→ غزوة الرجيع | البداية والنهاية – الجزء الرابع سرية عمرو بن أمية الضمري ابن كثير |
سرية بئر معونة ← |
قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه وعبد الله بن أبي عبيدة، عن جعفر بن الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية الضمري، وعبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عوف، وزاد بعضهم على بعض قالوا:
كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة: أما أحد يغتال محمدا فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا؟
فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله، وقال له: إن أنت وفيتني وخرجت إليه حتى أغتاله، فإني هاد بالطريق خريت، معي خنجر مثل خافية النسر.
قال: أنت صاحبنا، وأعطاه بعيرا ونفقة، وقال: اطوِ أمرك فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد.
قال: قال العربي: لا يعلمه أحد.
فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا، وصبَّح ظهر الحي يوم سادسه، ثم أقبل يسأل عن رسول الله ﷺ حتى أتى المصلى، فقال له قائل: قد توجه إلى بني عبد الأشهل.
فخرج الأعرابي يقود راحلته حتى انتهى إلى بني عبد الأشهل، فعقل راحلته، ثم أقبل يؤم رسول الله ﷺ فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده، فلما دخل ورآه رسول الله ﷺ قال لأصحابه: «إن هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريده».
فوقف وقال: أيكم ابن عبد المطلب؟
فقال له رسول الله ﷺ: «أنا ابن عبد المطلب».
فذهب ينحني على رسول الله ﷺ كأنه يُساره، فجبذه أسيد بن حضير وقال: تنح عن رسول الله ﷺ، وجذب بداخل إزاره فإذا الخنجر.
فقال: يا رسول الله هذا غادر فأسقط في يد الأعرابي، وقال: دمي دمي يا محمد. وأخذه أسيد بن حضير يلببه، فقال له النبي ﷺ: «اصدقني ما أنت، وما أقدمك؟ فإن صدقتني نفعك الصدق، وإن كذبتني فقد اطلعتُ على ما هممت به».
قال العربي: فأنا أمن؟ قال: «وأنت أمن...» فأخبره بخبر أبي سفيان، وما جعل له فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير ثم دعا به من الغد فقال: قد أمنتك فاذهب حيث شئت، أو خير لك من ذلك.
قال: وما هو؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد ما كنت أفْرقُ من الرجال، فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت، ثم اطلعت على ما هممت به فما سبقت به الركبان، ولم يطلع عليه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان.
فجعل النبي ﷺ يتبسم، وأقام أياما ثم استأذن النبي ﷺ فخرج من عنده، ولم يسمع له بذكر، وقال رسول الله ﷺ لعمرو بن أمية الضمري، ولسلمة بن أسلم بن حريش: «أخرجا حتى تأتيا أبا سفيان ابن حرب فإن أصبتما منه غرة فاقتلاه»
قال عمرو: فخرجت أنا وصاحبي حتى أتينا بطن يأجج فقيدنا بعيرنا، وقال لي صاحبي: يا عمرو هل لك في أن نأتي مكة فنطوف بالبيت سبعا ونصلي ركعتين؟
فقلت: أنا أعلم بأهل مكة منك، إنهم إذا أظلموا رشُّوا أفنيتهم ثم جلسوا بها، و إني أعرف بمكة من الفرس الأبلق، فأبى علي فانطلقنا فأتينا مكة، فطفنا أسبوعا وصلينا ركعتين، فلما خرجت لقيني معاوية بن أبي سفيان فعرفني، وقال: عمرو بن أمية واحزناه.
فنذر بنا أهل مكة فقالوا: ما جاء عمرو في خير، وكان عمرو فاتكا في الجاهلية، فحشد أهل مكة وتجمعوا، وهرب عمرو وسلمة، وخرجوا في طلبهما واشتدوا في الجبل.
قال عمرو: فدخلت في غار، فتغيبت عنهم حتى أصبحت، وباتوا يطلبوننا في الجبل، وعمى الله عليهم طريق المدينة أن يهتدوا له، فلما كان ضحوة الغد أقبل عثمان بن مالك بن عبيد التيمي يختلي لفرسه حشيشا، فقلت لسلمة بن أسلم: إذا أبصرنا أشعر بنا أهل مكة، وقد انفضوا عنا، فلم يزل يدنو من باب الغار حتى أشرف علينا.
قال: فخرجت إليه فطعنته طعنة تحت الثدي بخنجري، فسقط وصاح فاجتمع أهل مكة فأقبلوا بعد تفرقهم، ورجعت إلى مكاني فدخلت فيه، وقلت لصاحبي: لا تتحرك فأقبلوا حتى أتوه وقالوا من قتلك؟
قال: عمرو بن أمية الضمري، فقال أبو سفيان: قد علمنا أنه لم يأت لخير، ولم يستطع أن يخبرهم بمكاننا فإنه كان بآخر رمق فمات، وشغلوا عن طلبنا بصاحبهم فحملوه، فمكثنا ليلتين في مكاننا حتى سكن عنا الطلب، ثم خرجنا إلى التنعيم، فقال صاحبي: يا عمرو بن أمية هل لك في خبيب بن عدي ننزله؟
فقلت له: أين هو؟ قال: هو ذاك مصلوب حوله الحرس. فقلت: أمهلني وتنح عني، فإن خشيت شيئا فانج إلى بعيرك فاقعد عليه، فأت رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، ودعني فإني عالم بالمدينة.
ثم استدرت عليه حتى وجدته فحملته على ظهري، فما مشيت به إلا عشرين ذراعا حتى استيقظوا، فخرجوا في أثري، فطرحت الخشبة فما أنسى وجيبها - يعني صوتها - ثم أهلت عليه التراب برجلي، فأخذت طريق الصفراء فأعيوا ورجعوا، وكنت لا أدري مع بقاء نفسي.
فانطلق صاحبي إلى البعير فركبه، وأتى النبي ﷺ فأخبره، وأقبلت حتى أشرفت على الغليل: غليل ضنجنان فدخلت في غار معي قوسي وأسهمي وخنجري، فبينما أنا فيه إذ أقبل رجل من بني الديل بن بكر أعور طويل، يسوق غنما ومعزى فدخل الغار وقال: من الرجل؟
فقلت: رجل من بني بكر.
فقال: وأنا من بني بكر، ثم اتكأ ورفع عقيرته يتغنى ويقول:
فلست بمسلم ما دمت حيا * ولست أدين دين المسلمينا
فقلت في نفسي: والله إني لأرجو أن أقتلك.
فلما نام قمت إليه فقتلته شر قتلة قتلها أحد قط، ثم خرجت حتى هبطت، فلما أسهلت في الطريق إذا رجلان بعثهما قريش يتجسسان الأخبار فقلت: استأسرا فأبى أحدهما فرميته فقتلته، فما رأى ذلك الآخر استأسر، فشددته وثاقا.
ثم أقبلت به إلى النبي ﷺ، فلما قدمت المدينة أتى صبيان الأنصار وهم يلعبون، وسمعوا أشياخهم يقولون: هذا عمرو، فاشتد الصبيان إلى النبي ﷺ فأخبروه، وأتيته بالرجل قد ربطت إبهامه بوتر قوسي، فلقد رأيت النبي ﷺ وهو يضحك، ثم دعا لي بخير.
وكان قدوم سلمة قبل قدوم عمرو بثلاثة أيام. رواه البيهقي. وقد تقدم أن عمرا لما أهبط خبيبا لم ير له رمة ولا جسدا، فلعله دفن مكان سقوطه، والله أعلم.
وهذه السرية إنما استدركها ابن هشام على ابن إسحاق، وساقها بنحو من سياق الواقدي لها، لكن عنده أن رفيق عمرو بن أمية في هذه السرية جبار بن صخر، فالله أعلم، ولله الحمد.