→ سرية كعب بن عمير إلى بني قضاعة | البداية والنهاية – الجزء الرابع غزوة مؤتة ابن كثير |
فصل إصابة جعفر وأصحابه ← |
وهي سرية زيد بن حارثة في نحو من ثلاثة آلاف إلى أرض البلقاء من أرض الشام.
قال محمد بن إسحاق بعد قصة عمرة القضية: فأقام رسول الله ﷺ بالمدينة بقية ذي الحجة، وولى تلك الحجة المشركون والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة.
فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال: بعث رسول الله ﷺ بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: «إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس»
فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج وهم ثلاثة آلاف.
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمرو بن الحكم، عن أبيه قال: جاء النعمان بن فنحص اليهودي فوقف على رسول الله ﷺ مع الناس فقال رسول الله ﷺ: «زيد بن حارثة أمير الناس فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم».
فقال النعمان: أبا القاسم إن كنت نبيا فلو سميت من سميت قليلا أو كثيرا أصيبوا جميعا، وإن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا سموا الرجل على القوم فقالوا إن أصيب فلان ففلان، فلو سموا مائة أصيبوا جميعا، ثم جعل يقول لزيد: اعهد فإنك لا ترجع أبدا إن كان محمد نبيا.
فقال زيد: أشهد أنه نبي صادق بار.
رواه البيهقي.
قال ابن إسحاق: فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله ﷺ وسلموا عليهم، فلما ودع عبد الله بن رواحة مع من ودع بكى، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟
فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْما مَقْضِيّا } [مريم: 71] .
فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود.
فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين.
فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي * أرشده الله من غاز وقد رشدا
قال ابن إسحاق: ثم إن القوم تهيئوا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله ﷺ فودعه، ثم قال:
فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة * الله يعلم أني ثابت البصر
أنت الرسول فمن يحرم نوافله * والوجه منه فقد أزرى به القدر
قال ابن إسحاق: ثم خرج القوم وخرج رسول الله ﷺ يشيعهم حتى إذا ودعهم وانصرف، قال عبد الله بن رواحة:
خلف السلام على امرئ ودعته * في النخل خير مشيع وخليل
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا أبو خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ بعث إلى مؤتة فاستعمل زيدا، فإن قتل زيد فجعفر، فإن قتل جعفر فابن رواحة، فتخلف ابن رواحة، فجمع مع النبي ﷺ فرآه فقال له: «ما خلفك؟».
فقال: أجمع معك.
قال: «لغدوة أو روحة خير من الدنيا وما فيها».
وقال أحمد: ثنا أبو معاوية، ثنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة.
قال: فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع رسول الله ﷺ الجمعة ثم ألحقهم.
قال: فلما صلى رسول الله ﷺ رآه فقال: «ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟».
فقال: أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم.
فقال رسول الله ﷺ: «لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت غدوتهم».
وهذا الحديث قد رواه الترمذي من حديث أبي معاوية، عن الحجاج - وهو ابن أرطأة - ثم علله الترمذي بما حكاه عن شعبة أنه قال: لم يسمع الحكم عن مقسم إلا خمسة أحاديث وليس هذا منها.
قلت: والحجاج بن أرطأة في روايته نظر، والله أعلم.
والمقصود من إيراد هذا الحديث أنه يقتضي أن خروج الأمراء إلى مؤتة كان في يوم جمعة، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ثم مضوا حتى نزلوا معانا من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليه من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف منهم، عليهم رجل من بلي.
ثم أحد أراشة يقال له مالك بن رافلة.
وفي رواية يونس، عن ابن إسحاق: فبلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله ﷺ نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له.
قال: فشجع الناس عبد الله بن رواحة.
وقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة.
قال: فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس، فقال عبد الله بن رواحة في محبسهم ذلك:
جلبنا الخيل من أجأ وفرع * تعر من الحشيش لها العكوم
حذوناها من الصوان سبتا * أزل كأن صفحته أديم
أقامت ليلتين على معان * فأعقب بعد فترتها جموم
فرحنا والجياد مسومات * تنفس في مناخرها سموم
فلا وأبي مآب لنأتينها * وإن كانت بها عرب وروم
فعبأنا أعنتها فجاءت * عوابس والغبار لها يريم
بذي لجب كأن البيض فيه * إذا برزت قوانسها النجوم
فراضية المعيشة طلقتها * أسنتنا فتنكح أو تئيم
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم قال: كنت يتيما لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلتئذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه:
إذا أدنيتني وحملت رحلي * مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك أنعم وخلاك ذم * ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني * بأرض الشام مشتهي الشواء
وردك كل ذي نسب قريب * إلى الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل * ولا نخل أسافلها رواء
قال: فلما سمعتهن منه بكيت، فخفقني بالدرة وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل؟
ثم قال عبد الله بن رواحة في بعض سفره ذلك وهو يرتجز:
يا زيد زيد اليعملات الذبل * تطاول الليل هديت فانزل
قال ابن إسحاق: ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم، والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة.
فالتقى الناس عندها، فتعبى لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له عباية بن مالك.
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: شهدت مؤتة، فلما دنا منا المشركون رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة كأنك ترى جموعا كثيرة؟
قلت: نعم!
قال: إنك لم تشهد بدرا معنا، إنا لم ننصر بالكثرة.
رواه البيهقي.
قال ابن إسحاق: ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله ﷺ حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل القوم حتى قتل، فكان جعفر أول المسلمين عقر في الإسلام.
وقال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وباردا شرابها
والروم روم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابها*
وهذا الحديث قد رواه أبو داود من حديث أبي إسحاق ولم يذكر الشعر، وقد استدل من جواز قتل الحيوان خشية أن ينتفع به العدو، كما يقول أبو حنيفة في الإغنام إذا لم تتبع في السير، ويخشى من لحوق العدو وانتفاعهم بها أنها تذبح وتحرق ليحال بينهم وبين ذلك، والله أعلم.
قال السهيلي: ولم ينكر أحد على جعفر، فدل على جوازه إلا إذا أمن أخذ العدو له، ولا يدخل ذلك في النهي عن قتل الحيوان عبثا.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء.
ويقال: إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه بنصفين.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال: حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة بن عوف قال: فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ويقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه * لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة * مالي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئنة * هل أنت إلا نطفة في شنة
وقال أيضا:
يا نفس إن لا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت * إن تفعلي فعلهما هديت
يريد صاحبيه زيدا وجعفرا، ثم نزل.
فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال: وأنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
قال: ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم.
قالوا: أنت.
قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشى بهم، ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس.
قال ابن إسحاق: ولما أصيب القوم قال رسول الله ﷺ - فيما بلغني -: «أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا»
قال: ثم صمت رسول الله ﷺ حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون.
ثم قال: «أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا».
ثم قال: «لقد رفعوا إليَّ في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بن رواحة بعض التردد ثم مضى».
هكذا ذكر ابن إسحاق هذا منقطعا.
وقد قال البخاري: ثنا أحمد بن واقد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبر.
فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله قد فتح الله عليهم».
تفرد به البخاري، ورواه في موضع آخر وقال فيه وهو على المنبر: وما يسرهم أنهم عندنا.
وقال البخاري: ثنا أحمد بن أبي بكير، ثنا مغيرة بن عبد الرحمن المخزومي - وليس بالحرامي - عن عبد الله بن سعيد، عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: أمر رسول الله ﷺ في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله ﷺ: «إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة».
قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا في جسده بضعا وتسعين من ضربة ورمية، تفرد به البخاري أيضا.
وقال البخاري أيضا: حدثنا أحمد، ثنا ابن وهب، عن ابن عمرو، عن ابن أبي هلال - وهو سعيد بن أبي هلال الليثي - قالا: وأخبرني نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر بن أبي طالب يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره.
وهذا أيضا من إفراد البخاري.
ووجه الجمع بين هذه الرواية والتي قبلها: أن ابن عمر اطلع على هذا العدد وغيره اطلع على أكثر من ذلك، وأن هذه في قبله أصيبها قبل أن يقتل، فلما صرع إلى الأرض ضربوه أيضا ضربات في ظهره، فعدَّ ابن عمر ما كان في قبله وهو في وجوه الأعداء قبل أن يقتل رضي الله عنه.
ومما يشهد لما ذكره ابن هشام من قطع يمينه وهي ممسكة اللواء، ثم شماله ما رواه البخاري: ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا عمر بن علي، عن إسماعيل بن أبي خلاد، عن عامر قال: كان ابن عمر إذا حيى ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.
ورواه أيضا في (المناقب)، والنسائي من حديث يزيد بن هارون، عن إسماعيل بن أبي خالد.
وقال البخاري: ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان بن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفحة يمانية.
ثم رواه عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن إسماعيل، حدثني قيس: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفحة يمانية.
انفرد به البخاري.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: ثنا أبو نصر ابن قتادة، ثنا أبو عمرو مطر، ثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، ثنا سليمان بن حرب، ثنا الأسود، ثنا شيبان، عن خالد بن سمير قال: قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري، وكانت الأنصار تفقهه فغشيه فيمن غشيه فقال: حدثنا أبو قتادة فارس رسول الله ﷺ قال:
بعث رسول الله ﷺ جيش الأمراء، وقال: «عليكم زيد بن حارثة» وقال: «إن أصيب زيد فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة».
قال: فوثب جعفر وقال: يا رسول الله! ما كنت أرهب أن تستعمل زيدا علي.
قال: «امض فإنك لا تدري أي ذلك خير».
فانطلقوا فلبثوا ما شاء الله، فصعد رسول الله ﷺ المنبر، فأمر فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس على رسول الله ﷺ فقال: «أخبركم عن جيشكم هذا، إنهم انطلقوا فلقوا العدو فقتل زيد شهيدا» فاستغفر له.
«ثم أخذ اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيدا» - شهد له بالشهادة واستغفر له - «ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيدا» فاستغفر له.
«ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء هو أمر نفسه».
ثم قال رسول الله ﷺ: «اللهم إنه سيف من سيوفك، أنت تنصره» فمن يومئذ سمي خالد سيف الله.
ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك، عن الأسود بن شيبان به نحوه، وفيه زيادة حسنة: وهو أنه عليه الصلاة والسلام لما اجتمع إليه الناس قال: «باب خير باب خير» وذكر الحديث.
وقال الواقدي: حدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله ﷺ على المنبر، وكشف الله له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معتركهم.
فقال: «أخذ الراية زيد بن حارثة فجاء الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت، وحبب إليه الدنيا فقال: الآن استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلى الدنيا، فمضى قدما حتى استشهد».
فصلى عليه رسول الله ﷺ وقال: «استغفروا له فقد دخل الجنة وهو شهيد».
قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله ﷺ قال لما قتل زيد: «أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت، ومناه الدنيا فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين يمنيني الدنيا».
ثم مضى قُدُما حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله ﷺ وقال: «استغفروا لأخيكم فإنه شهيد، دخل الجنة وهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء في الجنة».
قال: «ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة، فاستشهد ثم دخل الجنة معترضا».
فشق ذلك على الأنصار، فقيل: يا رسول الله ما اعترضُهُ؟
قال: «لما أصابته الجراح نكل، فعاتب نفسه فتشجع، واستشهد ودخل الجنة فسري عن قومه».
قال الواقدي: وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه قال: لما أخذ خالد بن الوليد الراية قال رسول الله ﷺ: «الآن حمي الوطيس».
قال الواقدي: فحدثني العطاف بن خالد قال: لما قتل ابن رواحة مساءً، بات خالد بن الوليد فلما أصبح غدا، وقد جعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته، و ميسرته ميمنته.
قال: فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم، وقالوا: قد جاءهم مدد، فرعبوا وانكشفوا منهزمين.
قال: فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم.
وهذا يوافق ما ذكره موسى بن عقبة رحمه الله في (مغازيه) فإنه قال: بعد عمرة الحديبية ثم صدر رسول الله ﷺ إلى المدينة، فمكث بها ستة أشهر، ثم إنه بعث جيشا إلى مؤتة وأمر عليهم زيد بن حارثة، وقال:
«إن أصيب فجعفر بن أبي طالب أميرهم، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة أميرهم».
فانطلقوا حتى إذا لقوا ابن أبي سبرة الغساني بمؤتة، وبها جموع من نصارى العرب والروم، بها تنوخ وبهراء، فأغلق ابن أبي سبرة دون المسلمين الحصن ثلاثة أيام، ثم التقوا على زرع أحمر، فاقتتلوا قتالا شديدا.
فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقتل، ثم أخذه جعفر فقتل، ثم أخذه عبد الله بن رواحة فقتل، ثم اصطلح المسلمون بعد أمراء رسول الله ﷺ على خالد بن الوليد المخزومي، فهزم الله العدو وأظهر المسلمين.
قال: وبعثهم رسول الله ﷺ في جمادى الأولى - يعني سنة ثمان -.
قال موسى بن عقبة: وزعموا أن رسول الله ﷺ قال: «مر علي جعفر في الملائكة يطير كما يطيرون وله جناحان».
قال: وزعموا - والله أعلم - أن يعلى بن أمية قدم على رسول الله ﷺ بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله ﷺ: «إن شئت فأخبرني، وإن شئت أخبرك».
قال: أخبرني يا رسول الله.
قال: فأخبرهم رسول الله ﷺ خبرهم كله ووصفه لهم.
فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت.
فقال رسول الله ﷺ: «إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم».
فهذا السياق فيه فوائد كثيرة ليست عند ابن إسحاق، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق من أن خالد إنما حاش بالقوم حتى تخلصوا من الروم وعرب النصارى فقط.
وموسى بن عقبة، والواقدي، مصرحان بأنهم هزموا جموع الروم والعرب الذين معهم، وهو ظاهر الحديث المتقدم عن أنس مرفوعا.
ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه.
ورواه البخاري، وهذا هو الذي رجحه، ومال إليه الحافظ البيهقي بعد حكاية القولين، لما ذكر من الحديث.
قلت: ويمكن الجمع بين قول ابن إسحاق، وبين قول الباقين، وهو أن خالد لما أخذ الراية حاش بالقوم المسلمين حتى خلصهم من أيدي الكافرين من الروم والمستعربة.
فلما أصبح وحوَّل الجيش ميمنة وميسرة، ومقدمة وساقة، كما ذكره الواقدي، توهم الروم أن ذلك عن مدد جاء إلى المسلمين، فلما حمل عليهم خالد هزموهم بإذن الله، والله أعلم.
وقد قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر، عن عروة قال: لما أقبل أصحاب مؤتة تلقاهم رسول الله ﷺ والمسلمون معه.
قال: ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله ﷺ مقبل مع القوم على دابة.
فقال: «خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر،» فأتي بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه، فجعلوا يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله.
فقال رسول الله ﷺ: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله عز وجل».
وهذا مرسل من هذا الوجه، وفيه غرابة.
وعندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق فظن أن هذا الجمهور الجيش، وإنما كان للذين فروا حين التقى الجمعان، وأما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا، كما أخبر بذلك رسول الله ﷺ للمسلمين وهو على المنبر في قوله: «ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه».
فما كان المسلمون ليمسونهم فرارا بعد ذلك، وإنما تلقوهم إكراما وإعظاما، وإنما كان التأنيب وحثي التراب للذين فروا وتركوهم هنالك، وقد كان فيهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، ثنا زهير، ثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عمر قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله ﷺ، فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟
ثم قلنا: لو دخلنا المدينة قتلنا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله ﷺ فإن كانت لنا توبة، وإلا ذهبنا.
فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج، فقال: «من القوم؟».
قال: قلنا نحن فرارون.
فقال: «لا بل أنتم الكرارون، أنا فئتكم، وأنا فئة المسلمين».
قال: فأتيناه حتى قبلنا يده.
ثم رواه غندر، عن شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن ابن عمر قال: كنا في سرية ففررنا فأردنا أن نركب البحر، فأتينا رسول الله ﷺ فقلنا: يا رسول الله نحن الفرارون، فقال: «لا بل أنتم العكارون».
و رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث يزيد بن أبي زياد.
وقال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديثه.
وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، وأسود بن عامر، قالا: حدثنا شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عمر قال: بعثنا رسول الله ﷺ في سرية، فلما لقينا العدو انهزمنا في أول غادية، فقدمنا المدينة في نفر ليلا، فاختفينا ثم قلنا: لو خرجنا إلى رسول الله ﷺ واعتذرنا إليه.
فخرجنا إليه ثم لقيناه، قلنا: نحن الفرارون يا رسول الله، قال: «بل أنتم العكارون، وأنا فئتكم».
قال الأسود: «وأنا فئة كل مسلم».
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، أن أم سلمة زوج النبي ﷺ قالت لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله ﷺ ومع المسلمين؟
قالت: ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس: يا فرار فررتم في سبيل الله، حتى قعد في بيته ما يخرج، وكان في غزاة مؤتة.
قلت: لعل طائفة منهم فروا لما عاينوا كثرة جموع الروم - و كانوا على أكثر من أضعاف الأضعاف فإنهم كانوا ثلاثة آلاف، وكان العدو على ما ذكروه مائتي ألف، ومثل هذا يسوغ الفرار على ما قد تقرر.
فلما فر هؤلاء ثبت باقيهم وفتح الله عليهم، وتخلصوا من أيدي أولئك، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، كما ذكره الواقدي، وموسى بن عقبة من قبله.
ويؤيد ذلك ويشاكله بالصحة ما رواه الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال:
خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة من المسلمين في غزوة مؤتة، ووافقني مددي من اليمن، ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزورا، فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه فاتخذه كهيئة الدرقة، ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر، عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغري بالمسلمين، وقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقبه، فخر وعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه.
فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد يأخذ من السلب.
قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله ﷺ قضى بالسلب للقاتل؟
قال: بلى، ولكني استكثرته فقلت؟
فقلت: لتردنه إليه أو لأعرفتكها عند رسول الله ﷺ، فأبى أن يرد عليه.
قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله ﷺ فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله ﷺ: «يا خالد رد عليه ما أخذت منه».
قال عوف: فقلت: دونك يا خالد ألم أف لك؟
فقال رسول الله ﷺ: «وما ذاك؟».
فأخبرته فغضب رسول الله ﷺ وقال: «يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركوا أمرائي لكم صفوة أمرهم وعليهم كدرة؟».
قال الوليد: سألت ثورا عن هذا الحديث فحدثني عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عوف بنحوه.
ورواه مسلم، وأبو داود من حديث جبير بن نفير، عن عوف بن مالك به نحوه، وهذا يقتضي أنهم غنموا منهم وسلبوا من أشرافهم، وقتلوا من أمرائهم.
وقد تقدم فيما رواه البخاري: أن خالدا رضي الله عنه قال: اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفحة يمانية، وهذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلا ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم، وهذا وحده دليل مستقل والله أعلم.
وهذا هو اختيار موسى بن عقبة، والواقدي، والبيهقي وحكاه ابن هشام عن الزهري.
قال البيهقي رحمه الله: اختلف أهل المغازي في فرارهم وانحيازهم، فمنهم من ذهب إلى ذلك، ومنهم من زعم أن المسلمين ظهروا على المشركين، وأن المشركين انهزموا.
قال: وحديث أنس بن مالك عن النبي ﷺ: «ثم أخذها خالد ففتح الله عليه» يدل على ظهورهم عليهم، والله أعلم.
قلت: وقد ذكر ابن إسحاق: أن قطبة بن قتادة العذري - وكان رأس ميمنة المسلمين - حمل على مالك بن زافلة، ويقال: رافلة وهو أمير أعراب النصارى فقتله، وقال: يفتخر بذلك:
طعنت ابن رافلة بن الأراش * برمح مضى فيه ثم انحطم
ضربت على جيده ضربة * فمال كما مال غصن السلم
وسقنا نساء بني عمة * غداة رقوقين سوق النعم
وهذا يؤيد ما نحن فيه لأن من عادة أمير الجيش إذا قتل أن يفر أصحابه، ثم إنه صرح في شعره بأنهم سبوا من نسائهم، وهذا واضح فيما ذكرناه، والله أعلم.
وأما ابن إسحاق: فإنه ذهب إلى أنه لم يكن إلا المخاشاة والتخلص من أيدي الروم، وسمى هذا نصرا وفتحا أي باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدو بهم، وتراكمهم وتكاثرهم وتكاثفهم عليهم، فكان مقتضى العادات أن يصطلحوا بالكلية، فلما تخلصوا منهم وانحازوا عنهم كان هذا غاية المرام في هذا المقام.
وهذا محتمل لكنه خلاف الظاهر من قوله عليه الصلاة والسلام: «ففتح الله عليهم».
والمقصود أن ابن إسحاق يستدل على ما ذهب إليه فقال: وقد قال فيما كان من أمر الناس وأمر خالد بن الوليد ومخاشاته بالناس، وانصرافه بهم قيس بن المحسر اليعمري يعتذر مما صنع يومئذ، وصنع الناس يقول:
فوالله لا تنفك نفسي تلومني * على موقفي والخيل قابعة قبل
وقفت بها لا مستجيزا فنافذا * ولا مانعا من كل حم له القتل
على أنني آسيت نفسي بخالد * إلا خالد في القوم ليس له مثل
وجاشت إلي النفس من نحو جعفر * بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل
وضم إلينا حجزتيهم كليهما * مهاجرة لا مشركون ولا عذل
قال ابن إسحاق: فبين قيس ما اختلف فيه الناس من ذلك في شعره أن القوم جاحزوا وكرهوا الموت، وحقق انحياز خالد بمن معه.
قال ابن هشام: وأما الزهري فقال - فيما بلغنا عنه -: أمر المسلمون عليهم خالد بن الوليد، ففتح الله عليهم، وكان عليهم حتى رجع إلى المدينة.