→ سنة سبع من الهجرة غزوة خيبر في أولها | البداية والنهاية – الجزء الرابع فصل فتح رسول الله عليه السلام للحصون ابن كثير |
ذكر قصة صفية بنت حيي النضرية ← |
قال ابن إسحاق: وتدَّنى رسول الله ﷺ الأموال يأخذها مالا مالا، ويفتتحها حصنا حصنا، وكان أول حصونهم فتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى منه فقتلته، ثم القموص حصن بني أبي الحقيق.
وأصاب رسول الله ﷺ منهم سبايا منهن صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وبنتي عم لها، فاصطفى رسول الله ﷺ صفية لنفسه، وكان دحية بن خليفة قد سأل رسول الله ﷺ صفية، فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها.
قال: وفشت السبايا من خيبر في المسلمين، وأكل الناس لحوم الحمر، فذكر نهي رسول الله ﷺ إياهم عن أكلها.
وقد اعتنى البخاري بهذا الفصل، فأورد النهي عنها من طرق جيدة وتحريمها مذهب جمهور العلماء سلفا وخلفا، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
وقد ذهب بعض السلف منهم: ابن عباس إلى إباحتها، وتنوعت أجوبتهم عن الأحاديث الواردة في النهي عنها؛ فقيل: لأنها كانت ظهرا يستعينون بها في الحمولة، وقيل: لأنها لم تكن خمست بعد، وقيل: لأنها كانت تأكل العذرة يعني: جلالة.
والصحيح أنه نهى عنها لذاتها، فإنه في الأثر الصحيح أنه نادى منادي رسول الله ﷺ أن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس، فأكفئوها والقدور تفور بها، وموضع تقرير ذلك في كتاب (الأحكام).
قال ابن إسحاق: حدثني سلام بن كركرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله - ولم يشهد جابر خيبر - أن رسول الله ﷺ حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر، أذن لهم في لحوم الخيل.
وهذا الحديث أصله ثابت في الصحيحين، من حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله ﷺ يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخَّص في الخيل».
لفظ البخاري.
قال ابن إسحاق: وحدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مكحول، أن النبي ﷺ نهاهم يومئذ عن أربع: عن إتيان الحبالى من النساء، وعن أكل الحمار الأهلي، وعن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم. وهذا مرسل.
وقال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق مولى نجيب، عن حسن الصنعاني، قال: غزونا مع رويفع بن ثابت الأنصاري المغرب، فافتتح قرية من قرى المغرب يقال له: جربة، فقام فيها خطيبا فقال: أيها الناس، إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله ﷺ يقول فينا يوم خيبر، قام فينا رسول الله ﷺ فقال:
«لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماء زرع غيره يعني: إتيان الحبالى من السبي، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس يوما من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه».
وهكذا روى هذا الحديث أبو داود من طريق محمد بن إسحاق.
ورواه الترمذي عن حفص بن عمرو الشيباني، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن ربيعة بن سليم، عن بشر بن عبيد الله، عن رويفع بن ثابت مختصرا، وقال: حسن.
وفي صحيح البخاري: عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وعن أكل الثوم.
وقد حكى ابن حزم عن علي وشريك بن حنبل، أنهما ذهبا إلى تحريم البصل والثوم النيء، والذي نقله الترمذي عنهما الكراهة، فالله أعلم.
وقد تكلم الناس في الحديث الوارد في الصحيحين من طريق الزهري، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية، عن أبيهما، عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية.
هذا لفظ الصحيحين من طريق مالك وغيره، عن الزهري، وهو يقتضي تقييد تحريم نكاح المتعة بيوم خيبر، وهو مشكل من وجهين:
أحدهما: أن يوم خيبر لم يكن ثم نساء يتمتعون بهن، إذ قد حصل لهم الاستغناء بالسباء عن نكاح المتعة.
الثاني: أنه قد ثبت في صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة، عن معبد، عن أبيه أن رسول الله ﷺ أذن لهم في المتعة زمن الفتح، ثم لم يخرج من مكة حتى نها عنها وقال: «إن الله قد حرمها إلى يوم القيامة».
فعلى هذا يكون قد نهى عنها ثم أذن فيها، ثم حرمت، فيلزم النسخ مرتين، وهو بعيد.
ومع هذا فقد نصَّ الشافعي على أنه لا يعلم شيئا أبيح ثم حرم، ثم أبيح ثم حرم، غير نكاح المتعة، وما حداه على هذا رحمه الله إلا اعتماده على هذين الحديثين كما قدمناه.
وقد حكى السهيلي وغيره عن بعضهم: أنه ادعى أنها أبيحت ثلاث مرات، وحرمت ثلاث مرات.
وقال آخرون: أربع مرات، وهذا بعيد جدا، والله أعلم.
واختلفوا أي وقت أول ما حرمت، فقيل: في خيبر، وقيل: في عمرة القضاء، وقيل: في عام الفتح، وهذا يظهر، وقيل: في أوطاس، وهو قريب من الذي قبله، وقيل: في تبوك، وقيل: في حجة الوداع.
رواه أبو داود.
وقد حاول بعض العلماء أن يجيب عن حديث علي رضي الله عنه بأنه وقع فيه تقديم وتأخير، وإنما المحفوظ فيه ما رواه الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن الحسن وعبد الله ابني محمد، عن أبيهما - وكان حسن أرضاهما في أنفسهما - أن عليا قال لابن عباس:
إن رسول الله ﷺ نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر.
قالوا: فاعتقدنا الراوي أن قوله خيبر ظرف للمنهي عنهما، وليس كذلك، إنما هو ظرف للنهي عن لحوم الحمر؛ فأما نكاح المتعة فلم يذكر له ظرفا، وإنما جمعه معه لأن عليا رضي الله عنه بلغه أن ابن عباس أباح نكاح المتعة، ولحوم الحمر الأهلية، كما هو المشهور عنه.
فقال له أمير المؤمنين علي: إنك امرؤ تائه أن رسول الله ﷺ نهى عن نكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فجمع له النهي ليرجع عما كان يعتقده في ذلك من الإباحة.
وإلى هذا التقرير كان ميل شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي تغمده الله برحمته أمين.
ومع هذا ما رجع ابن عباس عما كان يذهب إليه من إباحة الحمر والمتعة، أما النهي عن الحمر فتأوله بأنها كانت حمولتهم، وأما المتعة فإنما كان يبيحها عند الضرورة في الأسفار، وحمل النهي على ذلك في حال الرفاهية والوجدان.
وقد تبعه على ذلك طائفة من أصحابه وأتباعهم، ولم يزل ذلك مشهورا عن علماء الحجاز إلى زمن ابن جريج وبعده.
وقد حكي عن الإمام أحمد بن حنبل رواية كمذهب ابن عباس وهي ضعيفة، وحاول بعض من صنف في الحلال نقل رواية عن الإمام بمثل ذلك، ولا يصح أيضا، والله أعلم. وموضع تحرير ذلك في كتاب (الأحكام) وبالله المستعان.
قال ابن إسحاق: ثم جعل رسول الله ﷺ يتدنى الحصون والأموال، فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدثه بعض من أسلم أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول الله ﷺ شيئا يعطيهم إياه.
فقال: «اللهم إنك قد عرفت حالهم، وإن ليست لهم قوة، وإن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غنى، وأكثرها طعاما وودكا».
فغدا الناس ففتح عليهم حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه.
قال ابن إسحاق: ولما افتتح رسول الله ﷺ من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنهم الوطيح والسلالم، وكان آخر حصون خيبر افتتاحا، فحاصرهم رسول الله ﷺ بضع عشر ليلة.
قال ابن هشام: وكان شعارهم يوم خيبر: يا منصور أمت أمت.
قال ابن إسحاق: وحدثني بريدة بن سفيان الأسدي الأسلمي، عن بعض رجال بني سلمة، عن أبي اليسر بن كعب بن عمرو، قال: إني لمع رسول الله ﷺ بخيبر ذات عشية، إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم، ونحن محاصروهم.
فقال رسول الله ﷺ: «من رجل يطعمنا من هذه الغنم؟».
قال أبو اليسر: فقلت أنا يا رسول الله.
قال: «فافعل».
قال: فخرجت أشتد مثل الظليم، فلما نظر إلي رسول الله ﷺ موليا قال: «اللهم أمتعنا به».
قال: فأدركت الغنم وقد دخلت أولها الحصن، فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدي، ثم جئت بهما أشتد كأنه ليس معي شيء حتى ألقيتهما عند رسول الله ﷺ فذبحوهما فأكلوهما.
فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله ﷺ موتا، وكان إذا حدث هذا الحديث بكى، ثم قال: أمتعوا بي لعمري حتى كنت من آخرهم.
وقال الحافظ البيهقي في (الدلائل): أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، أو عن أبي قلابة قال: لما قدم النبي ﷺ خيبر، قدم والثمرة خضرة.
قال: فأسرع الناس إليها فحموا، فشكوا ذلك إليه، فأمرهم أن يقرسوا الماء في الشنان ثم يجرونه عليهم إذا أتى الفجر، ويذكرون اسم الله عليه، ففعلوا ذلك فكأنما نشطوا من عقل.
قال البيهقي: ورويناه عن عبد الرحمن بن رافع موصولا، وعنه بين صلاتي المغرب والعشاء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى وبهز، قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، حدثنا عبد الله بن مغفل، قال: دلى جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت: لا أعطى أحدا منه شيئا.
قال: فالتفتُّ فإذا رسول الله ﷺ يبتسم.
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل، قال: كنا نحاصر قصر خيبر، فأُلقي إلينا جراب في شحم، فذهبت فأخذته فرأيت النبي ﷺ فاستحيت.
وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة.
ورواه مسلم أيضا عن شيبان بن فروخ، عن عثمان بن المغيرة.
وقال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن مغفل المزني قال: أصبت من فيء خيبر جراب شحم، قال: فاحتملته على عنقي إلى رحلي وأصحابي، قال: فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها فأخذ بناحيته، وقال: هلم حتى تقسمه بين المسلمين، قال: وقلت: لا والله لا أعطيكه، قال: وجعل يجاذبني الجراب.
قال: فرآنا رسول الله ﷺ ونحن نصنع ذلك، فتبسم ضاحكا، ثم قال لصاحب المغانم خلِّ بينه وبينه، قال: فأرسله فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه.
وقد استدل الجمهور بهذا الحديث على الإمام مالك في تحريمه شحوم ذبائح اليهود، وما كان غلبهم عليه غيرهم من المسلمين، لأن الله تعالى قال: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } قال لكم.
قال: وليس هذا من طعامهم، فاستدلوا عليه بهذا الحديث، وفيه نظر، وقد يكون هذا الشحم مما كان حلالا لهم، والله أعلم.
وقد استدلوا بهذا الحديث على أن الطعام لا يخمس ويعضد، ذلك ما رواه الإمام أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو معاوية، حدثنا إسحاق الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال:
قلت: كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله ﷺ، فقال: أصبنا طعاما يوم خيبر، وكان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه ثم ينصرف.
تفرد به أبو داود، وهو حسن.