسي حزينة * عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
قالت: دعنا منك يا أبا الحسن فإنك امرؤ فيك دعابة، فولدت للصديق محمد بن أبي بكر، ولدته بالشجرة بين مكة والمدينة، ورسول الله ﷺ ذاهب إلى حجة الوداع، فأمرها أن تغتسل وتهل وسيأتي في موضعه.
ثم لما توفي الصديق تزوجها بعده علي بن أبي طالب، وولدت له أولادا رضي الله عنه عنها، وعنهم أجمعين.