→ مقتل حمزة رضي الله عنه | البداية والنهاية – الجزء الرابع فصل نصر الله للمسلمين يوم بدر ابن كثير |
فصل فيما لقي النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ من المشركين قبحهم الله ← |
قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسُّوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها.
وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة على العسكر حين كشفنا القوم عنه، وخلوا ظهورنا للخيل، فأُتينا من خلفنا، وصرخ صارخ:
ألا إن محمدا قد قُتل، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا، بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد منهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم: أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به، وكان اللواء مع صؤاب غلام لبني أبي طلحة حبشي، وكان آخر من أخذه منهم فقاتل به حتى قطعت يداه، ثم برك عليه فأخذ اللواء بصدره وعنقه، حتى قتل عليه وهو يقول: اللهم هل أعزرت - يعني: اللهم هل أعذرت - فقال حسان بن ثابت في ذلك:
فَخَرْتم باللواءِ وشرُّ فخرٍ * لواءَ حين رُدَّ إلى صواب
جَعَلتُم فخركم فيه لعبدٍ * وإلام مَن يطا عُفْرَ التراب
ظننتم، والسفيهُ له ظنونٌ * وما إنْ ذاك من أمرِ الصواب
بأنَّ جلادنا يوم التقينا * بمكةَ بَيْعُكُم حُـمْرَ العِياب
أقرَّ العينَ أن عُصبتْ يداه * وما أن تُعصبَانِ على خِضَاب
وقال حسان أيضا في رفع عمرة بنت علقمة اللواء لهم:
إذا عضلٌ سيقت إلينا كأنها * جدايةُ شركٍ مُعْلَمات الحواجب
أقمنا لهم طعنا مبيرا منكِّلا * وحزْناهُم الضرب من كل جانب
فلولا لواءُ الحارثيةِ أصبحوا * يُباعونَ في الأسواق بَيْعَ الجلائب
قال ابن إسحاق: فانكشف المسلمون وأصاب منهم العدو، وكان يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة حتى خلص العدو إلى رسول الله ﷺ فذبَّ بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص.
فحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: كسرت رباعية النبي ﷺ يوم أحد وشجَّ في وجهه، فجعل يمسح الدم ويقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله» فأنزل الله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } [آل عمران: 128] .
قال ابن جرير في (تاريخه): حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن الفضل، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أتى ابن قمئة الحارثي فرمى رسول الله ﷺ بحجر فكسر أنفه ورباعيته، وشجه في وجهه فأثقله، وتفرق عنه أصحابه، ودخل بعضهم المدينة، وانطلق طائفة فوق الجبل إلى الصخرة، وجعل رسول الله ﷺ يدعو الناس: «إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله»
فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فجعلوا يسيرون بين يديه، فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف، فحماه طلحة فرُمي بسهم في يده فيبست يده، وأقبل أبي بن خلف الجمحي وقد حلف ليقتلن النبي ﷺ فقال: بل أنا أقتله، فقال: يا كذاب أين تفر؟
فحمل عليه فطعنه النبي ﷺ في جيب الدرع، فجرح جرحا خفيفا، فوقع يخور خُوار الثور، فاحتملوه وقالوا: ليس بك جراحة فما يجزعك؟ قال: أليس قال لأقتلنك لو كانت تجتمع ربيعة ومضر لقتلهم، فلم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح.
وفشا في الناس أن رسول الله ﷺ قد قُتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمنةً من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قُتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم.
فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد ﷺ، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شدَّ بسيفه فقاتل حتى قُتل.
وانطلق رسول الله ﷺ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه يرميه فقال: «أنا رسول الله» ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله ﷺ، وفرح رسول الله ﷺ حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به.
فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله ﷺ ذهب عنهم الحزن فأقبلوا يذكرون الفتح، وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فقال الله عز وجل في الذين قالوا إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } الآية.
فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه وهمهم أبو سفيان.
فقال رسول الله ﷺ: «ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض».
ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، فقال أبو سفيان يومئذ: أعل، هبل، حنظلة بحنظلة، ويوم أُحد بيوم بدر. وذكر تمام القصة. وهذا غريب جدا وفيه نكارة.
قال ابن هشام: وزعم رُبيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي سعيد: أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله ﷺ فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن عبد الله بن قمئة جرح وجنته.
فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله ﷺ في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر، ليقع فيها المسلمون، فأخذ علي بن أبي طالب بيده، ورفعه طلحة بن عبيد الله، حتى استوى قائما، ومصَّ مالك بن سنان أبو أبي سعيد الدم من وجه رسول الله ﷺ.
ثم ازدرده فقال: «من مس دمه دمي لم تمسسه النار» قلت: وذكر قتادة أن رسول الله ﷺ لما وقع لشقه أغمى عليه، فمر به سالم مولى أبي حذيفة، فأجلسه ومسح الدم عن وجهه فأفاق وهو يقول: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله» فأنزل الله: { ليس لك من الأمر شيء... } الآية.
رواه ابن جرير وهو مرسل، وسيأتي بسط هذا في فصل وحده.
قلت: كان أول النهار للمسلمين على الكفار كما قال الله تعالى: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّا... } الآية [آل عمران: 152_ 153] .
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثني سليمان بن داود، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله، عن ابن عباس أنه قال: ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أُحد، قال: فأنكرنا ذلك فقال: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله، إن الله يقول في يوم أحد: { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } .
يقول ابن عباس: والحس القتل.
{ حتى إذا فشلتم } إلى قوله: { ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } وإنما عنى بهذا الرماة، وذلك أن النبي ﷺ أقامهم في موضع.
ثم قال: «احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا».
فلما غنم النبي ﷺ وأباحوا عسكر المشركين، أكب الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينهبون، وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله ﷺ فهم هكذا - وشبك بين أصابع يديه - والتبسوا.
فلما أخلَّ الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي ﷺ، فضرب بعضهم بعضا فالتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة.
وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار، إنما كان تحت المهراس وصاح الشيطان، قتل محمد! فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه حق، حتى طلع رسول الله ﷺ بين السعدين نعرفه بكتفيه إذا مشى.
قال: ففرحنا كأنه لم يصبنا ما أصابنا.
قال: فرقى نحونا وهو يقول: «اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله» ويقول مرة أخرى: «اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا» حتى انتهى إلينا فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اُعلُ هبل، اُعلُ هبل مرتين، يعني: آلهته، أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟
فقال عمر بن الخطاب: ألا أجيبه؟
قال: بلى.
قال: فلما قال: اُعلُ هبل قال: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: يا ابن الخطاب قد أنعمت عينها، فعاد عنها - أو فعال عنها - فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟
فقال عمر: هذا رسول الله ﷺ، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر.
قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، الأيام دول، وإن الحرب سجال.
قال: فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار.
قال: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذن وخسرنا.
ثم قال أبو سفيان: أما إنكم سوف تجدون في قتلاكم مثلة، ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا.
قال: ثم أدركته حمية الجاهلية، فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه.
وقد رواه ابن أبي حاتم، والحاكم في (مستدركه)، والبيهقي في (الدلائل) من حديث سليمان بن داود الهاشمي به.
وهذا حديث غريب، وهو من مرسلات ابن عباس. وله شواهد من وجوه كثيرة، سنذكر منها ما تيسر إن شاء الله، وبه الثقة، وعليه التكلان وهو المستعان.
قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذٍ، وأجلس النبي ﷺ جيشا من الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال: «لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا».
فلما لقينا هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة! فقال عبد الله: عهد إليَّ النبي ﷺ أن لا تبرحوا فأبوا، فلما أبوا صرفت وجوههم فأصيب سبعون قتيلا، وأشرف أبو سفيان فقال:
أفي القوم محمد؟ فقال: «لا تجيبوه».
فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟
فقال: «لا تجيبوه».
فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟
فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلوا كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدوَ الله، أبقى الله عليك ما يحزنك.
فقال أبو سفيان: اُعلُ هبل.
فقال النبي ﷺ: «أجيبوه».
قالوا: ما نقول؟
قال: «قولوا الله أعلى وأجل».
فقال أبو سفيان: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم.
فقال النبي ﷺ: «أجيبوه».
قالوا: ما نقول؟
قال: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم».
قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم أمر بها، ولم تسؤني.
وهذا من إفراد البخاري دون مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق: أن البراء بن عازب قال: جعل رسول الله ﷺ على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلا - عبد الله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال:
«إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم».
قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل، وقد بدت أسوقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي: قوم الغنيمة ظهر أصحابكم، فما تنظرون؟
قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله ﷺ؟
قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبنَّ من الغنيمة! فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله ﷺ غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين رجلا.
وكان رسول الله ﷺ وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا، وسبعين قتيلا، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، أفي القوم محمد؟ ثلاثا فنهاهم رسول الله ﷺ أن يجيبوه.
ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب، أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، وقد كفيتموهم فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك.
فقال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم أمر بها، ولم تسؤني.
ثم أخذ يرتجز: اُعلُ هبل اُعلُ هبل، فقال رسول الله ﷺ: «ألا تجيبونه».
قالوا: يا رسول الله وما نقول؟
قال: «قولوا الله أعلى وأجل».
قال: إن العُزَّى لنا، ولا عزى لكم؟
قال رسول الله ﷺ: «ألا تجيبونه».
قالوا: يا رسول الله ما نقول؟
قال: «قولوا الله مولانا، ولا مولى لكم».
ورواه البخاري من حديث زهير، وهو ابن معاوية مختصرا، وقد تقدم روايته له مطولة من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت وعلي ابن زيد، عن أنس بن مالك أن المشركين لما رهقوا النبي ﷺ وهو في سبعة من الأنصار ورجل من قريش، قال: «من يردّهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟» فجاء رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل.
فلما رهقوه أيضا قال: «من يردّهم عنا، وهو رفيقي في الجنة؟» حتى قتل السبعة، فقال رسول الله ﷺ: «ما أنصفنا أصحابنا».
ورواه مسلم عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به.
وقال البيهقي في (الدلائل) بإسناده عن عمارة بن غزية، عن أبي الزبير، عن جابر قال: انهزم الناس عن رسول الله ﷺ يوم أحد، وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار فيهم: طلحة بن عبيد الله، وهو يصعد في الجبل فلحقهم المشركون فقال: «ألا أحد لهؤلاء؟».
فقال طلحة: أنا يا رسول الله.
فقال: «كما أنت يا طلحة».
فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله، فقاتل عنه، وصعد رسول الله ﷺ ومن بقي معه، ثم قتل الأنصاري فلحقوه.
فقال: «ألا رجل لهؤلاء؟».
فقال طلحة مثل قوله، فقال رسول الله ﷺ مثل قوله، فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله، فقاتل، وأصحابه يصعدون ثم قُتل فلحقوه، فلم يزل يقول مثل قوله الأول، ويقول طلحة أنا يا رسول، فيحبسه فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذن له فيقاتل، مثل من كان قبله حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما.
فقال رسول الله ﷺ: «من لهؤلاء؟» فقال طلحة: أنا، فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله، فقال: حس، فقال لو قلت: «بسم الله لرفعتك الملائكة، والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء».
ثم صعد رسول الله ﷺ إلى أصحابه وهم مجتمعون.
وروى البخاري: عن عبد الله بن أبي شيبة، عن وكيع، عن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي ﷺ يوم أحد.
وفي الصحيحين من حديث موسى بن إسماعيل، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع النبي ﷺ في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة وسعد عن حديثهما.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية، عن هاشم بن هاشم السعدي، سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: نثل لي رسول الله ﷺ كنانته يوم أحد، وقال: «ارم فداك أبي وأمي».
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد، عن مروان به.
وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن شداد، عن علي بن أبي طالب قال: ما سمعت النبي ﷺ جمع أبويه لأحد، إلا لسعد بن مالك فإني سمعته يقول يوم أحد: «يا سعد ارم فداك أبي وأمي».
قال محمد بن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، عن بعض آل سعد، عن سعد بن أبي وقاص: أنه رمى يوم أحد دون رسول الله ﷺ.
قال سعد: فلقد رأيت رسول الله ﷺ يناولني النبل ويقول: «ارم فداك أبي وأمي» حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل، فأرمي به.
وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي ﷺ وعن يساره، رجلين عليهما ثياب بيض، يقاتلان أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك ولا بعده، يعني: جبريل، وميكائيل عليهما السلام.
وقال أحمد: حدثنا عفان، أخبرنا ثابت بن أنس، أن أبا طلحة كان يرمي بين يدي النبي ﷺ يوم أحد، والنبي ﷺ خلفه يترس به، وكان راميا، وكان إذا رمى رفع رسول الله ﷺ شخصه ينظر أين يقع سهمه، ويرفع أبو طلحة صدره ويقول: هكذا بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك.
وكان أبو طلحة يسوّر نفسه بين يدي رسول الله ﷺ ويقول: إني جلد يا رسول الله، فوجهني في حوائجك، ومرني بما شئت.
وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز، عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي ﷺ، وأبو طلحة بين يدي رسول الله ﷺ مجوَّب عليه بجحفة له.
وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل، فيقول: انثرها لأبي طلحة.
قال: ويشرف النبي ﷺ ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك.
ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم، وأنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقران القرب على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم. ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة أما مرتين وأما ثلاثا.
قال البخاري: وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه، ويسقط فآخذه.
هكذا ذكر البخاري معلقا بصيغة الجزم، ويشهد له قوله تعالى:
{ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [آل عمران: 154 -155] .
قال البخاري: حدثنا عبدان، أخبرنا أبو حمزة، عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حجَّ البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود؟
قال: هؤلاء قريش.
قال: من الشيخ؟
قالوا: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟
قال: أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فرَّ يوم أحد؟
قال: نعم.
قال: فتعلمه تغيَّب عن بدر فلم يشهدها؟
قال: نعم.
قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟
قال: نعم.
قال: فكبر.
قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه: أما فراره يوم أُحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت النبي ﷺ وكانت مريضة، فقال له رسول الله ﷺ:
«إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه» أما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه فبعث عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة.
فقال النبي ﷺ بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده فقال: «هذه لعثمان اذهب بهذا الآن معك».
وقد رواه البخاري أيضا في موضع آخر، والترمذي من حديث أبي عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب به.
وقال الأموي في (مغازيه) عن ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد، عن أبيه، عن جده، سمعت رسول الله ﷺ يقول، وقد كان الناس انهزموا عنه حتى بلغ بعضهم إلى المبقَّى دون الأعوص، وفرَّ عثمان بن عفان، وسعد بن عثمان رجل من الأنصار، حتى بلغوا الجَلعَب جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص.
فأقاموا ثلاثا ثم رجعوا، فزعموا أن رسول الله ﷺ قال لهم: «لقد ذهبتم فيها عريضة» والمقصود أن أحدا وقع فيها أشياء مما وقع في بدر، منها: حصول النعاس حال التحام الحرب، وهذا دليل على طمأنينة القلوب بنصر الله وتأييده، وتمام توكلها على خالقها وبارئها.
وقد تقدم الكلام على قوله تعالى في غزوة بدر: { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه... } الآية.
وقال ها هنا: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم } يعني: المؤمنين الكُمل، كما قال ابن مسعود، وغيره من السلف: النعاس في الحرب من الإيمان، والنعاس في الصلاة من النفاق، ولهذا قال بعد هذا: { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم... } الآية.
ومن ذلك أن رسول الله ﷺ استنصر يوم أُحد كما استنصر يوم بدر بقوله: «إن تشأ لا تعبد في الأرض».
كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد وعفان قالا: حدثنا حماد، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله ﷺ كان يقول يوم أحد: «اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض».
ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن عبد الصمد، عن حماد بن سلمة به.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع جابر بن عبد الله قال: قال رجل للنبي ﷺ يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟
قال: «في الجنة» فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل.
ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به، وهذا شبيه بقصة عمير بن الحمام التي تقدمت في غزوة بدر رضي الله عنهما وأرضاهما.